الفصل الثاني عشر

الحديث الشيعي

إيتان كولبرج، الجامعة العبرية بالقدس

(١) الجمع والنقل

ظهور مجموعة مستقلَّة من الحديث الشيعي، يمكن إرجاعها إلى النصف الأول من القرن الثاني/الثامن. بحلول ذلك الوقت، أدَّى الصدع بين الشيعي وغير الشيعي، ويعود إلى الخلاف السياسي الديني حول خلافة محمد، إلى معاركَ دموية واضطهادٍ لا يرحم. يشترك كلُّ الشيعة تقريبًا في الإعجاب المطلق بعلي بن أبي طالب، والإيمان بأنه الحاكم الشرعي بعد وفاة النبي، والاعتقاد بأن كلَّ الحكَّام الشرعيين بعد عليٍّ، ينبغي أن يكونوا من ذريَّته. حظيتْ هذه المطالب الشرعية بزخم إضافي مع استشهاد الحسين بن علي ومرافقيه في كربلاء (محرم ٦١ﻫ/أكتوبر ٦٨٠م)، لكن خلْفَ هذه العوامل الموحدة، عانى المذهب الشيعي منذ البداية من انقسامات وانشقاقات عديدة. اعتنق بعضُ الشيعة، بما فيهم روَّاد الطائفة الزيدية، الكفاحَ المسلَّح ضدَّ حُكم الأمويين. اتحدوا خلف شخصية زيد بن علي، حفيد الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي هُزِم وقُتِل بسرعة (١٢٢ﻫ/٧٤٠م). وجنَّد العباسيون الشيعة أيضًا، وساهموا بشكلٍ كبير في الإطاحة بالأمويين. وكان هناك، إضافةً إلى ذلك، مجموعاتٌ شيعيَّة متنوعة، وصفتْهم الأجيال التالية استخفافًا ﺑ «الغُلاة»، الذين مالوا لتأليه علي، واعتنقوا أحيانًا مفاهيمَ مثل: التجسيد والتقمص. لكن الفرع الشيعي الذي شكَّل في النهاية الطائفة الأكبر والأكثر أهمية في المذهب الشيعي، وكان أيضًا — في العصر الأموي ومعظم العصر العباسي — الأكثر هدوءًا؛ الطائفة معروفة اليوم بالشيعة الإمامية أو الجعفرية أو الاثنا عشرية (ونشير إليها ببساطة من الآن فصاعدًا بالشيعة). وكان أول قادتِها البارزين الإمامُ الشيعي الخامس، محمد بن علي الباقر (ت: ١١٤ﻫ/٧٣٢م، أو ١١٧ﻫ/٧٣٥م) وابنه الإمام السادس جعفر الصادق (ت: ١٤٨ﻫ/٧٦٥م)، وكان محاطًا بدائرة مخلِصة من التلاميذ. بينما العالَم الإسلامي تمزِّقه الاضطرابات السياسية والعسكرية الكبرى، كان هؤلاء الرجال في عزلتهم النسبية في المدينة، يطوِّرون نسختهم الخاصة من المذهب الشيعي؛ ليبقي حتى اليوم، مع بعض التعديل.
يختلف المذهب الشيعي عن المعتقدات السنيَّة أساسًا بشأن مصدر السُّلطة في الإسلام بعد موت النبي. وكان لهذا أثره المباشِر على بنية الحديث الشيعي، مقابل السنِّي. في الإسلام السنِّي، لعب صحابة النبي الدورَ الأساسي في نقل كلام النبي للأجيال التالية؛ لذا يرجع الإسناد السنِّي عمومًا إلى صحابي ينقل عن النبي، لكن في عيون الشيعة، هؤلاء الصحابة أنْفُسهم بقَدْر تقدير أهل السنة لهم، باستثناءات قليلة، كانوا الرجال الذين قبلوا، أو دعموا بنشاط، الحكمَ غير الشرعي لأول ثلاثة خلفاء. وهكذا بينما اختلف منظِّروا الشيعة في آرائهم بشأن اللوم الديني والخُلقي للصحابة، اتحدوا في الجدل بأنَّ الصحابة لا يمكن أن يقوموا بدور الرواة الجديرين بالثقة.
وإضافةً إلى ذلك، مع نمو المذهب الشيعي الإمامي، تأسَّست في البداية عقيدة شيعية بأنَّ الإمام، الذي تُناط به السُّلطة الدينية النهائية، معصومٌ إلهيًّا بطبيعته من الإثم والخطأ، ويُمنَح معرفةً غير محدودة وهو معيَّن بتحديدٍ شخصي صريح، معبِّرًا عن مشيئة الله. والصحابة، من الناحية الأخرى، حتى حين لا تُنسب إليهم دوافعُ شريرة مضادَّة لعلي، بشرٌ غير معصومين، تحرمهم معرفتهم الناقصة وحكمهم الخاطئ غالبًا من أيَّة أحقيَّة في السند. وهذه النقطة الأخيرة، كثيرًا ما تمثَّل في الأدب الشيعي بإشاراتٍ إلى أحداث متنوِّعة حين اضطر عمر بن الخطاب إلى اللجوء لعليٍّ لطلب النصيحة في مسائلَ شرعيةٍ كان يجهلها عمر نفسه.
هناك أمثلة يظهر فيها الصحابة في الحديث الشيعي رواةً عن محمد. ويحدث هذا أولًا لأسبابٍ تتعلَّق بالتُّقْيَة، حين يعتبر أنَّ من الضروري التظاهر بقبول إسنادٍ صحابي بدلًا من إمام؛ وثانيًا: في الأعمال الخلافية المضادَّة للسنة، حين يمكن تقديم حجَّةٍ مقنعة ضدَّ المعارضين السُّنة بمعتقدٍ شيعي نقله صحابي معادٍ للشيعة علانيةً، لكنَّ المجموعة الرئيسية من أحاديث الشيعة تسجيلُ كلامٍ للنبي أو إمام (للنبي والإمام الدرجة نفسها من الثقة)، ونقله إلى الأجيال التالية تلاميذُ كلِّ إمام. وتوجد أسماءُ هؤلاء التلاميذ، غالبًا مع ملاحظاتٍ قصيرة تتعلَّق بالسيرة، في الأعمال الشيعية الأُولى عن السيرة.
أقدم أعمال شيعية موجودةٌ، مجموعات من الحديث تُعرف بالأصول. والأصل مجموعةٌ من نوعٍ خاص، ويتكون بشكلٍ قاطع، في مقابل المجموعات الأخرى من الحديث، المعروفة بالكتب، من كلامٍ لإمام الْتُزم بكتابته عنه مباشرة. في بعض الحالات يسجِّل مؤلف الأصل أحاديثَ سمعها بنفسه من الإمام. وفي حالاتٍ أخرى، يعتمد على رواية عالِم من علماء الحديث ينقل ما سمعه من الإمام. ثمَّة عملٌ شهير يعتبر أصلًا، وبقي في عدَّة نُسخ وهو «كتاب سُلَيم بن قيس» (أو «كتاب السقيفة»، على اسم مؤلفه المزعوم، تابع من أنصار علي، اسمه سليم بن قيسٍ الهلالي العامري، مات في ولاية الحجَّاج بن يوسف، والي العراق ٧٥–٩٥ﻫ/٦٩٤–٧١٤م). ويعتبره مؤلِّف الفهرست الشيعيُّ الشهير ابن النديم (ت: ٣٨٥ﻫ/٩٩٥م، أو ٣٨٨ﻫ/٩٩٨م) أولَ كتابٍ شيعي، لكنَّ المؤلفين الشيعة بعد ذلك، تشككوا كثيرًا في صحته (وهو شكٌّ يشاركهم فيه جولدتسهير)، ويعلنون صراحةً أنه ملفَّق.
يقدَّر عددُ الأصول عادةً بأربعمائة (ويشار لها مجتمعةً في الأعمال الشيعية ﺑ «الأصول الأربعمائة»). ولا يعرف منها إلا ثلاثة عشر، بقيت في مخطوطات. ويُنسب معظم الأصول إلى تلاميذ جعفر الصادق، رغم أنَّ تصنيف الأصول استمرَّ حتى وفاة الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري (ت: ٢٦٠ﻫ/٨٧٣م). وتشمل الأصول الباقية أحاديثَ ذاتَ طبيعةٍ تاريخية وعقائدية وشرعية وقصصية وجدليَّة. وتعكس محتوياتُها الخصائصَ الكبرى للمذهب الشيعي، وتشمل: تبجيلَ أهل البيت والأئمة، والحطَّ من شأن أعدائهم، والميل لتأكيد الطبيعة المستقلة للفقه الشيعي، وإعادة تأكيد الاعتقاد الأساسي بأنَّ المذهب الشيعي وحده حاملُ الرسالة الأصلية لمحمد. ودمجتْ الأصول في مرحلةٍ لاحقة في أعمالٍ أكبر تعرف ﺑ «الجوامع»، وهي بدورها بمثابةِ أساسٍ للأعمال الشيعية النهائية للأجيال التالية.
المهمة الهائلة لجمْعِ أحاديث الشيعة وتحقيقها، قام بها علماءُ شيعة يعملون في مختلف أرجاء العالم الإسلامي. بحلول القرن الثالث/التاسع حلَّت قُم محلَّ الكوفة أبرز مركز شيعي للتعليم. وكثيرًا ما سافر العلماء الشيعة، مثل نظرائهم من علماء السنة، على نطاقٍ واسع، بحثًا عن أحاديث شيعية أصلية؛ وانشغلوا باجتثاث الموادِّ المشكوك فيها في الحديث المتوفر. وتمَّ ذلك أساسًا بإخضاع الأسانيد لفحصٍ نقدي قوي ويُحكم ﺑ «الضعيف» على الأحاديث التي تشمل أسانيدها شخصًا غيرَ جديرٍ بالثقة أو أكثر. عدم الجدارة بالثقة في عيون الشيعة، كثيرًا ما كانت مرادِفًا للانحراف الديني؛ لذا اتُّهمتْ نسبةٌ كبيرة من الرواة بالوقف (أي الوقوف عند إمامٍ معيَّن، وعدم معرفة القائمة الكاملة للأئمة الاثني عشر)، أو الغلو أو النصب (أي كراهية الشيعة، وهي خاصية تعزى بشكلٍ مهين لأهل السُّنة).
انشغال الشيعة بالحديث في السنوات الثلاثمائة الأولى من الإسلام، لم يكن فقط نتيجةَ الرغبة الملحَّة في الحفاظ على ميراث الشيعة ونشره؛ ربما نتَجَ أيضًا عن بِنية التراتبية الدينية داخل المذهب الشيعي نفسه. ما دامت لم تصبح نظريةُ الإمامة عقيدةً ثابتة ومقبولة عمومًا، كان يمكن القيام بالمساعي الفكرية المستقلَّة في المجتمع بحصانةٍ نسبية. تشهد سير الشخصيات البارزة، مثل هشام بن الحكم (١٧٩ﻫ/٧٩٥-٧٩٦م) ومعاصره مؤمن (شيطانان) الطاق، إضافةً إلى عناوين أعمالهم، على الحرية التي ناقشا بها المسائل الدينية والمذهبية في أواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي. لكن الإيمان المتزايد في الإمام بوصفه السلطة النهائية فرَضَ تدريجيًّا تنوُّعًا في الآراء يمكن احتماله. ومنذ ذلك الوقت، أيُّ شيء يعبِّر عنه كتابةً مؤلِّف شيعي مخلِص؛ افتُرض أنه يحمل ختم موافقة الإمام. وهكذا بقي الحديث، الذي يعكس بطبيعته الأصلية سُلطة الإمام، المجالَ الوحيد الذي لا يعاق فيه عمومًا علماءُ الشيعة في أعمالهم.
خضع هذا الوضع لتحوُّلٍ كامل نتيجةَ حدثَين كبيرَين. كان الأول اختفاءَ الإمام الثاني عشر في ٢٦٠ﻫ/٨٧٤م، أو ٢٦٤ﻫ/٨٧٨م. طبقًا للاعتقاد الشيعي، بعد اختفاء الإمام الثاني عشر مثله بين أتباعه، أربعة سفراء متتالين. وتُعرف هذه الفترة ﺑ «الغيبة الصغرى». تلَتْها «الغيبة الكبرى»، وبدأت في ٣٢٩ﻫ/٩٤١م، وفيها لا يوجد تمثيلٌ مباشر للإمام على الأرض. في «الغيبة الكبرى»، التي تستمرُّ حتى ظهور الإمام مرةً أخرى في صورة المهدي، تبقى القيادةُ الدينية للمجتمع الشيعي في أيدي العلماء. بتعبيرٍ آخر، وجَدَ العلماء الشيعة أنفُسَهم، من القرن الرابع/العاشر وما بعده، بدون سُلطةٍ دينية نهائية ترجع إليها كلُّ المسائل المهمة حتى اليوم (رغم أنَّ مسألة إن كان الأئمة بعد ذلك مارسوا سُلطتهم النظرية فقط، مسألةٌ خلافية). وهذه الحقيقة، وضعت القيادة الشيعية في وضعِ مسئوليةٍ غير مسبوقة؛ وأعطتْ أيضًا دفعةً هائلة للنشاط الفكري الشيعي. ثمَّة زخمٌ آخر لهذا النشاط، قدَّمه الحدث الثاني المهم: وصول الأسرة البويهية الشيعية للسُّلطة في مركز الإمبراطورية العباسية. في العصر البويهي (٣٣٤–٤٤٧ﻫ/٩٤٥–١٠٥٥م)، عبَّر الشيعة عن آرائهم بحريَّة لم يعرفوها من قبل، ولم يكُن لها نظيرٌ لقرونٍ تالية. ومن غير المدهِش أن يتحول مركز النشاط الشيعي في هذه الفترة من قُم إلى الرَّيِّ ثم إلى بغداد، التي أصبحت نقطةً محورية للتعليم الشيعي.
تحرَّر علماء الشيعة من ضرورة الإذعان لحُكم إمامٍ، وتمتعوا ببعض الحماية من نظامٍ خيري،١ صاروا أحرارًا في اتباع سبلٍ جديدة للتفكير والتعبير. تم إثراءُ مجال الأدب الشيعي بأعمالٍ في الشريعة والعقيدة وعِلم الدين والتاريخ والأدب، إلخ. كان لهذه الأعمال طبيعةٌ فردية أكثر ممَّا لسابقتها، وحملت بصمةً واضحة لمؤلِّفيها. وفي الوقت ذاته، رغم أنَّ الحديث احتفظ بالكثير من أهميته المبكِّرة، كان هناك اتجاه لاستخدامه أساسًا يمكن أن تُبنَى عليه حجَّةٌ، بدل أن يُدرس لذاته. وإضافةً إلى ذلك: نتيجةً لزيادة تأثير المعتزلة على الفكر الشيعي، كان على القرآن والحديث أن يتغلبا على علَّةٍ للصدارة. في رأي علماء الشيعة، الذين أكَّدوا على أهمية العلَّة، من الخطأ القبول التلقائي لكلِّ حديثٍ اجتاز اختبارَ الإسناد الرسمي باعتباره ملزمًا شرعيًّا أو مذهبيًّا. ويشمل هؤلاء المؤلفون، المعروفون بالأصوليين (أو المجتهدين) معظمَ الشخصيات الرائدة في الفترة البويهية. وعارضهم الأخباريون ذوو الآراء الأكثر تقليدية، الذين أصرُّوا على أن كلَّ حديثٍ مفرَد أُعلنت صحته، مصدرٌ شرعي للتشريع. واشتعل الصراع بين هاتَين المدرستَين في التفكير، وتعودان مباشرةً إلى الفترة التالية لاختفاء الإمام، في عصر الصوفيين. وخمد في النهاية، في القرن الثامن عشر، مع انتصار الأصوليين.
إنَّ الفترة البويهية بالغة الأهمية في تاريخ الحديث الشيعي. في تلك السنوات، بمناخها السياسي والروحي الملائم، كرَّس الأصوليون والأخباريون طاقاتهم لجمع مجموعةٍ هائلة من الأحاديث الشيعية وترتيبها.

(٢) وصف مجموعةِ نصوص الحديث الشيعي

رسخ الحديث في الوعي الشيعي بثباتٍ أكثر من أيِّ شكلٍ أدبي آخَر. من خلال الحديث عبَّر الشيعة عن موقفهم تجاه بيئتهم، وصاغوا أعرافهم ومعتقداتهم، وأكَّدوا وجودَهم كيانًا محدَّدًا بوضوح. ورغم أنَّ الحديث يعكس أقدمَ مرحلةٍ معروفة من النشاط الأدبي الشيعي؛ فقد استمرَّ في احتلال موقعٍ بالِغ الأهمية في الأجيال التالية أيضًا. وتشير كلُّ الأدلة المتوفرة إلى استنتاج أنَّ المجموعة الكاملة للحديث الشيعي أُنتجت في بداية «الغيبة الكبرى»، وأنَّ كلَّ الأحاديث المعروفة اليوم، من الأعمال اللاحقة فقط، هي حقًّا استنساخٌ ملخِّص لموادَّ قديمةٍ تعود إلى فترةِ الأئمة. ومعظم الحديث الشيعي الذي بقي، وصل إلينا في شكلٍ منظَّم، أكمله علماء الشيعة في العصر البويهي. سعى هؤلاء العلماء إلى تصنيف المواد الموجودة، وهكذا جعلوا الوصول إليها أسهل. ولتحقيق هذا الهدف، كثيرًا ما قسَّموا المجموعات الأُولى للحديث (الأصول الأربعمائة) إلى مكوِّناتها ووزَّعوا الأحاديث المفردة بين أعمالٍ متنوِّعة طبقًا للموضوع. وكانت هذه العملية، تعني أنَّ المجموعات الأولى في شكلها الأصلي فقدت تدريجيًّا موقعَها البارز، ووقعت ضحيةً للإهمال المتزايد. وفي الوقت نفسه، نتيجةَ جهود التحقيق الكبرى لهؤلاء العلماء؛ وصلتْ مجموعة الحديث الشيعي لشكلها النهائي والدائم.
ضمن مصنفات الحديث الشيعي، تحتلُّ تلك المتعلِّقة بفضائل الإمام وصلاحياته مكانةً خاصة. ثمَّة عملٌ مبكِّر من هذا النوع، هو «بصائر الدرجات» لمحمد بن الحسن الصفَّار القُمِّي (ت: ٢٩٠ﻫ/٩٠٣م).٢ يوجد هذا العمل في نسختَين، قد تكون إحداهما تلخيصًا للأخرى. ويقول التراث الشيعي إنَّ الصفَّار نسَخَ الكثيرَ من الأقوال التي ضمَّها في «البصائر» من صحيفةٍ أملاها النبيُّ على عليٍّ. وأدمج أبو جعفر محمد بن يعقوب الكُلِيني (أو الكُلَيني) (ت: ٣٢٩ﻫ/٩٤١م) أحاديثَ كثيرةً تظهر في «البصائر» في كتابه «الأصول من الكافي». ويضمُّ هذا العمل الكبير في مجلدَيه المَذهبَ الإماميَّ كاملًا في صورةِ أحاديثَ عديدة. يتناول الحديث مواضيعَ مثل: ضرورة الإمام، والاعتقاد في الإمام شرطًا من شروط الإيمان الصحيح، معرفة الإمام، إلخ. تُقتبس هذه الأحاديث وأحاديثُ مماثِلة أيضًا في الأعمال النظرية عن الإمامة، مثل «الاعتقادات الإمامية» لأبي جعفر محمد بن علي بن بابَوَيه (أو بابُوي) (ت: ٣٨١ﻫ/٩٩١م)، وإلى حدٍّ أقل، «الشافي في الإمامة»، وهو ردٌّ لعلي بن الحسين الشريف المرتضى (ت: ٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م) على عرضٍ مضادٍّ للشيعة عن الإمامة للقاضي المعتزلي عبد الجبار بن أحمد (ت: ٤١٥ﻫ/١٠٢٥م). وألَّف محمد بن الحسن الطُّوسي (ت: ٤٦٠ﻫ/١٠٦٧م) ملخصًا لكتاب «الشافي» (بعنوان «تلخيص الشافي»).
إضافةً إلى الحديث الذي يضع في الصدارة الوضعَ الخاصَّ لمؤسسة الإمامة، تشكِّل أحاديثُ عديدة يتمُّ فيها التأكيد على حقوق كلِّ إمام بمفرده بالإشارة إلى كلماتٍ النبي وأفعاله؛ تعيينًا صريحًا لهذا الإمام. فضائل علي، أول إمامٍ شيعي، وحقُّه في الحُكم، موضوعٌ لعددٍ كبير جدًّا من الأحاديث، تُجمع معًا غالبًا تحت عناوين «خصائص» علي أو «مناقبه» أو «فضائله». ومن بين الأعمال الكثيرة من هذا النوع، يمكن ذِكر «خصائص أمير المؤمنين» لمحمد بن الحسين الشريف الرضي (ت: ٤٠٦ﻫ/١٠١٥م). (يحمل العنوان نفسه عملٌ للمؤلف السنيِّ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النَّسائي (ت: ٣٠٣ﻫ/٩١٦م)، وكان واحدًا من كثيرٍ من المؤلفين غير الشيعة، الذين جمعوا أحاديثَ عن فضائل علي.) تحتلُّ سيرة عليٍّ، من وجهة نظرٍ شيعية، معظمَ كتاب «الإرشاد في معرفة حُجج الله على العباد» للعالِم والطبيب الشهير محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد (ت: ٤١٣ﻫ/١٠٢٢م). المفيد مؤلِّف كتاب «الجَمَل» أيضًا، والمعروف أيضًا ﺑ «النُّصرة في حرب البَصرة». ويشمل هذا العمل أحاديثَ مواليةً للشيعة متعلِّقة بموقعة الجَمَل (جُمادى الثاني ٣٦ﻫ/ديسمبر ٦٥٦م)، التي نشبتْ بين معسكر عليٍّ ضد عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم. ويشمل القدْرَ الهائل من أدب الأقوال المنسوبة لعليٍّ «نهْجُ البلاغية»، ومؤلِّفه المفترَض هو الشريف الرضي. ويظهر الحديث الذي رسختْ فيه حقوق علي كثيرًا في الأعمال الجدلية المُعادية للسُّنَّة مثل: «الاختصاص» للمفيد، و«الاحتجاج على أهل اللَّجاج» لأبي منصور أحمد بن علي الطبرسي (ت: بداية القرن السادس/الثاني عشر).

ومن أشهر أعمال السيرة المكرَّسة لإمامٍ معيَّن، يمكن ذِكر «عيون أخبار الرضا» لابن بابويه، الذي يتناول الإمامَ الثامن، علي بن موسى الرضا، المعروف في الأدب الشيعي بأبي الحسن الثاني (ت: ٢٠٣ﻫ/٨١٨م). بجانب اقتباس الكثير من أقواله، يقدِّم ابن بابويه أيضًا في هذا العمل تفسيرًا شيعيًّا للعلاقة بين الرضا والخليفة العباسي المأمون (حكَمَ ١٩٨–٢١٨ﻫ/٨١٣–٨٣٣م).

في أحاديث كثيرة، يتمُّ التأكيد على أنَّ عدد الأئمة الشرعيين اثنا عشر. وهذه الأحاديث ليست موجَّهة ضدَّ أهل السُّنَّة فقط، بل أيضًا ضدَّ غير الإماميين، مثل الزيديين والإسماعيليين. ثمَّة مصنَّف نموذجي لمثل هذه الأحاديث، وهو «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر». وتعتقد معظمُ المصادر الشيعية أنَّ مؤلفه تلميذٌ لبابويه، علي بن محمد بن علي الخزاز الرازي (ت: ٣٨١ﻫ/٩٩١م). لا ينبغي فقط أن يستقرَّ عددُ الأئمة بدون شك عند الاثني عشر؛ ينبغي أيضًا توضيحُ أنَّ الله قدَّر اختفاء الإمام الثاني عشر وعودته في المستقبل، وأعلَمَ به محمدًا والأئمة. أشهر مصنفات الحديث في هذا الموضوع «إكمال (كمال) الدين وإتمام (تمام) النعمة» لابن بابويه، و«كتاب الغيبة» لتلميذ الكليني، أبي عبد الله محمد بن إبراهيم، ابن أبي زينب الكاتب النعماني (ت: ٣٦٠ﻫ/٩٧١م تقريبًا)، و« كتاب الغيبة» لأبي جعفر الطُّوسي.
ثمَّة مصدر لا يقدَّر للأحاديث يقدِّمه المفسرون الشيعة الأوائل للقرآن. في بعض التفسيرات، يتم التأكيد أساسًا على أحاديث الشيعة التي تصِفُ أسبابَ نزولِ آيات معينة. وهذه هي الحال، على سبيل المثال، في التفسير المنسوب للإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، ويوجد في نسخةٍ منقَّحة لابن بابويه. ثمَّة تفسير يضمُّ قدرًا كبيرًا من المادة التاريخية عن السيرة، وهو تفسير أبي الحسن علي بن إبراهيم القُمِّي (ت: ٣٠٧ﻫ/٩١٩م تقريبًا)، وكان أحد معلِّمي الكليني. وهذا التفسير مشبَّع برُوحٍ راديكالية معادية للسُّنة. ونتيجةَ طبيعته الجدلية أساسًا، لم يلتفت للمشاكل اللغوية، وهناك الكثير من الفقرات القرآنية الصعبة التي يتجاهلها تمامًا. أسَّس القُمِّي تفسيرَه بشكلٍ قاطع على أقوالٍ منسوبة للإمام السادس، جعفر الصادق. دمَجَ أولَ راوية لتفسير القُمِّي، أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم، في عمله: أحاديث من «تفسير أبي الجارود»؛ أي تفسير القرآن الذي رواه أبو الجارود زيد بن المنذر عن الإمام الخامس، الباقر. ثمَّة تفسيرٌ آخَر يعتمد عمومًا على أحاديث الشيعة، وهو تفسير العالِم السمرقندي أبي الناضر محمد بن مسعود بن محمد العياشي السُّلمي (ت: ٣٢٠ﻫ/٩٣٢م)، وكان كاتبًا سنيًّا غزيرَ الإنتاج قبل اعتناق المذهب الشيعي. ما بقي من تفسير العياشي يغطِّي السُّوَر الثماني عشرة الأُولى فقط، ومن المحتمَل أنَّ هذا العمل لم يكتمل قَط. الكثير من الأحاديث الأخرى فيه، يظهر أيضًا في «الأصول من الكافي» للكليني. تهتمُّ التفاسير الشيعية للقرآن في وقتٍ لاحق بالمشاكل الشرعية واللغوية والمذهبية، رغم أنَّ الحديث لا يزال يحتلُّ مكانةً بارزة فيها. ثمَّة تفسيران شهيران من هذا النوع، هما «التِّبيان في تفسير القرآن» لأبي جعفر الطُّوسي، والحُجَّة «مجمع البيان في تفسير القرآن» للفضل بن الحسن الطبرسي (ت: ٥٤٨ﻫ/١١٥٣م).
يُذكَر أنَّ الأحاديث الشيعية ذات الطبيعة الشرعية، وجدت في وقتٍ مبكِّر جدًّا. وزعم المؤلفون الشيعة أنَّ كتاب «السُّنن والأحكام والقضايا» المفقود، ويعتبرونه أقدمَ عملٍ فقهي لديهم، من تأليف الصحابي إبراهيم أبو رافع، الذي توفي في إمامةِ عليٍّ. توجد الأحاديث الشرعية، في «الأصول الأربعمائة». في عصر البويهيين، دمجت هذه الأحاديث في أعمالٍ أكبر، ومن أشهرها ما يُعرف ﺑ «الكتب الأربعة». وهذه الكتب هي كتاب الكليني «الفروع من الكافي»، وهو استمرار لكتابه «الأصول من الكافي»، وكتاب ابن بابويه «مَن لا يحضره الفقيه»، و«تهذيب الأحكام»، و«التفسير»، والاثنان لأبي جعفر الطوسي. هذه الكتب، في بِنيتها، تُشبه أعمال المصنَّفات السُّنية من حيث جمعِ كلِّ الأحاديث عن موضوعٍ معيَّن، تحت عنوان. جمَعَ مؤلِّفو الأجيال اللاحقة الأحاديث الموجودة في «الكتب الأربعة» وشرحوها. ومن هذه المجموعات، ربما أشهرها اليوم، «وسائل الشيعة إلى أحاديث الشريعة» لمحمد بن الحسن بن الحر العاملي (ت: ١١٠٤ﻫ/١٦٩٣م).
نقل غالبًا أحاديثَ الشيعة الشيوخُ، الذين كانوا يُملونها على تلاميذهم، معتمِدين على ذاكرتهم أو على مصادرَ مكتوبة. وهذه الأعمال، المعروفة ﺑ «الأمالي»، يعتبرها علماءُ الحديث الشيعة ذاتَ مصداقيةٍ عالية، وخاصةً حين يكون الشيخُ عالمًا بارزًا. وكانت الأمالي تُملَى عادةً في مجالسَ متتالية؛ ومن هنا قد يشار إلى العمل أحيانًا ﺑ «الأمالي» أو «المجالس». أعمالٌ من هذا الجنس، تُستمد تقريبًا من كلِّ العلماء الشيعة البارزين في القرنَين الرابع/العاشر والخامس/الحادي عشر، يشملون ابن بابويه والمفيد والشريف المرتضى وأبا جعفر الطُّوسي. الأحاديث الموجودة في الأمالي لا تُجمع معًا طبقًا للتِّيمة؛ وبدلًا من ذلك ترتبط بمجموعةِ قضايا تاريخية ومذهبية وشرعية.
ثمَّة فرعٌ خاص من الأدب الشيعي، وهو الفرع الذي تفسَّر فيه علل مختلف الشرائع والمبادئ، عادةً بالإشارة إلى الأحاديث ذات الصلة. في «كتاب المحاسن» لأبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت: ٢٧٤ﻫ/٨٨٧م)، ويتكون أساسًا من أحاديثَ من مجالِ الأدب، فصلٌ خاصٌّ عن العلل. الكثير من الموادِّ القيِّمة عن معتقدات الشيعة، محفوظة في كتاب ابن بابويه «علل الشرائع». وابن بابويه هو أيضًا مؤلِّف «معاني الأخبار»، ويوضِّح فيه معاني الأحاديث الصعبة والتعبيرات والكلمات الغامضة.
ولإتمام هذا المسح الموجَز لبداياتِ أدب الحديث الشيعي، ينبغي التأكيد على أنَّ الكثير من المواد المهمَّة من الفترة المبكِّرة، محفوظٌ في الأعمال الموسوعية للعلماء الشيعة بعد ذلك. وازدهرت في القرنين السابع/الثالث عشر والثامن/الرابع عشر، ومرةً أخرى في عصر الصفويِّين. ومن أغزر هؤلاء المؤلِّفين إنتاجًا، أبو جعفر محمد بن علي بن شهرآشوب (ت: ٥٨٨ﻫ/١١٩٢م)، الذي كتب «مناقب آل أبي طالب»، مجموعة من الأحاديث عن فضائل عليٍّ وذريته؛ وعلي بن موسى بن طاووس (ت: ٦٤٤ﻫ/١٢٦٦م) وحسن بن يوسف بن المُطَهَّر الحِلِّي (ت: ٧٢٦ﻫ/١٣٢٥م)، وكتب كلاهما بغزارةٍ في الحديث والدين والتاريخ. وأشهر إنتاج العصر الصفوي الكتاب الضخم «بحار الأنوار» لمحمد باقر بن محمد تقي المجلسي (ت: ١١١٠ﻫ/١٧٠٠م)، وهو منجمٌ لم يكتمل من المعلومات القيِّمة عن التاريخ والمذهب والحديث الصوفي. يستخدم المجلسيُّ مجموعةً هائلة من المصادر الشيعية؛ ويذكر بدقَّة مصدرَ كلِّ خبر يقتبسه، واقتباساته دقيقةٌ دائمًا. وصنَّف عباس بن محمد رضا القُمِّي (ت: ١٩٤٠م) فهرسًا مفيدًا بعنوان «سفينة البحار ومدينة الحكمة والآثار».
١  حقيقتان ربما لا ترتبطان، كما يرى Cahen (في مقاله في EI2, “Buwayhids”) ارتباطًا كاملًا. سهَّل اختفاء الإمام الاعترافَ الضِّمني بالقوة الزمنية الذي يمثِّلها السلطان العباسي، ممَّا سهَّل الموقف العباسي الألطف.
٢  نُشرت كلُّ الأعمال المذكورة في هذا القسم. بعضها فقط بالليثوجراف lithograph، لكن معظمها في طبعاتٍ مطبوعة. وهذه الطبعات نتيجةَ الجهود الحديثة الهائلة للعلماء في العراق وإيران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥