الفصل الرابع عشر

النقد الأوروبي للأدب الحديث

نويل جيمس كولسون، جامعة لندن
«في هذا الكمِّ الهائل الذي يشكِّل الأحاديث، تأخذ كلُّ مدرسة ما يدعم مذهبها وترفض ما يتعارَض معه».١ يمثل هذا التصريحُ ملخَّصًا لا بأس به للرؤية الحالية للمعرفة الغربية بالدور الذي لعبه الحديث في تطور العقيدة الشرعية الإسلامية. طبقًا للفقه الإسلامي التقليدي، يشكِّل الحديث، وخاصة الأحاديث الواردة في المجموعات الستِّ «الصحيحة» التي ترجع للقرن الثالث/التاسع، سجلًّا صحيحًا للسُّنَّة التي وضَعَها محمد، وهو بهذا الشكل يُعتبر مصدرًا أساسيًّا للتشريع، يفسر البنود الشرعية في القرآن نفْسِه ويُكملها، لكنَّ الشك الأوروبي بشأن هذا الرأي، ينبع عمومًا من حقيقة أنَّ الحديث يجسِّد صراعًا وتناقضًا كبيرًا في المادة؛ ممَّا أدى في النهاية إلى استنتاج أنَّ نسبة من العقائد الشرعية للنبي كانت عمومًا ملفَّقة، وأنَّ القَدْر الكبير من الحديث نشأ في القرن الثاني/الثامن، ومن ثمَّ يمثِّل إلى حدٍّ بعيد مرحلةً ثانية في نمو العقيدة الشرعية.
كان العلماء المسلمون أنفُسهم، بالطبع، يدركون بشدَّة احتمالَ تلفيقِ الحديث، لكنَّ اختبارهم للأصالة كان قاصرًا على فحصِ سلسلة الرُّواة (الإسناد) الذين رَوَوا الخبر.٢ إذا كانت السلسلة متصلةً وروابطها الفردية لثقاتٍ؛ يُقبل الحديث بوصفه تشريعًا ملزِمًا. ويمكن، بشروط العقيدة الدينية نفسها، ألَّا يكون هناك أيُّ شك في محتوى الخبر نفسه؛ لأنها كانت مادةً من الوحي الإلهي ولا تقبل أيَّ شكلٍ من النقد الشرعي أو التاريخي. اعتبر العلماء الأوروبيون وغير المسلمين، بشكلٍ طبيعي تمامًا، أنَّ النقد الإسلامي ليس كافيًا. كان ينبغي اختبار الحديث بمحتواه وبالمكان الذي احتلَّتْه بنوده في تطوُّر الفكر والمؤسسات الشرعية، والتأكُّد منه بشكلٍ موضوعي (من منظور غير المسلمين) بالرجوع إلى كلِّ المصادر الأدبية المتوفِّرة.
كان إجناتس جلودتسيهر رائد هذا النقد التاريخي للحديث.٣ لكنَّ التطور المنهجي لأطروحته، والصياغة التفصيلية لمعايير تطوُّر الحديث وتطبيقه على مجالٍ واسع من المواد في المصادر العربية الأصلية، كان من عملِ يوسف شاخت.٤ هنا يكمن إلهامُ كلِّ البحث المعاصر في التاريخ المبكِّر للشريعة الإسلامية.

صورةُ بداية تاريخ التشريع الإسلامي، التي تنبثق من أبحاثِ شاخت تُتَّخذ من أعمالِ العالِم محمد بن إدريس الشافعي (ت: ٢٠٤ﻫ/٨٢٠م) نقطة مركزية. بحلول عصر الشافعي كانت المدارسُ الشرعية المبكِّرة — مجموعة من العلماء يسعون لتوضيح مدوَّنةٍ مثالية للسلوك الإسلامي — قد تأسَّست في عدَّة مراكزَ جغرافيةٍ، وتبيَّن أنَّ أهمَّ مدرستَين وأكثرهما استمراريةً مدرسةُ المدينة ومدرسة الكوفة. صاغت هذه المدارس الشرعية المبكِّرة مذاهبها عمومًا على أساسِ الممارسة المحلية المعتادة، مع الأخذ بعين الاعتبار، بالطبع، ما يُمليه القرآن، لكنْ قبل الشافعي بوقتٍ قصير ظهرتْ حركةُ معارَضة في المدارس، سعتْ إلى مخطَّطٍ تشريعي إسلامي أكثرَ صرامةً مؤسَّس مباشرةً على سُنن النبي نفسه. أيَّد الشافعي حركة «المحدِّثين» هذه، وكانت الدعامةُ الأساسية لنظريته عن مصادر التشريع، السلطةَ المُلزِمة للحديث الذي رسَّخ سُنَّة النبي. رغم المعارضة الأولية من المؤسسة في المدارس الشرعية المبكِّرة، كانت النظرية الشرعية للشافعي تُكسب حتمًا بمرور الوقت. وبنهاية القرن الثالث/العاشر كانت المذاهب السنية الأربعة — المالكية (أتباع المدرسة المبكِّرة في المدينة)، والحنفية (أتباع المدرسة المبكِّرة في الكوفة)، والشافعية، والحنبلية — قد قبلتْ بشكلٍ رسمي الدورَ الهائل للحديث مصدرًا للشريعة.

يوضِّح شاخت بدايةَ عمليةِ تطوُّر التشريع بأمثلةٍ كثيرة، والمثال النموذجي لمنهجه يقدِّمه تحليلُه للموادِّ الأصلية المبكِّرة المرتبطة بمؤسسة «خيار المجلس». وهو حقُّ الأطراف المتعاقدة التي أكملت إجراءات العرض والقبول، في التراجع عن التعاقد قبل الافتراق بالأبدان عن «مجلس التعاقد». رغم أن عدَّة أحاديث منسوبة للنبي تؤكِّد صحة هذه القاعدة؛ لم يقبلها بالإجماع كلُّ الفقهاء المسلمين. رفَضَها المذهبُ المالكي تحديدًا.

توضِّح أدلةُ أول الملخَّصات الشرعية الإسلامية، أنَّ القاعدة لم تعترف بها العقيدة العامة للمدارس المبكِّرة في الكوفة والمدينة، لكنْ في أحد أعمال الشافعي، يُذكر أنَّ العالم المكي عطاء (ت: ١١٤ﻫ/٧٣٢م) دعم القاعدة، وهو أمر يعتبره شاخت صحيحًا؛ حيث إنَّ القاعدة هنا تعبِّر عنها كلماتٌ أقلُّ تعقيدًا ممَّا يُنسب للنبيِّ في المجموعات الكلاسيكية للحديث. تعبِّر أهم هذه الأحاديث الكلاسيكية التي تدعم «خيار المجلس» عن القاعدة في شكلِ قاعدةٍ شرعية، وهي حتمًا علامةٌ من مرحلةٍ لاحقة في صياغة أيِّ مبدأ، وإسناده: مالك – نافع – ابن عمر – النبي. ويعتبر العلماء المسلمون هذا الإسناد، من أكثر الأسانيد مصداقية، لكنْ من المعلومات القليلة المتوفرة عن نافع (كان معتوقًا لابن عمر، الذي توفي حوالي ١١٧ﻫ/٧٣٥م؛ ولذا لا يمكن أن يكون له ارتباطٌ فعلي بزعيم مدرسة المدينة، مالك بن أنس، الذي توفي ١٧٩ﻫ/٧٩٦م)، يستنتج شاخت أنَّ «معظم الأحاديث التي تُروى باسمه، ربما ترجع إلى محدِّثين مجهولين من النصف الأول من القرن الثاني الهجري».
يتفاعل كُتَّاب المدارس الشرعية في المدينة والكوفة مع «حديث نافع»، بالإشارة إلى ممارساتهم المستقرة النقيضة، أو بالتقليل من تأثيره من خلال التفسير. وُوجِه هذا بدوره بمعارضةِ المحدِّثين، الذين أنتجوا حديثًا إضافيًّا يزعم أنَّ ابن عمر نفسَه اتَّبع القاعدة. وقنع شاخت بأنَّ هذا الحديث ينبغي أن يكون لاحقًا على «حديث نافع»؛ لأن لغته تفترض وجود الأخير. الأحاديث الكلاسيكية الأخرى، التي تدعم الممارسة، من الواضح أيضًا أنها ترجع إلى وقتٍ لاحق؛ لأنَّها «إيضاحاتٌ بإضافةِ نصائحَ وتفاصيلَ عن الظروف». ولذا يستنتج شاخت أنَّ مبدأ «خيار المجلس» نشأ في مكة ونقله المحدِّثون، من خلال حديث تداولوه، في معارضةٍ للممارسة المستقرَّة للمدارس الشرعية في المدينة والكوفة.٥
لا شك في تفكير غير المسلمين في أنَّ رأي شاخت بشأن أصول الحديث الشرعي ودوره في تطور الفقه الشرعي الإسلامي؛ صحيحٌ أساسًا، لكنْ ينبغي التعبير عن التحفظ بشأن المدى الذي يستمِدُّ منه أطروحته. استنتاجه النهائي هو أنَّ «أدلة الأحاديث الشرعية تعود بنا إلى حوالي سنة ١٠٠ﻫ فقط»،٦ وقاعدته المنهجية بأنَّ «كلَّ حديثٍ شرعي عن النبي، حتى يثبت العكس، لا ينبغي أن يعتبر صحيحًا أو صحيحًا بالأساس … تصريحًا صالحًا لعصره … بل تعبيرًا زائفًا عن مذهبٍ شرعي تشكَّل في تاريخٍ لاحق. يمكن تأكيدُ تاريخه من أول ظهورٍ له في مناقشةٍ شرعية، ومن وضعه النسبي في تاريخ المشكلة التي يتناولها، ومن مؤشراتٍ في النَّص والإسناد …»٧ يعتبر كاتب هذا الفصل أنَّ استنتاج شاخت متشدِّدًا جدًّا، وخاصةً لأنَّ حُججه بشأن «الوضع النسبي» للحديث «في تاريخ المشكلة التي يتناولها»؛ ليست دائمًا مقنعة تمامًا.
أحد الأمثلة «قضية العبيد الستة». يذكر حديثٌ أنَّ شخصًا على سرير الموت أعتَقَ ستة عبيد، وكانوا كلَّ ما يملك، قرَّر الوالي الأموي أنَّ العتق يجوز فقط لعبدَين، كما تحدِّد القسمة. يعتبر شاخت هذا الحديث صحيحًا والأحاديث الأخرى، التي تَنسب بدقَّةٍ القرارَ نفْسَه للنبيِّ، زائفةً.٨ ويستنتج من هذا أنَّ القاعدة الجوهرية للتَّرِكة الإسلامية — قصْر الوصية، أو التصرُّف في التَّرِكة، على ثلث صافي تركة المُوصي — نشأتْ في العصر الأموي. لكن، بينما حُجج شاخت بشأن الطبيعة الزائفة لإسناد القاعدة المنسوبة للنبي مقنعةٌ بما يكفي؛ يبدو استنتاجه القاطع غيرَ مبرَّر.

إذا كان مؤشِّر الأصالة، أو بشكلٍ آخَر سُنة منسوبة للنبي، توجد في «موضعها النسبي في تاريخ المشكلة» المطروحة؛ فإن هناك أسبابًا مقنعة للاعتقاد بأنَّ القاعدة الأساسية بشأن الثلث كانت موجودةً أيضًا قبل القرار المذكور للوالي الأموي. أولًا: الطبيعة الشرعية للقرار أن تمتد القاعدة المقبولة لتحديد الوصايا، إلى الهدايا التي يقرِّرها المانح على فِراش الموت. وهذه النقطة أقرَّها الإمام الشافعي نفسه، وعلى أيَّة فرضيَّةٍ معقولة لعملية التطور الشرعي، ينبغي أن يتبع قرار الوالي قاعدةَ الثلث ولا يمكن أن يكون سابقًا عليها. ثانيًا: قاعدة الثلث قاعدةٌ بسيطة وأساسية ولا يمكن أن تُنسب بشكل زائف للنبي كما تُنسب القواعد التي تمثِّل بوضوح مرحلةً متقدِّمة من تطور التشريع. ورغم أنَّ القرآن نفسه وضع نظامًا دقيقًا للميراث الإلزامي؛ فإنه لم يحدِّد الوسيلة التي يرتبط بها هذا النظام بحقِّ التصرف بوصية. بشكلٍ خاص، السؤال المطروح كان: أيُّ حدٍّ، إن وُجد حد، يُفرض على سُلطة المُوصي؟ كانت مشكلةٌ خلَقَها التشريعُ القرآني نفسه، مشكلةً ذات أهميةٍ عملية كبيرة؛ وهي بالتالي قضيةٌ من الطبيعي أن يحلَّها النبي، مفسرًا للقرآن ومسئولًا عن الفقه في مجتمع المسلمين الأوائل.

قد تُعتبر مقارَبة شاخت، إذن، ضيِّقة جدًّا بشكلٍ ما؛ لأنه يحدِّد بشكلٍ جامد تطوُّر التشريع بنموِّ الحديث ويفشل في أن يراعي أساسًا قضايا شرعية من هذا النوع. إنه، باختصارٍ، يترجِم الفرضيةَ السلبية بأنَّ أدلةَ الحديث الشرعي لا تعود بنا إلى أبعدَ من القرن الثاني للإسلام، إلى تصريحٍ إيجابي بأنَّ تطور التشريع لم يبدأ إلا في أواخر العصر الأُموي. ويخلق هذا فراغًا غيرَ مقبول في صورة الشرع في مجتمع المسلمين الأوائل؛ لأنه من غير الواقعي افتراضُ أنَّ المشاكل الشرعية التي خلقتْها بنود القرآن نفسه تم تجاهُلها لقرن أو يزيد. وبالتالي، بالتسليم بأن الإسناد الرسمي قد يكون زائفًا يمكن الجدل أيضًا، حتى من منظورٍ علماني للنقد التاريخي، بأنَّ مادة الحديث تعكس قرارًا أصيلًا للنبي.٩
في هذه الحالات إذن، قد تكمن الحقيقة في موضعٍ ما بين النظرية الشرعية الإسلامية التقليدية والمقاربة التاريخية الصارمة لشاخت. وفي الوقت ذاته، ينبغي بالطبع الاعتراف صراحةً بأنَّ المناهج الإسلامية والغربية لنقد الحديث لا يمكن التوفيق بينها؛ لأنَّها ترتكز على مسلَّمات مختلفة تمامًا. بين ما يمليه الإيمان الديني من ناحية، والنقد التاريخي العلماني من الناحية الأخرى؛ لا يوجد طريق وسط لموضوعيةٍ حقيقية.
١  Bellefonds, Traité, 33.
٢  راجع ما سبَقَ، الفصل ١٠ «تطوُّر عِلم الحديث»، وخاصة «النقد».
٣  خاصةً دراسته Muhammedanische Studien, II, 1–27.
٤  Origins .
٥  Origins, 159–161 and 176–179.
٦  Ibid., 5.
٧  Ibid., 149.
٨  Ibid., 201 ff.
٩  للاطلاع على حججٍ أكثرَ تفصيلًا لدعم هذا الرأي، انظر المراسلات في Middle Eastern Studies, III/2, 1967, 195 ff.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥