(١) القرآن والشعر العربي
بالنسبة للعرب، لم يكن القرآن مجردَ كتاب ديني يضع لهم مبادئَ جديدةً للسلوك الديني
والخُلقي والاجتماعي، لكنه كان أيضًا كتابًا أدبيًّا من أرفعِ طراز، كلام الله الذي لا
يستطيع إنسانٌ أن يتجاوزه أو ينافسه؛ ولذا فهو المصدر النهائي في اللغة والنحو
والمعايير التي يمكن من خلالها الحُكم على العمل الأدبي. ورغم ذلك، ورغم حقيقةِ أنَّ
معارضي محمد من أهل مكة اعتبروه شاعرًا وكاهنًا؛ فإنَّ التأثير الذي كان للقرآن على
تطوُّر القصيدة العربية، تِيماتها وبنيتها ولغتها ورُوحها العامة، أقلُّ من التأثير
الذي كان لأعمالِ الشعراء قبل الإسلام. بقِيَت القصيدة الجاهلية النموذجَ الذي يتبعه الشعراء الجدد، الذين وُلِدوا
بعد ظهور الإسلام، في تأليف أعمالهم، والمعيارَ الذي يُحكَم به على هذه الأعمال. حدَثَ
هذا رغم الموقف العدواني الذي عبَّر عنه القرآن والنبيُّ تجاهَ الشعر والشعراء
الوثنيين، وهو موقفٌ يصل إلى درجة إدانة الخيال والحقيقة الشعرية.
هناك ثلاثة أسبابٍ رئيسية، يبدو أنها ساهمتْ في هذه الظاهرة الغريبة. حين بدأت نبوة
محمد، كانت القصيدة العربية قد تطورتْ تطورًا كاملًا
في البنية واللغة والوزن، ورَسخَت التقاليد الشِّعرية بثبات، واستكشف الشعراء كلَّ
المجال الخيالي للحياة في الجزيرة العربية. وكان من المستحيل أن يحوِّل الإسلام المسارَ
الذي كانت تتبعه القصيدة العربية أو أن يُبطِل
التقاليد الشعرية التي ابتكرها الشعراء الوثنيون. ومن الناحية الأخرى، لم يقدِّم القرآن
نفْسَه بوصفه عملًا شعريًّا ينبغي اتباعه، بل بوصفه وحيًا إلهيًّا يختلف تمامًا عن
الشِّعر ويستحيل تقليده. اعتبر النظر إليه بوصفه عملًا شعريًّا واستلهامَ معاييره أو
تقليد أسلوبه عملًا أثيمًا. يكمن السبب الثالث في أنه رغم تغيُّر المعتقدات الدينية
والحياة السياسية للعرب بعد الإسلام، بقيت العلاقات القبَلية القديمة والمفاهيم
الاجتماعية وعادات التفكير، التي وجدتْ أرفعَ تعبيرٍ عنها في القصيدة القديمة، قويةً
بعد الإسلام كما كانت قبله.
ومع ذلك، يمكن العثور على أثر القرآن في كلِّ أنواع الشِّعر الذي كُتِب في العصر
الأموي (٤١–١٣٢ﻫ/٦٦١–٧٥٠م)، عصرِ الصراع السياسي والحروب الأهلية والدراسات الدينية
والإحياء الشعري، وفي أعمالِ كلِّ الشعراء بما فيهم الأخطل (ت: ٩٢ﻫ/٧١١م تقريبًا)، وكان
مسيحيًّا. استفاد الشعراء الأُمويون، في مدائحهم وهجائياتهم ورَجَزهم وزُهدياتهم،
استفادةً شاملة من الأفكار القرآنية، والصور والأسلوب والتعبيرات؛ من قصص الأنبياء
ومصير خصومهم، ومن أوصاف الجنة والجحيم ويوم القيامة.
بتأثير القرآن صار شِعر المديح فنًّا جديدًا تقريبًا. استُخدِم سلاحًا في الصراع
السياسي والنزاع الديني بين الأمويين وخصومهم، وأداةً عبَّروا من خلالها عن أفكارهم
السياسية وحججهم الدينية. وأدَّى هذا بالشعراء إلى أن يكونوا ناطقين باسمِ مختلف
الفِرَق السياسية، واستخدموا القرآن بكلِّ الطرق للدِّفاع عن موقفِ رعاتهم ومطالبهم في
السلطة أو حقِّهم في الخِلافة.
يمكن أخذُ أيةِ قصيدةٍ من قصائد جرير والفرزدق (توفي الاثنان ١١٢ﻫ/٧٣٠م تقريبًا)
في
مدح الخلفاء الأمويين وولاتهم مثالًا. هنا يوصف الخلفاء الأمويون بأنهم نُوَّاب الله
على الأرض، وحماة الإسلام أو أئمةٌ يختارهم الله
ويساعدهم. وصحابة النبي في الجنة؛ يقارنون بآدم ومحمد والأنبياء السابقين، وخاصة نوحًا
وموسى والملك سليمان والمسيح عيسى، وقد وهبوا كلَّ فضيلة أنعم الله بها على هؤلاء
الأنبياء. ومن الناحية الأخرى، يوصف خصومهم وأعوانهم بأنهم كفار، أشرار ومنافقون،
معتلُّو القلوب، وبأنهم مضيفو الشيطان ومتمردون على مشيئة الله، وبأنهم عبَدة أوثان
وسكَّان الجحيم؛ ويشبَّهون أيضًا بخصوم الأنبياء الذين ذكرناهم، وبفرعون، والسامري الذي
ضلَّل بَني إسرائيل، وذابحي ناقة صالح، وابن نوح الذي رَفضَ الانضمام إلى أبيه في
السفينة، وبأهل عاد وثمود ولوط.
في هذا كله، تستوعب الأفكار القرآنية والصور والعبارات التي تستخدم بغزارة، وتُحوَّر
وتُعدَّل. وربما يبنى بيتٌ من آيتَين أو ثلاث من القرآن. وأحيانًا أخرى نجِدُ أبياتًا
أو شطرات من آيات أو عباراتٍ قرآنية كاملة. لنفحص الآن أمثلةً من الشاعرين. يكتب جرير
عن عمر بن عبد العزيز (٩٩–١٠١ﻫ/٧١٧–٧٢٠م):
أتى الخلافةَ أو كانت له قدَرًا
كما أتَى ربَّه موسى على قدَرِ
هنا نجد تأثير آيتين من القرآن: قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ
شَيْءٍ قَدْرًا (الطلاق:٣)، ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ
يَا مُوسَى (طه: ٤٠).
في قصيدة أخرى، موجَّهة لمعاوية بن هشام نقرأ بيتًا مثل:
مَن يهدِه اللهُ يهتدْ لا مُضلَّ له
ومَن أضلَّ فما يهديه من هادِي
١
وهو بيتٌ يعتمد على الآيتَين: … وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا
لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ
… (الزمر: ٣٦-٣٧).
ويمكن العثور على مثل هذه الأبيات أيضًا في قصائد الفرزدق. يقول لسليمان بن عبد الملك
(٩٦–٩٩ﻫ/٧١٥–٧١٧م):
وجدْنَا بَني مروانَ أوتادَ دِيننَا
كما الأرضُ أوتادٌ عليها جبالُها
٢
في هذا البيت تستمد الصورة من الآيتَين: أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (النبأ: ٦-٧).
في قصيدة أخرى، بينما يمدح مسلمة بن عبد الملك، يكتب عن يزيد بن المهلب وأتباعه:
لمَّا رأوا أن أمر الله حاق بهم
وأنهم مثل ضُلال من النَّعم
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
كأنهم من ثمود الحجر أو إرَمِ
٣
الشطر الأول من البيت الثاني مأخوذٌ من آيةٍ
قرآنية تشير إلى دمار ثمود (الأحقاف: ٢٥)، بينما يردِّد البيتُ الأول أصداءَ الآيتين:
… وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(الأحقاف: ٢٦)، … إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلًا (الفرقان: ٤٤).
في هجائهما الشخصي يلجأ الشاعران أيضًا إلى الصور والعبارات والقصص القرآنية عن
الأعمال الشريرة وعقاب قوم عاد وثمود ولوط ونوح والسامري وذابح ناقة صالح ومعاناة
الكفار في الجحيم. ويمكن تقديم البيتين التاليين، أحدهما لجرير والآخر للفرزدق،
مثالين:
كالسامريِّ غداة ضلَّ بقومِهِ
والعجل يعكف حولَه ويخورُ
٤
وكان جريرٌ على قومِهِ
كبَكْرِ ثمودٍ لها الأنكَدِ
٥
مقارنةً بالمدح والهجاء، تأثَّر شعر الحُب بالقرآن أقلَّ ممَّا تأثَّر بالنسيب الجاهلي. ويصحُّ هذا على الشعراء التقليديين
والشعراء العُذريين. كل التيمات تقريبًا والموتيفات والرموز والصور التي يدور حولها هذا
الشعر، يمكن العودة بها إلى شعراء الجاهلية. ومع ذلك، لا نفشل في العثور في أعمال كلِّ
شاعر على عدَّة أبيات تعتمد في أسلوبها أو أفكارها أو صورها على آياتٍ قرآنية أو أبيات
تعبر عن مواقف وعواطف متأثِّرةٍ بالقرآن. يمكن العثور عليها في النسيب التقليدي: في وصف
الحبيبة وأطلالها، في التعبير عن مشاعر الشاعر ورغباته، في ردوده على اللائمين وفي
شكاواه من الوشاة، في دعواته أو صلواته لله، وفي أيمانه لحبيبته بصِدق حُبه
وثباته.
في وصف أطلال الحبيبة، يستخدم الشاعر أحيانًا الإشارات إلى ديار عاد وثمود، أو يقارن
المخيم بالكتب القديمة لإبراهيم وموسى، وبهيكلٍ قديمٍ متهدم.
٦ ويلتمس من رفاق السفر أن يصلُّوا، حيث صلَّت بالفعل حبيبته ويعِدُهم بثواب
الله يوم القيامة:
ولا تيأسا أن يمحوَ اللهُ عنكما
ذُنوبًا إذا صليتما حيثُ صلَّتِ
٧
هذا البيت لكُثيِّر (ت: ١٠٥ﻫ/٧٢٣م) يردد أصداء
الآية القرآنية: … لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا … (الزمر: ٥٣). ويكتب أيضًا ذو الرُّمة (ت:
١١٠ﻫ/٧٢٨م تقريبًا):
يا صاحبيَّ انظرا آواكُما درَجٌ
عالٍ وظِلٌّ من الفردوسِ ممدودُ
٨
يصور الفرزدق مطلَّقته نوار بأنها «جنة الخلد» ويقارن نفسه بآدم بعد طرده من
الجنة:
وكانت جنَّتي فخرجْتُ منها
كآدمَ حينَ أخرجَهُ الضِّرارُ
٩
يقارن جميل بن مَعْمر (ت: ٨٢ﻫ/٧٠١م) حبيبته بليلةِ القَدْر التي نزلت فيها الملائكة
من السماء:
لقَدْ فُضِّلتْ حُسنًا على الناسِ مثلما
على ألفِ شهرٍ فُضِّلتْ ليلةُ القدْرِ
ويزعم أيضًا أنَّ الله خلقها لتكون ابتلاءً له، ويصور حبَّه قدَرًا حدَّده اللهُ
أو
ميثاقًا أكَّده الله.
١٠
يقارن شعراءُ آخَرون حبيباتِهم بالسَّحرة، الذين ذَكرَ القرآن أنَّهم «النفَّاثات
في
العُقَد»، ويربطون القدرة الفاتنة لعيونهن بسِحر المَلَكَين البابليَّين هاروت وماروت
(البقرة: ٩٦). وهكذا يقول عمر بن أبي ربيعة (ت: ١٠٢ﻫ/٧٢٠م تقريبًا):
حدَّثوني أنها لي نفثتْ
عُقدًا يا حبَّذا تلك العُقَد
١١
وبدوره يكتب ذو الرُّمَّة:
وعينٍ كأنَّ البابليَّين لبَّسا
بقلبِكَ منها يومَ مَعقُلةٍ سِحرًا
١٢
استفاد شعراء الغزل الأمويون أيضًا من الأفكار والصور والعبارات القرآنية، خاصةً تلك
التي ترتبط بتحريم قتلِ روحٍ بريئة إلا قصاصًا، وبالصلاة والحج، والخطيئة والعقاب،
والتقوى والتوبة، والعدل والظلم. مثالًا أخيرًا، نأخذ بيتَ جميل:
أصلِّي فأبكي في الصلاةِ لذِكرِها
ليَ الويلُ ممَّا يكتبُ المَلكانِ
١٣
كانت قصيدة الزهد ضمن الأجناس الشعرية التي بدأها الإسلام وتطورت بتأثير القرآن، وكان
روَّادها الشعراء الخوارج، وخاصة عِمران بن حِطَّان والطِّرماح (ت: ١٠٥ﻫ/٧٢٣م تقريبًا).
تشكِّل مفاهيم القرآن عن الله والإنسان، الحياة والموت، التقوى والشر، الثواب والعقاب؛
جوهرَ هذه القصيدة. زوَّدت أيضًا أوصافُ يوم القيامة والجنة والجحيم الشعراءَ بمادةٍ
غزيرة للبناء عليها. ولذا تمثِّل زهدياتهم غالبًا أفكارًا وصورًا وعباراتٍ قرآنيةً
مطروحة في الشعر. وتتمركز حول الموت والحياة الحالية ابتلاء، والثروة والسلطة مجرد
هباء، التقوى والعمل الصالح وحدهما المهمَّان في هذه الحياة، والعالَم الآخَر دار
البقاء. ويمكن اعتبار الأبيات التالية للطِّرماح مثالًا:
كلُّ حيٍّ مستكمِلٌ عدَّةَ العُمـ
ـرِ ومُودٍ إذا انقضى عَدَدُه
عجبًا ما عجبْتُ للجامعِ الما
لَ يُباهي بهِ ويَرتفِدُه
ويُضيع الذي يُصيِّرُه اللهُ
إليهِ فليس يَعتقِدُه
يومَ لا ينفعُ المُخوَّلَ ذا الثر
وةِ خلَّانُه ولا ولَدُه
يومَ يُؤتى بهِ وخَصماهُ وسطَ الـ
ـجِنِّ والإنسِ رِجلُه ويَدُه
١٤
في هذه الأبيات، كلُّ الأفكار والصور مستمدَّة من القرآن.
١٥
اكتسبتْ قصيدة الرجز، التي وصلَت تطورها الكامل في العصر الأموي، نبرة دينية. في
عددٍ
من قصائد الرجز يستبدل كلٌّ من العجاج (ت: ٩٠ﻫ/٧٠٩م تقريبًا) وابنه رُؤبة بالنسيب
مقدمةً دينية تدور حول حمْدِ الله والتعبير عن أمل الشاعر في غفرانه ورحمته. كرَّس
العجاج أيضًا بعضَ قصائده لمعالجة تيماتٍ قرآنية وخبراتٍ دينية. في إحداها يردِّد
أصداءَ الأوصاف القرآنية ليوم القيامة والجنة والجحيم؛ وفي أخرى، تردَّد أيضًا أصداءُ
القرآن، يحمد اللهَ ويعبِّر عن شكره له لإنقاذه من مرضٍ جعله على شفا الموت.
١٦
استمرت تأثيرات القرآن في أعمال الشعراء العباسيين. اعتبر الشعراء الجدد أيضًا
القرآنَ مصدرًا للإلهام الشعري، واستمدوا منه أو استعاروا الكثير من أفكارهم وصورهم
وعباراتهم، وبنوا عليه حججهم السياسية والدينية. رغم أننا كثيرًا ما نجد في مدائحهم
وهجائياتهم وغزلياتهم وزهدياتهم وطردياتهم الأفكارَ والصور والحجج القرآنية نفسها التي
استخدمها الشعراء الأمويون؛ نصادف أيضًا استخداماتٍ بارعةً ورائعة جدًّا للكثير من
الأفكار والصور القرآنية الأخرى. ويتَّضح هذا خاصة في خمريات أبي نواس (ت: ١٩٥ﻫ/٨١١م
تقريبًا)، وهجائيات ابن الرومي (ت: ٢٨٣ﻫ/٨٩٦م) وقصائد العتاب وفي مدائح أبي تمَّام (ت:
٢٣١ﻫ/٨٤٦م).
يظهر أثر القرآن في كل جوانب خمريات أبي نواس: في وصف الخمر ولذاتها وحاملي الكئوس
وجاريات الحانات، في تجديف الشاعر، في حججه في تفضيل لذَّات هذا العالم على لذَّات
العالم الآخر، وفي إشاراته إلى مغفرة الله ورحمته.
يصف الخمر أحيانًا كما لو كانت إلهيةً أو رُوحًا سماوية، ويتحدث عن عظمتها وبريقها،
ويربطها بعظمة الله. وهكذا يفتتح إحدى قصائده على النحو التالي:
وهو بيتٌ كتب تقليدًا لآياتٍ مثل: … فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأعراف: ٦٩)؛ وَلِلهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا … (الأعراف: ١٨٠). وفي قصيدةٍ
أخرى يقول:
ومُدامةٍ سجَدَ الملوكُ لذِكْرِها
جلَّت عن التصريحِ بالأسماءِ
١٨
وهنا نتذكَّر أيضًا آيتَين أخريين من القرآن (مريم: ٥٨، والرحمن: ٧٨).
وفي أحيان أخرى، يتحدث عنها كما لو كانت إحدى حوريات الجنة، أو جارية فزِعة من نار
الجحيم، ويصفُها بأنها «جنة خلده»، وبأنها ميراثُ آدم وحواء، وبأنها رفيقةُ نوحٍ في الفُلك.
١٩ ويقارن «شرارها» بنجوم الرجم حيث ترجم الملائكة مُرَّاد العفاريت.
٢٠
ويستخدم حتى آيات قرآنية كاملة تشكِّل أبياتًا أو شطراتٍ كاملة. على سبيل
المثال:
وفِتيةٍ في مجلسٍ وُجوهُهُم
رَيحانُهُم قد عَدِموا التثقيلا
دَانِيَةً عَلَيْهِمُ ظِلالُهَا
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا
٢١
هنا، يردِّد البيت الأول أصداءَ آيتَين تشيران إلى مُتَع المؤمنين في الجنة (الواقعة:
٢٥، ٨٩)، ويتكون الثاني من آيةٍ كاملة (الإنسان: ١٤).
ويصف حمَلةَ الدِّنان وجواري الحانة بأنهم المثال أو النموذج الذي خلق الله عليه
الحُوريات والشباب المخلَّدين في الجنة، وبأنهم كائنات سماوية من النور واللهب، أو من
الذهب واللؤلؤ؛ بينما صيغ كلُّ الرجال الآخرين والنساء من الطين الأسود.
٢٢ ويتحدث أيضًا عنهم بأنَّ المضيفين الشياطين ساعدوهم على سِحرهم وعلَّمهم
ملكا بابِل، هاروت وماروت، قوةَ السِّحر.
٢٣
ويستخدم أحيانًا العباراتِ والصورَ القرآنية التي تشير إلى نور الله وقوته؛ ليصف جمال
حبيبته وتأثير الحُب. يكتب على سبيل المثال:
الآيتان وراء هذه الأبيات: … فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا … (الأعراف: ١٤٣)،
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ
عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (القمر: ٤٢).
في وصف معاناته من الحُب، يستفيد من وصف القرآن لنار الجحيم وعقاب الكفار. يتحدث
عن
المحبِّ، على سبيل المثال، بأنه مثلُ مَن يقيم في النار ومَن «لا يحيا فيها ولا يموت»،
أو أنهم يوضعون في المنتصف بين الجنة والجحيم.
٢٦
وصلتْ قصيدة الزهد إلى شكلها النهائي في الشعر الديني لأبي العتاهية (ت: ٢١٠ﻫ/٨٢٦م
تقريبًا) وأبي نواس. يتكوَّن ديوان أبي العتاهية
كلُّه تقريبًا من قصائدِ زُهد تتمركز حول فَناء العالَم وعجز الإنسان في مواجهة الموت.
ومثل قصائد الزهد الأموية، تعتبر الحياةَ ضلالًا وابتلاء، والموتَ السلطةَ النهائية
والحقيقة في هذا العالم، والتقوى السندَ الوحيد للإنسان في الآخِرة.
أثَرُ القرآن سائدٌ فيها. إنها مواعظُ منظومة تعتمد على مفاهيمَ وأوصافٍ في القرآن
لله والإنسان، والحياة والموت، ويوم القيامة والعالَم الآخر، وثواب مَن يخشون الله
وتأدية واجباتهم تجاهه وعقاب الآخرين الذين يُهملون هذه الواجبات ويسعون وراءَ مصالحهم
الدنيوية. وتكرَّر مراتٍ ومرات أنَّ الإنسان خُلق من التراب وإليه يعود، وأنَّ كلَّ ما
في العالَم يحدِّده الله بقدَرٍ، وكلَّ شيءٍ زائلٌ إلا الله.
في التأكيد على قدرة الموت وعجز الإنسان، يستفيد أبو العتاهية أيضًا من إشاراتِ
القرآن إلى مصير عاد وثمود وفرعون وقارون وهامان، وموت آدم ونوح ولقمان وداود والملك
سليمان.
والأبيات التالية أمثلةٌ تمثِّل كيفية استخدام أبي العتاهية لأفكار القرآن وصوره
وعباراته. يعتمد كلٌّ منها في بنائه على آيتَين أو ثلاثٍ من القرآن، تُعدَّل قليلًا
لتوائم الوزنَ:
الموتُ حقٌّ والدار فانيةٌ
وكلُّ نفسٍ تُجزَى بما كسبتْ
هُوَ ربِّي وحَسْبي اللهُ ربِّي
فلَنِعمَ المَولى ونِعمَ النَّصِيرُ
وكلُّ امرئٍ لم يرتحلْ بتجارةٍ
إلى دارهِ الأُخرى فليس بتاجِرِ
٢٧
استمرَّ شعر المديح على الخطوط الإسلامية نفسها
التي أسَّسها الشعراء الأمويون. وصف الشعراء الجددُ الخلفاءَ العباسيين بأنهم مسلمون
مخلصون وأتقياء يخشون الله ويسعون لثوابه، وبأنهم ورثة النبي، وحماة الإسلام والزعماء
الدينيون لكلِّ المسلمين ونُوَّاب الله أو ظِله على الأرض. ويُرفعون أحيانًا فوق
الأنبياء ويُقارنون بالله في العظمة والقوة والمعرفة. وزعموا أنَّ طاعتهم فرْضٌ على
كلِّ الرجال بمرسوم إلهي. ويُهجَى خصومُهم، بدورهم، بأنهم مخطئون وكفار ومنافقون وأشرار
وعبدة النار ومتمرِّدون على أمر الله. ويُشبَّهون أيضًا بقومِ عاد وثمود، بفرعون
وسحرته، بالسامريِّ وقاتِل ناقة صالح.
تمثِّل مدائح أبي تمَّام (ت: ٢٣١ﻫ/٨٤٦م) والبحتري (ت: ٢٨٤ﻫ/٨٩٧م) أمثلةً أساسية هنا.
فيها تُستخدم الأفكار والصور والعبارات والقصص القرآنية بحريَّة وإلى حدٍّ كبير. في
قصيدةٍ إلى المعتصم، يقول أبو تمَّام عن الواثق، ابن المعتصم:
فاشدُدْ بهارونَ الخلافةَ إنَّه
سكَنٌ لوَحشتِها ودارُ قَرَارِ
٢٨
في هذا البيت تُستوعب خَمس آياتٍ:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ
أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (طه: ٢٩–٣١).
… إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ … (التوبة:
١٠٣).
… وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (غافر: ٣٩)
٢٩
ثمَّة مثالٌ آخر ممثِّل لاستخدام أبي تمام الأفكارَ والصور والعبارات القرآنية، وهو
البيت التالي في مديح موسى بن إبراهيم:
عذْنا بموسى من زمانٍ أنشرتْ
سطواتُهُ
فرعونَ ذا الأوتادِ٣٠
الإشارة هنا إلى الآيات القرآنية (غافر: ٢٣–٢٨،
الفجر: ١٠).
وتقدِّم قصائد البحتري في مدح المتوكِّل، وهي دينية جدًّا في طبيعتها، خيرَ الأمثلة:
تتوخَّى الهُدى وتحكمُ بالحـ
ـقِّ وترجو تجارةً لا تبوُرُ
أُيدِّتَ من فصلِ الخطابِ بحكمةٍ
تُنبِي عن الحقِّ المبينِ وتُخبِرُ
٣١
يمكن إرجاع كلِّ ما في هذين البتين إلى القرآن، لكنَّ الآيتين الأكثر تأثيرًا هما:
… يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (فاطر: ٢٩)،
… وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (ص:
٢٠).
ينبغي أيضًا ذِكر مدائح المتنبي (ت: ٣٥٤ﻫ/٩٦٥م) والمعرِّي (ت: ٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م) هنا.
كثيرًا ما يلجأ المتنبي، في قصائده الأولى التي كتبها في الشام قبل الاتصال بسيف الدولة
(والي حلب)، إلى استخدام أفكارٍ وصورٍ غريبة تعتمد على آياتٍ قرآنية تصِفُ الطبيعة
والقوة والنور والنعم وكلمات الله، أو تشير إلى فضائل الأنبياء ومعجزاتهم. يقول، على
سبيل المثال، لأحد الرعاة:
فإذا احتجبْتَ فأنت غير محجَّبٍ
وإذا بطنْتَ فأنت عينُ الظاهرِ
٣٢
نجد هنا صدى الآية: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ … (الحديد: ٣). ويقول لراعٍ آخَر:
وامسحا ثوبَه البقيرَ على دا
ئكما تُشفَيا من الإعلالِ
٣٣
في هذا البيت، الفكرة مستمدَّة من الآية التالية على لسان يوسف: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا
… (يوسف: ٩٣).
يمكن العثور أيضًا على هذا النوع من تأثير القرآن، وإن يكُن بدرجةٍ أقل، في القصائد
التالية للمتنبي، التي كتبها في مديح سيف الدولة وكافور.
في مدائح المعري أيضًا تأثيرٌ قوي بالقرآن. مثل المتنبي، يُضفي على رُعاته فضائلَ
وقدراتٍ يتمتع بها الأنبياء في القرآن. وهكذا يعزو لأحدهم سيطرةَ داود وسليمان على
الجبال والرياح، ويصف بلدةً أخرى بأنها الوادي المقدَّس الذي كلَّم الله فيه موسى، وجنة
الخُلد لمَن يخلص له والنار المتَّقدة لمَن يحيد عن هذا الإخلاص.
٣٤
اعتمد الشعراء العباسيون أيضًا في الهجاء على الصور والأفكار والعبارات والقصص
القرآنية، وخاصة تلك التي تروى عن قوم عاد وثمود ولوط ونوح، وعن آدم والشيطان، وموسى
وفرعون، وبني إسرائيل والسامري، والملك سليمان وأهل الكهف، لكنَّ الشعراء الذين برعوا
في الهجاء كانوا قليلين جدًّا. ومن أبرزهم دِعْبل الخزاعي (ت: ٢٤٦ﻫ/٨٦٠م) وابن الرومي
وأبو نواس.
مثالًا من دِعْبل الخزاعي نأخذ البيتَين التاليين ويهجو فيهما المعتصم، ثامن الخلفاء
العباسيين:
ملوكُ بني العباس في الكتْب سبعةٌ
ولم تأتِنا عن ثامنٍ لهُمُ كتْبُ
كذلك أهلُ الكهفِ في الكهفِ سبعةٌ
خيارٌ إذا عُدُّوا، وثامِنُهم كلْبُ
٣٥
من ابن الرومي، يمكن أن نأخذ أيضًا مثالَين. يكتب عن شاعرٍ من معاصِريه:
فلو لم تكُن في صُلب آدمَ نطفة
لخرَّ له إبليسُ أول ساجدِ
وفي هجاء النحويِّ الأخفش والدفاع عن شعره (الذي اتهمه الأخفش بالغموض)، يكتب
أيضًا:
ولا أنا المفهمُ البهائمَ والطَّـ
ـيرَ سليمانُ
قاهرُ المرَدَة
٣٦
يعكس شعر الحُب في العصر العباسي تأثيرًا للقرآن أوسع من تأثيره على الشعراء
الأمويين. استغلَّ الشاعر العباسي، بإحساسه المرهف للاستعارة وبحثه عن أفكار وصور
جديدة، كل ما له علاقة بتِيمة الحُب في القرآن. وهكذا يصِفُ مسلم بن الوليد
(ت: ٢٠٨ﻫ/٨٢٣م) الهوى بأنه جهاد، ويقدم نفسه رجلًا يحج في ثياب الحب، ويتحدث عن موته
وبعثه على يد حبيبته («أماتتْ وأحيتْ مُهجتي»)، ويكتب عن الحُب أنه ينشأ ويتجدد في
قلبه: «صار الهوى بقلبي يبدي كما يعيد.»
٣٧ وهكذا يستخدم الآيتَين:
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ
وَأَحْيَا (النجم: ٤٤)،
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (البروج: ١٣).
يتحدث أيضًا أبو تمَّام عن كيف اعتادت حبيبته أن تقتل حُبه وتعيده، ويقارنها بحوريات
الجنة وبلقيس، ملكة سبأ، ويصف طللها بأنه «جنات النعيم».
٣٨ ويصف منافِسُه البحتري حبيبته بأنها مزيجٌ من الجنة والجحيم أو جنة الخلد
يُعاقَب بها، وعدها وهم، وطيفها زيف يشبه الحقيقة.
٣٩ وكثيرًا ما يتحدث عن خطأ، أو ضلاله في الحُب، ويصفه بمفرداتٍ قرآنية بأنه
«استقامة» و«رشاد». ويستفيد أيضًا من بعض إشارات القرآن إلى إبراهيم ويعقوب وداود
وزكريا:
وعذلتَني أن أدركتْني صبوةٌ
خلصتْ إلى داودَ في المِحرابِ
٤٠
يبدو أنه يقصد زكريا، وليس داود، ويشير إلى الآيات ٣٨–٤٠ من سورة آل عمران.
أحد الأمثلة الرئيسية لشعر الغزل العباسي الذي يعكس تأثُّرًا عميقًا بالقرآن، قصيدة
ابن الرومي عن وحيد المغنية. وهنا بعض أبياتها:
فَهْيَ برْدٌ بخدِّها وسلامٌ
وهي للعاشقين جُهدٌ جهيدُ
لِيَ حيْث انصرَفتُ عنها رفيقٌ
من هواها وحيث حَلَّتْ قَعِيدُ
عن يميني وعن شمالي وقُدَّا
مي وخلفي، فأين عنه أحيدُ
٤١
الآيات القرآنية التي كُتبت هذه الأبيات بتأثيرها: قُلْنَا يَا
نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (الأنبياء، ٦٩)؛
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق: ١٧-١٨). ويمكن أيضًا العثور على مثل هذه التأثيرات
القرآنية في نسيب القصائد المبكِّرة للمتنبي والمعرِّي.
لنختم هذا التخطيط لأثر القرآن على الشعر العربي؛ يمكن أن ننتقل الآن إلى قصيدةِ
الحُب الصوفي، التي جاءت، مثل قصيدة الزهد، نتيجةَ الإسلام. اعتمد المتصوِّفة في كتابة
قصائد الحُب الإلهي بكثافة على وصف القرآن لله والملائكة، للجنة والجحيم، وللحياة
والموت؛ وعلى قصص عن خلق آدم، وهبوطه من الجنة، ورفض إبليس السجود له؛ ونبوة موسى
والوحي الإلهي الذي هبط عليه؛ والخضر ومعرفته وأعماله الغامضة؛ وإبراهيم، وحيرته،
وعبادته الشمس والقمر، ونجاته من النار التي أُشعلت له؛ ويوسف، وجماله، والحُلم،
ومقاومة الإغواء؛ والمسيح عيسى، ميلاده ومعجزاته وصلبه وقيامته؛ وملكة سبأ، شبابها
وجمالها وعرشها؛ وأحزان يعقوب ومحنة أيوب؛ ونبوة محمد، والوحي الإلهي التي تلقَّاه من
الله من خلال المَلَك جبريل، ورحلته إلى السماء.
واستفادوا أيضًا بكلِّ الطرق من أفكارٍ وصور وعبارات قرآنية عن الصلاة والصوم والحج،
ومن العبادة والحُب، والذنب والتوبة.
لنرى كيف استخدم الشعراء المتصوفة هذه العناصر القرآنية المتنوعة واستوعبوها؛ نحتاج
إلى فحص
الديوان الصغير لابن الفارض (ت: ٦٣٢ﻫ/١٢٣٥م).
يوصف الحبيبُ هنا بأنه جنَّة الشاعر، وحاميه من الشرور، وهدف صلاته وصيامه وحَجِّه.
ويقارن دموعه بطوفان نوح، ولهيب عاطفته بنار إبراهيم. ويزعم أنَّ أسى يعقوب أقلُّ
أحزانه، وأنَّ محنة أيوب ليست إلا جزءًا من محنته، وأنَّ الجبال، بما فيها سيناء، لو
شعرتْ بمعاناته، لتبددتْ قبل الوحي الذي هبط على موسى.
٤٢ ويتحدث عن عهده أو عَقده مع حبيبه بأسلوب القرآن ولغته.
٤٣
ويتماثل مع الله وإبراهيم وموسى والخضر ومحمد، ويصف رحلته إلى السماء، وتمجيد
الملائكة له، والوادي المقدَّس الذي رأى فيه نار حبيبه، ويتبيَّن أنها نارُ موسى.
٤٤ متماثلًا مع موسى يقول لمحبوبه:
وإذا سألتُكَ أنْ أراك حقيقةً
فاسمحْ ولا تجعلْ جوابي «لنْ تَرى»
٤٥
ومن أفقي الدَّاني اجتَدَى رِفقيَ الهُدَى
ومن فَرْقيَ الثاني بَدا جمْعُ وَحدتِي
وفي صعقِ دكِّ الحسِّ خرَّتْ إفاقةً
ليَ النفسُ قبلَ التوبةِ المُوسَويَّةِ
٤٦
(٢) القرآن والنثر العربي
تتكون الأعمال النثرية الأولى في الإسلام كلُّها تقريبًا من خُطب ومواعظ ورسائل.
ونتيجةَ الصراع السياسي والنزاع الديني في العصر الأموي ازدهرَت الخطابة على نطاقٍ
واسع، ووصلت إلى قمَّةٍ لم تتجاوزها قَط في العصور اللاحقة. استخدمها الأمويون وخصومهم
أداةً سياسية ودينية. لدعم حججهم وإثارة مشاعر مستمعيهم، لجأ المتحدِّثون عادةً من
مختلف الفِرَق السياسية إلى القرآن واستشهدوا به. وكان من المتَّفقِ عليه عمومًا أنَّ
الخطبة ينبغي أن ترصَّع بآياتٍ قرآنية وأن تبدأ بحمدِ الله والصلاة على النبي.
٤٧ والكثير من الخطب الأموية، وخاصة لخطباء الخوارج والشيعة، دينيةٌ جدًّا في
طبيعتها ومتأثِّرة بأسلوب القرآن ولغته.
اعتمدتْ أيضًا المواعظ الأموية، التي شكَّلت الجزءَ الأكبر من الأدب النثري للعصر،
على مفاهيمِ القرآن وتأثَّرتْ بلغته (التمييز بين الخُطَب والمواعظ اعتباطيٌّ في الكثير
من الحالات). وتركَّزت حول الخوف من الله، وفَناء العالَم، وأهوال يوم القيامة وعقاب
المُخطئين. وفيها ذكَّر الوعَّاظُ مستمِعيهم باستمرارٍ بالموت والحياة بعد الموت،
وحذَّروهم من ارتكاب الذنوب، ودعَوهم لتكريسِ أنفُسهم تمامًا لخدمة الله والتخلِّي عن
مُتَع هذا العالَم من أجل مُتَع العالَم الآخر. ولذا تكثُر فيها الآيات أو العبارات
القرآنية والأفكار والصور. وتُحاكي أيضًا، في بعضها، إيقاعاتِ القرآن وسماته الأسلوبية.
ومن أبرز هؤلاء الوعَّاظ الحسن البصري (ت: ١١٠ﻫ/٧٢٨م)، الذي يمكن أن تُتَّخذ مواعظه
القليلة التي بقيت أمثلةً معبِّرة.
٤٨
تنطبق أيضًا الملاحظات السابقة عن الخطب والمواعظ على الكثير من الرسائل التي وصلتْنا
من العصر الأموي. وتقع في نوعَين، المراسلات الدينية، مثل مراسلات الحسن البصري وغيلان
الدمشقي، وهي أساسًا مواعظ، والمراسلات الرسمية التي كتبها الخلفاء الأمويون ووُلاتهم
أو كُتبت لهم. المثال الأسمى من النوع الثاني الرسالة الطويلة (في تسع وثلاثين صفحة)
التي كتبها عبد الحميد بن يحيى (ت: ١٣٢ﻫ/٧٥٠م)، مؤسِّس مدرسة كتَّاب الرسائل، باسمِ
آخِر الخلفاء الأمويين، مروان الثاني، إلى ابنه عبد الله (انظر ما سبق، الفصل ٤). ورغم
أنَّ أثَرَ القرآن أقلُّ ظهورًا فيها من الرسائل الدينية؛ فإنها تُظهِر بوضوح أن
استخدام التعبيرات والآيات والأفكار والصور القرآنية، ومحاكاة إيقاعات القرآن وخصائصه
الأسلوبية، أصبح في ذلك الوقت جزءًا أساسيًّا من تقاليد الكتابة الأدبية.
٤٩
استمرَّ هذان النوعان من الأعمال النثرية في العصر العباسي، حاملَين معهما التأثيرات
القرآنية نفسها بشكلٍ أو آخَر، لكنَّ الرسائل والمواعظ العباسية اقتربتْ، في أسلوبها
وإيقاعاتها، من سجع القرآن، وخاصة سجع السُّوَر الأُولى، التي تبقى فيها العبارات
متوازنةً ويتحقَّق التأكيد بالتوازي في البنية. في بعض الرسائل، كانت الافتتاحية
الدينية تتمدَّد بشكلٍ كبير، كما لو أنَّ الهدف أن تشكِّل قطعةً في ذاتها. وتوجد أفضل
الأمثلة هنا في رسائل أبي إسحاق الصابي (ت: ٣٨٤ﻫ/٩٩٤م)، أقرب كتَّاب الرسائل العباسيين
لعبد الحميد. إضافةً إلى افتتاحياتها الدينية، وهي دعوات إسلامية أو قرآنية طويلة،
تُحمَّل باستشهاداتٍ من القرآن وإشارات إليه. ويصحُّ هذا أيضًا على مواعظ ابن نُباتة،
المعروف بالخطيب (ت: ٣٧٤ﻫ/٩٨٤م)، واهتمَّ فيها أساسًا بواجبِ بَدءِ الجهاد ضدَّ بيزنطةَ
المسيحية. في رسائل الكتَّاب الآخَرين مثل ابن العميد (ت: ٣٦٠ﻫ/٩٧١م) وابن عباد،
المعروف بالصاحب (ت: ٣٨٥ﻫ/٩٩٥م)، يقلُّ ظهور هذا النوع من تأثير القرآن.
مع أنَّ الجزء الرئيسي من البديع العباسي يتكون من رسائلَ ومواعظ، كانت الأعمال
الأدبية الكبرى التي أُنتجت في العصر الجديد مختلفةً في طبيعتها وأكبر في المجال. ومن
هذه الأعمال كتاب «البخلاء» و«كتاب التربيع والتدوير» للجاحظ (ت: ٢٥٥ﻫ/٨٦٩م)، و«رسالة
الغفران» و«الفصول والغايات في محاذاة السُّور والآيات» للمعرِّي، و«مقامات» بديع
الزمان الهمذاني (ت: ٣٩٨ﻫ/١٠٠٨م) والحريري (ت: ٥١٦ﻫ/١١٢٢م).
يقتصر أثر القرآن على «بخلاء» الجاحظ على عدَّة استشهادات وإشارات، وحكايات عن الصلاة
والزكاة، وإشارات قليلة موجزة للشيطان ومكائده، ويوم القيامة ونار الجحيم. ويضمُّ أيضًا
عدَّة أحاديث للنبي تُستدعى لدعم الحجج الواردة لصالح
البخل أو ضده.
على النقيض من هذا العمل، يكشف «كتاب التربيع والتدوير» عن تأثيرٍ قوي بالقرآن لغةً
ومحتوى. إنه عملٌ ساخر يتكون أساسًا من سلسة أسئلة في مواضيعَ كثيرة طُرحت على رجلٍ
يسمَّى أحمد بن عبد الوهاب. الكثير منها أسئلةٌ دينية عن آدمَ والشيطان، والأنبياء
القدماء، والملوك، وأقوام وأحداث تاريخية ذُكرت في القرآن، والملائكة والشياطين، والجنة
والجحيم ويوم البعث، والنبوة والوحي الإلهي والإلهام، والإيمان والرشاد والضلال.
تتخلَّل الكتابَ كلَّه عباراتٌ وآياتٌ وأفكار وصُوَر وإيقاعاتٌ قرآنية.
يمكن أخذُ الاستشهادات التالية أمثلةً:
قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم.
٥٠
وقلْتَ: «لولا فضيلةُ العَرض على الطول، لمَا وصف اللهُ الجنةَ بالعَرض دون الطول،
حيث يقول — جلَّ ثناؤه —
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ.»
٥١
فإنك لو أسرفْتَ، لقُلنا: «قد اقتصدْتَ.» ولو جُرتَ، لقُلنا: «قد اهتديت.» ولكنَّك
تجيء بشيءٍ «تكادُ السمواتُ يتفطَّرنَ منهُ وتنشَقُّ الأرضُ وتخرُّ الجبالُ هَدًّا».
٥٢
فلمَّا رأيتُكَ عرفتُ أنك عذابٌ صبَّه الله على كلِّ رفيع، ورحمة أنشأها لكلِّ وضيع.
٥٣
ننتقل الآن إلى عملَي المعرِّي، حيث نجد أنواعًا مختلفة من التأثيرات القرآنية.
تتكوَّن «رسالة الغفران» في جزئها الأول الكبير من حكاياتٍ خيالية: حكايات وحوارات مع
شعراء قدماء ونحاة ولغويين في الجنة والجحيم. وفيه يُفرط المعري في استخدام أوصاف
وجَدَها في القرآن والحديث لله والجنة والجحيم ويوم الحساب والعالَم الحالي، وبعض
الإشارات إلى آدم وإبليس والملائكة والشياطين. كَتبَ سجعًا يزخر بآياتٍ وتعبيرات
وإيقاعات وأفكار قرآنية. بكلمة: إنه عمل يدين بوجوده للقرآن والحديث والمعراج، ولم يكن له أن
يُكتب بدون معرفةٍ كاملة بها.
ما يلي مثالٌ توضيحي. إنه استهلالُ لقاء بين ابن القارح، بطل الكتاب، والأعشى:
فيقول الهاتف: «أنا ذلك الرجل، منَّ الله عليَّ بعدما صرتُ من جهنَّمَ على شفير،
ويئستُ من المغفرة والتكفير.» فيلتفتُ إليه الشيخ هشًّا بشًّا مرتاحًا، فإذا هو بشاب
غُرانق، غَبرَ في النعيم المُفانق … فيقول: «أخبرني، كيف كان خلاصُك من النار، وسلامتك
من قبيح الشَّنار؟» فيقول: «سحبتْني الزبانية إلى سَقَر، فرأيْتُ رجلًا في عرصاتِ
القيامة يتلألأ وجهه تلألُؤَ القمر، والناس يهتفون من كلِّ أوب: يا محمد يا محمد،
الشفاعة الشفاعة … فصرخْتُ في أيدي الزبانية: يا محمد أغثني؛ فإنَّ لي بك حُرمة! فقال:
يا عليُّ بادِرْه فانظرْ ما حُرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالب — صلوات الله عليه — وأنا
أُعْتَل كي أُلقى في الدرك الأسفل من النار، فزجرهم عنِّي …»
٥٤
في هذه الفقرة، لا يؤخذ الوصف والصور فقط من القرآن، لكنْ أيضًا الكثير من العبارات
واللغة.
٥٥
العمل الآخَر للمعري، كتاب «الفصول والغايات»، تقليدٌ لأساليب القرآن وإيقاعاته. إنه
عملٌ في الزُّهد مكرَّس لحمد الله والتعبير عن خوف الشاعر منه والأمل في مغفرته ورحمته.
لنرى إلى أيِّ حدٍّ قلَّد المعري الأسلوبَ النبوئي للسُّور الأُولى من القرآن
وإيقاعاتها؛ نحتاج إلى قراءة الفقرتَين التاليتَين:
«أُقسم بخالق الخيل، والعِيس الواجفةِ بالرَّحيل، تطلُبُ مواطنَ حليل، والريح
الهابَّة بلَيل، بين الشرط ومطالع سُهَيل؛ إن الكافر لطويل الوَيل، وإن العمرَ لمكفوف
الذَّيل.»
«أذلَّت العائذةُ أباها، وأضاءت الوهدة ورُباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرفَ
بما حباها، أرسل الشَّمال وصَباها، ولا يخافُ عُقباها.»
٥٦
قبل أن نناقش تأثير القرآن على مقامات الهمذاني والحريري، نحتاج إلى أن نقول كلمةً
عن
المقامة باعتبارها شكلًا جديدًا من التأليف الأدبي يتناوب فيه السجع والشعر.
المقامة [يقول توماس تشنري
Chenery] نوعٌ من الحكايات
الدرامية. في روايتها، على المؤلِّف أن يعرض شِعرَه أو فصاحته أو معرفته. ومع هذه
الرؤية، يخضع الموضوع باستمرارٍ لمعالجته؛ المادة للشكل.
٥٧ تروي من خلال راوٍ معيَّن مغامراتِ «مرتجِل بارع عديم الضمير» وخطبه
وقصائده، «يتجول من مكانٍ إلى مكان، ويعيش — بعَرْض مواهبه — على هدايا الكِرام
والمتذوِّقين …»
٥٨ ولأنَّ المقامة على هذا النحو بطبيعتها وغرضها؛ فقَدْ خضعت دائمًا لتأثير
القرآن. حين بدأ الهمذاني مقاماته كانت الإشارات إلى القرآن، وتشابُك آياته وعباراته
في
النص، تعتبر عمومًا جزءًا لا يتجزأ من قواعد التأليف الأدبي وعلامةً على البراعة
والفصاحة. وكانت محاكاة إيقاعات القرآن وأشكال تعبيره وسمات أسلوبه ممارسةً شائعة بين
الأدباء؛ لذا تزخر «مقاماته» باقتباساتٍ وتعبيرات قرآنية، وتسلسل العبارات المكتوبة على
نسقِ فقراتٍ معيَّنة في القرآن. وتتألَّف أحيانًا فقراتٌ كاملة من آياتِ القرآن وأقوال
النبي.
ويصحُّ هذا خاصة على «المقامات» التي تتناول تيماتٍ دينية وتتكوَّن من مواعظَ وأدعيةٍ
وقصائدِ زُهد عن تقلُّب الدنيا، وأهوال الموت ويقين يوم الحساب. ومن هذه المقامات
«المقامة الوعظية» و«المقامة الأهوازية» و«المقامة المارستانية». المقامة الأخيرة خطابٌ
عن الأقدار والإرادة الحرَّة، مليئةٌ بآياتٍ من القرآن وأحاديثَ للنبي.
وزخرَفَ الحريري، بدوره، مقاماته، وهي أكثر وضوحًا، بأعدادٍ كبيرة من الإشارات إلى
القرآن والحديث أو الاقتباس منهما. وصمَّم عددًا
كبيرًا منها في شكلِ مواعظ وغرَسَ فيها أيمانًا واضحة مؤلَّفة على طراز تلك الأيمان
الموجودة في السُّور الأُولى من القرآن. إنَّ الصورة الأبرز والأكثر تميُّزًا لصورة بطل
هذه المقامات صورةُ واعظ، رغمَ أنه منافقٌ وغيرُ أمين، ضليعٌ في القرآن والحديث
ومستعدٌّ دائمًا لإلقاء مواعظه.
لنلقِ نظرةً على إحدى هذه المواعظ. في المقامة الحادية والعشرين نجِدُ موعظتَين، تجري
أُولاهما على النحو التالي:
«ابنَ آدمَ ما أغْراكَ بما يغُرُّك، وأضْراكَ بما يضُرُّك! وألْهجكَ بما
يُطْغيكَ، وأبهجَكَ بمَنْ يُطريكَ! … لا بالكَفافِ تقْتَنِع، ولا منَ الحَرامِ
تمْتَنِع، ولا للعِظاتِ تستَمِع، ولا بالوَعيدِ ترْتَدِع! … يُعجِبُك
التَّكاثُرُ بما لدَيك، ولا تذكُرُ ما بينَ يدَيْك، وتسعى أبدًا
لغارَيْك، ولا تُبالي ألَكَ أمْ علَيك! أتظُنُّ أنْ
ستُترَكُ سُدًى، وأنْ لا تُحاسَبَ غدًا؟
أم تحْسَبُ أنَّ الموتَ يَقبَلُ الرُّشَى، أو يُميِّزُ بين الأسدِ والرَّشا؟
كلَّا واللهِ لنْ يدفَعَ المَنون، مالٌ ولا بَنون! ولا ينفَعُ أهلَ القُبور،
سِوى العمَلِ المبْرور! فطُوبى لمَنْ سِمعَ ووَعى، وحقَّقَ ما ادَّعى!
ونهى النَّفْسَ عنِ الهوَى، وعلِمَ أنَّ
الفائِزَ مَنِ ارْعَوى!
وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى،
وأنَّ سعيَهُ سوفَ يُرَى.»
٥٩
في هذه الموعظة، لا توجد عبارةٌ لا توجد موتيفتها أو فكرتها أو صورتها في القرآن؛
وراءَ كلِّ عبارة عدَّة آيات قرآنية تضفي عليها القوة. الجمل بالبنط الأسود اقتباساتٌ
من القرآن، أُولاها خضعت لتعديلٍ طفيف. تُشير صورةُ «لغَارَيْك» إلى حديثٍ للنبي. حين
سُئِل النبي «عن أكثر ما يُدخِل الناسَ النار؟» قال: «الأجوفان، الفمُ والفَرْج.» ويفهم
عمومًا أنهما «فتحتان أو قناتان في الجسم … يُشبع بهما البشَرُ الشراهةَ والشهوة.»
٦٠
ومثالًا يتمُّ فيه تقليدُ إيقاعات القرآن وأسلوبه في التعبير، نقدِّم سلسلةَ الأَيمان
التالية:
أُقسِمُ بالسماءِ ذاتِ الأبراج، والأرضِ ذات الفِجاج، والماءِ الثَّجَّاج، والسِّراجِ
الوهَّاج، والبحرِ العَجَّاج، والهواءِ والعَجَاج؛ إنَّها لمِنْ أيمَنِ العُوَذ، وأغنى
عنكم من لابِسِي الخُوَذ.
٦١
(٣) الحديث والأدب العربي
يبدو أثَرُ الحديث على الشِّعر العربي محدودًا
جدًّا. يبدو أساسًا في شعر الزُّهد والتصوُّف وقصائد
التأمُّل، مثل قصائد المعرِّي في «اللزوميات»؛ حيث العنصر الديني قوي جدًّا. خارج دوائر
الزهد والتصوف لم يبدأ الحديث لفْتَ أنظار الشعراء
حتى القرن الثالث/التاسع، الذي شَهدَ جمعَ كُتب الحديث مثل «مسند» ابن حنبل (ت:
٢٤١ﻫ/٨٥٥م) و«صحيحَي» البخاري (ت: ٢٥٦ﻫ/٨٧٠م) ومُسلِم (٢٦١ﻫ/٨٧٥م).
هكذا لا نجد في العصر الأموي إلا حفنةَ أبياتٍ متأثِّرة بالحديث. وهذه الأبيات:
يبدو بيتُ الطِّرماح متأثِّرًا بالحديث: «مثل
المؤمن مثل السنبلة»، بينما في بيتَي كُثير يأتي التأثير من حديثَين: «يا خيلَ اللهِ
اركبي»، و«الندم توبة».
في القرن الثاني/الثامن يوجد أثر الحديث أساسًا في
زهديات أبي العتاهية. مثالًا من هذه القصائد؛ يمكن أن نأخذ الأبيات التالية:
جمعت من الدنيا وحزت ومُنِّيتا
وما لك إلا ما وَهبتَ وأمضَيتَا
وما لك ممَّا يأكلُ الناسُ غيرُ ما
أكلتَ من المالِ الحلالِ فأفنَيتَا
•••
وما لك ممَّا يلبَسُ الناسُ غيرُ ما
كسوتَ وإلا ما لبِستَ فأبلَيتا
٦٤
هنا نجد توضيحًا للحديث: «فإنَّه ليس لكَ مِن
مَالِكَ إِلا ما أكلْتَ فأفْنَيتَ، أو لبِستَ فأبْلَيتَ، أو أَعْطَيتَ فأَمْضَيتَ …»
٦٥
مع أبي تمَّام والبحتري وابن الرومي يبدأ تأثير
الحديث في الظهور في كل أوجه القصيدة، في النسيب والمدح والهجاء. في
وصف طلل الحبيبة، يستخدم البحتري
الحديث: «مَثَلُ
أصحابي في أُمَّتي مثَلُ النجومِ، بأيِّهمُ اقتديتمُ اهتديتم».
٦٦ يكتب:
دِمَنٌ مواثِلُ كالنجومِ فإنْ عفَتْ
فبأيِّ نجمٍ في الصَّبابةِ نهتدي
٦٧
يستفيد أبو تمَّام، في تقديم طللٍ زائل للحبيبة، بحديثٍ آخَر: «اليمينُ الغَموس تذَرُ
الديارَ بلاقِعَ.» وهكذا يأتي بيتاه:
وأرى رُبُوعكَ موحشاتٍ بعدما
قد كنتَ مألوفَ المحلِّ أنيسَا
وبلاقعًا حتَّى كأنَّ قَطينَها
حلفوا يمينًا أَخلَقَتْكَ غَموسَا
٦٨
لكن هذه الأمثلة نادرة في شعر الحُب غير الصوفي. ويمكن أن نضيف لها الأبيات التالية
لابن عبَّاد، «الصاحب»، ويبدو أنها نُظمت تدريبًا على فنِّ نَسْج أقوال النبي
شِعرًا:
قال لي: إنَّ رقيبي
سيِّئُ الخُلْق فدَارِهْ
قلتُ: دعْني، وجهُكَ الجنَّـ
الحديث المستخدم هنا: «حُفَّت الجنةُ بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات»، ويمكن أن
نذكر هنا أنَّ ابنَ الفارض ألمَحَ إلى الحديث نفسه في بيته:
وأينَ الصَّفا هيهاتَ من عيشِ عاشقٍ
وجنَّةُ عدْنٍ
بالمكارِهِ حُفَّتِ
٧٠
يقدِّم لنا شعر المديح أمثلةً أخرى. ما يلي شطران،
شطرٌ لأبي تمَّام والآخَر للمعرِّي:
جلا ظلماتِ الظُّلمِ عن وجهِ أمَّةٍ
٧١
تموتُ الدِّرع دونَكَ حَتفَ أنْفٍ
٧٢
هنا نتذكَّر الحديثَين: «الظُّلمُ ظُلماتٌ …»، و«مات حَتفَ أنْفِه».
مثالًا من الهِجاء، يمكن أن نأخذ هذه الأبيات لابن الرومي:
أبي وأبوك الشيخُ آدمُ تلتقي
مناسِبنا في مُلتَقى منهُ واحدِ
فلا تهْجُني، حَسْبِي من الخِزي أنني
وإياكَ ضَمَّتْنا ولادةُ والِدِ
٧٣
ترجع الفكرة الرئيسية لهذه الأبيات إلى كلماتِ النبي في خطبة الوداع: «أيها الناس
إنَّ ربَّكم واحد وإنَّ أباكم واحد، كلُّكم لآدمَ وآدمُ من تُراب.»
٧٤
في القرون التالية، كان
للحديث أثرٌ أكبر على
الشعراء. أصبح نسْجُ أقوال النبي شعرًا ممارسةً شائعة واعتُبر عمومًا براعةً مشروعة.
ودرسَتْه كلُّ كتب البلاغة باعتباره فرعًا من «
التضمين» وهو باب من
البديع.
٧٥ ومع ذلك، لم تختلف أنواع التأثيرات التي كانت للحديث على الشِّعر في الفترة
اللاحقة عن التأثيرات التي ناقشناها. الأعمال الرئيسية التي تظهر فيها: «لزوميات»
المعري، والقصائد الصوفية لابن الفارض ومعاصريه، وقصائد البوصيري (ت: ٦٩٥ﻫ/١٢٩٥م
تقريبًا) أو أناشيده في مدح النبي.
٧٦
بالانتقال إلى النثر، نجد مرةً أخرى أثرَ الحديث يظهر أساسًا في الأعمال المتأخِّرة.
في العصر الأموي، يبدو أن أقوال النبي ومواعظه كانت نماذج يقتفيها الوعَّاظ في تأليف
أقوالهم ومواعظهم. وينطبق هذا خاصة على كلام الحسن البصري ومواعظه، وتحتوي عددًا من
الأفكار والصور والتعبيرات المأخوذة من
الحديث. ومن
أمثلة ذلك، قولُ الحسن: «حادِثوا هذه القلوبَ؛ فإنها سريعةُ الدثور.» وهو صدًى للحديث:
«إن هذه القُلوبَ تَصْدأُ كما يَصْدأُ الحدِيدُ». وحين سُئل النبي: «فما جلاؤُها؟» قال:
«ذِكرُ الله وتلاوةُ القرآن.»
٧٧
من القرن الثالث/التاسع وما بعده سار تأثيرُ الحديث
خطوةً خطوة مع تأثير القرآن. في رسائل الجاحظ، تُستخدم اقتباساتٌ من القرآن والحديث بغزارة. يلجأ إليها عادةً ليدعم حُجَجه. في الأعمال
التالية، مثل مقامات الهمذاني والحريري، تأتي الإشارات إلى الحديث تاليةً في العدد للإشارات إلى القرآن.
لنأخذْ بعضَ الأمثلة من مقامات الحريري؛ لنختم هذه الملاحظات:
«… فتأهَّبوا للظَّعن، ولا تَلْووا على خضراءِ
الدِّمن»، «… كتمانُ الفقرِ زَهادَة، وانتظارُ
الفرَجِ عِبادَة»، «فلمَّا رأينا نارَهم نارَ الحُباحِب، وخبَرَهم
كسرابِ السَّباسِب؛ قلنا: شاهتِ الوجوه …»، «… لا
يتَّخذون أوطانًا، ولا يتَّقون سلطانًا، ولا يمتازون عمَّا تغدو
خِماصًا وتروحُ بِطانًا».
الكلمات بالبنط الأسود اقتباساتٌ من الحديث منسوجة
في النَّص.