الفصل الثامن عشر

شعر أدب السيرة

جيمس ت. مونرو، جامعة كاليفورنيا، بركلي
أقدم مصدرٍ موجود للشعر في أدب السيرة١ هو «السيرة النبوية»، لمحمد بن إسحاق بن ياسر بن خيار (٨٥–١٥٠ﻫ/٧٠٤–٧٦٧م تقريبًا)، وبقي في نسخة لأبي محمد عبد الملك بن هشام (ت: ١٣ ربيع الثاني ٢١٨ﻫ/٨ مايو ٨٣٣م)، أو (٢١٣ﻫ/٨٢٨م). ورغم أنَّ العمل نثري؛ فإنه يتضمَّن الكثير من الشعر أحيانًا لتوضيح الأحداث التاريخية. ومال النقَّاد بعد ذلك إلى اعتبار جزءٍ كبير من هذه المجموعة الشعرية زائف، رغم أنَّ ابن إسحاق نفسه اعترف لمعاصريه بأنه ليس ناقدًا بارعًا للشعر، ويقتصر فقط على الدور المتواضِع لمصنف، ولا يعبث بالنصوص التي زوَّده بها رُواته، لكنه يسجِّلها فقط حرفيًّا. كما نرى، القبول غير النقدي للمؤلَّف لمَا جمعه من تراث الشعر المعاصر؛ يزيد من قيمته بوصفه مثالًا للشعر في صدر الإسلام.

يُنسب عددٌ كبير من القصائد الواردة في العمل لشاعر النبي، حسَّان بن ثابت بن المنذر بن هرم الخزرجي (ت: ٤٠ﻫ/٦٥٩م، أو ٥٠ﻫ/٦٦٩م، أو ٥٤ﻫ/٦٧٣م). الكثير منها — بالشكل الذي سجَّله ابن إسحاق، ويختلف غالبًا بشكلٍ كبير عن الوارد في النُّسخ الأخرى — لا يُحتمل أن يكون من نَظْم حسَّان نفسه. كان حسان قد رسَّخ سمعته قبل الإسلام، ولم يضع فنَّه في خدمة محمَّد إلا وهو في العقد الخامس من عمره. وهكذا كان شاعرًا مدرَّبًا قبل الإسلام، وكان إنتاجه الشِّعري، في المصادر المتبقية، حافلًا بالتنوع والمفارقات التاريخية ممَّا جعل العلماء يُلقون بظلالٍ من الشك على صحة الكثير من المجموعة. في ضوء النظرية المهمَّة عن التأليف الشفهي، تحتاج مسألة صحة شِعر حسَّان إلى إعادة صياغة بمصطلحاتٍ جديدة، وتحتاج أيضًا علاقة مجموعته الشعرية بشِعر الجاهلية إلى إعادة فحص.

من منظور نظرية التأليف الشفهي، يتَّضح أنَّ الكثير من الشِّعر في سيرة ابن إسحاق؛ لغويٌّ لا يعتمد على الكلمة المفردة، بل على استخدام أسلوبٍ شعري خاص يعتمد إلى حد كبير على الصيغة التي عرَّفها ميلمان باري Parry بأنها «مجموعةُ كلمات تُستخدم بانتظامٍ بالشروط العروضية نفسها للتعبير عن فكرةٍ معينة أساسية».٢ ويتضمن هذا أيضًا أنَّ تقنية التأليف التي استخدمها حسان، مثل الشعراء الكبار الآخرين قبل الإسلام، كانت شفهيةً لا كتابية. يخون حسَّانًا في استخدامه للتيمات أيضًا التأليفُ الشفهي. بينما توجد في شِعره تيمات جاهلية كثيرة، تُبرز تيمة الحرب، وخاصة الحربَ التي خاضها النبي ضد الكفار، لكن هذا لا يعني أنَّ القصائد ملحمية في طبيعتها، إذا كنا نقصد ﺑ «ملحمية epic» الشعرَ القصصي البطولي؛ لأنها لا تروي أحداثًا بضمير الغائب تدور حول شخصيةِ بطلٍ محوري، لكنَّها بطوليةٌ في نبرتها؛ وتتناول مآثرَ الإسلام وزعمائه بأسلوبٍ غنائي باستخدام ضميرِ المتكلِّم المفرد أو الجمع لتنقل للمستمع تفاعلاتٍ ومواقفَ ذاتية تجاه أحداثٍ مهمة وإنجازاتٍ تُروَى نثرًا في أقسام السيرة. الأهمية التي تُضفَى على العنصر الغنائي والذاتي في العمل، تجعله يشبه قصةً تاريخية أوروبية لا ملحمة حقيقة. القصائد الواردة في النَّص قطَعُ مناسباتٍ عمومًا، قصيرةٌ نسبيًّا، وكثيرًا ما تُستخدم التيمة العربية للفخر للتأكيد على أهمية انتصارات الإسلام على الوثنية. على عكس القصائد الطويلة، التي بقيت من قبل الإسلام، مع استثناءٍ واحد (القصيدة الشهيرة «بانت سعاد» لكعب بن زهير)، تلك الواردة في السيرة ليست قصائد، لكنَّها تمثِّل نوعًا من شِعر المناسبات (قطعة) ازدهر أيضًا على أيدي الشعراء الكبار قبل الإسلام.

توضِّح قصائد المناسبات التي جمعها ابن إسحاق نقْلَ الأسلوب الجاهلي والجنس الأدبي وطريقة التأليف بعيدًا عن مُثُل القبلية الوثنية في اتجاه مثالٍ جديد تقدِّمه الدعوة الإسلامية إلى الشمولية. بينما دافَعَ الشاعر القديم غالبًا عن نفسه أو عن قبيلته، ضدَّ المنافسين أو ضدَّ القبائل المنافسة، القطبية الجديدة التي تظهر في شِعر حسَّان بين المؤمنين وأعدائهم. وباستثناءِ ذلك، لا يقدِّم هذا الشعر ما يميِّزه، تيميًّا أو أسلوبيًّا، عن شعر المناسبات في الجزيرة العربية قبل الإسلام. وُضعت فقط التقنيات والتيمات القديمة في خدمة مُثلٍ دينية جديدة يدافع عنها مجتمعٌ سياسي وديني جديد. ويبدو الاختلاف الأساسي بين الجديد والقديم اختلافًا في الجودة؛ لأنَّ القصائد المُدرَجة في السيرة أقلُّ غالبًا من المنظور الجمالي، وبها الكثير الأخطاء النحوية والعروضية وعدم الاتساق.

للاختلافات في قصائد حسان أهميةٌ كبيرة أيضًا في إلقاء ضوءٍ جديد على الطبيعة الشفهية لشِعره. وهكذا، في سنة ٩ﻫ/٦٣٠م طُلب من الشاعر أن يُنشد قصيدةً لوفدٍ من بني تميم في زيارة النبي، ويسجِّل التراث العربي أنه بسماع القصيدة، اعتنقَت الوفود الدين الإسلاميَّ الجديد على الفور، لكنْ هناك ثلاث مجموعاتٍ مختلفة من القصائد المتبقية، تزعم كلٌّ منها بإسنادات منفصِلة أنَّها أُنشدت في المناسبة نفسها. وأدَّى هذا بالنقَّاد إلى الشكِّ في صحة الشِّعر عمومًا، لكنَّ الارتجال في التراث الشفهي يلعب دائمًا دورًا حاسمًا. ولذا من المعقول أن نقترح أنَّ الرواة التالين، حين طُلب منهم روايةَ قصيدة حسَّان، لم يزيِّفوا بهدف الخِداع، لكنهم ربما ارتجلوا صيغهم الخاصة، طبقًا للتقنية الشفهية، مؤلَّفاتٍ شعروا عمومًا بأنَّها صادقةٌ مع فكرتهم عمَّا نطق به حسَّان في مناسبةٍ معينة. بالطريقة نفسها إلى حدٍّ كبير، أعاد ثوسيديديس صياغةَ خُطَب معاصريه الإغريق دون أن ينقُلها كلمةً كلمة، لكنَّ هنا اختلافًا مهمًّا: كان ثوسيديديس مؤلِّفًا متعلِّمًا ويدرك تمامًا الفرقَ بين التسجيل الدقيق وإعادة الصياغة. وكان يعي إعادةَ الصياغة؛ حيث إنه أخبر قرَّاءه بذلك. الشاعر الشفهي، من الناحية الأخرى، لا يعي الفرق. في فنِّه يلعب الارتجال عادةً دورًا أكبر بكثير من الحفظ. لا يحاول خداع جمهوره بالتفكير في أنَّ أداءه لقصيدةٍ سابقة أداءً حرفيًّا (يعتقد بصدقٍ أنه كذلك)، لكنَّه بالأحرى لا يُدرك «اللفظ» الحقيقي. ثمَّة اكتشافٌ حديث أكثر أهمية، توصَّل إلى حدٍّ كبير إلى نتائجَ لدراسة الأدب الشفهي في كل اللغات، وهو أنَّ الشعراء الشفهيين لا يفعلون ما يعتقدون أنهم يفعلونه، وهذا أمرٌ متميِّز تمامًا عن الخِداع أو التزييف المتعمَّد.

يمكن دعم الملاحظة السابقة في حالةِ حسَّان من زاويةٍ أخرى؛ ديوانه، في نسخة ابن حبيب، يضمُّ ٢٢٨ قصيدةً، وتحتوي السيرة على ٢٩ قصيدةً أخرى (فيها ٧٨ قصيدةً تُنسب لحسَّان). إضافةً إلى ذلك، توضِّح أطروحة غير منشورة لوليد عرفات،٣ بعد تحليلٍ تفصيلي للمجموعة كلها، أنَّ بين ٦٠–٧٠٪ من الشِّعر قد يكون «مزيَّفًا» على خلفية أنَّه يعبِّر عن تنوُّع في الرُّوح والأسلوب ويمتلئ بتناقضاتٍ ومفارقاتٍ تاريخية. ويتضمَّن أيضًا شعرًا متدنِّيًا، ويشجِّع هذا كلُّه عرفات على الارتياب في أنَّ القصائد ليست كلُّها للمؤلِّف نفسه. وعند هذه النقطة، من الضروري أن نُضيف أنَّ أيَّ تراثٍ شفهي لا تاريخي عادةً، بمعنى أنَّ الشاعر الشفهي يميل عادةً إلى رؤية الماضي في ضوءِ الحاضر. المفارقات التاريخية لا تُزعجه كما قد تُزعج شاعرًا متعلِّمًا أو مؤرِّخًا محترفًا. بشكلٍ خاص، بين الأحداث التاريخية لصعود الإسلام، الأحداثُ التي تشكِّل موضوع السيرة، والوقت الذي جُمع فيه الكتاب، حَدثَ حدثانِ مهمَّان: قتل الحسين وأنصاره في كربلاء في ٦١ﻫ/٦٨٠م، وحصار المدينة في ٦٣ﻫ/٦٨٢م ثم إعدام حوالي عشرة آلاف من الأنصار، منهم نحو ثمانين من صحابة النبي. وطبقًا لمَا أورَدَه جيوم: «كان المقصود من الكثير من شِعر السيرة أن يُقرَأ على خلفية هذه المآسي. الهدف تقديمُ مطالب الأنصار بمكانةٍ بارزة في الإسلام، ليس فقط بوصفهم رجالًا دعموا النبي حين عَادَتْه قريش، بل بوصفهم من سلالة ملوك.» وهكذا تحت الكثير من الشِّعر الذي يشير إليه جيوم «تختفي برقَّة دعايةُ الأنصار والشيعة»، ويضيف المؤلِّف: «حكاية مسيرةِ تُبَّع إلى مكة وتبجيله الهائل لحرمها، تمثِّل تناقضًا واضحًا مع المعاملة التي تلقَّتْها من الأمويين حين قصَفَها الحجَّاج.»٤

وفي هذا الصدد، ينبغي ألَّا ننسى أنَّ ابن إسحاق نفسه كان شيعيًّا. وهكذا، تمشيًا مع الأهداف العامة للسيرة، الكثير من الشِّعر فيها، يزعم بأنه من عمل شعراء معاصرين للأحداث المرويَّة، ويعكس فعليًّا طموحاتٍ سياسيةً لاحقة للحركة الشيعية، وهذا الشذوذ الظاهري يتَّسق تمامًا مع ما يُعرَف عن طبيعة الشِّعر الشفهي. يمكن أيضًا لهذه المعلومات الأساسية، أن تفسِّر السبب في أنْ تصبح شخصية حسَّان، وهو من أهل المدينة وقد عبَّر شِعرُه عن تطور الخِلاف بين مهاجري مكة وأنصار المدينة، مهمَّةً للشيعة في فترةٍ لاحقة، وقد انتقَلَ التنافُس بين المهاجرين والأنصار إلى مستوًى جديد بين الأمويين والشيعة.

تعكس الاختلافات الأسلوبية والمفارقات التاريخية في مجموعة شعر حسان تراثًا شفهيًّا حيًّا. بدلًا من رؤية القصائد من منظورٍ غير مناسب للصحة مقابل عدم الصحة؛ قد تنتج المقاربة الأكثر فائدةً من اعتبارها «دورة حسان» المتطورة باستمرار، ويمكن اقتفاء التطور إلى نقطةٍ في ضوء التطورات التاريخية؛ لأنَّ الشعر الشفهي ليس فيه «نصوصٌ أصلية» والبحث عنها قد يتبيَّن أنه بحثٌ عبثي. وهكذا يمكن إثارة المسألة بشكلٍ مشروع بشأنِ إنْ كان أيُّ شيء في «دورة حسان» أصيلًا حقًّا، بمعنى أنه يمثِّل حرفيًّا ما أنشده حسَّان، الشخصية التاريخية، في لحظةٍ محدَّدة. حيث إنَّ الصدق النصي مناقِضٌ لكلِّ ما يُعرَف عن نقلِ الشِّعر الشفهي. يمكن رؤية «دائرة حسان» بشكلٍ أكثر دقَّة بأنَّها نتيجة عمليةٍ مرنة من النقل الشفهي الذي «يعيش في اختلافاته»، باستخدام التعبير الرائع الذي صاغه العالِم الإسباني مريندز بيدال Pidal وهو يُشير إلى الأغاني الشعبية الأوروبية.٥

يدين ناقد الشِّعر في فترةٍ مبكرة، ابن سلام الجُمحي (ت: ٢٣١ﻫ/٨٤٥م)، طُرقَ ابن إسحاق على النحو التالي:

«وكان ممَّن أفسد الشِّعرَ وهجَّنه وحَملَ كلَّ غثاء منه محمدُ بن إسحاق … وكان من علماء الناس بالسِّيَر … وكان من أكثر الناس علمًا بالمغازي والسِّيَر وغير ذلك، فقَبلَ الناس عنه الأشعار. وكان يعتذر منها ويقول: لا عِلم لي بالشِّعر، أُتينا به فأحمله. ولم يكُن ذلك له عذرًا، فكتب في السِّيَر أشعارَ الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قَط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوَزَ ذلك إلى عاد وثمود. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: مَن حمل هذا الشِّعرَ ومَن أدَّاه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا …، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ …٦

بمعنًى ما، يمكن القول بأنَّ الشهادة المقتبَسة أعلاه التي لا تقدَّر بثمنٍ لناقدٍ قصير النظر من القرون الوسطى من منظورنا النقدي الحديث؛ لأن ابن إسحاق لم يكُن حقًّا يعلم شيئًا عن الشِّعر وكان يسجِّل ما يأتيه (بدون انتقاء نقدي، وبدون العبث بنصوص القصائد) هذا ما يقدِّم لنا صورةً ثمينة للتراث الشفهي الحي في عصره، على عكس ما حدَثَ في معظم شِعر الجاهلية؛ حيث أدَّت عمليةُ الانتقاء (ناهيك على التصويب السيئ، رغم حُسن النية) إلى توثيقٍ نصِّي أقلَّ مِصداقيةً بكثيرٍ للحالة المعاصِرة الحقيقية للشِّعر.

الصورة التي تنبثق، صورةُ تراثٍ شفهي يستخدم الكثيرَ من التيمات الشائعة في الشعر الجاهلي. صورة تفاوتٍ في الأسلوب والجودة، بعضُه جيِّد، بينما الكثير عادي. صورة ممتلئة بالمفارقات التاريخية وعدم الاتساق. تحتوي مختلف نُسَخه على اختلافاتٍ كثيرة وأبياتٍ في غير موضعها أو مضافة، كما هي الحال بالنسبة للشِّعر الجاهلي، الذي كثيرًا ما يكشف عن خللٍ نحوي أو عروضي.٧ يمكن لهذا الشِّعر أن يكون صحيحًا، فقط بمعنى أنَّ كلَّ الشِّعر الشفهي صحيح، رغم افتقاره للنصوص الأصلية. هكذا تقدِّم شهادة الجمحي عن المعايير الانتقائية الرخوة و«العجز» النقدي لابن إسحاق دليلًا قويًّا، يدعم النظرية بأنَّ ما بقي لنا دورةٌ من القصائد الشفهية، أنتَجَ حسَّان عددًا كبيرًا منها، وتشابكتْ مع عملٍ نثري يروي (وأيضًا بأسلوبٍ يدين بالكثير لراوي القصص الشفهية) ملحمةَ ظهور الإسلام ونبيِّه.
باختصار، نحن على علمٍ بمصادرَ حول سنة ٩ﻫ/٦٣٠م، ذكَرَها حسَّان بوصفه داعيةً أدبيًّا للنبي. حدثتْ مآسي كربلاء والمدينة في ٦١ﻫ/٦٨٠م، وفي ٦٣ﻫ/٦٨٢م بالتتابع، بينما عاش ابن إسحاق مصنِّف السيرة من ٨٥ﻫ/٧٠٤م إلى ١٥٠ﻫ/٧٦٧م. وهكذا مرَّ قرنٌ تقريبًا من زمن الأحداث المروية في العمل، إلى أن أتمَّ المؤلِّف كتابةَ السيرة. بالنسبة لتراثٍ شفهي، هذا مدًى زمنيٌّ قصير نسبيًّا، لكنَّ عدم الاتساق التاريخي واضح، بينما بحلول عام ٢١٨ﻫ/٨٣٣م طبَّق محرِّره، ابن هشام، الفطنةَ «النقدية» (أي «المتعلِّم»)؛ ليرفض الكثير من القصائد الواردة في عملِ سلفه؛ لأنها زائفة. ما دقَّق التطور الآخَر لهذا العمل الخاص، طبيعته المقدَّسة الواضحة؛ حيث زعم أنه يروي أحداثًا تؤدِّي إلى ميلادِ دينٍ من الأديان الكبرى في العالَم، ولا يمكن أن يسمح حرَّاس هذا الدين بالاستمرار بتعرُّضه لمَا لا نهاية لتقلُّبات النقل الشفهي، لكنْ في حالة السِّيَر الأخرى، لم يكُن هناك مثلُ هذا التدقيق الديني على تطورها التالي؛ حيث كانت هذه الأعمال دنيويةً بشكلٍ لافت في طبيعتها. وهكذا استمرَّت الأخيرة تتطور شفهيًّا، وفي النهاية احتضنت قرونًا كثيرة من التاريخ الإسلامي في معالجتها للأحداث.٨
١  انظر ما سبق، الفصل ١٧.
٢  Parry, “Studies,” 80.
٣  Arafat, “Critical introduction”.
٤  Guillaume, Life, xxvII.
٥  Romancero, I, 40.
٦  الجمحي، الطبقات، ٤؛ قارن Guillaume, Life, xxv.
٧  ومع ذلك، اقتُرح أنَّ هذا النوع من الشِّعر والأسلوب، قد يعكس التراث الشفهي لسكَّان المدن العربية في تناقُضه مع التراث القبليِّ. (المحرِّرون)
٨  هذه القصص الشعبية المتأخِّرة، التي يعتبرها المؤلِّف تطورًا لشعر أدب السيرة؛ تمَّ تناولها بإسهابٍ في هذا المجلد. راجع: الفصل ١٩، «الخرافات والأساطير»؛ وفي مجلدٍ لاحق، فصلٌ بالعنوان نفسه عن العصر العباسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥