الفصل العشرون

الشعر الأموي

سلمى خضراء الجيوسي

العصر الأموي (٤٠–١٣٢ﻫ/٦٦١–٧٥٠م) من أكثر العصور إثارةً وأهمية لناقد الشِّعر. كان الشعر الأموي، أكثرَ من شعرِ أيِّ عصر آخَر قبل العصور الحديثة، في تطوُّرٍ ديناميكي، وسجَّل، بشكل غير مباشر ومباشر، التغيراتِ الأكثرَ عمقًا في الحالة الرُّوحية في تلك الأوقات. وأحاط بهذه الفترة من التطور السريع فتراتٌ أكثر استقرارًا من الإبداع الشعري: من ناحية الشعر الجاهلي، ومن الأخرى الشعر العباسي؛ ولا شك في أنَّ الشعر الأموي ينبع من تراثٍ شعري قوي من الإنجاز الرفيع. يبدو أنَّ شِعر الأخطل (غياث بن غوث التغلبي، ت: ٩٢ﻫ/٧١٠م)، على سبيل المثال، انبثق من تراثٍ عميقِ الجذور، وتطوَّر إلى حدِّ الكمال على أيدي أجيالٍ من الشعراء. يعطي شِعر شاعر مثل القرشي عمر بن أبي ربيعة (٢٣–٩٣ﻫ/٦٤٣–٧١١م) انطباعًا مختلفًا. كتب شعرًا تجريبيًّا؛ انحرف في النبرة والتقنية عن الشِّعر السابق له، لكنْ رغم أنه لم يكتب على طرازِ التراث الجاهلي إلا أحيانًا؛ ظلَّ يبني على إنجازاتِ أسلافه، ويستفيد من قوة تقنياتهم ومرونتها.

يزخر الشعر الأموي بالتجريب. تمَّ استكشاف الكثير من أبعاد القصيدة. دخلت أمزجةٌ وتيمات جديدة، وتحوَّلت نُقط التأكيد، وظهرتْ من جديدٍ موتيفاتٌ قديمة، كثِّفت وخضعتْ للمبالغة أحيانًا. إنه عصرٌ حدثتْ فيه ثورةٌ تلقائية لا نظيرَ لها، زاخرة مع ذلك بنزعةٍ تقليدية مؤثِّرة.

(١) اعتقاد جديد

مع التغيرات الهائلة في كل جوانب المجتمع، كانت الحياة الداخلية للفرد تتغير. كان عصرَ القلَق. التدابير القمعية لوُلاةٍ مثلِ زياد بن أبيه والحجَّاج بن يوسف، الواليِيَيْن اللَّذَين حكما العراق في ٤٥–٦٠ﻫ/٦٦٥–٦٨٠م وفي ٧٥–٩٥ﻫ/٦٩٤–٧١٣م على التوالي، كانت قاسية على شعبٍ يعشق الحريةَ، لم يعتدْ على الحكومة المركزية وآلية الدولة. ما حدَثَ للشعب العربي كان يحدُث للمرة الأُولى في تاريخه. التعامل الوحشي مع أُسرة النبي، وخاصة مذبحة كربلاء للحسين ومجموعته الصغيرة (٦١ﻫ/٦٨٠م)، لا بد أنه كان صدمةً عميقة للعرب. ولا بد أن التفوق الاستبدادي لقريش كان مصدرًا لخيبة الأمل أيضًا؛ لأنَّ الإسلام وعَدَ بالمساواة والعدل بين الجميع، لكنْ باستثناء الخوارج، الذين لم تأخذ خيبة أملهم شكلًا صريحًا، وكانت في صورةِ ألمٍ داخلي تجلَّى في توتُّرٍ ميَّزَ ذلك العصر.

كان الصراع الأهلي سببًا للسخط العام، ونتيجةً له اضطر معظمُ الشعراء إلى اتخاذ جانب. وفي العراق خاصة، لم يكُن الشاعر يستطيع الانعزالَ عن الاضطراب الذي يحيط به من كلِّ الجوانب.

كان المجتمع الإسلامي في بداياته مُفعَمًا بالتوتر. كان تدرُّجٌ هرمي جديد ينبثق مختلفًا عن النظام القبلي القديم، وبسرعةٍ اكتسب مكانته مصدرًا للسُّلطة والثراء. كان المجتمع يسير بثباتٍ باتجاه طريقةٍ حضرية أكثر في الحياة. بدأ الناس يعتمدون أكثرَ وأكثر على الدولة، التي كان شعارها الخليفةَ وحاشيته.

التعطُّش الفُجائي لشعبٍ بدوي من خلال الفتوحات، إلى عالَمٍ مختلف تمامًا، تحت هذه الرايات المختلفة، تسبَّب أيضًا في نوعٍ من القلق. وتطلَّب الأمر أكثر من أربعة أجيال من الإسلام والتحضُّر لطمس تأثير أيام الجاهلية وطُرُق العرب، وجلْبِ مواقفَ مختلفةٍ بشكل أساسي، أكثر ملاءمةً لرُوح الإسلام.

ومع ذلك، كان المجتمع الأموي بعيدًا عن التجانس. كان بالأحرى كتلةً من الثقافات المتباينة. كانت ثقافات الفاتحين والمحتلِّين عاجزةً عن تغذية بعضها البعض فنيًّا بطريقةٍ تنتج أنواعًا جديدة من الشِّعر. وكان هذا بالأحرى زمنًا يحاول العرب فيه التخلص من ثقافةٍ تنشأ عن طريقتهم السابقة في الحياة. كانت عمليةً طويلة وصعبة شغلَت العصرَ الأمويَّ كلَّه تقريبًا.

كانت تتمُّ عمليةٌ مساوية في الطول ومختلفة بين الموالي، الذين كانوا يتعلمون العربية ويطمحون لتحقيق الاعتراف في الشِّعر، أكثر فنون العرب تبجيلًا. وظهَرَ شعراءُ كبارٌ مثل بشَّار بن بُرد نتيجةً لذلك، حتى قبل نهاية العصر الأموي.

وإضافةً إلى ذلك، كان هناك اختلافٌ ملحوظ في الرأي والمزاج والاهتمام بين مختلف مناطق الإمبراطورية الجديدة؛ لذا يعكس الشعر الأموي تنوعًا هائلًا في البيئات الإقليمية.

في العراق، تشكَّل السكان العرب في المدينتَين الجديدتَين، البصرة والكوفة، من الجنود وأُسَرهم، المجنَّدين من الكثير من القبائل العربية. وكان هناك أيضًا أعدادٌ كبيرة من السكَّان غير العرب، بعضهم من المزارِعين الأصليين في جنوب العراق، وآخَرون من الأَسرى الفُرس الذين جُلبوا بالآلاف.

ورغم وجود عددٍ كبير من المسلمين الجدد من أعراقٍ أخرى، هيمَنَ العرب على هاتَين الحاميتَين. كانت طريقة الحياة فيهما بدويةً أساسًا، كما نستنتج من أوصاف هذه الفترة، لكنْ رغم هذه الروح وصعود التعصب القبلي، إضافةً إلى الوضع الخطير الناجم عن الصراع الأهلي على نطاقٍ واسع، نجحتا في أن تصبحا مركزَين للشِّعر والدراسات اللغوية. كانت في البصرة سوقٌ شهيرة تُعرف بسوق المِرْبَد، تقوم بوظيفةِ عكاظ في عصور الجاهلية. كانت المِرْبَد تقع في غرب المدينة، قُرب الصحراء العربية، وكانت مكانَ الْتقاءٍ ليس فقط للبصريين، لكن أيضًا للبدو الذين يحتشدون في البصرة. كانت المِرْبد، بصرفِ النظر عن كونها مركزًا تجاريًّا، منبرًا للتبادل الأدبي. توافَدَ الناس إليها للاستماع للشِّعر الذي يُنشَد، وذهب اللغويون إليها لجمع الغريبِ من البدو الجُدُد القادمين من الصحراء العربية. كان لكلِّ شاعر من الشعراء الكبار منبرُه ودائرةُ المُعجَبين به. وهكذا كان لكلٍّ من جرير والفرزدق وراعي الإبل دائرته، ومن شعراء الرجز كان للعجاج وابنه رُؤبة أتباعُهما. كان للشعراء رواتُهم، الذين كانوا أيضًا رُسلًا يقدِّمون حكاياتٍ عمَّا يُعلنه شاعرٌ منافِس. وكانت مركزَ الهجاء في العصر الأموي؛ حيث كانت تتم مساجلاتٌ هجائية باهتمامٍ فنِّي ولغوي كبير. وكان في الكوفة أيضًا سوقُ الكُنَاسة ملتقًى للشعراء وجاذبة لجمهور كبير، لكن المِرْبَد كانت المركزَ الأكثر أهميةً في تلك الفترة.

كانت دمشق، على عكس الحاميتَين، أرضَ النظام والانضباط المدني. اعتاد السكان الأصليون اتباع القانون والنظام وطاعة الطبقة الحاكمة. كان معاوية أولَ الملوك المسلمين، رغم أنه لم يستخدم اللقب. وكان من أمهر العقول في الإسلام، عَرَف قيمة الحفاظ على واجهة حياة الأمراء، وحوَّل عاصمته مركزًا للسُّلطة والأبَّهة. أنشأ بلاطًا، برجالِ حاشية وشعراء، ومحاسبين وحرَّاس. وفي فترةِ حُكم معاوية رسخ المدح وظيفةً أساسية للشاعر، وكان يُكافَأ بسخاء.

مرةً أخرى، كان الحجاز مختلفًا. موطن قريش والأرستقراطية العربية، سكنها أبناء المهاجرين والأنصار وأحفادهم، وأعداد من المطالِبين بالخلافة. بعد فشل ثورة الزبير في ٧٣ﻫ/٦٩٢م، وتدمير الكعبة والمذابح التالية، كانت طاقة سكان الحضَر واهيةً، لكن من المؤكَّد أنها اتجهتْ لمُتَع الحياة. تدفَّقت الأموال على المنطقة، وتدفَّق العبيد بالآلاف. وجلبوا معهم فنونَهم وحِرَفهم. وفي المدينة ومكة والطائف وجدوا سكَّانًا من الحضر، مستعدِّين لاستيعاب مُتَع الحضارة والاستمتاع بها. أصبحت المدينة مركزًا للموضة والأناقة، والموسيقى والغناء. دخلت الموسيقى العربية نغماتٌ وموتيفاتٌ جديدة من فارس وبيزنطة، وشهدت تغيراتٍ مهمةً في تلك الفترة.

لكنْ إذا كان شبابُ الحجاز يتمتع بحياة المتعة؛ فإنَّ ذلك يعود إلى أنَّ طموحاتهم أُحبطت، وانحرفتْ تطلعاتهم السياسية. تحولوا، أو حُوِّلوا، من تقشُّف الدين إلى رفاهيةِ الكسل. في صحراء الحجاز ونَجْد، نجِدُ مشاعرَ الإحباط نفسها، لكنْ حيث إنَّ الحياة هناك لا يمكن أن تتكيف مع الصخب؛ طوَّر الرجالُ منظورًا ركَّز على إنكار الذات والهجران، عبَّر عنه شِعر الحنين والأسى. وهكذا تبدَّى قلق العصر في موقف الهروب من الواقع والانغماس في الذات. دمشق وحدها، بشِعرها الرسمي وشعراء بلاطها، تُحمَى إلى حدٍّ ما، من المزاج المتقلِّب المضطرب الذي يتَّسم به العصر.

(٢) الشعر في صدر الإسلام

قبل الانتقال إلى فحص الشعر الأموي وخصائصه الأساسية، ينبغي إلقاء نظرةٍ سريعة على المشهد الشعري في السنواتِ الأربعين التي تسبق العصر الأموي.

كان انشغال القرآن بالشِّعر سلبيًّا عمومًا؛ اتَّجه إلى التبرُّؤ من الاتهام الذي وجَّهتْه قريش المعادية، بأنَّ النبيَّ شاعر؛ لأن القرآن:

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الحاقة: ٤٠–٤٣).١
النبي،٢ كما يوضِّح القرآن، ليس كاهنًا أو مجنونًا. تأكيد قريش على أنَّ القرآن من خَلْق إنسانٍ مجنون خَدَم في النهاية، بشكلٍ ينطوي على مفارقة، أهدافَ الدين الجديد. لم يعكس، كما تشير آياتُ القرآن بوضوح، رأيًا رفيعًا جدًّا في أعظم فنون العرب، رابطًا إياه بالغلو والكذب والإلهام الشيطاني، وتمَّ انتقاده أيضًا في القرآن:

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (الشعراء: ٢٢٤–٢٢٧).

الاستثناء الذي تقدِّمه الآية الأخيرة، لا يستعيد للشِّعر كرامته الذي يفقدها في الآيات السابقة؛ لأنها تتضمَّن أنَّ الشِّعر الذي لا يلتزم بقضيةِ الإسلام ضالٌّ ومضلِّل. صدمتْ بالتأكيد الشعراءَ المسلمين الكبار في المدينة، الذين انطلقوا إلى النبي في كربٍ؛ بحثًا عن طمأنينة، لكنَّ هذا الموقف تجاه الشِّعر ساعَدَ في النهاية على خدمة هدفٍ آخَر للدين الجديد، لفَتَ أنظارَ المؤمنين بعيدًا عن أيِّ شيءٍ إلا القرآن والحديث الذي ينمو حوله.

كان النبي حسَّاسًا لعبقرية التعبير الأدبي، وكان هو نفسه بليغًا من طرازٍ رفيع. لكنه امتنع عادةً عن تكرار أبياتِ الشِّعر. لكنه اعترف بأهميته، واعتبره نشاطًا عليه أن يلتزم بصرامةٍ بقضية الإسلام. حين هاجَمَ شعراء قريش، من أمثال عبد الله بن الزِّبَعْرى وضِرار بن الخطَّاب وعمرو بن العاص وأبو سفيان بن الحارث، النبيَّ والإسلام؛ دعا النبي المسلمين الأوائل إلى محاربتهم بأسلحتهم. استجاب شعراء الخزرج في المدينة على الفور، واختار النبي حسَّانًا لهذه الغاية الخاصة لقدرته على تأليف هجاءٍ لاذع.

كان اهتمام الخلفاء الراشدين بالشِّعر أكثرَ من اهتمام النبي، وكانوا يناقشونه مع الآخَرين. عُرف عن عمرَ وعليٍّ خاصة اهتمامهما بالشعر، لكنَّ الشعر الذي فضلاه يجسِّد القِيَم النبيلة ويَعِظ أخلاقيًّا؛ طبقًا لتعاليم الإسلام.

كان الشعر تحت إشراف الدين والدولة. ممَّا أبرز المشاكل الفنية الصعبة التي تواجه الشعر في أزمنة التغيرات السريعة.

بدأ الإسلام دينًا متزمِّتًا، يؤكِّد على الوحي المنزَّل والامتثال للقواعد أكثرَ من الامتثال للحالات العاطفية. القيم التي دعا إليها الإسلام كانت جديدةً تقريبًا، مطعَّمةً بخلفية وثنية لم تُنبذ حتى بعد قرنٍ من الإسلام.

اكتشف الشعراء بسرعة في صدر الإسلام أنَّ الشعر صار له هدفٌ جديد. أصبحَ وسيطًا لتمجيد الإسلام والنبي، فيه ينبغي اكتسابُ لغةٍ شعرية جديدة، وتأكيدًا مختلفًا. وكان الإسلام قد أدخل نظامًا عقلانيًّا جديدًا من الرموز يختلف عن النظام العاطفي للرموز الذي كان شائعًا في التراث الشعري في تلك الفترة. واجَهَ الشعراء، الذين كان منطقهم منغرسًا في التجربة، منطقًا جديدًا منغرسًا في التأمُّل العقلاني. وكان عليهم بناءُ مقولاتٍ عقلانية لفَّقت روابطَ مختلفةً عن تلك التي تشكلتْ نتيجةَ الخبرة العاطفية، وكان تشوُّشها لافتًا. مثل كلِّ الأعضاء الآخَرين في المجتمع، كانوا قَلِقين على عالَمهم المتغيِّر والطريقة التي ينبغي النظر بها إليه. يتضح عدم يقين ردِّ فِعلهم بالمشاورات المتكرِّرة مع النبي وصحابته في مسائلَ تتعلَّق بالسلوك وبالموقف. لا يتطابق دائمًا التحول المفاجئ في البؤرة الفكرية للمرء مع التحول في مواقفه العاطفية. على الشِّعر أن يتكيَّف مع كلِّ أبعاد الخبرة ويدمجها في كل متَّسق، لكنَّ الشعر في هذه الفترة المبكِّرة، لم يكن من المتوقَّع أن يشمل كلَّ مراحل التطور على الفور، ويغيِّر تمامًا كل التقاليد التيمية للشِّعر ونقاط تأكيدها، ويرفض الاندماج مع تراثٍ عميق الجذور، وفي الوقت ذاته ينتج شِعرًا عظيمًا. ويقال إنَّ حسان بن ثابت، شاعر النبي وأحد أبرز شعراء الحجاز قبل الإسلام، شَعرَ بمأزقٍ، وأشار إلى عجزه عن التوفيق بين الحقيقة والشِّعر.٣ شعره الإسلامي، باستثناء الهجائيات، لم يسترشد بأيٍّ من الطاقة المتَّقدة أو البلاغة أو الموسيقى في شعره قبل الإسلام، لكنَّ اكتساب لغةٍ شعرية جديدة كان صعبًا جدًّا في هذه الفترة. أولًا: كان عصرَ اضطرابٍ هائل. مع الفتوحات والتمدن والتدفق الهائل للثروة ومنظومة المعتقدات الجديدة؛ كانت الصورة الكلية للعالَم تتغيَّر بسرعة. ثانيًا: قدَّم الإسلام تحفته الأدبية، القرآن، الذي أسرتْ خصائصه الأدبية الرفيعة مخيِّلةَ العرب ونالت إعجابهم. وثالثًا: كان على الشعراء التعامل مع وصمة الشعر الواردة في نَص القرآن نفسه.

هكذا وقفت عوامل كثيرة ضد التطور الطبيعي للشعر. قطعت هذه الفترة خطَّ التطور الثابت للفن الشعري، ووُجد فاصلٌ بين عصرَين شعريَّين مزدهِرَين، الجاهلي والأموي، خلَقَ انقطاعًا كان صدمةً للموهبة الإبداعية العربية، وجعَلَها غيرَ واثقةٍ من قِيَمها ومفاهيمها الفنية وجذورها التقليدية.

هذه الواجهة الفنية البحتة للوضع الشعري للفترة الإسلامية، جانبٌ حظِيَ بأقلِّ اعتراف من النقَّاد ومؤرِّخي الأدب، لكن فقط بفهم ما حدَثَ للشعر مع ظهور الإسلام يمكن فهْمُ تطوره في العصر الأموي.

كان للوضع الشعري الذي وصفناه عدَّة نتائج مهمَّة؛ أولًا: قطعت استمرارية التراث الشعري. الاعتراف بأنه كان هناك انقطاعٌ لبعض أوجه الشعر، حيوي لفهم تطور فنِّ الشعر العربي. ثانيًا: التوقف في الإبداع، الذي يعترف به النقاد الكلاسيكيون والمحدثون في تلك الفترة، سَمحَ بهيمنة اللغة الحضرية للقرآن والأحاديث التي نَمتْ حوله، وترسيخ تفوُّق لغة قريش. التطور اللاحق لأسلوبٍ شعري في مدن الحجاز في العصر الأموي، أنتَجَ لغةً شعرية حضرية متمدِّنة مرنة جدًّا، وحثَّ على وجود شِعرٍ بسيط جدًّا بدا أحيانًا حواريًّا واستطراديًّا. ثالثًا: اتَّخذ الشِّعر وِجهةً جديدة، وارتبط بالدولة والإسلام، لكنْ لم يقدَّرْ له أن يتمسَّك بتفسيرِ المُثل الإسلامية في العصر الأموي. وأصبح الشعراء دعاةً للنظام السياسي، وصار المدح، الذي يُكتب غالبًا من أجل المكافأة، عبادةً، والتيمة الأكثر أهميةً في الشعر العربي.

لذا من المناسب وصف هذه الفترة بأنها فترةُ انقطاع من جانب، ومن الجانب الآخر فترةٌ لوضع أُسس نوعٍ جديد من الشعر.

(٣) إحياء الشعر في العصر الأموي

مع العصر الأموي تغيَّر الوضع الشِّعري فجأةً؛ اهتمَّ الأمويون، ببعض الاستثناء، بترسيخ دولةٍ ثيوقراطية. ونجحوا في الوصول للسُّلطة بالقوة، واضطروا للحفاظ عليها بكلِّ الوسائل المتوفرة، وأدركوا أنَّ الشِّعر يمكن أن يلعب دورًا دعائيًّا عظيمًا ويدعم سُلطتهم؛ لذا فتَحَ البلاط أبوابه لأفضل المواهب الشعرية، ورسخ المدح بثباتٍ جنسًا رئيسيًّا في شِعر تلك الفترة.

وتعزَّز إحياء الشعر أيضًا بظهور العصبيات القبَلية من جديد. أتقن الشعراء تِيمةَ الفخر في الشِّعر الجاهلي وجدَّدوها، مجترِّين حكاياتٍ عن انتصارات ماضيهم وإنجازاتهم في تناقُض صريح مع هدف الإسلام في تحقيق الوحدة والتكامل بين المسلمين.
يتمثل حافزٌ ثالث في إحياء الشعر، في الحاجة إلى تفسير لغة القرآن باللجوء إلى نصوص الشعر الجاهلي. يقال إن عبد الله بن العباس (ت: ٧٠ﻫ/٦٨٩م)، الصحابي الشهير، أول مَن استخدم الشعر الجاهلي لهذا الغرض، ولا شك (رغم التراكم التالي) أنه بحث والعلماء الآخرون عن الاستعانة بالشعر القديم لتفسير غريب القرآن والأحاديث التي نَمتْ حوله.

يتمثل حافزٌ رابع، وراء إحياء الشعر، في الحاجة إلى تسجيلِ نحوِ العربية الكلاسيكية. أصبحت مدينتا البصرة والكوفة بسرعة مركزَين مهمَّين للنحو واللغة، وشهِدَتا إحياءً هائلًا للاهتمام بالشعر الجاهلي. نشأتْ فئةٌ جديدة من الرواة الذين تمكنوا من حفظ آلاف الأبيات التي جمعوها من قبائل الصحراء.

الشعر الأُموي طبقًا لهذا، شعرُ الصراع والتناقض. وهو مهم للمؤرخ الأدبي والاجتماعي؛ لأنه قد يكون أصدقَ تعبيرٍ عن الوعي الداخلي للشعب العربي في القرن الأول من الإسلام. إن قراءة الشعر الأموي بوصفه تعبيرًا عن الظواهر السياسية والاجتماعية فقط؛ يعني إساءةَ فهمه وفهم العصر الذي ظَهرَ فيه.

مع فقدان القِيم المستقرة في الفن والحياة، ولدت حريةٌ فنية جديدة، وعكس فنَّ الشعر حركةُ الروح المحرَّرة من طريقةٍ راسخة في الحياة؛ حرية مؤلمة، لأنها لا تزال تتطلَّع إلى بؤرة في ذلك العصر. لم يعُد وثنيًّا، لكنَّه أيضًا لم يكُن إسلاميًّا بتلقائية تمامًا. لم يغير الإسلام رؤيةَ الشعراء للحياة والعالَم تمامًا. بالنسبة لمعظم هؤلاء الشعراء، كان الإسلام إطارًا اجتماعيًّا وسياسيًّا، لا خبرةً روحية عميقة. في العصر الأموي، تجلَّى هذا الوضع في شعر الهوى والمغامرة، شعر الأسى واليأس، شعر الصخب واللهو، شعر الفسق والهجاء. باستثناء الأخطل، انتهَت الرغبة في النظام والاتزان، وكانت واضحةً في الشعر الجاهلي. بالنسبة للمنظور، نشعر برغبةٍ غريزية في العراق والحجاز للتنفيس من خلال الشعر، والهروب من الحياة القاسية في العهد الجديد ومن توتُّر القمع وسفك الدماء.

كانت التناقضات والصراعات في هذه المرحلة من الحضارة الإسلامية؛ قادرةً على أن تُضفي على الشعر نوعًا من القوة والحماس. انطلق الشعر في حياةٍ نشطة، عاكسًا الحركات العميقة والقوية للعقل القومي. لا يبدو أنَّ الإنهاك، الذي جاء بعد المذابح والحروب الأهلية والقمع والأحكام العرفية، أثَّرَ على نشاط الناس الذي بدا أنه لا ينضب. كشف الشعر عن مرونةٍ لا تعرف الكلل. وتجلَّى النشاط في كلِّ مكان: في متابعة الصراع السياسي والصراع الديني، والفتوحات القومية والبحث عن اللذة والمتعة الحسية. كانت الطاقة الفائضة تُنفق في كل مكان. كانت طاقة أمة شابَّة ناشئة في لحظة اكتشاف الذات وتأكيدها.

وربما كان أعظمَ صراع في الشعر الأموي الصراعَ بين التقليد والتجديد. تعرَّض شعر الجاهلية وهو لا يزال في أوجِه للهجوم فجأةً، وعانى من انتكاسة. ثم استعاد في العصر الأموي أهميته لأسبابٍ لغوية. لكن الشعراء لم يستأنفوا التقاليد الشعرية الجاهلية.

كانت القصيدة الجاهلية الرائعة شبكةً واسعة ومتشابكة من الخبرات، لا مجموعة مواضيع متباينة. كانت تدمج العناصر الأساسية للحياة البدوية وتسمو بها وصولًا إلى العمومية. رغم أنَّ الصور والمواضيع كانت تؤخذ من حياة الصحراء ومشاهدها؛ فقد أضاءت الرؤية العامة للحياة والظروف الإنسانية القصائدَ ببراعة، ممَّا يفسر إلى حدٍّ بعيد التقدير والإعجاب الذي حظِيَ به الشعر الجاهلي، والحفاظ عليه عبر القرون. الكتَّاب الذين فهموا القصيدة الجاهلية وفسَّروها باعتبارها تمثِّل حرفيًّا الحياة في جوانبها الخارجية؛ أغفلوا السرَّ الحقيقي للأهمية الفنية لتلك القصيدة. فشلوا في إدراك الآثار الكامنة تحت هذه المنظومة الكاملة لصورةٍ شعرية للحياة، وكيف تمثل مقاربة لتأكيد الوجود البدوي وتوتره وكل الوجود الإنساني، بالدراما المستمرة عن الحياة والحب والموت، ومرور الزمن، وذبول الشباب، وحياة قاسية طوَّقتها حواجز هائلة من صحراء لا ترحم.

وسَّع شعراء الجاهلية جيلًا بعد جيل مجالَ الرؤية، وما كان ينبغي أن يكون في البداية تحديدًا تلقائيًّا للخبرة اليومية في الحياة البدوية؛ نما مع السنين ليرمز لشيءٍ أعظم. وكان هذا التطور نتيجةَ صقلٍ فني يتنامى، وتفسيرٍ تأملي للحياة.

وكانت رحلة الشاعر ضمن التيمات المهمة في الشعر الجاهلي، وكانت ترتبط بالكثير من الأخطار والتعب، وتقوده إلى شخصيةٍ رفيعة تعوِّض بالمال والهدايا كلَّ صراعاته المُنهِكة. وفيما بعد أصبح هذا إجراءً شعريًّا راسخًا في العصر الأموي. وبرز ذو الرُّمة في عصره، في أنه حافَظَ على التقاليد والتيمات السابقة وطوَّرها إلى درجةٍ رفيعة من البراعة الفنية.

ومع ذلك، حدث أمران لهذه التقاليد حتى في الجاهلية؛ أولًا: رفَضَ شعرُ الصعاليك، مثل الشَّنْفَرى الأزدي (ت: ٥٢٥م) وعروة بن الورد (ت: ٥٩٤م؟)، الكثيرَ من التقاليد واتبعوا نهجًا مباشرًا للموضوع. وتميَّز شعرهم بالاغتراب، وانشغل بمطاردة الغنائم والمغامرة. وانشغلوا بمشاكل وجودٍ ينعدم فيه القانون. اختفتْ عادةً من قصائدهم المقدمةُ الطللية، بالإضافة إلى الأوصاف الطقسية للحصان والجمل.

ثانيًا: كانت هناك علاماتٌ على أنَّ هذه التقاليد صارت اصطلاحية ومجرَّد ديكور في شِعر شعراء الجاهلية. ونرى هذا، على سبيل المثال، في شعر حسان بن ثابت، وهو شاعرٌ من مدينةٍ يفوح من بكائه على المخيمات المتخيَّلة المهجورة رائحةُ التصنع.

حدَثَ الانفصال نفسه في العصر الأموي. قطعت فترة الخلفاء الراشدين التقاليد وحطَّمت استمراريتها. فَهمَ الشعراء الأمويون الكبار، مثل الفرزدق والأخطل وجرير، هذه التقاليد وحافظوا عليها في أبعادها الوصفية الخالصة فقط. راوَغَهم العمق والخصائص الضمنية والنمطية الأصلية في أفضل قصائد الجاهلية. وإضافةً إلى ذلك، وقف تغيُّر أساسي في المواقف الميتافيزيقية حاجزًا آخَر أمام استيعابِ هذه التقاليد وطبيعتها الميتافيزيقية. كانت الضرورة عمياءَ في المفهوم الوثني للحياة والموت؛ كانت حركة المصير عشوائية. لم يكُن هناك هدفٌ وراء عمَلِ القَدَر. مع الشعراء المسلمين، أصبحت الحياة بيَدِ الله. يشاءُ الله، طبقًا لمشيئته، أن يكون الإنسان أو لا يكون. كانت الحافة التراجيدية للقدر فظَّة، وتصبح الحياة والتراث المؤثِّر عرفًا مسطحًا.

(٤) المدح وظهور الأخطل

وجَّهت سياسات الدولة الكثيرَ من شِعر العصر الأموي، وشجَّع الخلفاء ووُلاتهم كتابةَ مدائح تساعد على تقوية الدولة وغرْسِ الرهبة والخشوع في النفوس تجاههم. كانت الطبقة الحاكمة الجديدة، تعتبر الشعراء دعاةً ومسلِّين. ومنذ ذلك الوقت، بدءُوا يرون الشِّعر مزيَّةً تتركز حول طبقتهم وتدعمها، لكنَّ هذا لم يمنع الشعراء من النَّظم أيضًا للجمهور الواسع للشِّعر، ونناقش هذا فيما بعد في هذا الفصل.

كان الهدف من المدح خلقَ صورةٍ للشخصيات المرموقة. وجد مفهوم النُّبل خصائص كثيرة، الأصل النبيل وتفوُّق شخصيةٍ تجسِّد الشجاعة والإحسان والرأفة والعظمة والحكمة؛ خصائص نموذجية للذِّكر موروثةٌ من الجاهلية، لكنها تكتسب بسرعةٍ أبعادًا جديدة في إطار الإسلام وعظمة المَلَكِيَّة الجديدة. وكانت الخصائص الجسدية، تعتبر نظائر للخصائص الروحية. وصارت النبرة الجديدة التي يخاطب بها الخلفاء شرطًا أساسيًّا. انتقد عبد الملك بن مروان البيتَ الشهير لجرير يهجو الأخطل:

هذا ابنُ عمِّي في دِمَشْقَ خليفةً
لو شئتُ ساقَكُمُ إليَّ قَطِينَا٤
ردًّا على البيت علَّق عبد الملك: «ما زاد ابنُ المراغة على أن جعلني شُرطيًّا له، أمَا إنَّه لو قال: «لو شاء …»؛ لسُقتُهم إليه كما قال.»٥

أصبح المدح طريقةً يمكن للشاعر أن يكسب بها رزقه، لكنه لم يحمل الوصمة التي يحملها في العصور الحديثة. لم يشكَّ الرجال في حقِّ كبار القوم في تلقِّي التحية والثناء.

ضمْنَ الشعراء الكبار في العصر الأموي، ارتبَطَ اسمُ الأخطل بشكلٍ أقوى بالمدح الرسمي. وكان يسمَّى «شاعر بني أمية»، وحافَظَ على إخلاصٍ دائم للأُسرة الحاكمة، مادحًا الخلفاء من يزيدَ بن معاوية، الذي مدحه وهو لا يزال وليًّا للعهد، إلى الوليد بن عبد الملك، الذي سقطَت الدولة في عهده.

دخَلَ الأخطل بلاطَ بني أمية على يد كعب بن جُعيل، شاعر مسلم كبير من تغلب، قبيلة الأخطل. ثار غضب يزيد بن معاوية من الشاعر الأنصاري، عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، الذي كتب قصائد حُب في رملة، ابنة معاوية، ليزعج أباها وأُسرتها. هذا النوع من الشعر، الذي يتمُّ فيه التلميح إلى نساء الخصوم، استخدمه حسَّان نفسه قبل الإسلام في نزاعه مع قيس بن الخطيم، وهو شاعرٌ آخر من المدينة من قبيلة الأوس. بإلقاء الشكوك حول شرف المرأة، برهن الشاعر على عجز رجالها عن حمايتها. في هذه الحالة، طلَبَ يزيد من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار، فاعتذر كعب وقدم الأخطل بدلًا منه، الذي كان قد خَبرَ هجاءَه اللاذع بنفسه. كتب الأخطل هجائيةً قصيرة حادَّة عن الأنصار، قال فيها:

ذهبتْ قريش بالمكارم والعُلا
واللؤمُ تحتَ عمائمِ الأنصارِ٦

ذهب الأنصار إلى معاويةَ معترِضين، فوَعَدهم بقطعِ لسان الشاعر، لكنَّ يزيد تدخَّل لصالح الشاعر؛ فعفا معاوية عنه. واستمرَّت الصداقة بين يزيد والأخطل حتى وفاة يزيد.

الأخطل أشهر الشعراء العرب المسيحيين قبل العصور الحديثة. وكان، إضافةً إلى ذلك، أحدَ الشعراء الثلاثِ الكبار في جنس النقيضة. رغم أنه كان الأكثرَ تقليدية بين كبار شعراء العصر الأموي؛ فإن هذه التقليدية لم تقمع فرديَّته. اعتمد على شعراء الجاهلية، ليس فقط في الأسلوب والصورة، لكنْ غالبًا أيضًا في بنية قصيدته. كان مفعمًا بأصداءِ كعب بن زُهير والنابغة والأعشى، وكان فخورًا بقبيلته، تغلب، التي انتصرتْ في الكثير من المعارك التي كانت تتفاخر بها في أيام الجاهلية.

كان الأخطل مسيحيًّا، وهذا مهم عند تحليل استخدامه للغة؛ لأنه لا يبدو أنَّه تأثَّر كثيرًا باللغة الأدبية المتغيِّرة التي قدَّمها القرآن. صحيحٌ أنه كثيرًا ما أورد كلماتٍ وصورًا من المعجم الإسلامي الجديد، واستفاد من الإشارات الإسلامية ليعزِّز أفكاره، لكنَّ هذا لا يشهد على معاصرةِ لغته الشِّعرية عمومًا. لغته الشعرية الأساسية، لا تزال لغةَ الجاهلية، ومرتبطةً بالتقاليد الشعرية الجاهلية.

لكنْ رغم استخدامه للتقاليد الشعرية الجاهلية بكثرة، يعكس استخدامه للتراث، في مستواه الأكثر عمقًا، قبضةً ضعيفة على أبعاده الأكثر رمزية. تبنَّى الموتيفات والصور القديمة دون أن يستطيع حقًّا استيعابَ الخبرة الفنية الكاملة. وهو أمرٌ لا يدعو للدهشة؛ لأنَّ خبرته كانت مختلفةً بشكلٍ قاطع. وكانت سياسات الدولة عنصرًا لا ينفصل عن شعره. وكان الوضع المزعزَع لقبيلته في العالم الإسلامي المزدهر؛ بؤرةً أخرى يدور حولها شِعره. وورَّطه هذا في شِعر من نوعٍ جديد ملتزم اجتماعيًا. في هذا الشعر لم تعُد تقاليد الجاهلية بقوتها البِكر مركزيةً في رؤية الشاعر للحياة. ولم يفشل الفنَّان في داخله في أن يفتتن بأفضلِ ما في الشعر القديم من الصور والوسائل الأسلوبية؛ لكنه، وقد فقد بعض مضامينه السابقة، أصبح وصفيًّا بدل أن يكون دلاليًّا.

هكذا، رغم الميل إلى استدعاء بعض الجوانب الشكلية والثابتة لتقاليد الجاهلية في فقراتٍ وصفيَّة؛ استمرت في هذا العصر في شِعر الأخطل وآخَرين، لم يتَّسم هذا الشِّعر بتماسُك القصيدة الجاهلية الرائعة باستثناءِ شِعر ذي الرُّمة (٧٧–١١٧ﻫ/٦٩٦–٧٣٥م). كتب شعراء كبار آخَرون، مثل جرير والفرزدق، قصائدَ مفكَّكة متعدِّدة المواضيع إلى حدٍّ كبير. ويحتوي الكثير من قصائدِ الفرزدق وجرير على موضوعَين أو أكثر غير مرتبطَين ظاهريًّا. وفي وقتٍ لاحق، تمَّ تصحيح هذا التفكُّك بقاعدة «حُسن التخلص»، أي ابتكار علاقاتٍ منطقية أو حتى عِلِّيَّة لصَهْر مختلف مواضيع القصائد متعدِّدة المواضيع في وحدة. وهذه العناصر المترابطة، لا نفتقدها دائمًا في شِعر الأخطل؛ لأنَّ إدراكه للشِّعر القديم كان شديدًا. وإضافةً إلى ذلك، يمكن للنقد الحديث غالبًا قراءة الروابط السيكولوجية في قصائدَ تبدو متعدِّدة المواضيع ومفكَّكة. وتمثِّل ذلك بشكلٍ مناسب إحدى القصائد المبكِّرة للأخطل، نظَمَها بعد الهروب من دمشق خوفًا من عقابِ معاوية. مقدمة القصيدة مستوحاةٌ من زيارة الشاعر لسعيد بن بنان، وقد غادَرَ موضعه قائلًا:

وكيف يُداويني الطبيبُ من الجَوى
وبرَّة عند الأعورِ بنِ بَنانِ
أتجعلُ بَطنًا مُنتنَ الرِّيحِ مُقفرًا
على بطنِ خَودٍ دائمِ الخَفَقانِ٧

ليست إيماءةً غريبة، بل تعبيرًا عن كدرٍ حقيقي في رؤية الجمال والقبح يلتهمه، لكنَّ الشاعر لديه مخاوفُ أخرى في عقله، وفي القسم التالي الجديد يعترف بخوفه وقلَقِه:

خليليَّ ليس الرأيُ أنْ تَذَرانِي
بدويَّةٍ يعوي بها الصَّدَيانِ٨
البومة طائرٌ ليليٌّ يرتبط بالخراب والأماكن المهجورة، والهامة طائرٌ أسطوري اعتقد العرب قبل الإسلام أنه يخرج من رءوس القتلى ويبحث عن الانتقام. ثم يواصل ليصِفَ لقاءه بالذئب (رمز الجوع) والغراب (نذير الانفصال والخراب). يُبقيانِه أرِقًا، ورغم سيفه اليماني الحادِّ أصابه الهلع. يتنافسان على الطعام الذي يُلقيه، يلتقطه الغراب ولا يترك فرصةً للذئب. يحلِّق أحيانًا، وأحيانًا يمشي أو يقفز. أيَّة حرية يتمتع بها هذا الطائر المفترِس، وكم تمتلئ الأرض بالمتناقضات! القبح يلتهم الجَمال، وفقط الشرِس والعدواني يقدِرُ على النجاح، لكنَّ لحظةَ اليأس لا تبقى؛ لأنَّ الخوفَ يدفع الشاعرَ إلى الهروب:
ولمَّا رأيتُ الأرضَ فيها تَضايُقٌ
ركبتُ على هولٍ لغيرِ أوانِ٩

ثم يأتي الوصف المعتاد للناقة، وبعد ذلك مباشرةً يتحدَّث عن محنته، والتهديدات التي تلقَّاها، والثقة التي يضعها في يزيد. ثم يأتي مشهدُ الجفاف؛ حيث تحتجُّ حتى الرمالُ، وطائرٌ يلفت الأنظار بقدرته على العثور على ما يبحث عنه. لا يستطيع العثور على ماء؛ فيهجر صغاره، وبيضها الذي فقس حديثًا لا يزال أصفرَ من المُحِّ. ثم فجأةً يبدأ الشاعر الحديث عن سِباق خيل يفوز فيه حصانُ يزيد؛ ممَّا يُشير بطريقةٍ مُلتفَّة أنَّ كفيله، يزيد، أحدُ الفائزين بالطبيعة ويُعتمد عليه عند الحاجة إلى مساعدة.

العنصر الشخصي جدًّا الذي نجده في نونية الأخطل؛ لا يوجد في الكثير من قصائد الشاعر. لم يتورط، على ما يبدو، في مآزقَ كثيرة، ولم يحرِّكه الموت عمومًا. تعرض بعضُ القصائد بشكلٍ عشوائي شخصيةً شيِّقة ومرحة ومزعجة إلى حدٍّ ما، تعكس حبَّه للخمر والنساء والشباب. تبدأ داليَّته القصيرة بالبيت التالي:
شربْنَا فمتْنَا مِيتةً جاهليةً
مضى أهلُها لم يعرفوا ما محمَّدُ١٠

وهو مثالٌ مهم لمقاربته الذاتية للخبرة، واللامبالاة أحيانًا.

لم ينظم الأخطل مراثي. حين مات يزيد، راعيه الكبير، كانت قصيدته عن موته غيرَ مثيرة. وحتى حين مات ابنه، لم يكتب أيَّ شعر إحياءً لذكرى موته. كان اهتمامه الوحيد بالموضوع يكمن في انشغاله الدائم بضياع الشباب والقوة.

الأخطل أحد أهمِّ شعراء العربدة في الشِّعر العربي. رغم أنه تعلَّم بشكلٍ كبير على أعمال أسلافه الجاهليين، مثل الأعشى وامرئ القيس وحسَّان بن ثابت وعدي بن زيد، فإنَّ شِعره في الخمر أصيلٌ وعاطفي. لم يحقِّق التطور الذي حقَّقه أبو نواس بعد ذلك، لكنَّ أبا نواس يدين للأخطل بأغاني العربدة. تُصوَّر شخصيةُ الأخطل، في تحديده لتأثير الخمر على الشارب:

فقام يجرُّ البُردَ لو أنَّ نفسَهُ
بكفَّيه من ردِّ الحُمَيَّا لخَرَّتِ
وأدبَرَ لو قيل: اتقِ السيفَ لم تُخَلْ
ذُؤآبتُه من خشيةٍ إقشعرَّتِ١١

الوصف من أقوى نقاط الشاعر. يقدِّم صورًا دقيقة من الحياة، غالبًا ما يصوِّر مشاهد متحركة. ومن أمثلة الصور الأخيرة هجائيته لابن بدر الفزاري؛ حيث صوَّر القائد الهارب تصويرًا هزليًّا:

ونجَّى ابنَ بدرٍ ركضُهُ من رِماحِنا
ونضَّاحَةُ الأعطافِ مُلهبَة الحُضْرِ
إذا قلتُ نالتْه العوالِي تقاذَفتْ
بهِ سَوْحَقُ الرِّجلَينِ صائبةُ الصَّدرِ
كأنَّهما والآلُ ينجابُ عنهما
إذا انغمسا فيه يعومان في غَمْرِ
يُسِرُّ إليها والرِّماحُ تَنُوشُهُ
فدًى لكِ أمِّي إنْ دأبتِ إلى العصرِ
فظلَّ يفدِّيها وظلَّت كأنَّها
عُقابٌ دعاها جُنحُ ليلٍ إلى وكْرِ١٢
وكثيرًا ما يبتكر الأخطل صورًا ممتدَّة تستمر في عدَّة أبيات، وقد تأثَّر في ذلك بالنابغة. الأبيات التالية من رائيَّته الشهيرة يمدح عبد الملك:
وما الفراتُ إذا جاشتْ حوالِبُهُ
في حافَتَيهِ وفي أوساطِهِ العُشَرُ
وذعذعتْهُ رياحُ الصيفِ واضطربتْ
فوق الجَآجِئ من آذيِّهِ غُدُرُ
مُسْحَنْفِرٌ من جبالِ الرُّوم يسترُهُ
منها أكافيفُ فيها دونَهُ زوَرُ
يومًا بأجودَ منه حينَ تسألُهُ
ولا بأجْهَزَ منه حينَ يُجْتَهَرُ١٣

وفخامة الموسيقى في أشعاره، سمةٌ أخرى كبيرة من سمات الأخطل. هناك قوةٌ ذكرية في أشعاره تتجاوز قوة الفرزدق في قدرتها على الجمع بين المعنى وسيمفونية الأصوات، وهي خطابيةٌ أكثر منها غنائية. اختيار الكلمات يناسب تيماته الأساسية، المدح والهجاء والفخر، التي تتطلَّب نبرةً عالية ووحدةً إيقاعية مرتفعة. يختار عمومًا البحورَ الأطول، بالضبط مثل معاصِرَيه الكبيرَين، جرير والفرزدق. وكان الأخطل أكثر وعيًا بالوزن والقوة الرنَّانة من خفَّة الحركة.

لم يكُن شاعرَ الانفعال أو المأساة. راوغتْه عمومًا هذه الفروق الدقيقة في الخبرة الإنسانية، لكنَّه تعامَلَ مع الحالة الإنسانية في أبعادها المتعلِّقة بالخوف والزهو ومرح الحياة. ورغم تقليديته الأساسية، حافَظَ على تفرُّد متميِّز. تشير الطريقة التي يتريَّث بها شعرُه في التجربة الجمالية لجمهوره إلى تميُّزه، وبحَثَ العلماء لتوضيح هذا البُعد خاصة. لعب شعره دورًا معقدًا في عصره. تزوَّد بلغةٍ شعرية ترتكز على حيوية الجاهلي وقوته، بدون حذلقةِ بعض معاصريه. حافَظَ على التراث الجاهلي أساسًا في جانبه الوصفي، مستخدِمًا موتيفاتٍ كانت تفقد أهميتها بسرعة. ساعَدَ بشكلٍ كبير على ترسيخ فنِّ المدح بوصفه ضرورةً مصاحِبة للدولة والمؤامرات السياسية، وأيضًا على ترسيخ فنِّ الهجاء، الذي وَصَل إلى مستوًى فني مهم في تلك الفترة، لكنَّ الخاصية الإيجابية جدًّا في شِعره، تكمُن في حقيقة أنه كان كنزًا من الصور، تمَّ التعبير عنها بالصوتِ والحركة.

(٥) الفرزدق وجرير

إلى جانب الأخطل وجرير، يعتبر همام بن غالب بن صعصعة (٢٤–١١١ﻫ/٦٤٠–٧٢٩م تقريبًا) من أبرز شعراء العصر الأموي. الظروف الشخصية والانتماءات القبَلية وضعَت الأخطل مع الفرزدق في جانبٍ ضد جرير في عِراكٍ استمرَّ طوال العمر، تم التعبير عنه في هجاء يأخذ شكلَ النقائض التي ذكرناها من قبل. نناقش ذلك فيما بعد، لكنْ علينا أن نوضِّح هنا أنَّ النقاد، والشعراء أيضًا، كانوا يعتبرون الهجاء من الأغراض الأربعة الرئيسية للشعر الجيد، والأخرى هي المدح والفخر والوصف. ولأنَّ الشعراء الثلاثة جمعوا في شِعرهم كلَّ الأغراض الأربعة، اعتُبروا أعظمَ شعراء العصر الأموي.
كان الفرزدق من أصولٍ بدوية، نشأ بين بني تميم وأقام في البصرة، حيث قضى معظم حياته. كان رجلًا فظًّا وفجًّا، لم تجعل حياته في مدينةٍ سلوكَه أكثرَ تحضُّرًا. مثل الكثير من رجال القبائل الذين عاشوا في المدن، حافَظَ على مُثُله الجاهلية المتمثِّلة في المروءة وحُسن الضيافة والكرم والحماس القبَلي والأصل النبيل. ومجَّد هذه المُثُل في فخره ومدائحه، مستخدِمًا تعبيراتٍ بلاغيةً ونبرةً خطابية تفضي بطبيعتها إلى أداءٍ صعبٍ ورنَّان. وحيث إنَّ المُثُل التي صوَّرها كانت، ببعض الاختلاف الحتمي، جاهليةً؛ فقَدْ حافظتْ بشكلٍ طبيعي إلى حدٍّ كبير على صياغتها السابقة، لكنْ يبدو أن الفرزدق تأثَّر أكثر ممَّا تأثر الأخطل بتغيُّر اللغة في ذلك العصر، وكلَّما ابتكر أو صوَّر خبرةً شخصية؛ تجلَّى الصراع الصعب لتحقيق هذه اللغة الجديدة. ويمكن تحديده في صياغاته الخرقاء المسهِبة والنثرية أحيانًا. وكلَّما كافَحَ بوعيٍ ليبرهن على براعته اللفظية، التي تتكرَّر كثيرًا، توضِّح لغته تراكُمًا للغريب، الناتج عن غِلظةِ الأسلوب وتنافُره، على العكس من الأسلوب الأكثر اتساقًا في شعر الجاهلية، وهو شعرٌ رسخ في لغته بشكلٍ أفضل.
وصَفَه معاصِروه بأنه شاعر «ينحت من حجر»، بينما وُصِف منافِسه، جرير، بأنه شاعر «يغرف من بحر».١٤ ويشير هذا إلى غِلظةِ أسلوب الفرزدق والقوة البادية فيه، بينما تبدو الكلمات متناسبة معًا مثل كُتلٍ هائلة موضوعة جنبًا إلى جنب. هناك القليل من التدفُّق الشجي في شعر جرير، أو موسيقى الأخطل، لكنْ من المؤكَّد أنه يفتقد بلاغتهما الرائعة.
التغير في نظام بناء الجملة لافت في شعر الفرزدق، ويوضِّح شعلة من الإبداع، لكنه يعكس غالبًا عجزَ الشاعر عن التعامل مع أعباءِ ترسيخ نمطٍ جديد لتكوين جملةٍ أكثر اتساقًا مع العصر الجديد، بينما يتراكم الغريب قَدْر المستطاع. كانت الرغبة الشديدة في مَلءِ الشِّعر الجديد بالغريب أكبرَ في البصرة، حيث يعيش أفضلُ علماء اللغة. يُرى هذا التغير، في أفضل أحواله، في أبيات مثل:
إذا شئتُ غنَّاني من العاجِ قاصفٌ
على مِعصَمٍ ريَّانَ لم يتخدَّدِ١٥

أو:

وإذا العيونُ تكارَهتْ أبصارُها
وجرى بهِنَّ مع السَّرابِ قِفارُ١٦

وهذا التغير، في أسوأ أشكاله، يُنتج تفاهةً وإسهابًا وترهُّلًا، مموَّهًا بكلماتٍ ضخمة غير مألوفة:

إنَّ الملامةَ مثلُ ما بكَرَتْ بهِ
من تحتِ ليلَتِها عليكَ نَوَارُ١٧

بناءٌ أخرقُ بالغ التعقيد. لا يكشف شِعره دائمًا عن اختيارٍ مناسب للمفردات؛ حيث تبدو الكلمةُ حتميةً، مثل:

تهادَى إلى بيتِ الصلاةِ كأنَّها
على الوعثِ ذو ساقٍ مَهيضٍ كَسِيرُها١٨

في البيت التالي يستخدم ما لا يقلُّ عن ثلاث بِنًى:

إذا حنَّت نَوارُ تُهيجُ منِّي
حرارةَ مثلِ مُلتَهِبِ السَّعيرِ١٩

شعر الفرزدق سجلٌ غني بأحداث عصره. وهو في هذا يتفوق على كل معاصريه. دخل معترك الحياة العامة بتصميم قوي وكان بصريًّا بارزًا، كوَّن أصدقاء (وأحيانًا أعداء) من الولاة الأمويين في المدينة. كان رجلًا طموحًا، فخورًا بقبيلته — تميم — وأبيه غالب وجَدِّه صعصعة، والاثنان معروفان بحُسن الضيافة والمروءة والسُّلطة في قبيلتهما. واعتبر نفسه مدافعًا عن شرف تميم في العالَم وسمعتها. عاش حياةً طويلة وزاخرة، وظلَّ يكتب الشِّعر حتى النهاية.

وكانت الحياة الشخصية للفرزدق مليئةً بالأحداث، ومضطربةً مثلَ حياته العامة. يسجِّل شعره زيجاتٍ كثيرةً، ستًّا على الأقل وربما سبعة. يبدو أنَّ علاقته ببعض زوجاته كانت سيئة، وكانت زوجته النَّوار بنت أعْيُن، ابنة عمٍّ له من بعيد، أكبرَ مصدرٍ لبؤسه. يبدو أنها وجهت صفعة قوية لكرامته ورجولته؛ لأنَّ شعره يسجِّل كبرياء جريحًا على النقيض من شخصيته القوية. تزوجها بخدعة، فذهبت على الفور إلى المدينة واشتكت للخليفة، عبد الله بن الزبير. لا بد أنَّ النَّوار أُقنعتْ أو أُرغمتْ على البقاء مع الشاعر؛ لأننا نرى حياتها معه موصوفةً في شِعره. نرى النَّوار تتجسد فتاةً غاضبة، وزوجةً غير راضية تُعيِّره بشيخوخته وبياضِ شِعره، وأمًّا ثكلى، وزوجةً غيورة، ثم امرأةً ناضجة تستثيره ليطلِّقها. طلَّقها في حضور المحدِّث الشهير الحسن البصري (ت: ١١٠ﻫ/٧٢٨م)، ثم ندم على الطلاق («وكانت جنتي فخرجتُ منها»)٢٠ وقارن نفسه بمَن فَقَأ عينَيه: «وكنتُ كفاقِئٍ عينَيه عَمدًا.»٢١ ويبدو أنه لا عزاء له في هذه الرائية، التي نظمها بعد أن طلَّقها مباشرة. ولا بد أنها كانت تجربةً صادمة له؛ لأنَّ شبحها طارده بعد ذلك. كان اشتياقه لها بلا نهاية، وطاف شبحها حوله في الليل. وزعم بعد ذلك أنه استطاع تجاوُزَ كلِّ ارتباطات الشباب إلا حُبه لها. يخاطبها في إحدى قصائده المتأخِّرة:
فَهِمْتَ بها جهلًا على حينِ لمْ تذرْ
زلازلُ هذا الدهرِ وصلًا لواصِلِ
ومن بعد أن كمَّلتَ تسعين حجةً
وفارقتَ عن حِلم النُّهى كلَّ جاهِلِ٢٢
قصيدة نظمت في سنة ٩٦ﻫ/٧١٤م، بها وصفٌ رمزي لعلاقته بنَوارَ، التي تُصوَّر بأنَّها سيدةٌ جميلة لا ترحم، بجانب تجربته مع ذئبٍ يهاجم قافلةً نائمة. مثل قصيدة الأخطل عن الذئب قبل ذلك بسنواتٍ كثيرة. هذه القصيدة نونيةٌ من الطويل، وتصوِّر شاعرًا يشترك في طعامه مع حيوان لا يشبع. لا يشعُر الفرزدق في هذه القصيدة بخوفِ الأخطل من الذئب، لكنه يصوِّر نفسه مسافرًا كريمًا بصحبة الذئب. نَوارُ الحضور المؤرِّق في هذه القصيدة، نَوارُ الغادرة المتقلِّبة (وقد صارت في منتصف العمر) هي التي عذَّبته. وعجَّلت بشيخوخته «وأوقدتِ لي نارًا بكلِّ مكانِ».٢٣

تبدو بقيَّة القصيدة، عن تيمةٍ سياسية، غير مرتبطة بالموضوع، لكنها في الحقيقة تؤكِّد الفرزدق متحدثًا باسمِ تميم العظيمة وتخلق تقابُلًا حادًّا مع عاشقٍ فاشل يعاني.

لم يكُن الفرزدق شاعرَ حنانٍ وعاطفة؛ لم يجرِّب الأسى الرومانسي الذي سيطر على معظم شِعر الحُب في العصر الأموي. كان الفرزدق شهوانيًّا، فاسقًا. وحَّد بين شهوات الجسد والإعجاب بالجمال، لكنَّ مشاعره لم تتَّحد بأيِّ تبجيلٍ للمرأة. استقبل موتَ زوجته، حدراء، بِبُرود؛ لأنَّ موت المرأة، في رأيه، أخفُّ فجيعةٍ يمكن تحمُّلها، لكنَّه حافَظَ على تبجيلٍ عميق للخصائص التقليدية لأخلاقيات المرأة.

كثيرًا ما تباهى بالنجاح في مغامراته مع متزوجاتٍ، لكنْ مرةً أخرى لا نجِدُ هنا معالجةً طريفة ودافئة كما في حكايات عمر بن أبي ربيعة عن مغامراته مع النساء.

مهَّد الفرزدق الطريق لصدق المشاعر، لكنَّ المشاعر التي عالجها حقًّا لم تكُن دائمًا عميقة جدًّا. كانت مشاعره تتضخم بالعظمة حين يتحدث عن مجدٍ شخصي أو قبَلي، أو يصوِّر مثل الرجولة في مدائحه. يمكن أن يحدث الشيءُ نفسه في هجائياته؛ حيث يستحضر أمثلةً سابقة لهذه المُثُل المتعلِّقة بالشرف والعظمة.

يوجِّه شعرَه غالبًا رأيٌ منطقي، ويستخدم أحيانًا كلماتٍ كثيرةً جدًّا، مسئولة عن الفحوى النثريِّ المرهق لشعره. في عصرٍ يلفت النظر بغلبة العاطفة في الشعر، قد تُفسَّر النزعة غير العاطفية عند الفرزدق بالحياة الفكرية في البصرة التي شارك فيها بحماس. لكننا نرى أن تحفُّظه وانعدام عاطفيته، وإحساسه العميق بقوته، ربما أثَّر على هذا أيضًا.

شعر الفرزدق اعترافيٌّ بصدق أكثر من شعر أيٍّ من معاصريه. كان يملك الشجاعة، على سبيل المثال، للاعتراف بذنبه:

ثلاثين عامًا ما أرى من عَمايةٍ
إذا بَرقَتْ إلا شَدَدتُ لها رَحْلِي٢٤

نأسف لأنَّ الشاعر لم يكتب بمزيدٍ من التوهُّج. ومن الناحية الأخرى، وكان أسلوبه أقلَّ اتِّسامًا بالحمق العارض، ربما كانت عاطفته المقيَّدة ترياقًا مناسبًا للانطلاق المُفرِط للشِّعر في تلك الفترة.

يعتبر كثير من النقاد الفرزدقَ شاعرًا تقليديًّا، لكنَّ شِعره يكشف عن صراعٍ للابتعاد عن هذه التقاليد. فقدت الافتتاحياتُ في بعض قصائده ارتباطَها بالموضوع، وهي مجرد تقاليد لا يتعامل الشاعر معها بجديَّة. ترى الاستخدامات نفسها ذات الصبغة التقليدية في أشعار الفرزدق عن الحصان والناقة. هذا الانحراف عن الاستخدام الجاهلي مهم جدًّا لدراسة الشعر الأموي؛ لأنه يشير إلى ميلِ هذا الشِّعر للصراع باتجاه الحقيقة والصِّدق كما تنعكس في خبرةِ عصرٍ مختلف، حيث يعيش معظم الشعراء في المدن.

بينما يكشف شعر الفرزدق عن شخصيةٍ قوية ومحددة جيدًا، وتفاصيل أحداث حياته، يكشف شعر جرير بن عطية (٣٣–١١٤ﻫ/٦٥٣–٧٣٢م) عن شخصية متناقضة ولا يقدِّم إلا خطوطًا عريضة لتاريخه الشخصي. يحاول شعره، رغم بساطته الواضحة، توحيد العناصر المتصارعة، ومن الصعب تسوية تلك المتناقضات في كلٍّ واحدٍ متَّسق. كان جرير في الوقت نفسه هجَّاء لاذعًا هجا أكثر من أربعين شاعرًا من عصره، معرِّضًا إيَّاهم (وأحيانًا نساءهم) لأبشع هجماتٍ يمكن تصوُّرها، وغنائيًّا مصقولًا قدَّم شعر الحُب عنده نموذجًا لامرأة ذات حساسية رقيقة. يوضع شعره عن الحُب والمرأة بين أرقى شِعر الحُب في العصر الأموي.

يمكن من قراءة شعره الكشف عن بعض الحقائق بشأن رحلاته، والخلفاء الذين زارهم، وكبار المسئولين الذين عرفهم، وسجنه في المدينة، ومشاجراته، وموت زوجته وبعض أبنائه، وتفاصيل أخرى، لكن رغم هذه التلميحات المتناثرة لحياته الشخصية، من الصعب اكتشاف اهتماماته وطموحاته الحقيقية. اهتمَّ بالفخر والتناحر القبلي، لكن القبيلة التي مجَّد شرَفَها لم تكُن عشيرته، كليب، ولم تكُن حتى قبيلته، تميم (المُضَرية)، بل قيس عيلان المضرية.

شِعر الحُب الذي استهلَّ به جرير قصائده لافتٌ برقته وعذوبته، لكنه اعترف بأنه لم يقع في الحُب قَط، وهو تصريح يمكن أن نصدِّقه؛ لأنَّ الشعر، رغم رقته وحزنه أحيانًا، يفتقر إلى الفتنة العاطفية. وعرَفَه معاصروه رجلًا تقيًّا، ويقال إنه لم يكُن يتحدث إلى أحدٍ بعد الفجر، وكان يقضي الوقت حتى شروق الشمس في التأمل وربما في قراءة القرآن. ومع ذلك، لم يكتب شعرًا دينيًّا، وهجائياته، كما ذكرنا من قبل، لم تكن قاسيةً ولاذعة فقط، كانت خَشِنةً بشكلٍ لا ديني. ورغم التفاخر المستهتر في هجائياته، تئنُّ بعض مدائحه تضرُّعًا من أجل المكافأة. لم يحقِّق قَط المكانة الاجتماعية والسياسية التي حقَّقها الفرزدق. انحدر من أصلٍ متواضع إلى حدٍّ ما، ويبدو أنه عانى أحيانًا من الفقر. لم يكن أبوه يتمتع بالثراء أو المكانة في عشيرته، كليب، وكانت لا تتمتع بالمكانة الرفيعة لبعض الأفرع الأخرى من تميم. تزوج من عدَّة نساء، ولدْنَ له دستةَ أبناء، وكان لديه بعض الجواري، لكن لا يوجد تلميحٌ، في شعره أو في القصص التي حُكيت عنه، إلى شهوانيةٍ أو انشغال عميق بالنساء. يبدو أنه لم يُنِر رؤيته للحياة والعالَم إلا طموحه في أن يكون شاعرًا عظيمًا.

ثمَّة وجهٌ مذهِل بالقدر نفسه في الشخصية المعقدة للشاعر، تكشف عنه قدرته على التناوب بنجاح بين نظامَين من الأسلوب الشعري بدون خلطٍ بينهما. استخدم أحيانًا النظام الجاهلي لتركيب الجملة واللغة، وفي أحيانٍ أخرى لغةً حضارية معاصرة، تحمل بالتأكيد نبراتٍ ونغمات جديدة. واحتوتْ هذه اللغة الثانية أحيانًا على عباراتِ تخاطُب مختلفة تمامًا عن محاكاة الخطاب في الجاهلية. إضافةً إلى ذلك، لا توجد صيغة أو قاعدة صريحة تقدِّم تفسيرًا للتذبذب بين الأسلوبَين. على سبيل المثال، كان أكثرَ مَيلًا لاستخدام أسلوبٍ معاصر حين يكتب شِعر الحُب والرثاء وحتى المدح، وأكثرَ ميلًا للجوء إلى اللغة الشعرية الجاهلية حين يكتب الهجاء. ومع ذلك، بعض هجائياته بأسلوبٍ وصياغة معاصرة بشكلٍ لافت. ويكون في أروع حالاته في بحر الوافر. كان هذا البحر لا يزال جديدًا ولا يحمل أصداءَ كبارِ شعراء الجاهلية كما كانت الحال مع الطويل والبسيط؛ لذا كان الوافر يحمل إمكانيةً كبيرة لإدخال أسلوبٍ أقربَ إلى لغةِ الحديث في العصر الأموي. شَعرَ جرير بالحريَّة التي وفَّرها هذا البحر في ذلك العصر، واستفاد منه تمامًا، واستخدمه في خمس شعره تقريبًا. ومع ذلك، حتى وهو يكتب في الطويل، أكثر بحر استخدمه في شعره، وظَّف أحيانًا ابتكارات بناء الجملة والتعبير نفسه الذي وظَّفه في الوافر.
وهكذا يقدِّم شِعر جرير إحدى التجارب الكبرى، وربما التجربةَ الأعظم، في الأسلوب الشعري في العصر الأموي. كتَبَ آخرون مثل عمر بن أبي ربيعة وغالبية شعراء الحجاز لغةً جديدة، لكن موضوعهم كان محدودًا نسبيًّا، ويركِّز على شِعر الحُب، وهو بطبيعته غنائي وبالتالي أقرب في الروح إلى اللغة السائدة. على عكسهم، كتب جرير الكثيرَ من المدح والفخر والهجاء، وهي مواضيعُ مرتبطةٌ ببعث الأسلوب الجاهلي؛ لاعتمادها على موتيفاتٍ جاهلية في المعنى والصورة والبلاغة. يكمن الإنجاز الكبير لجرير في قدرته على نَظْم معظمِ مديحه وجزءٍ من هجائه باللغة الجديدة. وبهذه الطريقة، وبطُرقٍ أخرى، انتهك كلَّ القواعد. هاجيًا قبيلة تميم، قال:
أبُوكَ التَّيمُ ليسَ بخِنْدِفِيٍّ
أرَابَ سَوَادُ لَونِكُمُ أرَابَا٢٥

مادحًا الخليفة وليد بن عبد الملك، قال:

ذو العرشِ قدَّر أنْ تكونَ خليفةً
مُلِّكْتَ فَاعْلُ على المنابرِ واسْلَمِ٢٦
هذا حضري جدًّا، ومن المؤكَّد أنه أبعدُ عن استخدامه السابق. يستخدم جرير النبرات الجديدة للخطاب المعاصر ببراعة، وهو خطابٌ تأثَّر كثيرًا بأسلوب القرآن، بتكراره للكلمات المفردة والعبارات، ولحيلٍ أسلوبية مِثل التغيُّر المفاجئ من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب. في الأبيات التالية محاكاةٌ لحوارٍ يختلف تمامًا عن الحوار في قصائدَ مثلِ معلَّقة امرئ القيس والرائية الشهيرة لعروة بن الورد (ت: ٦١٦م تقريبًا):
أقول لصُحبتي لمَّا ارتحلنا
ودمعُ العينِ مُنهمرٌ سِجامُ
أتَمضونَ الرُّسومَ ولا تُحيَّا
كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
أقِيمُوا، إنَّما يومٌ كيومٍ
ولكنَّ الرفيقَ لهُ ذِمَامُ٢٧

في هذه الأبيات، تتغيَّر نبرته في البيت نفسه، بحيث يمكن ألَّا نضع فاصلةً فقط، بل نضع أيضًا فاصلةً منقوطة ونقطة. وهذا معتادٌ تمامًا مع أسلوبِ جرير وأيضًا شعراء آخرين مثل عمر بن أبي ربيعة، كما نرى بعد ذلك. ومع ذلك، كان عمَرُ شاعرَ مدينة، بينما أقام جريرٌ في صحراء اليمامة حتى تجاوز الخامسة والثلاثين. وذهب إلى البصرة ربما في ٧١ﻫ/٦٩٠م، حين أصرَّت قبيلته على قدومه ليتحدى الفرزدق على أرضه. وإنجازه اللغوي لافتٌ جدًّا لتحقيق هذا الغرض.

أصداء الشعراء الآخرين في شعر جرير، أقلُّ ممَّا في شِعر الأخطل أو حتى الفرزدق. قراءة جرير تعني قراءةَ عصرٍ جديد. وإضافةً إلى ذلك، يكشف جرير عن غريزته الشعرية الأصيلة بحقيقة أنه، على ما يبدو، لم يهتمَّ كثيرًا بالأبحاث اللغوية في البصرة. الاهتمام الشعري الذي قاده بشكلٍ طبيعي إلى استخدام الأسلوب المعاصر أبعَدَه أيضًا عن الاهتمامات غيرِ الشعرية بشكلٍ أساسي.

الصراع بين اللغتين جلَبَ إلى بعضِ شِعر الفرزدق أسلوبًا معقدًا وغريبًا، وهو ما يغيب عن شعر جرير. ينساب أسلوبه في كلِّ الأحوال تقريبًا بسلاسةٍ واتساق. مقاربته هادئة وتخلو، على ما يبدو، من التروِّي. يصِفُه معظم النقاد بأنه «تلقائي»، لكنَّ هذا يحجب اختيارًا دقيقًا للكلمات واهتمامًا خفيًّا بنقاء اللغة وتأثيرها الشعري. تنبثق التلقائية الأساسية في شِعره من حساسيته الشديدة لموسيقى الكلمات والعبارات، ويعتمد في تدفُّقه الموسيقي على حروف العلَّة وتكرار كلماتٍ مفردة وعباراتٍ أكثر ممَّا يعتمد على السجع والجناس.

لكنَّ هذا التغير في النبرة، في هجائياته والكثير من مدائحه، لا ينكشف. تبقى لغته جهورية ورنانة ومتغطرسة في هجائياته، تؤكدها موتيفات التبجُّح في فخر الجاهلية. تفشل أيضًا مدائحُ كثيرة في عرض تطوره النغمي الكامل، رغم ملاحظة أنه طوَّر — بدون شك، في القصائد الموجَّهة للخلفاء — نغماتٍ مميزة، أصبحت طريقةً راسخة للخطاب في المدح في العصر العباسي. يصِلُ تطوره النغمي الكامل في نسيبه ومراثيه، التي تحقِّق قدْرًا كبيرًا من التحضُّر والرقة. وساعد على ذلك التدفق الغنائي العذب لإيقاعاته وأساليبه المناسبة. قدرته على المناورة بتدفُّق إيقاعي يحاكي الكلام السائد يساعده على تحقيق نبرةٍ حميمية دافئة في بعض الحالات.

يعاد تأكيد المقدمات التقليدية في شعر جرير بموتيفاتٍ جاهلية، ترتبط بالأطلال والحُب. قد تكون المقدمات الطللية أحيانًا معقدةً جدًّا ورمزيةً بشكلٍ فعَّال فيما يتعلَّق بالمرور المؤلِم للزمن:

ولقد عجِبْتُ من الدِّيارِ وأهلِهَا
والدَّهرِ كيف يُبدِّلُ الأبدَالَا
ورأيْتُ راحلةَ الصِّبا قد أقصَرَتْ
بعدَ الوجيفِ وملَّتِ التَّرحَالَا٢٨

الوصف التقليدي للناقة محدودٌ جدًّا. كثيرًا ما يهمل جريرٌ هذا الجزءَ من التقاليد. وحتى حين يكتب عنه، يقتصد في تناوله في غالبًا. تُبعد نقاطٌ جديدة بالتأكيد انتباه هذا الشاعرِ عن انشغالٍ حقيقي بتقليدٍ يفقد أهميتَه بالنسبة لشعراء المدن في العصر الأموي. انتقاله من موضوعٍ إلى آخَر فُجائيٌّ غالبًا وغيرُ مترابِط، وهو شهادةٌ على حقيقةِ أنَّ الشعر الأموي لا يزال بريئًا من القواعد واللوائح التي أعاقت الشِّعر في عصرٍ لاحق.

لا يعبِّر شِعرُ جرير عن أيِّ تأمُّلٍ فلسفي عميق في الحياة أو حالة الإنسان. مقاربته عاطفيةٌ أو حدسية. على عكس الفرزدق، لم يقدِّم اعترافاتٍ قَط، لكنَّه، على عكسه أيضًا، أثرى مسارَ العاطفة في الشِّعر، وإن يكُن على حسابِ المنطق. لا يعكس شِعره عن الحُب أيَّ ارتباطٍ خاص بامرأةٍ معينة. وجَّهَ نسيبَه تعطُّشُه للجَمال متمثلًا في المرأة. وربما أعطاه اهتمامه بالغناء حافزًا إضافيًّا لكتابة شِعرِ حُب يتمتع بدرجةٍ عالية من الغنائية. يبدو أنه كان يكتب وعَينُهُ على مُطرِبي الحجاز، الذين غنوا له عدَّة مقطوعات. معلِّقًا على شِعر الحُب عند جرير يذكُر ابن قُتيبةَ أنَّ الفرزدق قال: «ما أحوجَه مع عِفَّته إلى صلابةِ شِعري، وما أحوجَني إلى رِقَّة شِعره لمَا تَرَون!»٢٩
وقال جريرٌ عن نفسه: «أنا مدينةُ الشِّعر.»٣٠ يمكن تلخيص أعظم خدماته للشعر الأموي في ثلاثِ نقط. أولًا: طوَّر لغةَ الشعر ونبرته وموسيقاه، خالقًا انسجامًا بين هذه العناصر والخطاب السائد وفنِّ الموسيقى والغناء، الذي كان يتطور بسرعة. ثانيًا: نظَمَ شِعرًا للجماهير العامة. رغم أنه كان من أوائل مَن مدحوا بني أميَّة، عَملَ أكثر من أيِّ شاعرٍ معاصر آخَر على نشرِ الشِّعر وجعْلِه أداةً ناجحة لتسلية الجمهور. واكتمل هذا أساسًا في هجائياته. ثالثًا: أدخَلَ بقدْرٍ كبير من النجاح، في هجائياته أيضًا، صُورًا تحمل رُوح الدعابة وذمًّا بارعًا. وكان هذا إنجازًا حقيقيًّا من منظور ميلِ معظم الشِّعر الكلاسيكي قبله إلى استخدامِ نبرةٍ رصينة وجازمة، وأحيانًا خطيرة.

(٦) عصر الهجاء

أدرك الفرزدق جيدًا أنَّ جريرًا تحوَّل عن مساره الحقيقي شاعرًا غنائيًّا وشاعرَ حُب، بالمشاجرات العقيمة مع الشعراء الآخَرين حين قال: «واللهِ لو تركوه لأبْكَى العجوزَ على شبابها، والشابَّةَ على أحبابِهَا، لكنَّهم هرُّوه فوجدوه عند الهِراش نابحًا، وعند الجراء قارحًا.»٣١ هذه المشاجرات، التي عبَّرت عنها هجائياتٌ راجتْ في العصر الأموي في العراق. وقَعَ جريرٌ، عاشقُ الجمال، في تناقضاتِ عصره. خلقت التوترات الكثيرة المتأجِّجة بين القبائل العربية التي استقرَّت في مدن العراق الحاجةَ إلى التنفيس. وتجلَّت هذه الحاجة من خلال حُب الإثارة واللهفة على التسلية. بصرف النظر عمَّا يمكن تقديمه لتفسير الهجائيات الأموية؛ تبقى أقوى تعبيرٍ عن احتياجٍ شعبي، وشهادة على أهمية جمهور الشِّعر في هذه الفترة. ولم يكُن الشِّعر قد أصبح حِكرًا على الطبقات الحاكمة.
اتخذ الشِّعر الهجائي في العراق أبعادًا مهمَّة في تلك الفترة. ووصَلَ الأمر لاعتباره جزءًا أساسيًّا من مؤهلات الشاعر، واعتُبر شعراءُ مثل ذي الرُّمة صغارًا؛ لأنَّهم لم يبرعوا في الهجاء ونظيره المدح. أنتَجَ العصر مجموعةً من الهجَّائين في العراق. شجَّع صعودُ طبقة ثرية من كبار رجال الدولة ظهورَ الشعراء المبتزِّين مثل الحكَم (ت: ١٠٠ﻫ/٧١٨م) والأُقيشر الأسدي (٨٠ﻫ/٧٠٠م) وآخَرين، متَّبِعين وسائل الحُطَيئة (ت: ٥٩ﻫ/٦٧٨م)، يبتزون أموالَ الأغنياء وأصحاب النفوذ مقابل المدح، وإلا هَجَوهم، وقد يدمِّر الهجاءُ سمعتهم. أصبح الهجاء موضةً بلغت ذِروتها في النقائض، ومن أبرزها نقائض جرير عن الفرزدق والأخطل. ودخَلَ الحلبة عددٌ كبير من الشعراء حين تبيَّن أنها تيمةٌ واعدة. حين يُنشد شاعرٌ كبير هجائيةً جديدة في المِربَد، تنتشر على الفور بين سكَّان المدينة والصحراء، وتنتشر عبْرَ العالم العربي كلِّه.

كانت النقائض فنًّا راسخًا من الجاهلية، وكانت تُستخدم في المنازعات الشخصية والقبَلية. في صدر الإسلام، أصبحت مهمَّةً بوصفها ردودًا حاسمة للشعراء المسلمين على الشعراء الوثنيين من قريش. واكتسبت في العصر الأموي أهميةً اجتماعية جديدة، جعلتْها وسيطًا للتعليقِ أكثرَ أهميةً بكثير.

نَشبَ الخلاف بين الفرزدق وجرير، والاثنان ينتميان لتميم، حين هُزم جريرٌ في الهجاء شاعرًا من مجاشع، عشيرة الفرزدق. أهان جرير في هجائياته نساءَ مجاشع، اللائي لجأنَ للفرزدق للدفاع عن شرفهنَّ. وهكذا بدأ أكبرُ شاعرَين في العراق أطولَ نزاع في الشِّعر العربي. نظمت نقائضهما، ويبلغ عددها مائةً على الأقل، على مدى أكثر من أربعين عامًا، ولم تنتهِ إلا بموت الفرزدق. أصبحت النقائض وسيلةً للتنافُس، تتجلَّى فيها المهارة الشعرية. كانت الجماهير العريضة تلتفُّ حول الشعراء، وكلٌّ منهم يقف في رُكنه في المِربَد، غالبًا في ملابسَ أنيقةٍ لهذه المناسبة. وكثيرًا ما كانت الجماهيرُ تنفجر في نوباتٍ من الضحك، وخاصةً حين يستمعون إلى هجاءِ جرير، الذي يمتلئ بانتقاداتٍ لاذعة وصورٍ كوميدية. بمرور الوقت، طوَّر الشاعران مشاعرَ متناقضةً تجاهَ بعضهما البعض. كلٌّ منهما كان يُعجب بفنِّ الآخَر وصموده في الحلبة. حُكيت قصصٌ عديدة عن المشاعر المتبادلة بينهما، وحين مات الفرزدق رثاه جرير.

ولا تتَّفق التواريخ الأدبية حول أسباب دخول الأخطل الخلافَ إلى جانب الفرزدق. كثيرًا ما كانت تغلب، قبيلة الشاعر، في حربٍ مع قيس، وكان جريرٌ يمجِّدهم. ويُحتمل أنَّ العِداء بين القبلتَين تسبَّب في النزاع بين الشاعرَين. ويحتمل أيضًا أنَّ تفضيل الأخطلِ لشِعر الفرزدق، كان حافزًا حقيقيًّا للنزاع. على أيَّة حال، لم ينتهِ النزاعُ إلا بموت الأخطل. ويبدو أن جريرًا لم يكُن يحمل المشاعر المتناقضة نفسها للأخطل، كما كان يحملها للفرزدق، وحين مات الأخطل هجاه بشراسة.

كان جريرٌ هدفًا لكثيرٍ من الهجَّائين الأُمويين. وربما لا يكون من قبيل الصدفة أنَّ هجائيات جرير كانت عمومًا أكثرَ شعبية، وكانت تنتشر بسرعةٍ أكبر بين الناس.

تاريخ الكثير من القبائل العربية الأكثر أهميةً ومعاركها؛ يمكن إعادةُ صياغته من هذه القصائد. محتواها الاجتماعي والسياسي ثريٌّ جدًّا. وهي في ذلك استمرارٌ صادق لهجائيات الجاهلية ولقصائد التفاخر. ومع ذلك، طوِّرت التقنية فنيًّا إلى درجةٍ كبيرة. اعتقد جرير أنَّ الهجاء ينبغي أن يكون مرِحًا، وكانت هجائياته وفيةً لنظريته، رغم ميلها إلى البذاءة والفظاظة.

لم يلتزم الهجَّاءُون الأمويون ﺑ «الحقيقة» في الرذائل التي كشفوها. استغلُّوا في معظم الأحيان إشاعةً، أو حادثةً تافهة رُويت عن خصمهم أو قبيلته، وضخَّموها بشكلٍ غريب، وأضْفَوا عليها تفسيرًا بذيئًا أو على الأقلِّ مُهينًا. حقيقةُ أنَّ جَد الفرزدق كان لديه عبيد يعملون حدَّادين؛ استخدمها جريرٌ ذريعةً ليَصِف العائلة النبيلة التي ينتمي إليها الفرزدق ﺑ «عائلة الحدَّادين»، وهي طبقةٌ دُنيا في الجزيرة العربية. وكانت جِعْثِن — أخت الفرزدق، المعروفة بشخصيتها الطيبة — ضحيةً حادثة أخرى. وكان الفرزدق قد خاطَبَ فتاةً من قبيلة أخرى؛ فانتقمتْ بإرسال أحد رجالها، الذي فاجَأَ جِعْثِن ولَمسَ كتفها بشكلٍ مُهين. قضى جريرٌ حياته يصِفُ في قصيدةٍ بعد الأخرى العربدة الشهوانية لجِعْثِن. وأحيانًا يبتكر الشاعر اتهامًا يعرف الجميع أنَّه ملفَّق، كما حين اتَّهم الفرزدق جريرًا بمضاجعة الموتى. مثل هذا الهجاء القائم على الكذب، يفقد تأثيره الحقيقي بوصفه هجاءً، ويصبح سخريةً كوميدية. كان الفرزدق يرتعب موتًا من أيَّة شائعةٍ جديدة تشاع عنه قد يستغلُّها جرير، مروِّج الفضائح. وكانت حياة جرير، من الناحية الأخرى، لا تجذب مروِّجي الشائعات. كانت حياةً هادئة ورتيبة إلى حدٍّ ما؛ لذا كان الفرزدق يبتكر شائعاتٍ مثلَ تلك التي ذكرناها عن مضاجعةِ الموتى أو اللواط، أو يعيِّر جريرًا بأصوله المتواضعة. لم يستغلَّ الفرزدق التذبذبَ السياسي لجريرٍ من الأمويين إلى الزبيريين، ثم إلى الأمويين بعد القضاء على ابن الزبير. لُغز دعْمِه لقبيلة قيس، التي لم تكُن قبيلته، دفعَت الفرزدقَ إلى اتهامه بالحصول على أموالٍ منهم، لكنَّها لم تُستغلَّ كما ينبغي.

كان رسم الشخصية عنصرًا مهمًّا في هذه الهجائيات، لكنْ بمجرد ترسيخ الصور الكاريكاتورية الأصلية تبقى ثابتةً. وربما كان هذا أبشعَ العيوب الفنية للنقائض. مع ظهورِ ضحايا جُدد، يضافون إلى مجموعة الأوغاد بالفرشاة نفْسِها. الأخطل وحده كان يتَّسم ﺑ «عيبٍ» إضافي، وهو أنه مسيحي؛ ممَّا جعله وقبيلته أكثرَ عُرضةً لسهام جرير. إضافةً إلى ذلك، تتسم الهجائيات الأموية بالقواعد الخُلُقية النفعية للهجاء عمومًا، التي لا تتناول الحُب والموت بجديَّة. يصبح الحُب مرضًا جنسيًّا، والموت مناسبةً للتهنئة. تجلَّت الغبطةُ المُفرِطة لجريرٍ بموتِ الأخطل في إساءةِ استخدام موت الشاعر ببشاعة. وهجاءُ الفرزدق لخالدة، الزوجة الراحلة لجرير، أكثر بشاعة. وكان هذا ردًّا على المرثيَّة المؤثِّرة لجرير عنها.
مرةً أخرى، تتَّفق الطبيعة البذيئة للنقائض مع طبيعة الهجاء، وفيه النشاط الجنسي للمرأة موضوعٌ دائم. في الهجائيات الأموية، تصوَّر نساءُ الخصم شهوانياتٍ يقترفْنَ زنا المحارم، ومنحرفاتٍ غالبًا، بميولٍ شبقيَّة. والرجال منحرفون بالقدْرِ نفسه. يصوَّرون فاسقين يقترفون زنا المحارم، وأحيانًا مثليِّين، أو منغمسين في الاستمناء. بعض الصور هزليةٌ، لكنها عمومًا فظَّة وفحشاء بشكلٍ مفرط. يكشف الفرزدق وجرير (الأخطل كان أقلَّ بذاءةً بكثير) عن هاجسٍ مَرَضي بالفحش الجسدي والجنسي. عبَرَا حدودَ الهجاء إلى الفنتازيا الإباحية التي تصِلُ إلى اللامعقول.

كان الفُحش نادرًا في الجاهلية. وفي صدر الإسلام نظَمَ الراجز الشهير الأغلب العجلي (ت: ٢١ﻫ/٧٤٢م) قصائدَ فحشاء. صبَّ حسان بن ثابت، هاجيًا قريش، أبشع اتهامات الزنا على هند بنتِ عُتبة، أم معاوية، وأخرياتٍ من قريش، لكنَّ شهوانية المرأة كما تصوِّرها الهجائيات الأموية، أكثرُ غرابةً بكثير، وتتكرَّر بتصميمٍ أكبر. تفتقر إلى رُوح الدعابة، لكنْ لا بد أنها لاقت قبولًا حسنًا من الجماهير الأموية.

لم تتحقَّق وحدة الشكل والمحتوى قَط بشكلٍ أكثر نجاحًا ممَّا تحققتْ في هجائيات العصر الأموي، المكتوبة بالشكل الكلاسيكي من شطرَين وقافية موحَّدة. تقسيم البيت إلى شطرَين متساويَين — أو شِبه متساويَين، مع وقفةٍ في نهاية كلٍّ منهما (إجبارية في نهاية الشطر الثاني) — يقدِّم مجالًا لتشكيل سلاسلَ متتابعةٍ من جملٍ قصيرة تُلائم الهجاءَ بأفضلِ ما يكون. وكثيرًا ما تقسَّم هذه الجمل بنيويًّا طبقًا لطول كلِّ شطر. الجمل متوازنة، ويتحقَّق تصريحٌ كامل في كلِّ بيتٍ من شطرَين. ترنُّ القافية، وهي عمومًا ذاتُ طبيعةٍ رنَّانة، بصوتٍ مرتفع في نهاية البيت، ضامنةً ذِروة نهائية للتصريح. النتيجةُ عادةً وحدةٌ دقيقة، ساخرة غالبًا.

تكمن قوة هذه الهجائيات في صُورها. رغم فجاجتها غالبًا، قد تكون حيَّة وهزلية. تُعطيها بساطتها المتعمَّدة تأثيرًا فوريًّا؛ لأنها توصل الملامح البارزة بسرعةٍ إلى الأذن. يقول العباس بن يزيد الكندي راثيًا جرير:

لقد غضبتْ عليكَ بنو تميمٍ
فما نكأتْ بغضبتِها ذُبابَا
لو اطَّلعَ الغُرابُ على تميمٍ
وما فيها مِنَ السَّوءاتِ شَابَا
٣٢

يقول جرير هاجيًا قبيلة تَيم:

وكنتَ إذا لقيتَ عبيدَ تَيمٍ
وتَيمًا قلتَ أيُّهُمُ العبيدُ٣٣
يستخدم الهجاء الأموي أسلوبَين مختلفَين. على عكس القاعدة العامة للهجاء، التي تميل للغة اليومية المتداوَلة لتأثيرها. غالبًا ما تكون متحذلِقةً وغارقة في أسلوبٍ جاهلي. يقفز جريرٌ بخفَّة بين الأسلوبَين. هجائيته الشهيرة في الراعي النُّميري، التي كُتبت في ليلةٍ من الهياج الشديد، بسيطة غير متحذلقة، وحققت انتشارًا واسعًا. لكنْ عَجزَ الشعراء الأمويين عن اللجوء تمامًا إلى اللغة المتداولة في هجائياتهم (وكان القيام بذلك أمرًا غريزيًّا) نتيجةَ حقيقةِ أنَّ هذه الهجائيات كانت دائمًا متَّحدة بالفخر؛ وكان، في رُوحه وموضوعه، موتيفةً جاهلية، وبالتالي مالت إلى البقاء ثابتةً في لغة الماضي. وهكذا كانت الهجائيات الأموية، وخاصة النقائض، مَنْجمًا للمعرفة اللغوية، ونشأ حولَهَا أدبٌ نقديٌّ ولغوي كامل.

(٧) الشِّعر الأيديولوجي

سار الشعر السياسي في ذلك العصر في تيارَين رئيسيَّين. في الأول كان هناك شعرٌ ينظم دعمًا للنظام الأموي. وكان هذا التيار مدحًا في معظم الأحيان؛ كان متعمَّدًا، ومصقولًا فنيًّا، ورنَّانًا في نغمته، وشَملَ قدْرًا كبيرًا من الفخر القبَلي القائم على عداوات القبائل العربية وخصوماتها. وكان هذا أيضًا استمرارًا مباشِرًا للفخر القبَلي الجاهلي، وكان يتميز بتكرار موتيفات الفخر الجاهلي، وتأكيد النغمة والمواقف نفسها. ولغةُ هذا الشِّعر تختلف اختلافاتٍ معتدلةً وحتمية عن لغة الشعر القبَلي الجاهلي.

وفي الثاني: كان هناك شعر الفِرَق الدينية والسياسية، الشيعة والخوارج والزبيريين وغيرهم. وكان هذا عادةً شعرًا أيديولوجيًّا، يستجيب للأحداث ويعكس المواقف الخُلُقية والعاطفية وأحيانًا الفكرية لزعمائها. والأكثر أهمية أنه الشعر الذي عالج موضوعًا ومواقف جديدة. لم يرتبط بالتقاليد الشعرية للعصر السابق. ولأنه يعكس آراء وخبراتٍ جديدةً ترتبط مباشرة بالأحداث الجارية؛ استخدم في الجزء الأكبر منه لغةَ العصر، لغة تتميز عمومًا بالحيوية والبساطة، والمباشَرة، باستثناء بعض الطُّرق الملتوية للشيعة.

شعر الخوارج (باستثناء شعر الطِّرماح) خالٍ بشكلٍ لافت من الارتباط بالتقاليد الشعرية السابقة. عاش الخوارج مع الخطر وقاتلوا بشجاعة وتصميم. كانوا انفعاليين في معتقداتهم وعبَّروا عن آرائهم بحرارة وحماس. تركَّز شِعرهم على مدح الشجاعة والتقوى، وعبَّر عن رغبةٍ عميقة في الموت من أجل القضية والفوز بالنعيم الأبدي.

يخلو شِعر الخوارج من مدح الطبقة الحاكمة والتحيز القبَلي أو العِرقي. إنه المثال الأنقى لشعرٍ ذي توجُّه إسلامي. كُتب معظمه في قطع صغيرة، ونُحِّيَت البنية القديمة للقصيدة العربية جانبًا بنسيبها وتقاليدها الصحراوية باعتبارها غيرَ ملائمة. كان شِعر الخبرة والضرورة الملحَّة، عاكسًا مرارةَ حياتهم وعُزلتهم وإحباط العالَم المحيط بهم الذي ينبغي، طبقًا لمعتقدهم، أن يتَّحد في انسجامٍ متسامٍ. شِعرُ شعراءَ مثلِ قَطريِّ بنِ الفُجاءة (ت: ٧٩ﻫ/٦٨٩م) وعِمران بن حطَّان (ت: ٨٤ﻫ/٧٠٣م)؛ لا يمكن إلا أن يؤثِّر على القارئ الحديث بنبرته الجادَّة وصِدقه ومباشرته، وقبلَ كلِّ شيء بتعبيره عن خبرةٍ روحية عميقة.
كان للشيعة شعراءُ كُثر، لكنَّ الكُميت بن زيد (٦٠–١٢٦ﻫ/٦٧٩–٧٤٣م) أبرزُ شعرائهم في العصر الأموي. كان من أتباع الطائفة الزيدية المعتدلة، المنسوبة لزيد بن علي بن الحسين، الذي طالب بالخلافة في أواخر العصر الأموي. ونتيجةَ الاضطهاد الأموي؛ سمحَت الشيعة لأعضائها بتبنِّي مبدأ التقية الذي أعفاهم من الالتزام العلنيِّ بمبادئهم الدينية في أوقاتِ الشدَّة؛ لذا استطاع الكُميت مدَحَ بني أميَّة بعد خبرةٍ مريرة في السجن والتهديد بالتعذيب حتى الموت، لكنْ حين عُيِّن يوسف بن عمر الثقفي واليًا على العراق في ١٢٠ﻫ/٧٣٧م، اضطهد الشيعة وقتل زيد بن علي. انهار الكميت وهجا يوسف. وحين حاول الثناء على يوسف في قصيدةِ مدح في ١٢٦ﻫ/٧٤٣م قتَلَه حرَّاسه وهو يُنشدها له.

ربما تكون هاشميات الكميت أهمَّ أشعاره، وهي قصائدُ كُتبت في مدحِ بني هاشم، أُسرة النبي. في هذه القصائد، وبعضها طويلٌ جدًّا، يوحِّد الكُميت بين الفكر والعاطفة، يهيمن كلٌّ منهما بدوره. ويحاول أحيانًا الجدل بشأن قضية الهاشميين ويبرهن على حقِّهم في الخلافة بلغةٍ منطقية. في هذه القصائد، أو القِطَع، قد تكون لغته سطحيةً ونثرية، لكنْ حتى في هذه القِطَع قد يندفع ببيانٍ عاطفي عن ولائه وإخلاصه للهاشميين:

إنْ أمُتْ لا أمُتْ ونفسِيَ نَفْسا
نِ من الشكِّ في عَمًى أو تَعامِ
عادلًا غيرَهُمْ من الناسِ طُرًّا
بِهِمُ لا هَمَامِ بِي لا هَمَامِ٣٤
في عينيةٍ من هاشمياته يقول إنه لا عزاءَ بشأن المصير الذي حلَّ بالهاشميين، واصفًا أساه راسخًا في قلبه. دفاعه عن حقوقهم المغتصَبة خليطٌ من العاطفة والمنطق. يهاجم الأمويين بغضب لا يعرف حدودًا وبرُوح شرِسة منشقة ومعارضة. إنهم ملوك الشر ومهرطقون وطغاة متوحشون وقمعيون. ويسأل: متى تنتهي المعاناة الطويلة.
لكن الكميت في تبنِّي منهج المنطق العقلاني يخلق تقنيةً شعرية. اهتمَّ بالنشاط اللغوي في المدن العراقية وصمَّم على اتباع طريقةِ شعراءَ مثلِ الفرزدق ورُؤبة، وربما ضَمنَ بجهوده تغيرًا أساسيًّا في الأسلوب الشعري. ولد في محيط الكوفة ونشأ في المدينة نفسها، لكنَّ معرفته بالغريب لم تكُن تلقائية. من المعروف أنه سأل رؤبة عن كلماتٍ من الغريب ثم أوردها في شِعره، ويُقتبس عنه أنه قال: «إذا قلتُ الشعرَ فَجَاء في أمر مستوٍ سهل لم أعبأ به، حتى يجيء شيء فيه عويص فأستعمله.»٣٥ ورغم هذه التصريحات يبقى شِعره بسيطًا وعاميًّا، كما هي حال كلِّ الشِّعر الشيعي.

قبل أبي نواس بزمنٍ طويل، اعترض الكُميت على تقاليد الصحراء ونسيب الشِّعر المبكِّر:

أنَّى ومن أين آبَكَ الطَّربُ
من حيثُ لا صَبوةٌ ولا رِيَبُ
… … … … …
… … … … …
ولا حُمولٍ غَدتْ ولا دِمَنٍ
مرَّ لها بَعدَ حقبةٍ حِقَبُ
ولم تَهِجْنِي الظُّؤارُ في المنزلِ الـ
ـقَفْرِ بُرُوكًا وما لها رُكَبُ٣٦
في شعر الكميت والشعراء الشيعة في تلك الفترة، رسخت ثلاثة تقاليد مهمَّة. الأول: هناك قصيدة الحِداد، التي أصبحت أهم جزء في الأدب الشيعي حتى الآن. ثانيًا: هناك المديح الديني الذي يعدِّد مناقب الهاشميين، وأصبح طقسيًّا جدًّا حتى في هذه المرحلة المبكِّرة من تاريخه. ثالثًا: هناك قصيدة الإحساس بالذنب، وتنبُع أهميتها من حقيقةِ أنَّ الإحساس بالذنب لم يكُن قبل ذلك عنصرًا حيويًّا في الشعر العربي، أو الشخصية العربية، قَط. إنه في هذه القصائد ذاتي وموضوعي. يختلط الأسف الشخصي والأسى الخاص بإحساسٍ عام بالذنب والعار، يشعر به المسلمون الشيعة لموتِ أُسرة النبي واضطهادها. ربما ساهم الدور الذي لعبه العراقيون في هزيمةِ علي وذريَّته، وخاصة في مذبحة كربلاء، وفشلهم في إنقاذ الهاشميين (مثل الحسين وزيد بن علي) في اللحظات الحاسمة إلى حدٍّ بعيد في شعورٍ عام بالمسئولية والندم، لكنَّ ترجمة هذا الشعور العام إلى إحساسٍ شخصي بالذنب والفشل، يُضفي على هذا الشِّعر المزيد من التعقيد والعمق، ويدخل فيه آفاقًا جديدة من المعنى والموقف.

(٨) الرجز الأموي

لم يصل الرجز قبل الإسلام إلى تطوُّر البحور العربية الأخرى مثل الطويل والبسيط، أكثر بحرَين استُخدما في الشعر الكلاسيكي. قبل الإسلام كانت قِطَع الرجز قصيرةً، في بضع شطرات. استُخدم هذا البحر غالبًا في الشعر الشعبي وكثيرًا ما جاء مرتَجَلًا. استخدم للنَّظم في كلِّ الأغراض: في قصائد الرقص، وعند جلْبِ المياه من الآبار، وفي حداء الإبل، وأيضًا في المعارك. حوليات الفتوحات العربية مليئةٌ بأراجيزَ قصيرةٍ، ارتَجَلها محاربٌ يندفع مهاجِمًا؛ استمرارًا لأراجيزِ المعارك قبل الإسلام. هناك عدَّة خصائصَ مشترَكةٍ لكلِّ الأراجيز الجاهلية: التلقائية والشعبية والارتجال (يرتجلها مجموعة على ما يبدو)؛ والأكثر أهمية، كثيرًا ما تقدَّم مصحوبةً بنشاطٍ جسدي.
قبل الإسلام حاول الرُّجَّاز رفْعَ مكانةِ هذا البحر اليومي. أول راجز قام بهذه المحاولة الأغلب العجلي (ت: ٢١ﻫ/٦٤٢م)، الذي نظم أراجيز أطول. واصل أعماله رجاز مثل العجاج، عبد الله بن رؤبة السعدي التميمي (ت: ٩٠ﻫ/٧٠٨م). كتب العجَّاج أراجيزَ طويلة جدًّا واستخدم الرجز لمواضيع لم تكُن تعالَج إلا في بحورٍ أخرى. كان بدويًّا عاش في الصحراء حتى سنِّ النضج. رحَلَ إلى البصرة وابنه الشهير، رُؤبة (ت: ١٤٥ﻫ/٧٠٢م)، شابٌّ يَنْظِم أراجيز مثلَ أبيه. واشتهر الأب والابن بمجموعةٍ كبيرة من الغريب في أراجيزهما. وإضافةً إلى ذلك، لم يترددا في ابتكار كلماتٍ أو صكِّ كلماتٍ جديدة من كلماتٍ قديمة ليقدِّما معنًى دقيقًا لمَا يقصدان. كانا يتقنان اللغةَ بشكلٍ كبير بكلِّ مفرداتها القديمة والمهجورة والخاصة. وأوردا والرُّجَّاز الآخرون في قصائدهم كلماتٍ فارسية.
ثمَّة راجزٌ آخَر معاصِر لرؤبة هو أبو النجم العجلي (ت: ١٣٠ﻫ/٧٤٧م)، كتَبَ واحدةً من أشهر الأراجيز يصِفُ الجمل، في تلك الفترة بطلَبٍ من الخليفة هشام بن عبد الملك. حين أنشدها في المِربَد أمام رُؤبة، وصَفَها الأخير بأنها «أمُّ الأراجيز». تستحقُّ هذه الأرجوزة الشهرة التي حقَّقتها، حيث تتخلَّلها رُوح تذكِّرنا بنهجٍ عاطفي لذي الرُّمة في وصف الصحراء وحيواناتها.

كان الرجز قبل الإسلام والعصر الأموي يُكتب في شطرٍ واحد من ثلاث تفعيلات. التفعيلة الأساسية في الرجز –°–°– –° (مستفعلن)، لكنها قد تخضع لبعض التغييرات بالحذف. ويمكن أيضًا أن تصبح التفعيلة الأخيرة في الشطر فعولن (– –°–°) أو مفعولن (–°–°–°)، ممَّا يمنح هذا البحر تنوعًا شيقًا من التأثيرات الإيقاعية والموسيقية. كان كلُّ شطر في الرجز الجاهلي والأموي مقفًّى، وكانت تُستخدم قافيةٌ واحدة مستمرَّة في كلِّ الأرجوزة. وكان تكرار القافية في نهاية كلِّ شطر يعني وجود توقُّف إلزامي محدَّد في نهاية كل ثلاث تفعيلات. ممَّا أعطى هذا البحر طبيعةً مميزة جدًّا. وأعطاه أيضًا طبيعته المحدَّدة وصعوبته الرئيسية. ما دام تمَّ الالتزام بهذا الترتيب الاصطناعي؛ كانت الصعوبة لا يمكن تجاوزها، وكان هذا من الأسباب وراء استمرار تمييز هذا البحر عن الأشعار الأخرى في تلك الفترة. القافية المستمرة في نهاية كلِّ شطر تقسِّم المؤلَّف إلى وحداتٍ قصيرة، مستقلة تركيبيًّا عادة.

ربما كان الأصل الشعبي للرجز حافزًا حيويًّا للرُّجَّاز الأمويين لنظم الرجز باللغة المتداوَلة في تلك الفترة. كان بحرًا متحركًا. حمل أصداء أقلَّ من الشعراء السابقين ومن موتيفات البِنَى العروضية الأخرى. وإضافةً إلى ذلك، كان بناؤه المتقطِّع، الذي يفتقر إلى التدفُّق الموسيقي الرشيق، يجعل الرُّجَّاز أقلَّ ميلًا للحفاظ على اللغة الشعرية للأجيال السابقة. ولذا يمكن نظمه بأيِّ أسلوب يميل الشاعر لاستخدامه، سواء بالحديث المتداول أو بطريقةٍ زاخرة بالكلمات المهجورة. استخدم الرجز الأموي الاثنَين. استخدم جريرٌ، على سبيل المثال، الأسلوبَين. أرجوزته القصيرة عن ابنه بلال مثالٌ رائع لاستخدام اللغة البسيطة، مع أنها تحافظ على درجةٍ من التأنُّق:
إنَّ بلالًا لم تَشِنْهُ أمُّهُ
لم يتناسبْ خالُهُ وعمُّهُ
يَشفِي الصداعَ ريحُهُ وشمُّهُ
ويُذهِبُ الهُمومَ عنِّي ضمُّهُ
كأنَّ ريحَ المِسكِ مُستَحَمُّهُ
ما ينبغي للمسلمين ذمُّهُ
يُمضي الأمورَ وهو سامٍ هَمُّهُ
بحرُ بحورٍ واسعٌ مَجمُّهُ
يُفرِّج الأمرَ ولا يغُمُّهُ
فنفسُهُ نفسي وسَمِّي سَمُّهُ٣٧

يصِلُ أبو النجم العجلي في بعض أراجيزه القصيرة إلى تمثيلٍ هزلي، وبالأحرى سوقي، للحياة والعقلية الأموية. في الأرجوزة التالية يتحدث عن ابنته ظلَّامة:

كأنَّ ظلَّامةَ أُختَ شَيبانْ
يتيمةٌ، والداها حيَّانْ
الرأس قملٌ كله وصئبانْ
وليس في الرِّجلين إلا خيطانْ
تلك التي يُذعر منها الشيطانْ٣٨
في هذا الرجز وغيره من قِطع الشعر يمكن البحث عن لغة الحياة اليومية في العصر الأموي.
لكن الرُّجَّاز الأمويين مالوا للاستجابة للاحتياجات اللغوية التي لا يمكن إشباعها لعلماء اللغة. ووجدوا أنَّ من المرغوب فيه أن تشمل تشكيلة هائلة من الغريب في أراجيزهم. ولا يعود ذلك للتحرُّر النسبي لهذا البحر من أغلال الماضي فقط، لكن أيضًا لطبيعته، التي شجعت على تضمين كلمات من جذر رباعي لا ثلاثي، رغم ندرة وجودها نسبيًّا في اللغة ككل. في أرجوزة يائية طويلة يستخدم العجَّاج الكلمات بحريَّة، الكثير منها مشتقة من جذور رباعية، مثل: دغفلي، دغمري، شغزبي، دوسري، زنبري، شوذبي، عُدْمُلي، عجرفي. وإضافةً إلى ذلك، الكثير من الكلمات الأخرى بالنمط نفسه أو من أنماط مماثلة مشتقة من جذور ثلاثية: جولاني، يمئودي، رجراجي، ضحضاحي.٣٩ تقديم معاني هذه الكلمات، وهي نادرةٌ ومهجورة وغريبة عمومًا إلى حدٍّ ما، لن يخدم أيَّ هدف؛ لأنَّ النمط هو المثير للاهتمام.
وإضافة إلى ذلك، لم تكتسب إيقاعات هذا البحر تدفقًا متناغمًا. اجتذبت طبقًا لهذا كلمات بصوامت كثيرة بدلًا من حروف العلة، وبهذا بدا أنَّ البحر يهيمن على الشاعر، لا العكس. أذْعَنَ الرجز بسهولة للُّغة العامية لمختلف القبائل قبل الإسلام، لكنه لم يُستخدم للأغراض الشعرية الرفيعة. ونتيجةً لهذا مالت الأشعار إلى النثرية. حين بدأ الرُّجَّاز في العصر الأموي استخدام هذا البحر لأغراضٍ كانت تقتصر من قبل على بحور أخرى، مثل: المدح والوصف والفخر. ظهَرَ أملٌ جديد للرجز، لكن هذا الأمل تبدد عند اكتشاف أنَّ هذا البحر قد تتلاءم معه الكلمات الصعبة. أعاقت تدفُّق الموسيقى، ووُلد في الرجز الذي تم إحياؤه في تلك الفترة؛ تأثيرٌ مضاد عرقَلَ طموح الرُّجَّاز الأمويين في الارتقاء بالبحر إلى مستوًى شعري رفيع. في أواخر العصر العباسي، تدهور الرجز. وفي النهاية، صار يُستخدم في الشعر التعليمي أساسًا. ولم يتمَّ إحياؤه والارتفاع به إلى مستوى فني رفيع إلا في خمسينيات القرن العشرين.

(٩) عصر الإيروسية

بالانتقال إلى الحجاز، ندخل عالمًا جديدًا من الإبداع الشعري؛ حيث دارت المساهمة الرئيسية لشعراء الحجاز حول النساء والحُب. حلَّل الكتاب العرب المحدثون شعر الغزل الأموي في الحجاز مراتٍ ومرات، لكنَّ معظم هذه التفسيرات تقدِّم تفسيرًا اجتماعيًّا وسياسيًّا خالصًا لهذا الشعر، مقلِّصة أسباب ظهوره إلى التأكيد البسيط على عُقم المنطقة سياسيًّا، واستمتاعها بالثراء والترف والاستفادة من صحوة مهمَّة في الموسيقى والغناء.

لكن هناك اعتبارات أخرى يجب وضعها في الحسبان. لم يكُن شعراء الغزل في الحجاز معاصرين تمامًا. عاش أوائلهم، مثل عروة بن حزام (ت: ٣٠ﻫ/٦٥٠م)، وقيس بن الملوح، المعروف بالمجنون (ت: ٦٨ﻫ/٦٨٨م)، وقيس بن ذريح (ت: ٦٨ﻫ/٦٨٨م)، في الأيام الأكثر اضطرابًا في السياسة الحجازية.

ثانيًا: توضِّح دراسة حيوات عدد من شعراء الحجاز في تلك الفترة؛ أنهم لم يكونوا بدون طموحات سياسية. كان عبيد الله بن قيس الرقيات (ت: ٨٥ﻫ/٧٠٤م) زبيريًّا ملتزمًا، ولم يتحول إلى مدح الخلفاء الأمويين إلا بعد وفاة عبد الله بن الزبير في ٧٣ﻫ/٦٩٣م. في المرحلة الزبيرية، استغلَّ موهبته الكبيرة في كتابة شعر الغزل في هجاء الأمويين بكتابة أغاني حُب في نسائهم. كما ذُكِر من قبل، كانت هذه الفكرة قائمة على هجاء العشق الذي لجأ إليه قبل الإسلام عبد الرحمن بن حسان وشاعران من المدينة، حسان بن ثابت الخزرجي وخصمه قيس بن الخطيم الأوسي. استخدم الشكل الهجائي نفسه شعراءُ أمويون آخرون، مثل: الأحوص الأنصاري (ت: ١٠٥ﻫ/٧٢٣م)؛ والعرجي، وهو من أحفاد الخليفة عثمان بن عفان (ت: ١٢٠ﻫ/٧٣٨م). ثمَّة شاعر أموي آخَر، كُثير عزَّة (ت: ١٠٥ﻫ/٧٢٣م)، شيعي متطرف من الطائفة الكيسانية، لكنه كان يتبع سياسة التقية، ومدح بني أمية. من المستحيل اعتبار أيِّ شاعر من هؤلاء غير مُسيَّس، رغم أنهم كانوا أكثر اهتمامًا بتيمة الحُب؛ لذا يكون تفسير التطور السريع لشعر الغزل في الحجاز ببساطة بأن سكان هذه المنطقة لم ينشغلوا بالسياسة تفسيرًا خاطئًا. ثالثًا: في العصر الأموي، لم يهتمَّ الحجازُ وحده بتيمة الحُب، بل العالم العربي كلُّه. وكان أيضًا تيمة رئيسية في شعر ذي الرُّمة (ت: ١١٧ﻫ/٧٣٥م) في صحراء الدهناء، ويزيد بن الطَّثرية (ت: ١٢٦ﻫ/٧٤٤م) في صحراء اليمامة. في دمشق، كتب الخليفة وليد بن يزيد في الحُب والخمر، وكانت تِيمة المرأة من التيمات التي تناولها الفرزدق بشكلٍ أصيل.

لكن تركيز شعر الغزل في الحجاز، يبقى ظاهرةً ينبغي تفسيرها. يمكن القيام بذلك بتناول العديد من سماته البارزة؛ أولًا: كان الحجاز اجتماعيًّا منطقةً مستقرة تمامًا. وكان، بالمقارنة، خاليًا من الانشغال المباشر للقبائل التي تؤكِّد وضْعَها ومكانتها في الأوساط الجديدة، كما كانت الحال في العراق وبلاد فارس ومحيط دمشق. كان الحجاز يتمتع بفراغٍ أكثر من الأقاليم الجديدة، ويستطيع أن يحول انتباهه إلى الشِّعر في موضوع الحُب والنساء بشكلٍ أكثر سعادة.

ثانيًا: لا بد أن فَقْد الحجاز لمكانته السابقة، مركزًا للحياة السياسية العربية، تسبَّب في ردِّ فعلٍ ربما تمَّ التعبير عنه، بدوره، في رومانسية غرامية، لكنْ ينبغي تذكُّر أنها كانت فترة قلَقٍ لكل الشعب العربي، وتجلَّى هذا القلق في كلِّ مكان في مواقف الحُب، وفي التمرُّد لإثبات الذات، وفي الهجاء. كان عصرًا احتاجت فيه العاطفة إلى التحرُّر بعد فترةٍ من الامتناع القسري، وعقودٍ من الحرب، وتغيُّر مفاجئ في أسلوب الحياة والتغير الحتمي في أشكال الفن. الروح الرومانسية، التي وجدتْ متنفَّسًا في الفسق والصخب في العراق؛ وجدتْ في الحجاز وغيره نوعًا من التحرر الضروري في الإيروسية، وأحيانًا في التوجُّه للمُتع، وأحيانًا في تدمير الذات. على عكس المؤسسات القائمة على المبادئ المجردة، الحُب ليس ظاهرةً مؤقتة تاريخيًّا، لكنه سمةٌ دائمة وملموسة لحالة الإنسان، لكنْ للتعبير عن التيمات الغرامية تاريخه الخاص، يزدهر في فتراتٍ، ويذبل في أخرى. يشمل الحُب في الأدب أحيانًا مجمل العلاقات؛ وأحيانًا يكون ببساطةٍ اختلالًا في العاطفة، أو يركِّز فقط على جوانبَ جسدية. في تغيُّره في الموقف، التأكيدُ والعمق من قرنٍ إلى قرن، يبدو أنَّ هذا الأدب يخضع لتحولاتٍ داخلية خاصة. علينا أن نتذكَّر فقط الحُب الأفلاطوني في اليونان القديمة، وحُب النبلاء في أوروبا في القرون الوسطى، وفي العصر الأموي الحُب العذري.

ثالثًا: مهَد المجتمع الحضري لفترةٍ طويلة أرضًا خصبة للفنون الحضرية من الغناء وكتابة الأغاني. ويمكن رؤية الشعراء الأمويين في كل المناطق — باستثناء ذي الرُّمة وآخَرين — يكتبون للاستهلاك الفوري نوعًا من التسلية.

رابعًا: لدينا احتمال ظهور موضة شعرية شاعت. ولأنها تستعصي على التصنيف المنطقي؛ يتغاضى عنها أحيانًا نقَّاد يسعون لتوزيع شروطٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية على كلِّ موضةٍ أدبية، لكنَّ الموضة بها عنصرُ تميُّز، يُكتشف بالصدفة ويتجاوز الظروف البيئية والتاريخية.

لا يمكن أن تفشل قراءة مكثفة للأدب الغرامي الحجازي في تأكيد فكرة «الموضة»، المسئولة جزئيًّا عن التطور السريع لشعر الحُب الأموي وجنسٍ أدبي عن قصص الحُب. تحكي هذه القصص عن عشَّاقٍ فاشلين أحبُّوا حتى الموت، يتميزون بالوفاء والإخلاص والتضحية بالذات. ورغم أنَّ أصل هذه الحكاية والشِّعر الذي يصاحبها يكمن في عصور الجاهلية مع شعراء مثل المرقِّش الأكبر، عوف بن سعد (ت: ٥٥٠م)، والمرقِّش الأصغر، ربيعة بن سفيان (ت: ٥٧٠م)؛ لم يصل هذا الجنس الأدبي ذروته إلا في العصر الأموي، وأصبحت قصص مجنون ليلى والعشَّاق العذريين أسطورة. وهكذا من المناسب الاعتقاد بأنَّ ظهور قصصٍ مثل قصة المجنون، رغم اعتمادها على تقاليد موجودة، بدأتْ موضةً لجنس أدبي عن أدب الحُب، وثبت أنه شعبي جدًّا. وينبغي أن يكون ظهور شاعر مثل عمر بن أبي ربيعة؛ قد بدأ أيضًا موضةً لشخصيةٍ تُشبه دون جوان كما يعبِّر عنها الشعر الشعبي لمدن الحجاز. ولذا يبدو أنَّ الانشغال بتيمة الحُب في أدب الحجاز؛ يرجع إلى عواملَ عديدة، ليست كلُّها ذات أساسٍ اجتماعي.

ثمَّة سمةٌ أخرى مهمَّة لشعر الحب الحجازي، تتمثل في أنه ازدهر في شكلَين: شعر الحُب الحضري، وروَّاده المهمُّون: عمر والأحوص والعرجي؛ وشعر الحُب العذري الذي ازدهر في الصحراء، وأشهر شعرائه: جميل بن معمر (جميل بثينة، ت: ٨٢ﻫ/٧٠١م)، وكُثير عزة، ومجنون ليلى الذي سبَقَ ذِكره، وقيس بن ذَريح. اعتبر الكتَّاب العرب الذين كتبوا في الموضوع هذا الشِّعر الغرامي الحضري فاسقًا، أو في أفضل حالاته واقعيًّا. تحدَّث عن حبيبات كُثر، عن مغامراتٍ غير مشروعة، عن نشاطٍ غرامي هائل. وكان النوع الثاني عفيفًا ونقيًّا ورقيقًا، وركَّز على حبيبة واحدة. ورأى الكتَّاب الذين كتبوا في الموضوع أنَّ الاختلاف ناتجٌ عن التقابل بين حياة المدينة والصحراء. الأُولى: مرحةٌ وثريَّة، ويسهُل فيها الوصول للجواري؛ والثانية: فقيرةٌ وحزينة ويائسة، وتهيمن عليها رُوح الفضيلة التي يحضُّ عليها الإسلام، لكنَّ هذا يصحُّ جزئيًّا فقط. لم يكُن الشعر الحضري، في معظم أمثلته، فضفاضًا بالضرورة. عكَسَ حريةً هائلة في العلاقات مع النساء، لكنْ نادرًا ما كان فاسقًا. ولم يُنظم معظمُ شِعر الحُب الفاسق في هذه الفترة في الحجاز بل في العراق، ولم ينظمه شعراءُ الحضر، لكنْ نظَمَه شاعرٌ له جذورٌ بدوية قوية، أعني الفرزدق. ويبرهن هذا على أنَّ الخلفية البدوية، لم تكُن جوازَ مرور للعفة. وإضافةً إلى ذلك، لا يوجد سببٌ للاعتقاد، وتوجد أسباب للشك، بأنَّ شعراء البادية كانوا أكثرَ تأثرًا بالتعاليم الخُلقية للإسلام من شعراء الحضر. وُلد الشاعر الإسلامي الأكثر عمقًا في العصر الأموي الكميت بن زيد، وتربَّى في الكوفة. ومن الناحية الأخرى، لا يكشف جميل البدوي، الذي يعتبر عن حقٍّ أعظمَ ممثِّل للشِّعر العذري، عن اهتمامٍ بالإسلام. ونادرًا ما يعكس ذو الرُّمة البدوي، المعروف بأنه كان مسلمًا ورِعًا، أيَّ تأثُّر بالإسلام في شِعره أو نظرته إلى الظروف الإنسانية. ثمَّة نقطةٌ أخرى يجب ذِكرها هنا، وهي أنه رغم وفرةِ الجواري في مدن الحجاز في تلك الفترة، غَنَّى الشعراء في معظمِ الحالات للنساء العربيات، وكثيراتٌ منهنَّ كُن من العائلات الأرستقراطية أو النبيلة في الحجاز. كان شِعر عمرَ، عن نساءٍ شهيرات من قريش، مرحًا ومزعجًا؛ ولم يكُن شهوانيًّا جدًّا. ومن الناحية الأخرى، استخدم الأحوص والعرجي، رغم أنهما سارا على دربِ عمر في الكثير من قصائدهما، في قصائدَ أخرى موتيفاتٍ مستعارةً مباشرة من الشعر العذري. ويوضِّح هذا ضرورة قبول التفسيرات الأنيقة والسطحية لظهور ظاهرةٍ شعرية بحذر.

كان النوعان نتيجةَ الحافزِ نفسه: الحاجة للهروب، والإثارة التي وجهتْ رُوح العصر. تناقضات العصر التي اتضحت في كل مكانٍ؛ يمثِّلها الدور المزدوج لمدينةٍ مثلِ المدينة، وكانت مركزًا للغناء والدراسات الدينية في الوقت نفسه.

انتهك شِعرُ عمرَ بنِ أبي ربيعة حدودَ التابوهات الاجتماعية. ومع التهكُّم المرِح، استهان بطقوس حياة المسلمين، جاعلًا من الحجِّ السنوي للأماكن المقدَّسة في مكةَ والمدينة مناسبةً للعبث والمتعة، وهو يتقرب للنساء القادمات للحج من العراق ودمشق ومن الحجاز نفسه. في متابعته لنساءِ أشراف قريش؛ يطارد نساء بتابوه يتصل بأسمائهن. سار على درب امرئ القيس الذي يلاحق النساء، وتجاوَزَه بالتركيز المطلَق على دوره، وبموقفٍ أكثر رعونة. وحذا شعراءُ آخرون حذوَه. عبَّر كلُّ ما في شِعرهم عن نوعٍ جديد من الحرية. تربَّى عمر على يدي أمِّه الأرملة، وكانت متساهلةً تبيع العطور؛ لذا سنحتْ له وهو صبي فرصةُ مقابلةِ نساءِ الطبقة العليا ومراقبةِ سلوكهن. ذكَرَ في شِعره أكثرَ من أربعين امرأة موضوعًا للحُب. وهناك غيابٌ لافت للتراجيديا في شعره. لم يكن تمرده هروبًا سلبيًّا إلى الكآبة، لكنه هروب باللامبالاة وانحرافٌ أرعنُ عن المبادئ الاجتماعية.

لا يوجد في شِعر عمر أيُّ تضارب أو صراع حقيقي. لم يكُن قَط شعرَ الأزمة أو المواقف المتطرفة، كان بحثًا دائمًا عن الجمال وأُلفة الحُب. الكثير من قصائده حكاياتٌ نرجسية عن الجاذبية «المُميتة» للشاعر للجنس الآخَر، والكثير من شِعره أغنيةٌ للثناء على الذات. بعض قصائده تكرارٌ لحواراتِ الحُب بينه وبين إحدى نسائه، أو محادثاتٌ بين النساء. لا تتَّسم بالعمق أو الحرارة. يحوم هو ونساؤه على حدود الحُب، ولا يعبرونها قَط إلى اكتشافٍ حقيقي للعاطفة. شخصيته الجذَّابة ومهارته الشِّعرية وسطوة فنِّه تُنقذ شِعره من أن يكون مجرَّد انغماسٍ في تفاهات حُب نساءٍ متعدِّدات وسخافاته. في موقفه رقَّة، رغم أنها نادرًا ما تكون حارَّة، تجعل المرأةَ بطلةَ اللحظة، تحت أمرِ قلبها وتصرُّفها.

الخدمة التي قدَّمها عمر للأسلوب الشعري في تلك الفترة لا تقدَّر. من المناسب اعتبارُ شِعره أفضلَ مثالٍ في عصره للغة المعاصرة. يمكن استخدام المحاكاة الساخرة لثرثرة المرأة دليلًا لعلماء اللغة، بوصفها مثالًا لكيفية تناول القرشيِّين للخطاب. في معظم شِعره، الارتباط بأسلوب الشعر الجاهلي ليس واضحًا، لكنه في بعض القصائد — حيث يحاول تقليد تأثير الأسلوب الجاهلي — يكون واضحًا وجليًّا.

كتب الكثير من شعره ليغنَّى، وهذا يفسِّر تكرار اختيار عمر للبحور القصيرة. غنَّى شعره مطربون مشهورون، مثل الغريض، وكان صديقًا شخصيًّا له؛ إضافةً إلى ابن سريج وآخرين. رغم اختياره للبحور القصيرة في الكثير من شعره، كان الطويل بحرَه المفضَّل، وهو البحر الأكثر استخدامًا في العصر الجاهلي. في هذا البحر نظَمَ معظمَ شِعره المقلَّد، لكنَّه كان أيضًا بحرَ الكثير من قصائده المعتادة:
فلما الْتقينا واطمأنَّت بنا النَّوى
وغُيِّب عنَّا مَن نخاف ونُشفِقُ
أخذتُ بكفِّي كفَّها فوضعْتُها
على كبدٍ من خشيةِ البَينِ تَخفِقُ
فقالتْ لأترابٍ لها، حين أيقنتْ
بما قد أُلاقي إنَّ ذا ليس يَصدُقُ
فقُلنَ أتبكِي عينُ مَن ليس مُوجَعًا
كَئيبًا، ومَن هُوْ ساهرُ الليلِ يَأرَقُ؟
فقالت أرى هذا اشتياقًا وإنَّما
دعا دمعَ ذي القلبِ الخَليِّ التشوُّقُ
فقُلنَ شَهِدْنا أنَّ ذا ليس كاذبًا
ولكنَّه فيما يقولُ مصدِّقُ
فقُمْن لكي يُخليننا فتَرقْرَقتْ
مدامعُ عينَيها، فظلَّت تدفَّقُ
فقالت أمَا ترحمْنَنِي لا تَدَعْنَني
لديهِ وهُوْ فيما علمتُنَّ أخْرَقُ
فقُلنَ اسكُتي عنَّا فغيرُ مطاعةٍ
لَهُوْ بِكِ مِنَّا، فاعلمي ذاك، أرفَقُ
فقالتْ فلا تبرَحْنَ ذا السِّترَ إنني
أخاف وربِّ الناس منهُ وأفْرَقُ٤٠

القصيدة بسيطة وعابثة، ونموذج لمحاكاة عمر بمهارةٍ لحديث النساء، وانهماكه النرجسي في الذات. الدماثة التي تسود القصيدة تعوض جزئيًّا انعدام العمق والعاطفة. ورغم أنها ليست سرديةً بشكلٍ كامل مثل بعض قصائده الأخرى الرائية عن نُعْم؛ يؤكِّد استخدام المحادثة الوحدةُ العضوية التي توجد في الكثير من القصائد الأخرى المماثِلة.

ورغم أنَّ عمر يستطيع حين يرغب في تقليد النسيب الجاهلي، أن يفعل ذلك بمهارة؛ يغيب هذا الاستهلال عن معظم شعره. بجانب الارتباط باللغة وبناء الجملة، يقطع الكثيرَ من الروابط مع القصيدة الجاهلية. إنَّ شعره أفضلُ مثال للتغير الذي حدث في بنيةِ القصيدة الأموية ولغتها ونغمتها وموقفها وتيمتها. وفي هذا يمثِّل شعر عمر تطورًا رئيسيًّا في الشعر الأموي.

لشعر عبيد الله بن قيس الرقيات مجالٌ أكثر تنوعًا من شعر عمر. وحيث إنه تدخَّل في السياسية؛ فإنه يفتح نافذةً على بعض التاريخ السياسي لتلك الفترة. يتمتَّع أسلوبه بقدْرٍ كبير من الصفاء، لكن هناك أيضًا نوعيةٌ نادرة من اللهو، ومهارة في التوزيع الموسيقي واختيار القافية، ينبغي أن تُعتبر من تطورات العصر. استخدم أيضًا اللغةَ المعاصِرة؛ رغمَ أنه لا يعطينا، كما يفعل عمر، اللغةَ المتداوَلة في شكلها المفرط؛ لأن عمر كان يحاكي بسخريةٍ حديثَ النساء، وخطابهنَّ أقلُّ بلاغةً من خِطاب الرجال. البائية الفاتنة للرُّقيَّات عن أم البنين، زوجة الوليد بن عبد الملك، التي سعى فيها إلى أن يزعج حماها، الخليفة عبد الملك، ربما تكون أشهرَ قصائده. اللهو المؤذي في نبرتها، وحميميةُ مقاربتها، والكياسة التي يوجِّه بها الشاعر الإهانةَ للأُسرة الأموية دون أن يجرح شرفَ أم البنين؛ يجعل من هذه القصيدة نموذجًا جيدًا للمزاح الحجازي وإجلال شخصية المرأة وجمالها. يخطو الرقيات خطوةً هائلة بعيدًا عن الخبث السوقي للهجائيات العراقية، التي تُهين الرجال بتوجيه أبشع التُّهم لنسائهم. يقول إنَّ أم البنين زارتْه في نومه:

فلمَّا أن فرحتُ بها
ومال عليَّ أعذبُها
شربْتُ بِرِيقِها حتى
نهِلْتُ وبتُّ أُشْرِبُها
وبتُّ ضجيعَها جذلا
نَ تُعجبُني وأُعجبها
وأُضحكها وأُبكيها
وأُلبِسُها وأَسلُبها
أعالِجُها فتَصرَعُني
فأُرضيها وأُغضبها
فكانتْ ليلةٌ في النو
مِ نسمُرُها ونَلعبُها
فأيقظنا منادٍ في
صلاة الصبح يرقُبُها٤١

يحكى أن أم البنين أُعجبت بالقصيدة وتدخَّلت بعد ذلك لصالح الشاعر وأقنعَت الخليفة بالعفو عنه.

وُضع نمطُ شِعرِ الحُب العذري وحكاية الحُب مبكِّرًا في عصور الجاهلية. وكان أولُ شاعر حُب عذري في العصر الأموي عروةَ بن حزام، وتضع قصته الغرامية التراجيدية نمطًا للعديد من قصص الحُب في العصر الأموي. أحبَّ عفراء ابنة عمه، لكنَّ عمَّه أصرَّ على مهرٍ كبير وذهب المحبُّ الشاب يبحث عن ثروة. وعاد ليجد أباها قد زوَّجها من رجلٍ آخر. هنا بدأت الخبرة المبرحة لحُب من طرفٍ واحد. عروة، مثل الكثيرين من العشَّاق المحبَطين في القصص الغرامية الأموية، يعتلُّ ويموت من الحُب. معظم هذه القصص قصصُ مواقفَ متطرِّفة. الاعتلال والجنون، والهيام في الصحراء، والاستغراق الكامل في عملية إعداد المسرح، والألم والدموع وهذيان القلب، والموت غالبًا، سماتٌ معتادة. يُنسب الكثير من هذه القصص إلى بَنِي عُذْرة، قبيلة جميل، التي كانت تعيش في وادي القرى، في الحجاز، بين الشام والمدينة، لكن انضمَّ لكورس المنكوبين عشَّاق وشعراء من كثير من القبائل الأخرى. من المستحيل ربْطُ ظهور هذه الموجة الجارفة من حكايات الحُب وشِعر الحُب بالموقف السياسي في صحراء الحجاز، أو في الصحراء العربية عمومًا؛ حيث ظَهرَ الشاعران المحبَّان يزيد بن الطَّثرية وذو الرُّمة.

وُلد جميل بن معمر، أعظم شعراء الحُب العُذري في العصر الأموي، ونشأ في وادي القرى، حيث تقيم قبيلته وقبائلُ أخرى. اشتهر بنو عُذرة، كما ذكرنا من قبل، بحكاياتِ حُبهم التراجيدي: «قومٌ إذا أحبُّوا ماتوا».٤٢ اشتهرت نساؤهم بجَمالهن، ورجالهم بعفَّتهم، وحُب جميل لبثينة ليس إلا قصة من الكثير من القصص الغرامية التي تحكى عنهم. تدور حول التيمة نفسها، محبٌّ تزوجتْ حبيبته من رجلٍ آخَر يقضي حياته في التحسر على نصيبه. قابَلَ جميلٌ بثينةَ وهما صغيران جدًّا، واستمر حُبهما حتى وفاة جميل. لم يكُن زواج بثينة إلا بدايةَ قصةٍ طويلة من الآلام الدائمة، تتخللها لحظات من المتعة حين يلتقي الحبيبان سرًّا. هذه المحاولات للِّقاء أغضبتْ أُسرتها؛ فاشتكتْ في البداية لقبيلة الشاعر، ثم للسلطات. هدَّد الوالي جميلًا بالموت إذا اقترب من منطقة إقامة بثينة. مضطهَدًا ومطارَدًا تجوَّل من منطقةٍ إلى أخرى، وانتهى به الأمر إلى مصر حيث مات.

كمٌّ من قصته (وقصص أخرى مماثِلة) حقيقيٌّ، وكمٌّ من عمل الرواة؛ لا يهمُّنا. توضِّح هذه القصص الاهتمام بالمأزق التراجيدي.

إذا كان المجتمع يتحكم في حياة المحبين؛ فقد كانوا، والشعر الذي كتبه جميل، رغم ذلك خارج المجتمع. إنَّ القصص الغرامية الأموية كلَّها ضد المجتمع، نقدٌ للمعايير الاجتماعية، وتعبيرٌ عن التطلع للحرية الفردية، لكنَّ هذا الرفض للمجتمع جزئي فقط. لا نقابل في أيٍّ من هذه القصص انحرافًا جذريًّا، مثل محاولة قتل الخصم، أو الهروب مع الحبيبة، أو — من جانب الفتاة — رفضًا قاطعًا للزواج من شخصٍ آخر. حتى في قصة قيس بن ذَريح، الذي تزوَّج من لُبنى، نرى أنَّ المجتمع، كما يمثِّله الأبُ المسيطر، ينتهك قدسية الزواج ويفرض طلاقَ العقيم من خلال الزوجة المحبَّة. إذعانُ الفتاة بشكلٍ مُحزِن، والدور السلبي الذي تلعبه، لا يتغيَّر. قلما قامت بعملٍ بإرادتها، مثل لقاءِ حبيبها، وتفعله سرًّا. برهنت مبادئ الشرف في هذه القصص على أنها أقوى من الحُب والحياة. لا شكَّ أنَّ الأمَّة في العصر الأموي كانت تبني بنيةً للحكايات الرومانسية، في حدودِ ما يرجُح أن تسمح به معاييرها وأخلاقها. توقَّعت مستقبلًا قمعيًّا أكثرَ للمحبِّين العرب، وخاصة المرأة العربية. الفردية الرائعة — للكثير من بطلات الخوارج، مثل النَّوار، زوجة الفرزدق؛ أو عائشة، زوجة النبي — غائبةٌ بشكلٍ لافت من هذه القصص؛ حيث المرأة مجرد مستقبِلة للحُب. تعِدُ ولا تَفِي أبدًا؛ تحبُّ، ولا تعطي أبدًا في هذا الأدب.

لكنَّ هناك جانبًا مشرِقًا لهذه القصة. تصبح بثينةُ المثَلَ الأعلى للأنوثة. الزمن لا يمكن أن يمسَّها، أو يمسَّ جمالها، وتغير إدراكها. القصيدة القصيرة التالية من أبدع قصائد الحُب في العربية. في نبرتها وموقفها تشير إلى حساسيةٍ جديدة لخبرةٍ غرامية:

تقولُ بثينةُ لمَّا رأتْ
فُنُونًا مِنَ الشَّعَرِ الأحْمَرِ
كبِرتَ جميلُ وأَودَى الشَّبابُ
فقُلتُ بُثينَ ألَا فاقْصُرِي
أتَنسَينَ أيَّامَنَا باللِّوَى
وأيَّامَنَا بِذَوِي الأجْفَرِ؟
أمَا كنتِ أبصرْتِنِي مرَّةً
لياليَ نحنُ بذِي جَهْوَرِ
لياليَ، أنتُم لنا جِيرةٌ
ألَا تَذكُرينَ؟ بَلَى فاذْكُري!
وإِذْ أَنَا أَغْيَدُ غَضُّ الشَّبَابِ
أَجرُّ الرِّداءَ مَعَ المِئْزَرِ
وإذ لِمَّتِي كجَناحِ الغُرابِ
تُرجَّلُ بالمِسكِ والعَنْبَرِ
فَغَيَّرَ ذلكَ ما تَعْلَمِينَ
تَغيُّرَ ذا الزمنِ المُنكرِ
وأنتِ كلُؤلُؤةِ المَرْزُبَانِ٤٣
بماءِ شبابِكِ لمْ تُعصِرِي
قريبانِ، مَربَعُنَا واحِدٌ
فكيفَ كَبِرْتُ ولم تَكْبَرِي؟٤٤

يمكن أن نجادل بأنَّ تحول الحبيبة إلى مثال للأنوثة تمرُّدٌ ضدَّ تعدُّد الزوجات، وضدَّ مبدأ اتخاذ محظيَّات، وضدَّ رفض الرهبنة كما نصَّ الإسلام. لا شيء في الإسلام (باستثناء صورة مريم العذراء) يسمح بتقديس المرأة، لكنْ فجأةً تأتي أمثلةُ العُذرية والعفَّة لتملأ الشعر العذري في تلك الفترة. وجد الشعراء في هذا النوع من تمجيد المرأة وسيلةً جاهزة وسهلة للجمع بين الحسِّي والرُّوحي، وإشباع بحث العصر عن الحسي بدون انتهاكٍ خطير لقِيَمه الخُلقية. هؤلاء البطلات كنَّ وراء شعرٍ يُقيم جسرًا بين الإنساني والإلهي.

يؤسِّس شعرُ جميل المتسامي في الأرضي، ويترجم ألمه الروحي والعاطفي بمفرداتٍ جسدية، في تفاصيل قصصٍ تصِفُ مقابلاتٍ ومحادثات، لكنَّ هناك خطًّا ماسوشيًّا يهيمن على هذا الشِّعر كما يهيمن على بقيَّة الشِّعر العذري.
معظم ما يمكن أن يقال عن جميلٍ، يمكن أن يقال عن الشعراء العُذريين الآخَرين. يوضِّح الشعراء الذين تُوضع هُويتهم الحقيقية موضعَ الشك، مثل المجنون، النمطَ العام نفسه في ترتيب أفكارهم واندفاعهم العاطفي، ونبرة التعبُّد في شِعرهم: في صياغتهم للجملة، واستخدامهم للغة، وفي الموتيفات التي يستخدمونها. بصرف النظر عمَّن كتب الشعر المنسوب للمجنون؛ فقد كان يُكتب بالتقاليد العُذرية الأصيلة. ومساهمته من أبدع الإنجازات في الشعر العذري.

في الشِّعر العذري كلِّه، التأكيدُ على انطلاق العاطفة أكثرُ من التأكيد على الصورة وعظمةِ الموسيقى والصفاء، على عكس الإيقاعات القوية المرِحة المستخدمة في الكثير من شِعر الحُب في مدن الحجاز. وربما نُظم هذا الشعر ليصاحب الحكاية، لا الموسيقى، رغم أنَّ الكثير منه تمَّ غناؤه أيضًا. استخدام اللغة في هذا الشعر بسيطٌ ومباشِر وواضح، لكنها تبدو لغةَ بدوِ الحجاز لا لغة المدن؛ لأنَّ لها، رغم أنها مبسَّطة ومتطوِّرة، نمطًا مختلفًا في الخطاب، وهي أقلُّ سلاسةً وصقلًا.

(١٠) شاعر كبير من العصر الأموي

يتضح الموقف النقدي للشعر في هذا العصر أكثرَ ما يتَّضح؛ في التعليقات التي أدلى بها معاصِرو ذي الرُّمة (غَيلَان بن عُقبَة، ٧٧–١١٧ﻫ/٦٩٦–٧٣٥م)، من قبيلة عدي المُضرية، عن شعره. ذو الرُّمة فنيًّا أهمُّ شعراء عصره وبدون شك أحد أعظم الشعراء في اللغة العربية. لكنه عاش حياته، ومكانته شاعرًا مهمًّا غيرُ معترَفٍ بها. منشِدًا إحدى قصائده في المِربَد، رأى الفرزدق بين الجمهور فسأله عن رأيه في قصيدته. شهد الفرزدق بقيمتها. فسأله ذو الرُّمة: «فما لي لا أعدُّ من الفحولِ؟» فردَّ الفرزدق: «قصَّرَ بك عن ذاك بُكاؤك في الدِّمن … إيثارك وصفَ ناقتك وديمومتك.»٤٥ وحين سئل جرير عن شعره؛ قال إنه «بعْرُ ظِباء، ونقْطُ عَرُوس»، لأنَّ أبعار الظِّباء لها مَشمٌّ في أولها ثم تعود إلى أرواح البَعَر، ونُقط عروس تضمحل عمَّا قليل.٤٦ أكثر حُكمٍ مدمِّرٍ عنه، يأتي في عصرٍ تالٍ، حين وصف بأنه ليس إلا رُبْع شاعر! والسبب في ذلك أنَّ ذا الرُّمة، لم يبرع في المدح أو الفخر أو الهجاء. وهذه ثلاثة من الأغراض الأربعة الرئيسية للشعر، والغرض الرابع الوصف. ولم يبرع ذو الرُّمة إلا فيه؛ لذا اعتُبر رُبْع شاعر. وهذا الحُكم يتطابق مع حُكم الفرزدق حين اعتبر مواضيع الصحراء في شِعره أدنى من موضوعاتِ الفحول. كافَحَ ذو الرُّمة بجدٍّ ليندمج في الوسط الشعري في المدن العراقية، مادحًا الولاةَ ومتردِّدًا على الأسواق، لكنَّ شعره لم يتألَّق قَط بالفخامة والبلاغة التي يتمتع بها كبار أنصار المدح والهجاء. كان المفهوم الشعري متأصِّلًا جدًّا، وقد رسخ المدح والهجاء بثباتٍ في تلك الفترة. ولم يدرك هو أو معاصروه، أنَّ حساسيته الشِّعرية مختلفةٌ عن حساسيتهم؛ وأنَّ توجُّهه بوصفه شاعرَ الحالة الإنسانية العامة، لم يكن متسقًا مع متطلبات تلك المواضيع الأخرى. أحبَّ فنَّ الشعر، وبتفانٍ جدير بشاعر عظيم، دأب على صقل شعره باستمرار. وصْفُه للطريقة التي ينظم بها يكشف عن شاعرٍ أصيل: «في بعض شعري كلماتٌ تأتي بيُسر، وفي بعضه بمشقَّة، وفي بعضه بجنون.»٤٧
وُلد ذو الرُّمة في صحراء الدهناء، في الربع الجنوبي الشرقي من نجد، حيث جاورت قبيلته، عدي، الكثيرَ من قبائل تميم. انحدر من خلفيةٍ فقيرة إلى حدٍّ ما، وقد مات والده؛ نشأ في رعاية أخيه الأكبر. وُصف وهو طفل بأنه حسَّاس جدًّا، يقلق من الظلام وأشباح الليل. علمته أمه قراءة القرآن، ويقال إنه كان مسلمًا متدينًا، لكن تأثير القرآن لا يُرى في شعره إلا في بعض التعبيرات والتلميحات وفي بناء بعض الجمل. تكشف نظرته للحياة عن اهتمامٍ ضئيل بالفلسفة الميتافيزيقية الإسلامية. ولا بد أن الشاعر، إضافةً إلى ذلك، درَسَ قدْرًا كبيرًا من الشعر الجاهلي، ويقال إنه كان راويًا للشاعر عبيد بن حسين، المعروف براعي الإبل (ت: ٩٠ﻫ/٧٠٨م)، وكان متخصِّصًا مثل ذي الرُّمة في وصف الإبل والصحراء. يكشف شِعر ذي الرُّمة عن استمرار التقاليد الشعرية الجاهلية، كما لو أنَّ تسعةَ عقودٍ فاصلة أو أكثر لم تؤدِّ إلا إلى نضج تلك التقاليد ومدِّها بالعمق والروعة. لكنه، كما أشرنا من قبل، انضمَّ أيضًا إلى شعراء الغزل في العصر الأموي، وكان شعرهم يُغنَّى في الحجاز قبل أن يولد بفترةٍ طويلة. يضيف شعره عن ميَّة وخرقاء للعصر الأموي نغمةً إيروسية أخرى على درجةٍ كبيرة من الرِّقة والحنين، بما يتفق مع شعر الغزل في الصحراء في تلك الفترة.

قابَلَ ذو الرُّمة ميَّةَ وهما في بداية الشباب، ومن جانبه كان حبًّا من أول نظرة. كانت من بني مِنقَر، فرع من تميم. توجد حكاياتٌ كثيرة عن علاقتهما، لكنَّ ما يتعلق بمناقشتنا أنه لم يتزوجها قَط؛ لأنَّ أباها زوجها من أحد أبناء عمِّها. وتقول القصة إنَّ زوج ميَّة أرغمها على إهانة الشاعر. جُرِح ذو الرُّمة جرحًا عميقًا، ويقال إنه قابَلَ خرقاء بعد ذلك، ووقَعَ في حبِّها، أو كتَبَ شِعر غزلٍ فيها لمجرد أن يغيظ ميَّة.

قام ذو الرُّمة بزيارات كثيرة للبصرة والكوفة حيث الْتقى بالشعراء. لكن رغم أنه مدح وُلاتهما؛ لم يلقَ قبولًا قَط. جاء في عصرٍ كانت الدراسات اللغوية في هاتَين المدينتَين قد وصلت إلى مستوًى رفيع. شاعر صحراوي اكتشف أنه يعرف مفرداتٍ أكثرَ من أيِّ شاعر في عصره، وثراء لغوي يمكن أن يجمع بينهما قليلٌ من الشعراء، كما فعَلَ، مع إبداعٍ شعري رفيع. في شعره الكثير من الغريب، لكنَّه ينسِّق بشكلٍ جميل مجموعةً رائعة من المرادفات مع تعبيراتٍ شعرية بليغة ومؤثِّرة، على عكس الكثير من التسلسل الفظِّ والأخرق لبعض معاصِريه من الشعراء والرجَّاز. لغته مرِنةٌ وشفافة وملائمة. تطورها ومهارته في معالجتها، يبرهنان على عبقريةٍ لا يمكن أبدًا أن تكون بسيطة حتى لو كان الفنان رجلًا بسيطًا.
شعر ذي الرُّمة متفوقٌ في فحواه واتساقه الموسيقي، واستخدامه للجناس والسجع لا مثيل له في عصره. الصور جزءٌ أساسي من الطريقة التي يتناول بها فنَّه. يزخر شعره بكل أنواع الصور — البصرية والسمعية والبدنية والشمية والحركية — لكنَّ الأخيرة تهيمن عليها كلِّها. لا شيء ساكنٌ في القصائد، رغم انهماكه في الصحراء ومخلوقاتها، وليس هناك ما يوصف لمجرد المتعة الجمالية أو استعراض المهارة الوصفية. كلُّ شيء مشحون بالعاطفة ومقصودٌ لتعزيز حدَّة الخبرة. الصحراء، التي تمثِّل خلفيةً تدور عليها دراما الحياة والحُب والصراع والموت، متنوعةٌ هي نفسها في المظهر: بحور السراب، ممتلئة بنوافيرَ لكن بدون مياه، وبأشباحٍ تتحرك ولا تتحرك؛ بريَّة غادرة، مِرجل من النار، متاهة لا يُسبر غورها، وادٍ عميق يندمج في وحدةٍ كاملة مع عتمة الليل.٤٨
لا يبخل علينا ذو الرُّمة بأيَّة تفاصيل مؤلِمة من مشاقِّ الحياة. نشعر غالبًا بتعب عميق للجمَّالين وهم وجِمالهم (الجمل والسرج والراكب واحد دائمًا) يعبُرون متاهةً تبدو لا نهائية، لا توجد فيها نسمة، وحيث حتى الرمل يشكو الهلاك من الجفاف. بريَّة خاوية تقف فيها الرمال بين الشاعر وحبيبته، مليئة بالسراب، بينما شمس الظهيرة تُعمي العيون؛٤٩ الحرارة هائلة، حتى إنها تهشم البيضَ في عشِّه.٥٠
يجلب وصف التعب والدُّوار الدائم وإنهاك مسافري الصحراء، صورَ رجالٍ يغلبهم التعب فتتأرجح رُءوسهم على صدورهم، وتنحلُّ عمائمهم وتسقط. يسقطون تقريبًا من على سروجهم، وتنحني أجسادهم المرهقة مثل رجال يُخرجون المياه من بئر، أو (وهذه حتى أكثر حدَّة) مثل سطلٍ معلَّق في حبلَين يسحب المياه من بئرٍ ملتوية، ويتأرجح للأبد للأمام والخلف.٥١ مقارنةً بهذا التعب الهائل، تُواصِل الناقةُ صورةَ الثبات والتحمُّل.

من مادةٍ محدودة جدًّا خلَقَ عالَمًا بثراءٍ هائل وأعماقٍ قوية؛ لأنه استوعب المادة بكلِّ أبعادها: غير المباشرة، والرمزية، وفيما يتعلق بالمزاج؛ واستثمر فيها حياتها واستمرارها، بالتوازي مع الخبرة الإنسانية.

شعر ذي الرُّمة أرقى استمرار في العصر الأموي لتراث الشعر الجاهلي، مكتملٌ إلى أقصى حد وساطع بالاهتمام الخاص لهذا الشاعر الكبير ونظرته. وهو أيضًا شاهِدٌ على عمق الشعر الجاهلي وقدرته على الإيحاء وتيماته النمطية القديمة الطقسية. رمز الشعر الجاهلي للحياة ومثَّلها مجزَّأة. كانت الأطلال مفكِّرات الصحراء؛ وكان البكاء على العصر القديم بكاءً على النهاية الحتمية للحياة؛ يمثِّل طيفُ الحبيبة بحثَ الإنسان عن الجمال والاتحاد من خلال الحُب، بالضبط كما كانت رحلة الصحراء بحثًا عن الخصوبة وتحقيق المثالي. كانت الناقة والحصان رمزَين لسعي الإنسان لفتح ما يحيط به، وترمز الصحراء نفسها لاتساع الحياة ومشاقِّها وغدرها. ليست هناك موتيفةٌ أو تيمةٌ واحدة في شِعر ذي الرُّمة لا يوجد لها نظير في الشعر الجاهلي، لكنه يعطيها بُعدَين جديدَين؛ الأول: هناك استحواذٌ يسود شِعرَه وهو يكرِّر التيمات الشعائرية في أشكالٍ أُعيد ابتكارها، ليصبح اشتمالها على رؤية عامة جزءًا من خبرة المستمع أو القارئ. الثاني: قلقه العميق، المنعكس في رؤيته القطبية الرائعة والمأساوية للحياة. من ناحية، هناك الجمال الذي يستحيل الوصول إليه، جمال ميَّة وخرقاء، والظِّباء والرمال الذهبية اللتَين تقارنان بها؛ وروعة الثبات والسعي الدائم وتمثله الناقة التي لا تعرف التعب أبدًا. ومن الناحية الأخرى، تتربص المأساة، مختلطة بالعظَمة، في كلِّ موضع في الرحلة حيث كلُّ المخلوقات في الصحراء تلهث وتصارع من أجل الوجود تحت لهيب الشمس. الحيوانات دائخةٌ من الشمس، أو مرتعِبة من المطر، أو تُصطاد وتُطارَد؛ بقاؤها على قيد الحياة وجهٌ للفشل في تحقيق الهدف. للرحلة في الصحراء استمراريةٌ رائعة، تشير إلى التساؤل الداخلي والبحث عن هدف مجهول. هذه الصورة لعالَم عند نقطةِ انكسار، رمزٌ لخبرة الشاعر في الحُب والحياة العامة، والكثير من القصائد مخصَّصة بالكامل للرحلة الرمزية لرجلٍ في براري الحياة.

يسود شعرَه حنينٌ بالِغ العمق، يبدو أنه موجَّه لطيفِ امرأة، لكنَّه أساسًا حنينٌ يتوق للوصول لشيء ربما لا يفطن إليه الشاعر نفسه. يزخر شعره بحُب الحياة والبراءة، التي تقف مقابل الإهانات المدمِّرة لهجَّائي البصرة.

لكنَّ حُب الشاعر للحياة لا يعبِّر عن نفسه بالمرح والاحتفال. موقفه ليس ثابتًا؛ لأنه لا يرى إلا مأزق الوجود ويحسُّ بالأخطار والمشاقِّ الهائلة التي تكمن في انتظار كلِّ الكائنات. رؤيته «للخطر» وجودًا دائمًا في الحياة يدفعه، في إحدى قصائده، إلى أن يصِف «صيادًا شرسًا» يتربص للحيوانات البريئة بأنه ضحيةٌ هو نفسه؛ لأنَّ ثعبانَين قاتلَين كانا بجواره طولَ الليل.٥٢ حتى الصياد يحصل على نصيبٍ من تعاطُفه؛ لأن لديه أُسرة كبيرة، ولا يمكن أن يفعل شيئًا غير الصيد. الموقف كلُّه موقفُ ضرورة؛ لأنه لتبقى الحيوانات على قيد الحياة، ينبغي أن تشرب، وعلى الصياد أن يَقتل.٥٣

مات ذو الرُّمة مبكِّرًا في الأربعين. براعته شاعرًا لم تُكتشف إلا الآن على أيدي نقَّاد طليعيِّين يمكن أن يتناولوا شِعره بأدواتِ النقد الحديث. ربما كانت صعوبة لغته عائقًا أمام اكتشافه، لكن العقبة الرئيسية تنبع من نقطتَين: أولًا من أنَّ شعره ممتلِئ بمضامينَ دقيقة، وبنظامٍ عامٍّ متميِّز يستعصي على النقاد. ثانيًا: لفهم إنجاز ذي الرُّمة، ينبغي تطوير رؤيةٍ جديدة للشعر الجاهلي، رؤية استوعبت في هذا الشعر أكثرَ من سلسلة من التعبيرات المتباينة المحدودة للحياة الجسدية والخبرة العملية. الموقف الدلالي الضمني لهذا الشعر، وقدرته على إنتاج تفسير عام للوجود الإنساني من محدودية حياة الصحراء، لم يكتشفه العلماء الكلاسيكيون أو كثير من النقَّاد المحدثين. مؤخرًا، مع ذلك، تتطور نظرة جديدة للشعر الجاهلي. شعر ذي الرمة، كما لاحظنا من قبل، عنصرٌ من العناصر الأساسية التي تجلب الأبعاد العامة الإشارية للشعر الجاهلي إلى بؤرةٍ كاملة. إنجازه الانتصارُ النهائي لأجيالٍ من شعراء الصحراء كانوا يعيشون ويصارعون في حدود الصحراء الواسعة الغادرة التي لا تنضب.

قبل أن ينتهي العصر الأموي تمامًا، تجلَّى أول مثال متفوِّق للعبقرية الفارسية في الشعر العربي في بشَّار بن بُرد (٩٥–١٦٧ﻫ/٧١٣–٧٨٣م)، الذي عكست تجاربه التأثير الهائل للحياة الفكرية والأدبية في العراق في تلك الفترة. ومع ذلك، تنتمي دراسة شعره للعصر العباسي الأول؛ لأنه ينتمي حقًّا لتلك الفترة نتيجة المزاج والموقف والأسلوب وبناء الجملة وتنوع التيمات.

التجارب الشعرية في العصر الأموي، أكثر تنوعًا ممَّا في أيِّ عصرٍ آخَر قبل العصر الحديث، وضَعَت الأساس لشِعرٍ جديد، انعكاسًا للحياة في العالَم الإسلامي. كانت المهمَّة الرئيسية للشعر الأموي تحقيقَ مستوًى من الاتساق مع هذه الحياة. يتميَّز بتلقائيةٍ وحريَّة هائلتَين. عمومًا، يثير الشعر الأموي الكثير من النقاط المهمة لناقد يبحث عن أمثلة للعلاقة بين الفن والمجتمع، بين الشعر والتراث. طوال هذا الفصل قدَّمنا محاولةً لملاحظة تأثير المجتمع الأموي على الشِّعر، وناقشنا العلاقة الأساسية بين الشعراء الأمويين البارزين والتراث الجاهلي. والأهم أنَّ هذا الفصل حاوَلَ دراسةَ تطور اللغة الشعرية في تلك الفترة التي شهدت تغيُّرًا هائلًا في كلِّ ميادين الحياة، لافتًا الانتباه بشكلٍ خاص لتأثير التحضُّر على اللغة الشعرية والصراع بين الميل إلى هذه اللغة لتعكس خطابَ العصر ومحاولتها إشباعَ احتياجات علماء اللغة لتوثيق اللغة، كما كانت قبل التوسُّع الكبير خارج الجزيرة العربية.

١  كلُّ اقتباسات القرآن عن ترجمة أربري للقرآن.
٢  في الأصل الشاعر، وأظنُّ أنَّ المقصود النبي. (المترجم)
٣  راجع: النمري، الاستيعاب، ج١، ٣٤٦.
٤  الديوان، ٤٧٧.
٥  المبرد، الكامل، ٨٨٠.
٦  شعر، ٣١٤.
٧  المصدر نفسه، ٢٣٣.
٨  المصدر نفسه، ٢٣٤.
٩  المصدر نفسه.
١٠  المصدر نفسه، ٣٢١.
١١  المصدر نفسه، ٢٩٦.
١٢  المصدر نفسه، ١٣٠-١٣١.
١٣  المصدر نفسه، ١٠١-١٠٢.
١٤  الجمحي، الطبقات، ٣٨٧.
١٥  الديوان، ج١، ١٥٣.
١٦  المصدر نفسه، ج١، ٢٧٣.
١٧  المصدر نفسه.
١٨  المصدر نفسه، ج١، ٣٦٣.
١٩  المصدر نفسه، ج١، ٢٢٠.
٢٠  المصدر نفسه، ج١، ٢٩٤.
٢١  المصدر نفسه.
٢٢  المصدر نفسه، ج٢، ١١٠.
٢٣  المصدر نفسه، ج١، ٣٣٠.
٢٤  المصدر نفسه، ج٢، ١٥٣.
٢٥  الديوان، ٢٦.
٢٦  المصدر السابق، ٣٩٦.
٢٧  المصدر السابق، ٤١٦.
٢٨  المصدر السابق، ٣٦٠.
٢٩  ابن قتيبة، الشعر، بيروت، ج١، ٣٧٧.
٣٠  المصدر نفسه.
٣١  الأصفهاني، الأغاني، ج٨، ١١.
٣٢  المصدر نفسه، ج٨، ٢٠.
٣٣  الديوان، ١٣٠.
٣٤  الكميت، الهاشميات، ٣٣.
٣٥  المرزباني، الموشح، ٣٠٣.
٣٦  الكميت، الهاشميات، ٧٤.
٣٧  الديوان، ٤٣٧.
٣٨  الأغاني، ج١٠، ١٦٥.
٣٩  الديوان، ج١، ٤٨٠ وما يليها.
٤٠  الديوان، بيروت، ٢٦٥.
٤١  الديوان، ١٢٣.
٤٢  سراج، مصارع، ج٢، ١٨٦.
٤٣  الوالي الفارسي لإقليمٍ حدودي.
٤٤  الديوان، ٩٢-٩٣.
٤٥  المرزباني، الموشح، ٢٧٤.
٤٦  المصدر نفسه، ٢٧٢.
٤٧  المصدر نفسه، ٢٧٣.
٤٨  الديوان، ٣٩٩.
٤٩  المصدر نفسه، ٥٩١.
٥٠  المصدر نفسه، ٨٦.
٥١  المصدر نفسه، ٩١.
٥٢  المصدر نفسه، ٨٧.
٥٣  المصدر نفسه، ٥٣٤–٥٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥