الفصل الثالث عشر

العناصر السردية في أدب الحديث

سهير القلماوي، جامعة القاهرة

كان الشهير نضْرُ بن الحارث، من أعظم الكفار الذين قُتلوا في بدر، وكان أولَ انتصار للقوات الإسلامية الوليدة. رثتْه أخته في مرثيةٍ بليغة مؤثِّرة، ويُذكر أنَّ النبي شَعرَ بالكثير من الحزن حين سمِعَ هذه القصيدة؛ فقال إنه ما كان ليسمح بقتلِ النضر لو سمِعَ هذه القصيدة قبل موته.

كان نضْرٌ على علمٍ بالأدب الفارسي، وأخذتْ معارضته للنبي والإسلام شكلًا غريبًا، من تفسير هذا الصراع بأنه تنافُسٌ في براعة القَص. أكَّد: «أنا أحسنُ حديثًا منه، محمد يحدِّثكم أحاديثَ عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُمَ وإسْفِنْدِيار.» وحقَّق نجاحًا في إزعاج النبي فأمَرَ بقتلِ نضْرٍ في بدر، رغم أنه لم يُصدِر مثل هذه الأوامر إلا نادرًا، وإلى هذا الحدِّ كان على غير عادته.

توضِّح هذه الرواية والحكايات التاريخية الأخرى المعروفة بشكلٍ أقل، النفوذَ الذي كان لرواة القصص على العرب، حتى في هذا التاريخ المبكِّر؛ وتعطي إشارةً عن طبيعة هذا النوع من الأدب الشفهي الشعبي، المعتمِد غالبًا على جوهر شِعر البطولة.

في هذا الوسط الثقافي، كان من الطبيعي فقط أن يسعوا إلى نسج رواياتٍ جديدة حول حياة محمد، أعظم أبطالهم، ومآثِره، لكنَّ رواة القصص والرواة الآخَرين، رغم اعترافهم بهذا الاحتياج وقدرتهم على تلبيته، كانوا مقيَّدين بطُرقٍ كثيرة. كانت الحملات العسكرية للنبي، وكانت المادة الطبيعية لهذه الحكايات، بالغةَ الأهمية ومقدَّسةً حقًّا في ذاكرة المجتمع الإسلامي، حتى إنهم ذُهلوا مباشرة من المؤرِّخين الجادِّين الذين تحقَّقوا من الوقائع بعد تحليلٍ موضوعي للأدلة ثم سجَّلوها بتفصيلٍ هائل في كتبهم عن المغازي. في عملية الغربلة والتحقيق، حوَّلوا وسائلَ أدب الأيام والأنساب إلى شيءٍ أكثرَ علميةً بكثير، ووضعوا أساس التقنيات التاريخية الموضوعية وأدب الفتوح.
وهكذا مالَت اعتبارات الصحة والدقَّة، ورهبة طبيعية في حضور المقدَّس، إلى التمسك بأجنحة الخيال. ومع قصص الحملات والأحداث المحيطة بها، وتم التحقق منها وتسجيلها بوصفها تاريخًا، لم يبق إلا القليل ليمارس رواةُ القصص مواهبَهم الإبداعية. أقوال النبي، التي لم تُجمع إلا بعد قرن ونصف من وفاته، ربما فُقدت كلها تمامًا؛ ألمْ ينشغل الخلفاء بعد الخلفاء الراشدين بخِلافٍ بعد الآخر؟ وانعكستْ لعبة السُّلطة السياسية والمشاحنات الطائفية بعمقٍ في تفسير كيف ينبغي أن تُؤدَّى وتُفهَم الواجباتُ الدينية التي أمَرَ بها النَّص المقدَّس في القرآن. تم التأكيد على أهمية الصلاة، لكنَّ مسألة الأوقات والتكرار تُركت للسُّنَّة والمحدِّثين لتوضيحها؛ لذا كانت الحكايات عن مآثر النبي وأقواله أساسيةً جدًّا من جانبٍ أو آخَر في الخلافات السياسية الدينية، التي تشجِّع المحدِّثون على روايتها باستمرارٍ أكثر وأكثر. رفض بعض العلماء، وحتى أقارب النبي، كلَّ هذه الأحاديث واعتبروها زائفةً. يروي البخاريُّ عن الزبير حديثًا، طبقًا له حرَّم النبيُّ بصرامة تلفيقَ الكذب بشأنه، وهو فيتو منع أقاربه المقرَّبين، مثل الزبير، من الاستشهاد به على الإطلاق؛ خوفًا من التجاوز عن غير قصد.

وقُيِّد راوي القصص بطرقٍ أخرى كثيرة. كانت الشخصيات المحتملة لأية قصة، وتحديدًا النبي وأسرته وصحابته، حقيقية تمامًا بالنسبة لمستمِعيه؛ حتى إنَّ الشخصية تتشكَّل، بلحمها وشحمها تقريبًا، في مخيِّلة المستمع بمجرد ذِكر الاسم. زاد هذا غالبًا من الحاجة إلى وصف مواهبه من ناحية، ولم يُتَح له من الناحية الأخرى أيُّ مجال لتطور إبداعي للشخصية أو رسم الشخصية. وكان محدودًا أيضًا بقدرته على وصف الأعمال؛ حيث ينبغي أن تتَّسق مع ما يُقبَل على أنه حقيقة، وكان لا يستطيع أن يعرض إلا ما هو نبيل أو إنساني أو حتى مثالي. وينبغي، بالطبع، بالطريقة نفسها، رسمُ الكفار بشكلٍ مضاد، وهذا مرةً أخرى يقيِّد القدرة الإبداعية لرواة القصص. ولم يكُن الوضع أحسنَ حالًا مع الحوار. قد يسمح للشخصيات الثانوية ببعض الحريَّة في هذا الشأن، لكن أقوال البطل الرئيسي ينبغي أن تتَّسق مع ما يسمح به نصُّ القرآن، أو حتى ما تسمح به الحكايات الأقلُّ مصداقية. وهكذا كانت حرية الراوي في فهْمِ المواقف وتفسيرها محدودةً جدًّا لاعتباراتٍ دينية.

رغم مواجهة هذه المعوِّقات، وتَغطِّي كل العناصر المكوِّنة للشكل السردي (تحديدًا بناء الشخصية والفعل والحوار والموقف)؛ لم يستسلم راوي القصص لليأس. شجَّعته الأذن التوَّاقة للجمهور على الحكي، حتى في ظِل هذه الأغلال المقيِّدة وممارسة مواهبه السردية بأفضل ما يمكن.

في الحديث تطلَّب الأمرُ أن يبدأ الإسناد، أو سلسلة الرُّواة، براوٍ معاصِر والرجوع إلى واحد على الأقل من صحابة النبي، أو فرد من أُسرته، لكنَّ هذا لم يؤثِّر أدنى تأثير على راوي القصص. لم يكُن المؤمنون، ببعض الاستثناءات، حريصين بشدَّة على الدقَّة المطلقة لنصِّ الحديث حرصَهم عليها في النص القرآني. أبو هريرة، الراوية الذي يشوِّه سمعته باستمرارٍ مَن لا يقتنعون بمصداقية كلِّ مجموعة الحديث،١ أحد أغزر المساهِمين إنتاجًا في المجموعة. رغم عدد الأحاديث المرويَّة عنه، من غير الممكن تحديد مساهماته على أساس التحليل الأسلوبي، ناهيك عن أيٍّ من الرواة من أصحاب المساهمات الأقل. وإضافةً إلى ذلك، لا يحتوي وصفُ مختلف مراحل حياة النبي، كما تُقدَّم، على أيَّة اختلافات يمكن تمييزها في المحتوى السردي. فحَصَ المجتمع الإسلامي حياته الشخصية كثيرًا، وكان ينبغي أن يقدَّم بوصفه بريئًا. ولا تختلف حياته في مكة أو المدينة بالخصائص المحلية، أيَّ اختلاف ينشأ عن اختلاف البيئة.

وبشكلٍ مماثل، تفاصيل حياته قبل الوحي تمَّ تحريرها بإهمالِ ما لا يناسب الصورة اللاحقة، باستثناء تلك الأحداث ذات الأهمية الدينية، مثل: استماعه أولَ مرَّة للملَك جبريل وهو ينقل إليه الرسالة المقدَّسة، ميلاده وتطهير الملائكة له. في هذه الحالات يعطي العنصر الخارق مجالًا كبيرًا لمهارة السرد عند راوي القِصص.

لذا كان الموضوع، لا المهارة الذاتية، العاملَ الأساسي في تنوع السرد، وكان حاسمًا بالنسبة لأبعاد الجودة والكمية. سمحَت السُّنة، التي تهتمُّ بالأعمال، بحريَّة في المعالجة أقلَّ ممَّا سمح به الحديث، الذي يهتمُّ بالأقوال، ومن الأسهل تخزينه في الذاكرة، لكننا نجد السُّنة والحديث يكمل أحدهما الآخَر. كان المشهد الرسمي صارمًا بما يكفي، معرِّفًا الحرامَ والحلال، لكنه سَمحَ ببعض الحريَّة في وضع معايير السلوك والأخلاق الحميدة، لكنَّ الأقوال يمكن أن تعتبر حِيلًا بلاغية، وبالتالي يمكن أن يخضع الفعل لتوفير موقفٍ لهذه الشخصيات. كانت الأقوال نفْسُها قصيرةً، حيث كان جوهر الفصاحة (البلاغة الإيجاز)، وأحيانًا كلمة واحدة، مثل التعجب «اشهدوا!» كما قال النبي عن انشقاق القمر (١٧٨٤).٢ وكان على الراوي أنْ يُضيف فقط أنَّ الكفار طلبوا معجزةً فانشق القمر.

وكثيرًا ما تكسب الأقوال بهذه الطريقة من الإيجاز في التعبير معززة تأثيرها البلاغي. حين يكون الموضوع يوم القيامة أو نار الجحيم؛ يكون لدينا تدفُّق للكلمات بشكلٍ شعري تقريبًا في إيقاعها:

«ستكون فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من الواقف، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي» (١٨٣٣).

أقوال النبي، بجانب ضرورة أن تكون نماذجَ للفصاحة، ينبغي أن توضِّح شخصيته الإنسانية المحبوبة. ثمَّة حيلةٌ شائعة للرواة تتمثَّل في أنْ يأتي شخصٌ أمام النبي ويطرح عليه سؤالًا، والكشف عنه وهو يأتي بردٍّ ودود ومُقنِع. يمكن أن يكون السائل من أقاربه المقرَّبين، أو عابِرَ سبيل، أو حتى كافرًا، لكنَّ سؤاله دائمًا جادٌّ ومهم. ولم يكلَّ النبيُّ، بدوره، من الإجابة، بصرف النظر عن عدم مواءمة الزمان والمكان أو عدم معقوليتهما. تطلب زينب، زوجة عبد الله، من بلال أن يذهب إلى محمد ويسأله عن الزكاة. وحين يقول بلالٌ إنَّ زينبَ طلبت منه أن يأتي، يسأل النبيُّ «أيُّ الزيانب؟» (٥٨٤). هذه الحيلة السردية البارعة، التي تتضمن أنَّ مَن يطرحون الأسئلة ليس من الضروري أن يكونوا معروفين للنبي. وفي الوقت ذاته، كان أيُّ شخص حرًّا في أن يطرح أسئلةً في أيِّ وقتٍ، ويتلقى توجيهًا ومساعدة.

لا تعطي العناصر السردية في الحديث صورةً لمحمدٍ فعَّالًا، بقدر ما تخلق مناخًا لوجود بطل محبوب. يصوَّر لنا في أنشطةٍ يومية مثل الصلاة، وحين تتحقَّق معجزات صغيرة، كما حين زادت كمية المياه وهو يتوضأ للصلاة. تخلق كلُّ أحاديث الصلاة إحساسًا بوجودٍ حميمي وودود، كما حين يصلِّي وطفلٌ بجانبه أو يتحاشى إيقاذَ قطةٍ نائمة بعد الصلاة. وتعكس هذه الأحاديث أيضًا مبدأً عامًّا «الإسلام يُسْر لا عُسْر».

لكنْ تُحكَى أحيانًا قصةٌ أصيلة. في حكايةٍ عن تحريم الخمر، يتَّهم عليٌّ، ابنُ عمِّ النبي، حمزةَ، عمَّ الاثنين، بأنه سلَبَ حقَّ عليٍّ في ناقتَين من غنائم بدر (١٢٩٢). يصوَّر الفعل هنا بطريقةٍ حيَّة (حتى ردود فِعل الشخصيات تُذكر بإيجاز)، ويُلقى ضوءٌ قوي على القصة حين يوضِّح عليٌّ أنَّ الناقتَين كانتا مخصَّصتَين لوليمةِ عُرسِ زواجه من فاطمةَ ابنة النبي.

التعداد إحدى حيل الراوي. يتمُّ إدراجُ الأرقام في السرد بطريقةٍ تحافظ على التشويق والاهتمام: «سبعةٌ يظِلُّهم الله بظِلِّه يومَ لا ظِل إلا ظِله» «حقُّ المسلم على المسلم خَمْس» (١٣٩٧).

يشعُّ منطقٌ بسيط من القولِ نفسه، كما حين يُسأَل النبيِّ إنْ كان يسمح بقبولِ هدايا في أثناء العمل، في عملٍ عام، بشرط أن تكون الهديةُ مقدَّمةً بنوايا حسنة؛ يكون الردُّ: «فهلَّا جلستَ في بيتِ أبيك وأمِّك، حتى تأتيك هديَّتُك إن كنتَ صادقًا.»

وكثيرًا ما يُراكِم الراوي التفاصيلَ؛ لتأكيد تأثيرها التراكمي والعلاقة بينها. الحديث بأنَّ محمدًا خاتمُ الأنبياء؛ إيضاحٌ جيد لهذا. هنا، العملية كلُّها تشبِهُ صرْحًا تمَّ بناؤه إلا موضع لَبِنة. وكان الناس عبر العصور يتساءلون متى تُوضع هذه اللبنة ليكتملَ الصرح. يشبَّه محمَّدٌ بهذه اللبنة الأخيرة والحيوية (١٤٧٣).
تمثِّل الألغاز جزءًا من حكاياتٍ كثيرة. يصِفُ النبيُّ شيئًا بطريقةٍ غير معتادة، ويطلب من المستمعين تسميته. وحين يفشلون يقدِّم الحديثُ الإجابة. وتقدِّم هذه الألغازُ عادةً مثالًا للسلوك القويم للمؤمن الحقيقي. ومن أمثلة ذلك لغزُ النخلة. مثل المؤمن الحقيقي، لا يسقط ورقها (١٧٩٢).
تُستخدم أيضًا تقنياتٌ مألوفة من الحكايات الشعبية. في «ألف ليلة وليلة»، على سبيل المثال، نصادف حكاياتٍ تقدِّم إطارًا لسلسلةِ حكاياتٍ تُجمع معًا بروابطَ هشَّةٍ تمامًا. ونصادف أيضًا في الحكايات غرباءَ تجمعهم الصدفة، ويحكي كلٌّ منهم قصته للآخَرين. في الحديث نسمع كيف يدعو أعمى وأقرع وأبرص اللهَ لتحسين حالتهم. يحكي كلٌّ منهم في دعائه أفضلَ ما قام به بوصفه مسلِمًا، لكنَّ عملَ الأعمى فقط كان جديرًا بالمكافأة (١٨٦٨). وفي حديثٍ آخَر، يدعو ثلاثةُ رجال، حبستْهم صخرةٌ في غار في جبل، اللهَ ليفرجَ عنهم (١٧٤٥).
توضِّح أحاديثُ كثيرةٌ الحياةَ الشخصية لمحمد، ويتسم بعضها بتطورٍ سردي جيد. حين يكون الحدثُ مهمًّا، تتميز الوتيرةُ باليسر والالتفاف، لكنْ عند نزول سُوَر معيَّنة مرتبطة بالحادث؛ تُقدَّم تفاصيل كثيرة، ويكون التطور أقلَّ توترًا. تتباطأ الوتيرة، لكنَّ المحتوى العاطفي يعلو غالبًا في الوقت ذاته، مستدعيًا مشاعر الإجلال لمحمد.

حين تصف عائشة الأيام والساعات الأخيرة للنبي؛ يأتي السرد مثيرًا جدًّا محرِّكًا المشاعرَ بعمق (على سبيل المثال: ٢٣٣، ٢٣٥). وله أهميةٌ عملية أيضًا؛ لأنه يتعلَّق أيضًا بخلافة أبي بكر. نقابل المناخ المشحون نفسه في حكاية موتِ الابن الوحيد للنبي (١٤٩٥).

الحديث عن مظهر محمَّد وشكله ونومه ولبسه ومعاملته للخدم، إلخ؛ واقعي ومفصَّل، لكنَّه غالبًا جافٌّ وغير موحٍ. لكنْ عند تذكُّر تِيمة موقفٍ معيَّن في القرآن؛ نرى الراوي قادرًا على جعل التفاصيل تثير المشاعر.
حديث الإفك (١٧٦٣)٣ أطول حديث على الإطلاق. يوضِّح المفسر الزمخشري أنَّه لا يوجد موضعٌ آخَر في القرآن كان اللهُ قاطعًا فيه، كما كان مع مؤلِّفي هذا الإفك. عائشةُ نفسها مصدرُ نصِّ الحكاية، وتُصوَّر مشاعرها بحيوية. يتمُّ الحدث في مواقعَ مختلفةٍ: الصحراء، بيت النبي، بيت الأب؛ والشخصيات كثيرةٌ ومتنوعة. هناك مناخٌ متوتِّر. عائشة بريئة، ولا تستطيع إثباتَ ذلك. يصدِّقها أبوها، لكنَّه يشارك أعزَّ أصدقائه حُزنَه. العواطف مرتبِكةٌ، وتثير الحزن. لا تنتهي القصة حين تُعلَن براءتها. يتمُّ التسامح مع أصحاب الافتراء، ويتضح أن الموقف كان مُلتبِسًا وقد خدعهم.
ومن اللافت أيضًا، معالجةُ عناصرِ القصة في الحديث عن ندمِ كعب بن مالك والْتماس العفو. انسياب السرد في هذا الحديث، أشملُ بكثيرٍ من معظم الأحاديث، رغم أنَّه أقلُّ ممَّا في حديثِ الإفك. في هذه الحكاية يعترف كعبٌ صادقًا بذنبه، لكنَّ الكثير من التشويق في السرد يكمن في السلوك التجديفي لمحبوبة، يثير مشاعرَ معقَّدة.

تشير بعض السور إلى المنزلة البطولية للنبي. حين، على سبيل المثال، اشتكتْ زوجتان من زوجاته أنَّ حياتهما حياةُ فقرٍ وحرمان، رغم أنَّ محمدًا تحت يده غنائمُ كثيرة غَنمَها المسلمون؛ يأتي الحديثان عن الأمر (٩٤٤، ٩٤٥) قصيرَين بشكلٍ يثير الدهشة، لا يقدِّمان ما يلزم لفَهْم الموقف الأساسي.

حين تُثار نقطةٌ مهمَّة، ليس لها سابقةٌ قرآنية، في حديث (على سبيل المثال، الوراثة وقول النبي بأنَّ الأنبياء لا يورِّثون؛ لأنهم لا يملكون شيئًا ولا ينبغي لهم)؛ يشعر الراوي بأنَّه أقلُّ تقيُّدًا في تناول الأمر. حين نقابل فاطمة مع والد عائشة، أبي بكر (١١٤٩)، يحرِّم عليها وراثة حصَّة النبيِّ في المدينة وفَدَك، وأيضًا خُمس غنائم خيبر، يستشهد بالحديث.

وتستمرُّ القصة لتقول إنَّ عليًّا أخَذَ جانبًا مع زوجته فاطمة، لكنْ حين ماتتْ بعد أبيها بستة أشهُر، صالَحَ أبا بكر. سواءٌ كانت هذه التفاصيل محقَّقة أو لم تكُن. لا يتوانى الراوي في التحديد، لكنَّه بالأحرى ينتهز الفرصةَ ليصوِّر موقفًا متوترًا ويبني قصةً جيدة.

هناك تناقُضٌ هائل بين الأحاديث التي تتناول أناسًا حقيقيين وخصائصهم — أقارب النبي وصحابته، وأناسًا بارزين، والأنصار — وتلك التي تتناول الشخصيات الخارقة. في النوع الأول قليلٌ من السرد، بينما النوع الثاني مصدرٌ غني بالسرد في المجموعة كلِّها.
مع الشخصيات الخارقة، هناك فتنةُ المجهول وغموضه ومتعةُ تجاوُزِ حدود الواقع المملِّ. وإضافةً إلى ذلك، هناك قدْرٌ كبير من الموادِّ الخام، لراوي القصص، مثل: أحلام النبي التي تُنبِّئ بنتائجِ المعارك القادمة، أو تحذِّر من الهزائم أو تبشِّر بالانتصارات. في القرآن نبوءةٌ واحدة فقط، وهي هزيمةُ البيزنطيين، لكنْ في الحديث الكثير. بعضُها مُبهَم، يعِدُ محاربي البحر المسلمين بأن يكونوا ملوكًا في الفردوس؛ لكنَّ أحاديث أخرى تتناول تيماتٍ مهمَّة وتُعالَج بثراءٍ وحيوية.

إلى هذه الفئة الأخيرة، ينتمي حديثُ يوم القيامة. ولا يمكن إلا أن نعبِّر عن إعجابنا بوصف النار المَهيبة، التي تخرج من أرضِ الحجاز تضيءُ أعناقَ الإبل ببُصرَى في الشام ببريقها الشديد، الذي يذكِّرنا بالضوء الذي أبرَقَ عند ميلاد النبي وهزَّ عرشَ إمبراطور الفُرس، متنبِّئًا بقُدومِ أنبياء مزيفين. ثمَّة حديثٌ (٦٣٩) يتنبَّأ بقدوم الخوارج، يركِّز على وصف خصائصِ زعيمهم، حرقوص بن زهير، ويتحقَّق هذا الوصف في وقتٍ لاحق حين يقتله عليٌّ في معركة نهروان.

التوقعات بما يجده المؤمنون في الجنة والنار، لا تدخل في فئة النبوءات، حتى لو كانت تصِفُ المستقبل. ومن المثير أنَّ عذاب النار يوصَفُ بشكلٍ أكثر حيوية ومبالغة ممَّا توصف به مُتَع الجنة. في حديثٍ غريب لدينا حكايةٌ عن مناظرةٍ بين الجنة والنار، ويحكم الله على الحجج الزائفة.
وتلعب الأرقام دورًا في المبالغة في هذه الأحاديث عن الخوارق. تتجدَّد أجسادُ الكفار الذين تحرقهم النار مئاتِ المرَّات لإطالة آلامهم. ظلال أشجار الجنة طويلةٌ جدًّا، حتى إنَّ الفارس يجري بفرسه مائةَ سنةٍ ولا يقطعها (١٨٠١). تراكم الأعمال الوحشية يتجاوز الخيال. من المثير أنَّ أبا ذَر، ويزعم الآن أنَّه أول اشتراكيٍّ إسلامي، يقدِّم إضافةً لهذا الحديث، تتعلق بجمعٍ غير سعيد، استاء من الحُكم بالعذاب على مَن يكنزون المال في هذا العالَم (٥٧٩).
بجانب معالجة التنبؤ بوصفه معجزةً (لا يقبل الأتقياء منها شيئًا؛ لأنَّ القرآن هو المعجزة الوحيدة بالنسبة لهم). في الأحاديث معجزةٌ أخرى أو اثنتان. في حديث (١٣٢٣)، يذكِّرنا بمعجزة المسيح عن الأرغفة والسمك. لدينا قصة عن كيف تُطعم كميةً ضئيلة من الخبز واللبن بمعجزةٍ عددًا كبيرًا من الجوعى حول النبي. يزيد الطعام، ليس في يدي محمد، بل في أيدي مُضيفه، تلبَّي أوامره.
مع التيمات الخارقة المهمَّة، يتناول راوي القصص موضوعه بطلاقةٍ وفن. حين يروي، من ناحية، كيف حَملَ جبريل النبيَّ إلى السماء ليقابل الأنبياء السابقين أو الأبطال المبجَّلين، تكون الحكاية موجَزة إلى حدٍّ ما. هذا هو العلم الإسلامي، والراوي لا يرغب في الاعتماد على العلم اليهودي السائد ليُكملَ الحكاية، لكنَّ قصة موسى والخضر، وقد قدِّمت ببعض التفصيل في القرآن، تكتسب مزيدًا من التفاصيل والحيوية، والراوي يضيف إليها (١٥٣٩). يحظى الإسراء بأكثرَ من ذلك. حيث إنه حدثٌ مهم في التاريخ والعقيدة الإسلامية، طُلب من النبي التعليقَ عليه. يقدِّم الحديث نُسخًا عديدةً لهذه التعليقات، بعضُها طويلٌ جدًّا، لتأكيد أنَّ الأمر شَملَ الجسدَ والرُّوح. لا يستشهد بأبي بكر، ولا بأبي هريرة المطعون فيه كثيرًا. وتنسب أطول الفقرات إلى أبي ذَر ومالك بن صعصعة. لموسى دورٌ مهم في الإسراء، وفيها حدَّد عدد الصلوات اليومية.
تختلف تفاصيل النسختَين الرئيسيتَين إلى حدٍّ ما. يقابل النبيُّ آدمَ والأنبياءَ السابقين بالترتيب نفسه في النسختَين، والحوار بين جبريل وحارس الجنة هو نفسه. يسأل كلُّ نبيٍّ جبريلَ عمَّن معه.٤ ويبدو الحوار بين موسى والنبي عصريًّا تقريبًا، حيث إنَّه كلما عاد محمَّد يسأل عن عدد مرَّات الصلاة المفروضة على المسلمين، يطلُب منه موسى التقليل. يكرِّر: «إنَّ أمَّتك لا تستطيع.» وهكذا قلَّ عدد الصلوات من خمسين إلى خمسة.
لدى أبي هريرة، الذي لم يكُن لديه الكثيرُ ليقوله عن الإسراء، ما يقوله، مع أنَسٍ وآخَرين في موضوعِ يوم القيامة. نجِدُ أنفُسَنا في أوساطٍ سماوية مع الله والملائكة، في الجنة أو في الجحيم. ينطلق السردُ بكلِّ الطُّرق، ليوضِّح سبب دخول هذا الشخص أو ذاك الجنةَ أو الجحيم، كيف يَذهل الموتى ويرتعبون، ينزعجون ويرتبكون. ويلفتُ عذاب الملعونين الأنظارَ كما يلفِتُها في المواضع الأخرى.

يلعب الراوي أحيانًا بعنصر التشويق؛ ليبقينا في حالةٍ من الترقب المستمر. يروي سَمُرة بن جندب، بكلماتٍ يفترض أنها للنبي، حُلمًا رآه؛ حيث يُوقِظه شخصان ويطلبان منه أن ينهض معهما. يشهدون مواقفَ وأحداثًا غريبة في الجنة والجحيم. لم يسمح للنبيِّ بالتوقف وطرحِ الأسئلة، لكنَّه أُمِر بالإسراع حتى وصلوا إلى قصرٍ بلوري في الجنة ليُفسَّر كلَّ ما كان مربِكًا. كان هنا قومٌ أذنبوا في كذا وكذا، وهناك مؤمنون يُجزون على حسناتهم. السرد من أطول ما يكون.

في موضوعِ الموت والمَلَكين، اللذين يقابلان رأس ميتٍ في القبر ليُحاسِبا رُوحه، ينطلق راوي القصة؛ حيث تفتن التِّيمة كلَّ مَن يرغب في معرفةِ ما يحدث له بعد الموت.

لا شكَّ في أنَّ رواة القصص كانوا سيطوِّرون حرفتهم إلى مستوًى أعلى، لو لم يُغلق جامعو الحديث البابَ ليستبعدوا أيَّة إضافةٍ للمجموعة. شحبتْ مواهب رواة القصص بسرعة، وسرعان ما تلاشت. الكمية التي جمعتْ كانت أكثر ممَّا يحتاج إليه المجتمع الإسلامي والمعايير التي تطلَّبها الأمر للرجوع مرةً أخرى إلى المستوى المقبول.
١  أبو رية؛ أضواء، وشيخ المضيرة.
٢  رقم الحديث يشير إلى الرقم في كتاب فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ.
٣  الترجمة الإنجليزية لهذه القصة موجودة في Guillaume,Life, 494–499.
٤  عن تكرار هذه الموتيفة في مواضع أخرى، انظر ما سبَقَ عن «بدايات النثر العربي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥