الفصل الحادي عشر

أدب الحديث (٢): جمْعُ الحديث وروايته

نابيا أبوت، جامعة شيكاغو

بدأ جمعُ الحديث في حياة النبي على أيدي بعض أفراد أُسرته ومواليه وصحابته المقرَّبين. بينما كان عدد من كُتَّابه يدوِّنون القرآن، اهتمَّ آخَرون بمراسلاته. وحَفظَ معاوِنوه الوثائق.

بعد وفاة محمد، قام عددٌ متزايد من صحابته بجمع حديثه وسنته ونَشْرها للإرشاد الشخصي والعام. فكَّر عمر بن الخطاب (١٣–٢٤ﻫ/٦٣٤–٦٤٤م)، ويُنسب إليه إعدادُ نسخةٍ أولية من القرآن، في أهمية القيام بجمع الحديث. ورفَضَ الفكرة؛ خوفًا من احتمال حدوثِ تنافُس خطير لهذه النسخة مع القرآن. وحذَّر الصحابة من رواية الكثير جدًّا من أحاديث النبي. وأدَّت إجراءاته القوية ضدَّ مَن تجاهلوا تحذيره إلى ردع الآخَرين. ذكَرَ أبو هريرة (ت: ٥٨ﻫ/٦٧٨م) بعد ذلك أنَّ الناس لم يجرُءوا في حياة عمر على قول «قال رسول الله»؛ خوفًا من أن يُجلَدوا أو يُسجَنوا أو ينالوا عقابًا شديدًا بشكلٍ ما.١
وكان عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت الأنصاري من بين قليلين عارضوا كتابة الحديث. وكثَّف عددٌ أكبر بحثَهم عن حديث النبي، شفهيًّا ومكتوبًا. وفي النهاية، حتى عبد الله بن عمر أملى مجموعته المتنامية. وكان أول الرواة المحترِفين التابعَ الأمي لمحمد أبا هريرة، ومولاه أنس بن مالكٍ الأنصاري (ت: ٩٤ﻫ/٧١٢م). وحين سُئل أبو هريرة عن أحاديثه الكثيرة؛ وضَّح أنه كان فقيرًا وقضى وقتًا طويلًا مع محمد، وكرَّس حياته لحفظ الحديث، بينما شُغِل أهل مكة بالأسواق وأهل المدينة بأراضيهم.٢ مروان بن الحكم، وكان والي المدينة مرَّتَين، جعَلَ كاتبه أبا الزعزعة يكتب عددًا كبيرًا من الأحاديث عن أبي هريرة.٣ أملى أبو هريرة الحديث على كثيرين، وخاصة زوج ابنته سعيد بن المسيِّب (ت: ٩٤ﻫ/٧١٢م)، الذي قلق حين اعتمد أحدُ تلاميذه على ذاكرته فقط.
كان أنس بن مالك الذي يعرف القراءة والكتابة مدافِعًا قويًّا عن كتابة الحديث. روى غالبًا عن محمد وأُسرته وعن بعض الصحابة البارزين. وحثَّ ابنه وتلميذه قائلًا: «قيِّدوا العِلم بالكتابة.» ممَّا يمليه أو بنَسْخ مخطوطاته. وروى عبادة بن الصامت الأنصاري (ت: ٣٤ﻫ/٦٥٤م، أو ٦٥٥م)، وهو معلِّم للقرآن والكتابة، عن أبي هريرة وأنس. وأسَّس أسرةً من ثلاثة أجيال من علماء الحديث. سعى ابنه وحفيده إلى جمْعِ العلم من الأنصار. ورَوَيا عن كعب بن عمرو (ت: ٥٥ﻫ/٦٧٥م)، الذي يصاحبه مولًى يحمل إناءً مليئًا بمخطوطات.٤
هاجَرَ أنسٌ وأُسرته في منتصف القرن تقريبًا إلى البصرة، حيث وجدوا كثيرًا من الأتباع. وتلقَّوا دعمًا قويًّا من أُسرة الخادم سِيرين وأبنائه الستة، وصار أحدهم، محمد، كاتبَ أنس. وعمل أنس نفسه قرطاسيًّا وناسخًا و/أو بائع كتب، ورَّاقًا.٥ ونتيجةً لنظرته وارتباطاته وأنشطته الأدبية لوقتٍ طويل؛ حظي بالتقدير راويةً رائدًا وحافظًا للحديث.
في الوقت ذاته، جمَعَ عددٌ متزايد من الصحابة والتابعين الحديث ورووه. وعرف الروَّاد بالعلماء والفقهاء، وهما مصطلحان استخدما في البداية بالتبادل. بدأ الاعتراف بعلماء الدين البارزين مبكرًا واستمر في الزيادة. سافر مسروق بن الأجدع (ت: ٦٣ﻫ/٦٨٢م)، وكان محدِّثًا وقاضيًا وشاعرًا، بعيدًا بحثًا عن العِلم. حدَّث عن أبي بكرٍ وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس (ت: ٦٨ﻫ/٦٨٨م) واكتسب كلَّ العلم الديني الذي كان لدى الصحابة. وشهِدَ النصفُ الثاني من القرن الأول تخصُّصًا كبيرًا في الفروع الدينية الرئيسية للدراسات القرآنية والحديث والشرع، رغم أنَّ علماء تلك الفترة لم يقتصروا على مجالٍ واحد. حظي الكثير من علماء الطبقة الأولى باعترافِ رفاقهم ودعمٍ من أصحاب السُّلطة. جاءوا في البداية من مكة والمدينة، المدينتَين المعروفتَين بأنهما مهدُ الحديث.

عبَّر مجاهد بن جبر (١٠٣ﻫ/٧٢١م)، محدِّثٌ ومفسِّر للقرآن، عن فخر أهل مكة بعلمائهم الأربعة البارزين: عبد الله بن عباس، وأبي محذورة، وعبد الله بن السائب، وعبيد بن عمير؛ ويتميز كلٌّ منهم بأنه عالِمٌ شامل ومعلِّم ومفسِّر للقرآن وقاضٍ، بالتتابُع. يأتي عبد الله بن عباس على رأس قائمة علماء المدينة أيضًا. أملى تفسيرًا للقرآن وأحاديثَ وعقَدَ جلساتٍ عن غزواتِ محمد وعن الشريعة، وعن «أيام العرب» وعن الشِّعر. وسعى علماء البصرة إلى عبد الله بن عمرو بن العاص (ت: بعد ٦٥ﻫ/٦٨٤م) من أجل مجموعته المكتوبة من حوالي ألفِ حديثٍ لمحمد. وأملى عبد الله بن عمر (ت: ٧٤ﻫ/٦٧٣م) الحديثَ على اثنَين من أبنائه واثنَين من خَدَمه، سالِم خاصةً ونافع بن هُرْمُز (ت: ١١٧ﻫ/٧٣٥م). والأربعة من المحدِّثين الكبار. وكتب المدني جابر بن عبد الله الأنصاري مجموعةً من الحديث استخدمها مجاهد بن جبر المكي. وأملى أبو سلامة عبد الله بن عبد الرحمن (ت: ٩٤ﻫ/٧١٢م)، أحد «العلماء السبعة» المدنيين، بعض مجموعاته المكتوبة حتى للصِّبية.

سافَرَ عروة بن الزبير (ت: ٩٤ﻫ/٧١٢م)، وكان نشيطًا في البداية في الحجاز موطنه الأصلي، إلى مصر وسوريا إلى بلاط عبد الملك. وشملتْ اهتماماته الحديث والمغازي والسيرة والفقه والأخبار. أملى من مخطوطاته وأعطى مجموعة مغازيه لابنه هشام لترتيبها. وأحرَقَ مخطوطاته الشرعية في ٦٣ﻫ/٦٨٣م، وهو عملٌ نَدمَ عليه بعد ذلك.
أنتجت العراق وسوريا ومصر، حيث استقرَّ كثير من الصحابة والتابعين، علماءها الكبار. استقرَّ اليمني ابن ميمون الأودي (ت: ٧٤ﻫ/٦٩٣م) في الكوفة وروى مجموعةً من الحديث عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود. وكتب في مواضيعَ تاريخيةٍ اعتمد عليها ابن إسحاق في وقتٍ لاحق. وفضَّل الناقد الكوفي للحديث، إبراهيم بن يزيد النخعي (ت: ٩٥ﻫ/٧١٤م)، الروايةَ من الذاكرة، ومع ذلك سَمحَ باستخدام المخطوطات، وأمَرَ بها لأصحاب الذاكرة الضعيفة من على ثيابهم وشفاههم بقع الحبر.٦ سعيد بن جُبير الكوفي (ت: ٩٥ﻫ/٧١٤م)، عالِم الحديث ومفسِّر القرآن، كتَبَ وأملى تفسيره على مواطنه العالِم ضحَّاك بن مزاحِم (ت: ١٠٥ﻫ/٧٢٣م). واعتمد ابن إسحاق في وقتٍ لاحق على مجموعته من الحديث. العالم الكوفي الموسوعي ورَجُل البَلاط أبو عمرٍو عامر الشعبي (ت: ١١٠ﻫ/٧٢٨م تقريبًا)، الذي كان فخورًا بذاكرته، اعترَفَ بأنَّ «الدفتر خيرُ محدِّث» وأنَّ «الكتاب قيدُ العِلم».٧ ومن علماء البصرة البارزين في تلك الفترة أنس بن مالك والحسن البصري وأبو قِلابة (ت: ١٠٥ﻫ/٧٢٤م). وكانت سوريا فخورةً بخالد بن مَعْدان (ت: ١٠٤ﻫ/٧٢٢م) ومكحول الشامي (ت: ١١٢ﻫ/٧٣٠م تقريبًا). وتتكوَّن القائمة المبكِّرة التي وضعها شهاب الزهري لطبقاتِ العلماء من: سعيد بن المسيِّب المدني، وأبي عمرو عامر الشعبي الكوفي، وحسن البصري، ومكحول الشامي.
وجد الكثيرون من العلماء المذكورون أعلاه وعلماء الحديث الحظوةَ عند الخلفاء الأُمويين ووُلاتهم. استخدم عثمان بن عفان (٢٤–٣٥ﻫ/٦٤٤–٦٥٦م) الحديثَ لمامًا، لكنه يوضع ضمنَ علماء الحديث. وكتب معاوية (٤٠–٦٠ﻫ/٦٦٠–٦٨٠م) بعضَ الأحاديث عن محمد وأضاف عددًا آخَر بالمراسلات مع واليه على العراق. واستشهد بالحديث في خُطبه بالمسجد وجلسات البلاط ويوضع أيضًا ضمنَ علماء الحديث. ظهرتْ مجموعاتٌ كبيرة من الحديث المكتوب في عهده، مثل مجموعة ابن عمِّه مروان بن الحَكم، المذكور سابقًا. ابن مروان، عبد العزيز، اهتمَّ اهتمامًا فعَّالًا بالحديث وعلماء الحديث. في أثناء ولايته على مصر (٦٥–٨٥ﻫ/٦٨٤–٧٠٤م) كلَّفَ السوريَّ كَثيرَ بنَ مرَّة بوضع مجموعةٍ مكتوبة من حديثِ عددٍ من الصحابة باستثناء حديث أبي هريرة؛ لأنها كانت لديه. وروى ابنه عمر بن عبد العزيز عن كلٍّ من أبيه وجده. وتركز اهتمام الأُسرة على مغازي محمد وسيرته، وأحداثٍ تاريخية أخرى، والشريعة.

وعيِّن عبد الملك بن مروان في شبابه رئيسًا للديوان. وتركَّز اهتمامه المبكِّر أساسًا على الشريعة ومغازي محمد. وكان في خلافته (٦٥–٨٦ﻫ/٦٨٥–٧٠٥م) راعيًا للعلماء البارزين الذين غطَّوا عدَّة فروع من علوم الدين. وضمَّت قائمةُ علماء بلاطه سعيدَ بن المسيِّب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبا عمرٍو عامر الشَّعبي. وكلَّف سعيدَ بن جبير بكتابة تفسيره للقرآن والحسنَ البصري بتأليف «رسالة في القَدَر». وكانت نُسخ من العملَين ومخطوطاتٌ من الحديث تغطِّي مغازي محمد والشريعة، تستخدم في مكتبة عبد الملك. ومن العلماء الذين أنقذهم من طغيان الحجَّاج بن يوسف، واليه على العراق المؤثِّر والطاغية: أنسُ بن مالك وكان مسِنًّا، وعبد الله بن عمر، والحسن البصري، وسهل بن سعد آخِر من بقي من صحابة المدينة.

خدم العالِم ورجُل البلاط قتادةُ بن دعامة عبدَ الملك في مجالاتٍ عديدة. حثَّ الخليفةَ على التغاضي عن المعارضة السياسية المبكِّرة للعالِم المدني الشاب ودارِس الحديث ابن شهاب محمد بن مسلم الزُّهري (ت: ١٢٤ﻫ/٧٤٢م، يشار إليه من الآن بالزهري). عيَّنه عبد الملك معلِّمًا للأمراء. وكانت مهامُّه الأخرى مشاركةً في الجلسات العلمية في البلاط وتقديم المشورة في المسائل التاريخية والشرعية. وكانت مصادر الزهري للحديث قرشيةً تمامًا، حتى حثُّه عبد الملك على البحث عن الحديث عند الأنصار حسني الاطلاع. حُفِّز الخليفة، والعالم من ناحية، بالشك المتنامي في الأحاديث التي يرويها الموالي في أقاليم العراق وخراسان؛ حيث تفشَّت الانقسامات السياسية والبدع والعنصرية.

روى عبد الملك نفسه بضعةَ أحاديث. شَهدَ الزهري إلحاحَ الجمهور على نشْرِ هذه المعرفة الدينية كما كانت قبل أن يأتي الموت على كلِّ الصحابة. دعمه للتعليم، الديني والعلماني، جعَلَ النقَّاد يضعونه ضمْنَ أكثر العارفين في صدر الإسلام.

اتَّبع ابن عبد الملك وخليفته، وليد الأول (٨٦–٩٦ﻫ/٧٠٥–٧١٥م)، سياسات أبيه السياسية والدينية. أبقى على كثير ممَّن عينهم والده، بما فيهم عروة بن الزبير والزهري، وأضاف طاووس بن كيسان اليمني، عالم الحديث البارز ومفسر القرآن. ودعا سعيد بن المسيِّب إلى بلاطه، لكنَّ العالِم المسِنَّ اعتذر. وخصَّص معاشات لقرَّاء القرآن ورعاة المساجد، وهي نقلة مثيرة للخلاف أثارت مسائل الدفع للوظائف الدينية، بما فيها بيع الكتب الدينية. وكان بيع نُسخ من القرآن والمخطوطات الدينية الأخرى سائدًا في العراق، حيث أباحه أبو عمرٍو عامر الشعبي وحسن البصري، لكنْ فقط لتغطية تكاليف المواد المستخدمة.

عيَّن وليد الأول عمر بن عبد العزيز واليًا على مكة والمدينة، حيث ارتبط بمحدِّثي الحجاز وآخَرين من الأقاليم في موسم الحج. واعتبر حتى بعض العلماء الناضجين أنفسهم تلاميذ لعمر. ويصنَّف ضمن علماء الحديث. وكان عزله من الولاية في ٩٣ﻫ/٧١١م بتحريضٍ من الحجَّاج بن يوسف، الذي انتقده عمر بسبب قسوة حُكمه في العراق واضطهاده للعلماء.
وارتبط عمر بعد عودته إلى دمشق بالعلماء المقيمين والزائرين. وكان من الزائرين أبو قِلابة بن يزيد الجرمي، الذي فرَّ من البصرة في ٩٥ﻫ/٧١٣م ليتجنب العمل قاضيًا. دعاه عمر ليخطب وبجَّله عالمًا من علماء الحديث. وقبل موته بوقتٍ قصير أرسل أبو قِلابة كتبه إلى البصرة في رعاية المولى الخراساني أبي رجاء مطر بن طهمان الوراق. ملأت الكتب حِملَي هودج بعير. أرسل حملًا، ويحتوي حديث محمد وبعض تقارير العرب أو حكاياتهم، إلى رجل من قبيلته، بيهس الجرمي. وأرسل الحمل الثاني، ويحتوي حديث محمد وحديث الصحابة وسنَّتهم، إلى تلميذه أيوب السختياني (ت: ١٣١ﻫ/٧٤٨م). وعُرِف أيوب عالمَ حديثٍ متفانيًا، وقد حجَّ أربعين مرة وروى أربعمائة حديث.

يوضع سليمان بن عبد الملك، أميرًا وخليفة (٩٦–٩٩ﻫ/٧١٥–٧١٧م)، ضمن علماء الحديث. ومن رفاقه عمر بن عبد العزيز والزهري وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج (ت: ١١٧ﻫ/٧٣٥م). ومن أكثر الساسة العلماء تأثيرًا في سليمان رجاء بن حيوة (ت: ١١٢ﻫ/٧٣٠م). أقنعه بإعلان عمر وريثًا له. وقرأ الزهري، وامتدح في البداية رجاء ومكحول الشامي، مآثر التابعين للناس.

احتفظ عمر بن عبد العزيز (٩٩–١٠١ﻫ/٧١٧–٧١٩م) بأبي بكر محمد بن عمرو بن الحزم الأنصاري في أثناء ولايته للمدينة. قدَّم العطايا للعلماء الناضجين لينشروا علمهم الديني، وللطلاب الصغار ليكرسوا وقتَهم لدراسة القرآن والحديث. ورغب في أن يسجِّل ويرسِّخ حديثَ النبي وسنته. لجأ إلى أبي بكر الأنصاري والزهري للبدء في مشروعه. كتَبَ إلى أبي بكر ليرسل له كلَّ الوثائق الرسمية التي في حوزة الأُسرة، بدايةً من تعليمات محمد لجَد أبي بكرٍ عند تعيينه على اليمن في ١٠ﻫ/٦٣١م معلِّمًا للدين الجديد ومسئولًا عن الزكاة. وطلَبَ نُسخًا من الحديث والسُّنة التي روتْها هذه الأُسرة على مدى ثلاثة أجيال من القضاة والفقهاء. وأرسلت أوامر مماثِلة إلى أُسر الخلفاء أبي بكر وعُمَر وعلي، وأسرتَي أنس بن مالك وعبد الله بن العاص. وسُلِّمت الموادُّ للزُّهري لفحصها وتنسيقها.
يؤدي فحص المصادر المرتبِط بهذا المشروع بنا إلى أن نستنتج أولًا أن المواد الواردة شملت وثائق أصدرها محمد وأبو بكر وعمر، وثانيًا أنها تتناول بشكلٍ خاص الزكاة والصدقة والدِّية وقوانين الميراث والشريعة. وتجدُر الإشارة أيضًا إلى أن عمر، قبل وفاته بوقتٍ قصير، ادَّعى فضل ترسيخ قانون الميراث والشريعة.٨
وأوكل الزهري إكمالَ المهمَّة لرجلٍ من قبيلته، سعد بن إبراهيم الزهري (ت: ١٢٥ﻫ/٧٤٣م تقريبًا)، وكان قاضيًا ومحدِّثًا. وأخبر تلميذه عقيل بن خالد، حين أرسل عمر بن عبد العزيز نُسخًا كاملة إلى الأمصار. وليس هناك تسجيلٌ معروف لأيِّ رد فِعل من الأمصار. ذكَرَ مالكُ بن أنس بعد ذلك معلوماتٍ عن المشروع، عن معلِّمه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الله بن دينار (ت: ١٢٧ﻫ/٧٤٥م)، مولى عبد الله بن عمر بن الخطَّاب.٩

عزل يزيد الثاني (١٠١–١٠٥ﻫ/٧٢٠–٧٢٤م) مَن عيَّنهم عمر بن عبد العزيز من الديوان، لكنَّه عيَّن الزهريَّ قاضيًا على المدينة. وربما شجَّع عدمُ اكتراثه بالقوانين الموحِّدة للإمبراطورية الأمصارَ على تجاوُز لوائح عمر. وأدرك الزهريُّ نفْسُه عدمَ جدوى أيِّ جهدٍ لفرض شكلٍ موحَّد على كلِّ الأمصار.

عَهِد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (١٠٥–١٢٥ﻫ/٧٢٤–٧٤١م) للزهريِّ بتعليم أبنائه، واستشاره في أحداثٍ تاريخية ومسائلَ شرعية. عمومًا، تُرِك الزهريُّ حرًّا ليتابع أهدافه العلمية. وتعزَّز اهتمامه الدائم بالحديث بقلَقِه وقلَقِ هذا الخليفة على هذا الكيان من المعرفة الدينية. نسخ كتَّاب بلاطه وتلاميذ الزهري نُسخًا من مجموعاته لمكتبة البلاط ولأنفسهم. وكان خالد القصري، والي هشام على البصرة والكوفة، معجَبًا جدًّا ببراعة الزهري؛ فطلب منه معلوماتٍ مكتوبة في مواضيع عن الأنساب والتاريخ. وأثارت إنجازات الزهري حسَدَ منافِسه في البلاط أبي الزناد عبد الله بن ذكوان (ت: ١٣١ﻫ/٧٤٨م). وكان من معجَبيه صالح بن كيسان، معلِّم أبناء عمر بن عبد العزيز ورفيق الزهري في بحثه عن الحديث، الذي دوَّنه الاثنان. وكان سعد بن إبراهيم أيضًا من أصدقائه المعجَبين به، وكان من أُسرةٍ من المحدِّثين الفقهاء والقضاة من ثلاثة أجيال. وقد سأله ابنه إبراهيم ذاتَ يومٍ بمَ فاقكم الزهريُّ؛ فقال له إنه «كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شابٌّ إلا ساءله ولا كهلٌ إلا ساءله ولا عجوزٌ ولا فتًى إلا ساءله … ولا عجوزٌ إلا ساءلها ولا كهلة إلا ساءلها، حتى يحاور أربابَ الحجول.»١٠

أزعجت الأنشطة المتزايدة في العلوم الدينية في طبقة الموالي في العراق والشرق الأقصى الزُّهري. حين عرضتْ على الزهري نسخةً من مجموعة الحديث لإسماعيل بن مهران الأعمش (٦٠–١٤٨ﻫ/٦٨٠–٧٦٥م)، من كبار علماء الحديث في العراق، عبْرَ عن دهشته من أنَّ العراق يمكن أن ينتج عالمًا في الحديث بهذه البراعة، لكنَّه واصَلَ إعطاءَ الأولوية لرواية الحديث عن قريش والأنصار. وحين تقاعَدَ في النهاية من بلاط هشام، استقرَّ في أيلةَ بدلًا من العودة إلى المدينة موطنه الأصلي، وكانت هذه المدينة، كما صرَّح، لم تعُد صالحةً له بوجود اثنَين من الموالي، أبي الزناد وربيعة الرأي.

استبعد ابن أخي هشام وخليفته المنتقم، وليد الثاني، نسخ البلاط من أعمال الزهري. كانت المجموعة كبيرة، تمثِّل حوالي أربعين عامًا من البحث. وشهِدَ تلميذ الزهري، معمر بن راشد، استبعاد عدَّة أحمال من المخطوطات. ولا يوجد تسجيل لمصيرها الفوري أو النهائي. وهناك احتمال بأن يكون معمر والتلاميذ الآخرون قد احتفظوا بمعظم المخطوطات. كان لدى مالك بن أنس، على سبيل المثال، سبعة صناديق من مخطوطات الزهري لم يكُن قد نقلها إليه مباشرة. واكتشفت المخطوطات بعد موت مالك، وحمد الناس له حفظها. وكانت بعض مخطوطات الزهري في حوزة ابن أخيه محمد بن عبد الله بن مسلم (ت: ١٥٩ﻫ/٧٧٦م) وفي حوزة مضيفه عبيد الله بن أبي زياد، وكان كلاهما من صغار علماء الحديث. وقد بُحِث عن حفيد الأخير، الحجَّاج بن يوسف بن عبيد الله (ت: ٢١٦ﻫ/٨٣١م)، من أجل مجموعته من مخطوطات الزهري.

الرواية المكتوبة للحديث التي انتشرت في صورة أسانيد عائلية وغير عائلية كانت قد رسخت، وصارت أطول في نهاية القرن الأول. إملاء المعلم وحفظ التلميذ لها؛ أفسح المجال للإملاء والحفظ في المخطوطات. وكان الزهري يعتبر حضور جلسةٍ علمية بدون أن يكون مع المرء مخطوطه ضَعفًا مهنيًّا. وكان أحيانًا يعطي نسخته لتلميذٍ ثقة للنسخ أو الإجازة لينقل المحتوى على مسئوليته. وعُرِف هو وتلاميذه ﺑ «أهل الكتب». ونتيجةَ إخلاصهم للحديث؛ عُرفوا أيضًا ﺑ «أهل الحديث»، تمييزًا لهم عن مجموعة الفقهاء المعروفين ﺑ «أهل الرأي»، روَّاد أبي حنيفة والمذهب الحنفي.

بقي بعض تلاميذ الزهري في سوريا والحجاز. واستقرَّ آخرون في العراق ومصر واليمن. وسعى العلماء المحلِّيون والمتجوِّلون إلى الروَّاد منهم، لينقلوا عن الزهري. وتشمل القائمة (تواريخ الوفاة: ١٤١–١٩٨ﻫ/٧٥٨–٨١٤م) معمر بن راشد، الذي احتفظ بمجموعة الزهري عن مغازي محمد؛ وموسى بن عقبة، الذي كتب أول عملٍ شامل عن المغازي، «كتاب المغازي»؛ وابن إسحاق، الذي كتَبَ أول سيرةٍ شاملة عن محمد، «سيرة رسول الله»، وأول تاريخ للخلفاء، «تاريخ الخلفاء»؛ وشعيب بن دينار، كاتب بلاط لأعمال الزهري في مكتبة هشام؛ وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد، وكانا عالِمين من علماء الحديث دقَّقا «سلاسل الرواة»؛ ومحمد بن الوليد الزبيدي، من علماء الحديث وقاضٍ في سوريا؛ ومالك بن أنس؛ وسفيان بن عوينة (١٠٧–١٩٨ﻫ/٧٢٥–٨١٤م)، من علماء الحديث والفقهاء البارزين في الحجاز. عبد الله بن قُرَيب الأصمعي، في مرثيته لسفيان حافظًا للعلوم الدينية، أسفَ على فقْدِ هذا الراوي المباشِر الأخير عن الزهري.

درس الزهريَّ وتلاميذَه ومعاصريهم في الأمصار وبجَّلهم، نقادُ الحديث في القرنَين الثاني والثالث. لخَّص علي بن المديني (١٦١–٢٣٤ﻫ/٧٧٧–٨٤٨م) تطوُّر دراسات الحديث حتى عصره. وضَعَ قوائم بثلاثِ سلاسلَ متتابعةٍ للعلماء البارزين، الذين انتقلت معرفتهم المتراكمة من مجموعة إلى التالية. يأتي الزُّهريُّ على رأس القائمة الأُولى، وتتكوَّن من ستة؛ اثنين من كلٍّ من المدينة والبصرة والكوفة. والقائمة الثانية من اثني عشَرَ مصنَّف، تضمُّ ستة من تلاميذ الزهري وثلاثة ممَّن نقلوا عن تلاميذه. ومن الثلاثة المتبقين، اثنان من العراق وواحد من سوريا. وتضمُّ القائمة الثالثة ستة من معاصِريه: خمسة من العراق، والخراساني عبد الله بن المبارك (١١٨–٨١ﻫ/٧٣٦–٩٧م)، وهو وحده ممَّن نقلوا عن أحد تلاميذ الزهري.

كان لابن المديني نفسه ألفا حديثٍ يمكن إرجاعها إلى الزهري. وتعكس قوائمه التحوُّلَ المستمرَّ للتعليم الديني من الحجاز إلى العراق، مركز الإمبراطورية، حيث استقر عددٌ من تلاميذ الزهري. خدم معاصِرُه، يحيى بن سعيد الأنصاري، أولَ خليفتَين عباسيين قاضيًا للكوفة. وكتب إلى تلميذه السابق، مالك بن أنس، يطلب منه أن يرسل له نسخةً من المجموعة الشرعية للزهري، وأرسل له مالكٌ نسخةً من مائة حديث. فكَّر الخليفتان المنصور والمهدي في ترسيخ «موطَّأ» مالك معيارًا شرعيًّا في كلِّ أرجاء الإمبراطورية، لكنهما تخلَّيا عن الفكرة؛ لأنها غير عملية. كان شكُّ الموالي من الشرق معتدلًا بحلول عهد هارون الرشيد. وأعلن ذات يوم أن لديه في البلاط ناقدَين للحديث قادرَين على تحديد أمهرِ تزوير، المذكور سابقًا عبد الله بن المبارك الخراساني، ورفيقه المقرَّب إبراهيم بن محمد الفزاري.

وكان الخراساني محمد بن يحيى الذهلي (١٧٢–٢٥٨ﻫ/٧٨٨–٨٧٢م) تلميذًا لابن حنبل ومعلمًا لمسلم والبخاري. واشتهر بزُهْريَّاته، وهي موادُّ جمعها في أثناء رحلاته في العراق وسوريا والحجاز واليمن. وكتَبَ ابن حِبَّان البُسْتي (ت: ٣٥٤ﻫ/٩٦٥م) دراسةً نقدية لحديث الزهري. التغطية الشاملة لحديث الزهري في «المسند الكبير» لحسين بن أحمد النيسابوري (ت: ٣٥٦ﻫ/٩٦٧م)، أكسبته لقب «الزهري الصغير».
سرَّعت هجرة الصحابة ومجالس العلماء في مكة والمدينة، خاصة في موسم الحج السنوي، والرحلات بحثًا عن العلم، من رواية الحديث. الدليل على الرواية المكتوبة المستمرة للحديث من الربع الثاني من القرن الأول وما بعده؛ متوفرٌ في المصادر الإسلامية المبكِّرة واللاحقة. اعتُبِر الزهريُّ ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الملك بن جريج العلماء الحجازيين الثلاثة الرواد للحديث؛ لأنهم دوَّنوا مجموعات الحديث في مجملها. أدَّى توفُّر عدد من هذه المجموعات إلى زيادة سريعة للعدد الكامل من الأحاديث المتوفرة والمتداولة. وكانت الزيادة جزئيًّا نتيجةَ المحتوى الجديد والمزدوج، لكن غالبًا نتيجة ازدهار الأسانيد. وشهدت مصطلحات الإسناد عدَّة مراحل من التطور، سعتْ كلُّها إلى تحديد طريقة الرواية، شفهيَّة أو مكتوبة أو تجمع بين الاثنين. عَملَ علماء الحديث ونقَّاده في القرنَين الثاني والثالث على تطوير نظامٍ موحَّد ومستقرٍّ يمكن أن يميِّز بين الأسانيد المقبولة وغير المقبولة. وأنتجوا نظامًا مرهقًا، يبدو أنه لم يحقِّق هدفهم إلى حدٍّ ما.
استدعى التقييم النهائي للإسناد بعضَ المعرفة بالآراء الدينية لكلٍّ راوٍ ومواهبه وأنشطته المعنوية والفكرية. والأسانيد التي خضعتْ لأكبر درجةٍ من الفحص، مسانيد حديث محمد وسُنَّته. وخضعتْ أسانيد المحتوى الأخروي والتوجيهي المتعلِّق بمصلحة النسيج المعنوي والديني للمجتمع الإسلامي لأقلِّ فحص. ورغم أنَّ بعضَ النقَّاد وجدوا أخطاءً في بعض الأسانيد المبكِّرة للزهري، وخاصةً أسانيد حديث النبي؛ فإنَّ الكثيرين قبلوها استنادًا لقوة إيمانه وشخصيته وأنشطته العلمية. وقَبلَ العلماء على أساس هذه الخصائص استخدام مالك بن أنس ﻟ «بلغني»، و«عن». وهما مصطلحان يعبران عن الشك ويشيران عادةً إلى المصدر لكنهما لا يحدِّدان طريقة النقل.
استخدم علماء الحديث في القرن الأول تلاميذَ موهوبين كتبةً لبعض الوقت. واستخدم العلماء البارزون في القرن الثاني/الثامن وما بعده كاتبًا أو أكثر، أو استأجروا نُسَّاخًا محترفين لنسخ عملٍ معين، لكنْ في وقتٍ لاحق، سمح للورَّاقين بنقلِ نسخةٍ موثَّقة لمحدِّث أو بيعها في السوق المفتوحة. ونَمَت المكتبات في الحجم والعدد من منتصف القرن الأول/السابع وما بعده.
واجَهَ علماء الحديث والمؤرِّخون والفقهاء في القرنَين الثاني والثالث مهمَّةَ تصنيف مجموعةٍ كبيرة من الحديث وانتقائها وتحقيقها وتنظيمها قبل كتابة الأعمال في مجالاتهم المختارة. اعتمدَت الأعمال الشاملة عن المغازي لموسى بن عقبة ومعمر بن راشد، والسيرة وتاريخ الخلفاء لابن إسحاق — إلى حدٍّ كبير — على مجموعات الزهري، وأكملت من مجموعات عائلات كتاب الحديث، التي ذكرناها من قبل.
أنجز الزهري ما استطاع، من خلال حملته الهادفة، والاعتراف والدعم الذي قدَّمه له عدد من الخلفاء الأمويين. عمل العلماء في مختلف الأمصار، لكن في دائرة من الضوء أقل من الزهري، بجدٍّ في مجال أو أكثر من مجالات الحديث واستخدموا وسائل النقل نفسها، التي استخدمها هو وتلاميذه، إلى حدٍّ كبير. في نهاية القرن الأول/السابع، جمع هؤلاء العلماء، بالعمل فرادى أو في مجموعات في كلِّ أرجاء الإمبراطورية، وأنجزوا كتابة المصادر الأساسية لحديث النبي وسنَّته وأكملوها بحديث الصحابة.
شهدت بردياتُ الحديث في القرنَين الثاني والثالث، على نقلةٍ مبكِّرة ومتقدِّمة من النقل الشفهي إلى النقل المكتوب، وتمثِّل: تفسير القرآن، والشريعة، والسيرة، والتاريخ العسكري والسياسي. وتقدِّم دليلًا على وجود مخطوطاتٍ كبيرة من الحديث وتداولها في النصف الثاني من القرن الأول. وتقدِّم، في معظمها، سلاسلَ رواةِ حديث النبي وسنَّته أكثر ممَّا تقدِّم حديث الصحابة. أخيرًا، محتويات الحديث بشأن الصحابة، يوجد لها أوجه شِبه قليلة، أو لا يوجد في المصادر ذات الصلة. في مقابلةٍ لافتة، يجِد حديث النبي وسنته معدَّلًا عاليًا من البقاء في المجموعة الموجودة من الحديث.
١  Abbott, Studies, II, 7، وهامش ٢٤.
٢  Abbott, Studies, I, 28 and II, 133 and 240.
٣  Ibid., II, 19-20.
٤  Ibid., I, 48, note 6.
٥  Ibid., II, 46.
٦  Ibid., II, 74, note 3, 157, note 7.
٧  Ibid., II, 228.
٨  Ibid., II, 24, note 187.
٩  Ibid., II, 31, notes 254-5.
١٠  Ibid., II, 180. [عن النووي، (بستان العارفين). (المترجم)]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥