الفصل الثاني والعشرون

التأثير اليوناني على الأدب العربي

ل. إ. جودمان، جامعة هاواي

(١) قبل الإسلام

من أقدم الوثائق التي لدينا سجلات عن الاتصال بين الجزيرة العربية والعالم الخارجي. تسجِّل النقوش المسمارية لسرجون Sargon استلامَ جِزية من شمسية، ملكة الجزيرة العربية، وإثمرا السبئية، وشيبا التوراتية. لمئات السنين قبل ميلاد المسيح، تجنَّبت التجارة البريَّة البحرَ الأحمر بالعبور من حضرموت إلى مأرب، عاصمة سبأ، ثم إلى ماكورابا (مكة)، والبتراء، وميناء غزة على البحر المتوسط. كان ارتباط الجزيرة العربية بثراء تجارة الهند، ما جعل تسمية «العربية السعيدة» اسمًا يستحضره المؤلفون والمندوبون الرومان، في تناقضٍ صارخ مع الصورة الإسلامية المبجَّلة لمَا قبل الإسلام في الجزيرة العربية بأنه عصرُ تخلُّف وبربرية، جاهلية. يجب أن يُعزَى تأكيد بدائية الجزيرة العربية قبل الإسلام؛ ومن ثَم عزلتها، جزئيًّا إلى سعيٍ للتأكيد على مساهمة الإسلام، بالتوازي مع التأكيد الذي وضعه محمَّد على أنه كان أميًّا قبل تلقِّيه الوحي، من ناحية للحنين الرومانسي الذي تنظُر به حضارةٌ حضرية على بداياتها. من القرآن نعرف أنَّ محمدًا، رغم أنَّه أمي ولم يسافر كثيرًا نسبيًّا، يعرف بوجود حضارات عظيمة في الجزيرة العربية قبل عصره بوقت طويل؛ وبشكل غامضٍ، بالتأكيد، عن علاقاتها بالشعوب المحيطة.
لم تكن الجزيرة العربية مغلقةً بإحكام قَط. وحين ترك العرب، متَّحدين بالإسلام، حدودَ شبه الجزيرة، كان العالم الذي فتحوه خاضعًا للتأثير الهيليني لفترةٍ طويلة. الإشارات المحترمة لأفلاطون إلى الحكمة القديمة لمصر واليونان، تذعن للعراق في مسائل الفلك ويتذكرها الكتَّاب العرب بعد قرونٍ لتصحيح الانطباع بأن التجارة بين اليونان والشرق الأدنى كانت بالضرورة في اتجاهٍ واحد. وفَّر توسيع الأفق اليوناني بالفتوحات الشرقية للإسكندر إمكانيةَ حدوث اختراقٍ ثقافي عميق، استمرَّ لفترةٍ طويلة بعد ما يسمَّى بالعصر الهيليني. للاستشهاد بمثالٍ واحد على هذا التفاعل، ذكَرَ أفلوطين، وهو نفسه مواطِنٌ من صعيد مصر، عربيًّا على الأقل، زيثوس Zethos، ضمن أصدقائه المقرَّبين. وكان فرفوريوس Porphyry الصوري، واسمه الحقيقي ملخس Malchus، وربما كان إمبليكوس Iamblichus عربيًّا.
لم تكن الصحراء العربية قبل الإسلام، بنظرةٍ من أطرافها المتحضِّرة، من الشام أو جنوب الجزيرة العربية أو العراق أو مصر أو بلاد ما بين النهرَين أو الحبشة، أرضًا خرابًا بل بحرًا، يمكن قَطْعه، تتخلَّله جُزُر من الواحات، بُؤر تأثيرٍ سياسي وديني واقتصادي وفكري. حين هُزم فاليريان Valerian في معركةٍ على يدِ كسرى سابور الأول، كان حليفه العربي أذينة هو الذي صد سابور إلى المدائن في ٢٦٥م، وكافأ جلينوس تابِعه بلقب أغسطس Augustus ووضعه في قيادة الفيالق الرومانية في المنطقة. وانشقَّت زنوبيا، أرملة أذينة المقتول، عن روما، واتخذت من تدمر قاعدةً، وسعَتْ لإقامة إمبراطورية شرقية من أنياب العالم الروماني. وكان مستشارها السياسي والفلسفي لوجينوس Longinus الأفلاطوني، وكان زميلًا في الدراسة مع أفلوطين للحكيم السكندري أمونيوس السقاص Ammonius Saccas.
ينبغي السعي للتغلب على وهْمِ أنَّ سكان الجزيرة العربية كانوا جميعًا من البربر البدائيين قبل ظهور الإسلام، لم يكُن لديهم ما يفعلون إلا المَيْسر أو وأدِ البنات أو تقديم أضاحي بشرية لأربابهم الوثنيين. محمد نفسه، مع مذهبه الحنيف الطبيعي، لا يؤمن بهذا. الشعر قبل الإسلام فنٌّ رفيع الأسلوب، عينة مختارة منه تبقى وحدها تقريبًا لسوء الحظ قطعةً فنية من قبل الإسلام؛ لذا تم الإفراط في تفسيره بكثافة إلى حدٍّ ما. مفهوم الزمن باعتباره عدوًّا عامًّا، يُلقي بظلاله على السعادة البشرية، تيمة رائعة، رغم تحوُّلها إلى أكليشيه للشعراء العرب. بدتْ بدائيةً فقط لأنها تيمةٌ دنيوية إلى حدٍّ ما وسوداوية. الاحتفال بالمِرُوَّة مرةً أخرى فسَّر باعتباره نوعًا من البربرية من جانب العرب الأوائل. لكنها فقط قيمةٌ اعتنقها مجتمعٌ قبَلي، يعتمد فيه البقاء إلى حد ما على المروءة، فمجَّدها أو أضفى عليها طابعًا رومانسيًّا — وأكد عليها — مجتمعٌ حضري بعد ذلك، كان اهتمامه الحقيقي نوعًا من الفروسية، الفضيلة إذا جاز التعبير.

كان هناك، إذن، ثقافةٌ رفيعة في الجزيرة العربية نفسها قبل الإسلام؛ ورغم أن قاعدتها ربما كانت ضيقة، وأسلوبها متكلَّف إلى حد ما ومتكرِّر (وهذا، رغم كلِّ شيء، علامةٌ من علامات العصور القديمة في شكل الفن)، فإن تيمتها لم تكُن غير متوائمة بحالٍ من الأحوال مع تلك التي وصلتْ من الوسط الهيليني. لم تترك موادُّ الثقافة العربية مالكَها عاريًا أو غيرَ مستعدٍّ لمَا كان يعلمه حين صار سيدًا في المدن الكبرى للعالم الهيليني. ولم تكن المفاهيم اليونانية غريبةً عليه بالكامل قَط.

وكما وضَّح فون جرونبوم Grunebaum: «حتى أقدم شعر عربي يوضِّح آثارًا محددة للتراث الهيليني. في وقت مبكر يعود إلى سنة ٥٠٠م تقريبًا مات المرقش الكبير من الحُب.» ويحذُّر طرفة (ت: ٥٦٥م تقريبًا) حبيبته من مصيرِ الشاعر السابق، والأعشى (٥٦٥–٦٢٩م تقريبًا) «يدعو حبيبته قاتلة الرجال».١ بالطبع ربما كان الشاعر يعبِّر عن مشاعره الصادقة، لكنه يفعل ذلك بتقاليدَ أدبيةٍ محددة (ويمكن تحديد أنها يونانية) بوضوح. الشاعر نفسه يردِّد أصداء موسخوس Moschos (١٥٠ق.م. تقريبًا) في «رواية (بضمير المتكلم) الموقف الشهير عن دائرةٍ مغلقة لحالاتِ حُب غير متبادَل، مألوفة لنا جدًّا، من المسرح الكوميدي». الحُب هنا ليس بدائيًّا — ناهيك عن الخبرة الجوهرية — لكنَّه علاقةٌ بأسلوبٍ معيَّن إلى حدٍّ ما، فيها قد يتشابك الأفراد بشكلٍ متبادل إلى حدٍّ ما. وقد يكون اتساق روابطهم مثيرًا للشفقة بشكلٍ ذاتي، أو كوميديًّا بشكل موضوعي، لكنَّ القصيدة ليست بوضوح وسيلةً للعيش في الخبرة (كما قد تكون بالنسبة للبدائي)، لكنها وسيلة للابتعاد عنها.

نعرف أنه كان هناك كثيرٌ من السكان اليهود في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام. يبدو أنهم قدموا في الأصل بحثًا عن ملاذٍ من الاضطهاد، وعُزِّزوا بموجاتٍ متلاحقة من المهاجرين. بينما حافظوا على تقاليدهم الدينية، صار هؤلاء الموحِّدون مستعربين تمامًا، وكان لهم بدورهم تأثيرٌ كبير على قبائل عربيةٍ كثيرة. اعتُبِرت زنوبيا نفسُها يهوديةً؛ واعتنق ذو نواس، ملك حمير، اليهودية. ولم تكن القبائل اليهودية في المدينة بالنسبة لمحمد قوةً سياسية فقط لا يستهان بها حليفًا أو عدوًّا محتملًا، لكنها كانت أيضًا مصدرًا للبيانات ونقْدِ وحيه، رغم أنهم كانوا في النهاية شوكةً في جانبه ينبغي إزالتها.

عاش أيضًا السكان المسيحيون زمنًا طويلًا في الجزيرة العربية وقريبًا منها قبل عصر محمد. تناولت وُفودهم من نجران في الجنوب أمورَ الدين، وحارَبَ رجال القبائل العربية المسيحية من الطائفة اليعقوبية (أي الوحدانية) بجانب قوات المسلمين في السنوات الأُولى للهجرة واعتنقوا الإسلام بعد ذلك. وتنبَّأت باعتناقٍ جماعي للإسلام في السنوات الأُولى شهاداتٌ جماعية مزعومة لقساوسةٍ يَعَاقِبة في مصادر سريانية.

خضع اللخميون للفُرس الساسانيين والغساسنة للبيزنطيين؛ لتأثير يوناني كبير، ليس فقط من خلال «دولٍ تالية» هيلينية يدينون بالولاء لها، ولكنْ أيضًا من خلال الطوائف المسيحية التي لجأتْ بينهم خوفًا من السُّلطة البيزنطية. وكانت الحيرة، قربَ موقع بابل القديمة ومقرِّ بلاط اللخميين، مكانَ تجمُّع للعرب من الداخل منذ القرن الثالث الميلادي. زارها الشعراء العرب ومدحوا أسقفَهَا بحلولِ عام ٤١٠م. حوالي سنة ٤٠٠م، يبدو أنَّ نعمان الأول، ملك اللخميين، صار متديِّنًا من نوعٍ ما، ربما مسيحيًّا. وكان بعض الولاة اللخميين مسيحيين، وكذلك غالبية رعيتهم. الحكاية التي يحكيها «الأغاني» عن ولاء حنظلةَ وشَرِيك٢ تذكِّرنا بالقصة اليونانية عن دمون Damon وبيثياس Pythias، لكنْ يمكن فقط أن نخمِّن متى وكيف تمَّ حقْنُ الصبغة اليونانية في هذا التراث من عصر اللخميين. لكنَّ الصورة جليَّةٌ في حالة تعرُّض العرب الأوائل للمنطق والطب اليوناني.

نسمع، على سبيل المثال، أنَّ الحارث بن خلدة — من الطائف (ت: ١٣ﻫ/٦٣٤م تقريبًا) — أولُ عربي تدرَّبَ علميًّا ليكون طبيبًا. درس الحارث، ويُذكر أيضًا أنه شاعر، الطبَّ في المركز الطبي الكبير في جنديشابور؛ وكان يدعمه الملوك الساسانيون، ويعمل فيه لاجئون مسيحيون ملمُّون بالتراث الطبي اليوناني، واستمرَّ طويلًا في عهد المسلمين يقدِّم أساس الإنجازات الطبية الفارسية العظيمة في القرن التاسع–الحادي عشر. وهناك سُجِّل لمحادثةٍ طويلة عن الطبِّ بين الحارث وكسرى أنوشروان (حكم: ٥٣١–٥٧٩م). كانت زوجة الحارث خالة محمد، ويبدو أن الطبيب عرف النبي. ويقال إنَّ ابنهما النضر، وقد تدرب في الطب أيضًا، أعدمه علي، بأوامر من محمد، بعد انتقاده لرسالة الأخير.

ولم يكن من الضروري أيضًا أن يسافر العربي إلى جنديشابور أو الإسكندرية ليتصل بأفكارٍ يونانية. جلب اليهود في الجزيرة العربية وفلسطين والعراق، والمسيحيون في البلاد نفسها وفي الشام والحبشة، والوثنيون من عبدة النجوم في حران، الفكرَ الهيليني في الآفاق الثقافية للعربي الذي يتوق للمعرفة.

شيَّد جستنيان Justinian قوةَ التجمع العربي المنافِس قوةً موازية للَّخميِّين تحت قيادة الغساسنة، أكثر اكتسابًا للطابع الهيليني من اللَّخميين. نصب أمراء الغساسنة خيامًا على تُخوم سوريا، حول دمشق وتدمر، لكن لم يكُن لهم وجودٌ إسبرطي. استمتعوا بجوقات المغنيات اليونانيات. ووصَلَهم التأثير اليوناني على مستوًى غير دنيوي أيضًا؛ لأن الغساسنة كانوا موحِّدين. ولعب الموحدون وأعدادٌ من خصومهم النساطرة دورًا حاسمًا في ترجمة الأعمال اليونانية، إلى السريانية التي سبقت ترجمتها إلى العربية. وحيث إنَّ اليهود والمسيحيين كانوا ضمنَ الحملة الأساسية للثقافة الهيلينية في الجزيرة العربية قبل الإسلام؛ فإن من مؤشرات تغلغُل الأفكار الهيلينية في الجزيرة العربية تأثيرَ التراث اليهودي والمسيحي على عقل محمد.
سمع النبي حكاية «النيام السبعة في أفسيوس»،٣ المسيحيين الذي لجَئُوا إلى كهفٍ في أثناء اضطهاد ديسيوس Decius (حكم: ٢٤٩–٢٥١م) واستيقظوا فيما يعتبره المسيحيون عهدَ ثيودوسيوس Theodosius،٤ العهد الأكثر ملاءمة. لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن تفاصيل القصة، وحاوَلَ إخفاء ذلك بالعدد الدقيق لهم بنوعٍ من الحديث المزدوج لمصدره الخارق. وروى بشكلٍ يمكن التعرف عليه تمامًا مجموعةً من أساطير موسى وأجزاءً من قصة الإسكندر.٥

(٢) صدر الإسلام

كانت الموادُّ التي تغلغلتْ إلى مكة من اليونان قبل الإسلام شائعةً، وانصهرت بكثافة مع العناصر اليهودية والمسيحية. المذهل في التقابل، في هذا الصدد، بين العصر الجاهلي وعصر الهيمنة الإسلامية الانتقالُ من التلقي السلبي (والعرَضي إلى حدٍّ ما) للمقولات اليونانية الشائعة في المياه الراكدة في الثقافة العربية إلى الاكتساب النشِط والممنهَج للشعوب الناطقة بالعربية لقدْرٍ كبير من المعرفة الرفيعة، والفنون والعلوم اليونانية، واستيعاب عددٍ من التيمات والمشاكل الرئيسية المعقدة للثقافة اليونانية الرفيعة. والأكثر أهمية تحوُّل الأدب العربي ككلٍّ من نمطٍ مجزَّأ أو منمَّق من أنماط الكتابة، إلى الطريقة اليونانية في عرض الموضوع. قبل دمج قطاعات كبيرة من الأدبيات العلمية والتقنية والفلسفية، وخاصة استيعاب أنماط التنظيم الفكري (التحليل السقراطي، التصنيف الأرسطي) في الأدب العربي، كان كلُّ بيت من قصيدة عربية، في رأي النقَّاد العرب، ذرةً منفصلة من المعنى، قابلًا غالبًا لتغيير ترتيبه مع آخَر، مثل خرزة في سلسلة.
وكانت كتابة النثر العربي على الحالة نفسها في نواحٍ عديدة. كان أقدمُ تراث تاريخي عربي عن الأنساب والقصص، وأُولى الأعمال العربية في التاريخ حوليات ومجموعة أخبار عن أحداثٍ وتقاليدَ مذهلة. كان الحديث، الذي أصبح أساسَ الإسلام، قصصيًّا. معظم الكتب الأُولى المذكورة في فهرست ابن النديم مجرَّد تجميع، كثيرًا ما تُجمع معًا حول عنوان ما ذريعةً لعَرْض المادة أكثر من إشارة إلى تيمة موحدة. ومن اليونانيين تعلَّم الأدب العربي تقدير عرض الموضوع الذي جعل من الممكن تأليفَ الأعمال التقنية والعلمية والفلسفية الأصلية بالعربية. وبهذا المعنى، قد نقول، حتى تصنيف البخاري للموادِّ الهائلة من الحديث تحت عناوين منسَّقة لمواضيعَ معيَّنة (انظر ما سبق، الفصل ١٠)؛ كان مرحلةً في عمليةٍ تقود من الإدراك العرَضي أو الخطي («س علَّة ص») إلى الرؤية الشاملة والتركيبية لابن سينا وابن خلدون. ومن الواضح أنَّ سببًا حاسمًا في جعلِ مجموعةٍ كبيرة من هذه التغيرات ممكنة؛ كان التوسع الهائل للآفاق العربية بالفتوحات الإسلامية، وانضواء عالَم كان يضمُّ بعضَ المقرات الرئيسية للحضارة الهيلينية تحت راية الإسلام، لكنْ لا يمكن فهْمُ السرعة والاتجاه الذي اكتملت به هذه المهمة الكبيرة٦ من الاستيعاب والتمثل الفكري؛ بدون الإشارة إلى تمهيدِ الأرض، ليس فقط في الجزيرة العربية، بل وفي البلاد المحيطة، التي أصبحت الإمبراطورية الإسلامية.

(٢-١) العلم واللاهوت والفلسفة

في المراكز الهيلينية الكبرى التي خضعت للعرب، ازدهر في العصر الوثني التراثُ اليوناني في الرياضيات وعلم الطبيعة والفلسفة والطب والفلك. حُفِظ هذا التراث، وفي الوقت ذاته مهد ببراعة لاندماجه في الثقافة الإسلامية بمواجهاتٍ سابقة مع التوحيد. أكمَلَ فيلون Philo السكندري (٢٥ق.م. تقريبًا–٤٥م تقريبًا) توليفًا عميقًا وخلَّاقًا للفكر الموسوي بفلسفة أفلاطون. بجدٍّ عزَّز المفكِّرون المسيحيون من أوريجانوس Origen السكندري (١٨٥م تقريبًا–٢٥٤م تقريبًا) إلى يوسابيوس Eusebius القيصري (أسقف ٣١٥م تقريبًا–٣٤٠م تقريبًا) انصهارَ القيم والأفكار الهيلينية مع المسيحية، وشجَّعوا خلال عصر الاضطهاد المسيحي الرأيَ بأن المسيحية كانت تنشئةً حقيقية، كانت كلُّ الحضارة السابقة تمهيدًا لها. أثبتت هذه الحملة أنها ناجحة جدًّا، حتى أصبح بقاء الأنماط اليونانية في التفكير مستقلًّا تمامًا عن السؤال الهامشي بشأن بقاء جماعاتٍ مثل المجتمع الوثني في حران. وصار الموحِّدون أنفسهم ركائزَ الفكر اليوناني. وهكذا يعلق أسقف مسيحي بأنه لم يتوقف عن كونه فيلسوفًا حين أصبح مسيحيًّا؛ يستخدم الأساطيرَ المسيحية لحثِّ الناس يوم الأحد مؤشراتٍ للعقيدة الفلسفية التي يلتزم بها العقل. توقُّع مذهِل للمذهب الأفلاطوني عند الفارابي بشأن أدوار النبوة والفلسفة في المجتمع.

حين أصبح المسيحيون بدورهم مُضطهِدين، كانت العملية الثقافية قد مضت بعيدًا بشكلٍ لا يمكن عكسه. كان تراث المعرفة اليونانية — أو بالأحرى حامِليه — يضغط ببساطة فكريًّا وسياسيًّا وحتى جغرافيًّا أقربَ إلى مركز جاذبية العالَم الإسلامي.

كانت نموذجية هذه العملية والأهمية التاريخية لتبني المسلمين لفنون الإغريق وعلومهم؛ مصيرَ حركات الموحِّدين والنساطرة. بدايةً كانت الاختلافات بين الموحدين وخصومهم داخل الكنيسة لفظيةً إلى حد بعيد، قائمةً على غموضٍ في المصطلح اليوناني physis أو «طبيعة». لكن محاولة الكنيسة في مجمع خلقيودنية وضْعَ مبدأٍ معتمد بشأن القضية الغامضة والمشحونة جدًّا عن طبيعة المسيح؛ حَفزَت استقطابًا جذريًّا بشأنِ ما قد يبقى، بدون ذلك، قضيةً نظرية وأكاديمية؛ لذا وجَدَ عددٌ كبير من المسيحيين الأتقياء في الشرق أنَّ فكرة ربٍّ مصلوب بغيضةٌ روحيًّا وجماليًّا؛ فمالوا بشكلٍ طبيعي للُّجوء لعقيدة التوحيد بأنَّ المسيح لم يعانِ حقًّا على الصليب، أو في المعتقد النسطوري أنَّ «الطبيعة الإلهية» للمسيح على الأقلِّ تجنبتْ هذا الهوان. إصرارُ الكنيسة على تنفيذ مرسوم خلقيودنية، بلوَرَ المعارضةَ الشرقية للسُّلطة المركزية وأدَّى مباشرةً إلى نشأة الكنائس اليعقوبية (الموحِّدة) والنسطورية المنفصلة. مضطهَدين كلما وُجدوا وأينما وصلت سُلطة الأباطرة البيزنطيين، ازدهر النساطرة والموحِّدين في مصر وبنوا مئاتِ الأديرة والمدارس في سوريا، وشرق الأردن والعراق. وللهروب من اضطهاد البيزنطيين، لجأ جماعةٌ من علماء النساطرة من الرها في ٤٥٧م عبْرَ الحدود الفارسية في نصيبين. وتعزَّز الفريق النسطوري الفارسي في ٤٨٩م، حين أغلق الإمبراطور البيزنطي زينو Zeno بشكلٍ دائم المدرسة النسطورية في الرها. جَلبَ النساطرة معهم إلى بلاد فارس معرفتهم بالطب والمنطق، ممثَّلةً بأعمال شخصياتٍ مثل بربوس Probus الأنطاكي، الذي علَّق على «العبارة» و«القياس» لأرسطو وعلى «المدخل» أو مقدمة منطق أرسطو لفرفوريوس، وترجم أولًا إلى السريانية في عصره. بالنسبة للمسيحيين المتعصبين، كان منطق أرسطو معقلَ القوة الجدلية في مجادلاتهم مع بعضهم البعض وضد الكنيسة الأرثوذكسية، ليس فقط لأنَّه علَّمهم المبادئ الأساسية للجدل، بل أيضًا لأنَّه قدَّم قاعدةَ مفاهيم للتعامل مع مشاكل الوجود التي تكمن في جذر نزاعاتهم اللاهوتية.
اتسعتْ أعمال النساطرة، واكتملتْ بأعمال العالِم الموحِّد السابق سرجيس الرأسعيني (ت: ٥٣٦م)، الذي درس الطب في الإسكندرية وكان أولَ مترجمٍ كبير للأعمال الطبية اليونانية إلى لغةٍ سامية. وتُنسب له ترجمةٌ سريانية لستةٍ وعشرين عملًا من أعمال جالينوس، كتب مدرسية أساسًا، فضلًا عن عدد من الأعمال الطبية الأخرى. ولم تشمل ترجماته الفلسفية «المدخل» فقط، بل أيضًا «المقولات»، العمل الميتافيزيقي الأكثر إثارةً للجدل من الأعمال المجموعة في «أرجانون» أرسطو، الذي كتب عنه تعليقًا تفصيليًّا. وترجم أيضًا إلى السريانية الرسالةَ الرواقية المهمة المنسوبة خطأً لأرسطو، «عن العالم»، وكتابات الأفلاطونية الجديدة التي انتشرت تحت اسم ديونيسيوس الأريوباجي. وترجم سرجيس المحاورةَ المنسوبة خطأ لأفلاطون، «أرستوبس Herostrophos (Aristippus)»، التي تتناول مشكلة البعث الجسدي. وربما كان أيضًا مترجِمَ كتاب «نحو ديونيسيوس الثرسي». وكتب رسائل أصلية في المنطق وتأثير القمر. وواصَلَ حنين بن إسحاق (١٣٤–٢٠٠ﻫ/٨٠٩–٨٧٣م)، أعظم المترجمين العرب، أعمالَ سرجيس تقريبًا كما لو لم يكُن هناك قطعٌ يزيد عن ثلاثة قرون بينهما، مراجِعًا ومصحِّحًا ترجماته، ووسع بشكلٍ كبير قائمةَ عناوينه.
ربما وضع الاختيار من «تاسوعات» أفلوطين التي عُرفت ﺑ «لاهوت أرسطو Theology of Aristotle» معًا في القرن السادس تحت رعايةٍ سريانية ويعقوبية، إلى حدٍّ ما تقارن بأعمال سرجيس. بالنسبة للعلماء الذين يكمن اهتمامهم الأساسي في العصور الكلاسيكية القديمة، هذه الأعمال، من قبيل ما يسمَّى «لاهوت أرسطو»، المادة مأخوذة من بروكلوس وانتشرت باسم «كتاب العلل Book of Causes» لأرسطو، والأعمال المنسوبة خطأً لديونيسيوس مزيفةٌ ببساطة لسوء الحظ، لكنْ بالنسبة لمَن يكمن اهتمامهم في الديناميكيات التصورية للانصهار الثقافي، لهذه الكتابات أهميةٌ أكبر بكثير من الكثير من الأعمال الأصلية؛ لأن هذه الكتابات تكشف آليات العملية البارعة التي انصهر بها فكر أفلاطون وأرسطو وأفلوطين واندمج في التوحيد؛ ملائكةٌ يأخذون بشكل طبيعي مواضع آلهةٍ وثنية صغيرة، وتمتزج أفكار أفلاطون بالمفهوم العبري للأمر الإلهي، وفيضٌ يأخذ مكانه التاريخي تفسيرًا فلسفيًّا للخَلق وتأسيسًا لوضع تصوُّر الوحي.

عرف العلماء السريان بوضوح أن مهمتهم نقلُ الثقافة وتعديلها. وهكذا كانت أعمالهم ترجماتٍ وتعليقات وكتبًا مدرسية ومصنفاتٍ وموسوعات، نُظمت فيها الإنجازات الثقافية للعالم الهيليني، وتم تشكيلها ومنهجتها وتعديلها. وبالطبع، في الوقت ذاته، تجميدها إلى حد ما، لكنْ ما نُقل كان تراثًا حيًّا، قادرًا، مثل كرمةٍ قديمة معقدة، على انفجاراتٍ جديدة للحياة وعُروض مدهشة من النشاط أينما الْتقت مع ظروفٍ مواتية.

كانت حيوية الرياضيات اليونانية الأخيرة، نموذجًا لاستمرار التراث الفكري اليوناني في العالم اليوناني قبل الإسلام. حين رغب جستينان في إعادة بناء آيا صوفيا، استدعى اثنَين من أكثر الرياضيين الذين أنجبهم العالَم تقدُّمًا، أنثميوس Anthemius من آسيا الصغرى وإزيدورس Isidorus من ميلتوس؛ ليُشرفا على الهندسة. وكان الرجلان في مقدِّمة هندسة الجوامد في أيامهما. أنثميوس، الذي كتَبَ تعليقاتٍ على ميتافيزيقا أرسطو وأيضًا حساب نيكوماكيوس Nicomachus، وتجاوز كثيرًا معالجةَ أبولونيوس Apollonius للقطاعات المخروطية ليبرع في المنحنيات المكافئة. كتب إيوتوكيوس Eutocius، وهو رياضي بيزنطي آخَر، عن أرشميدس وأبولونيوس، محافِظًا على معرفة القطاعات المخروطية التي أصبحتْ مهمةً للعرب، ليس فقط باعتبارها نظريةً هندسية، لكن أيضًا فلسفية؛ لأنها قدَّمت لهم وسيلةً لتصور التعامل مع مفهوم اللانهاية. أضاف أحد تلاميذ إزيدوروس كتابًا خامس عشر، عن الجوامد المنتظمة، إلى عناصر إقليدس.
استمر التراث نفسه من الدراسة والتعليم، وزيادة علوم الإغريق حتى الهجرة وما بعدها، وفي عهد المسلمين. تمتَّع بلاط هِرَقل، إمبراطور بيزنطة ٦١٠–٦٤١م، بخدمة الطبيب والفسيولوجي ثيوفيلوس بروتوسبتريوس Protospatharios، الذي كتَبَ تلميذُه، ستيفن الأثيني، أعمالًا طبية أيضًا. وعاصَرَه تقريبًا آرون Aaron السكندري، الذي ترجَمَ كتابه الطبي إلى السريانية والعربية، وثبَتَ أنه لا يقدَّر بثمنٍ بالنسبة لمحمد بن زكريا الرازي. ثمَّة طبيبٌ آخَر معاصر، بولس Paul الأجيني، صنَّف موسوعةً طبية أساسية من سبعة أجزاء قائمةً على أعمالِ جالينوس وأوريباسيوس Oribasius، ترجمها حنين بن إسحاق إلى العربية. وبقي بولس في الإسكندرية حين استولى المسلمون عليها في ٦٤٠م، كما فعَلَ أسقف اليعاقبة والطبيب جون السكندري، شارح أعمال جالينوس وأبقراط. وكانت مسيحية القرآن نفْسِه يعقوبيةً، وهكذا لم يجِدْ جون نفسَه على قطبَي نقيض مع السُّلطة الحاكمة الجديدة. وبالطبع، بالنسبة للكثير من أعضاء الجماعات المسيحية غير الأرثوذكسية، كان الفتح الإسلامي نجاةً من بعض النواحي. ابتهج الأمير العربي عمرو بن العاص حين علم بأنَّ جون يرفض العقيدةَ الأرثوذكسية الخاصة بالثالوث.
تقول الأسطورة إن الفاتحين المسلمين دمروا المكتبة الكبيرة في الإسكندرية، لكنَّ أقدم تقرير عن هذا الحدث يرجع إلى القرن الثالث عشر. الحقيقة أنَّ الإسكندرية كانت مليئة بالمسيحيين الأقباط الموحِّدين، واستسلمت دون مقاومة في ١٩ﻫ/٦٤٠م حين فتح البطريرك القبطي الأبواب لقوات المسلمين، بدون شكٍّ على أمل أن ينتهي خضوعُ شعبه لحُكم بيزنطة. ليست لدينا معلوماتٌ إيجابية عن وجود المكتبة في ٦٤٠م أو في ٦٤٦م بعد أن تعرضَت الإسكندرية للنهب، بعد محاولةٍ فاشلة للبيزنطيين لاستعادة المدينة. مقولة أنَّ الفاتح رأى أنَّ المكتبة إذا كانت لا تحتوي على شيءٍ غير المسطور في القرآن فهي كعدمها، وإذا كانت تنافي ما جاء في القرآن فهي ضارَّة؛ مُفارَقةٌ تاريخية بشكلٍ عبثي على أساسَين: لم يكن العرب قد اكتسبوا اهتمامًا كافيًا بحقائق اللاهوت المذهبي بدرجةٍ تجعلهم ينشغلون بحرق الكتب بسببه؛ والحجة رسميًّا مثالٌ للنوع الرواقي من الورطة الطباقية، أشاعها في الإسلام المتكلِّمون الأوائل واستخدمها (عمومًا بتأثيرٍ مادي مضاد) فلاسفةٌ مثل الكندي. الحقيقة هي أنَّ التراث اليوناني، عمومًا، استمرَّ دون انقطاعٍ برعايةٍ مسيحية بعد الفتح الإسلامي.

وكان ساويرس سيبخت أسقفًا في قنسرين في شمال سوريا/العراق في الجزء الأخير من القرن السابع. كتَبَ سيبخت في الفلك والجغرافيا؛ ومثل أسلافه، علَّق على «القياس» و«العبارة». وبعد ثلاثة قرون تقريبًا، كان على «المعلِّم الثاني» (بعد أرسطو)، الفارابي، أنْ يتساءل عن سببِ تأكيد عقولٍ متعمِّقة مثل العلماء السريان على «البرهان». استنتج الفارابي، مقتنِعًا بأنَّ هذا لا يمكن أن يرجع إلى القدرة العقلية، أنَّ هناك أسبابًا لاهوتيةً منعتْهم من الخوض في موضوعِ البراهين المؤكدة. قد تبدو هذه الإجابة مبسَّطة بطريقة ما؛ لأن الفارابي تعلَّم أفضل من الرهبان السريان. كان فلسفيًّا أكثرَ دقَّةً وأصالة منهم بكثير، لكنَّ تفسيره يحتوي على نواةِ الحقيقة؛ لأنَّ الرهبان السريان والأساقفة كانوا رجالًا عمليِّين، واهتمامهم بالفلسفة والعلوم برجماتيًّا. على عكس الفارابي، لم يتشرَّبوا برُوح الاكتشاف الفكري لذاته، أو بمفهوم الفلسفة مرشدًا للحياة، بدل أن تكون ببساطة مصدرًا لأداةٍ مفيدة. وهكذا لم يتجاوزوا ما كان مفيدًا أو ضروريًّا على الفور في عملهم، سواء في الفلسفة أو التكنولوجيا أو اللاهوت. وهذا الاتجاه البرجماتي، كما نرى، يُحمَل إلى أول الفلاسفة والعلماء والأطباء في الإسلام. نواجهه بوضوح تام في أعمال الكندي والرازي. كتَبَ ساويرس، على أيَّة حال، عن الأبراج والخسوف والكسوف والأسْطُرلاب، ومسائل أخرى عمَّا لا بد أنه بدا عِلمًا عمليًّا تمامًا وغير تأملي. مثل الكندي، آمن بأن العلوم عالمية وقابلة للنقل بسهولة. ومن المؤكَّد أن العِلم الذي مارسه كان كذلك. كان ساويرس أولَ شخص خارج الهند يصِفُ النظام الهندي للأرقام، وهو الآن عالَمي. على عكس الميتافيزيقا أو النظرية السياسية، هذه الأجزاء من الحكمة لا تخلُق في ذاتها صعوبات اجتماعية أو فكرية.

كتب يعقوب الرهاوي (٦٣٣–٧٠٨م تقريبًا)، تلميذ ساويرس سيبخت وأسقف موحِّد للرها من ٦٨٤–٦٨٨م، تاريخًا لعصره، إلى حدٍّ كبير على منوال عدَّة تواريخ سريانية سبقتْه. وكتَبَ أيضًا أولَ قواعد السريانية بشكلٍ منهجي، وأدخل في تلك اللغة سبعَ علاماتٍ للصوائت وستًّا وثلاثين علامة للتشكيل واللهجة. ونقَّح «تاريخ» يوسابيوس Eusebius وأكمَلَه حتى سنة ٦٩٢م، ونقَّح «البسطة Peshitta» أو النَّص السرياني للكتاب المقدَّس، وأنجز «هيكساميرون Hexaemeron»، أو تقريرًا عن الخَلق، متمحوِرًا حول الصيغة التوراتية لستة أيام الخَلق. أدب الهيكساميرون مثل كتاب باسيل Basil «عظة في الهيكساميرون Homily on the Hexaemeron» وكتاب جريجروس أسقف نيصص «خلق الإنسان De opificia hominis»، الذي قدِّم، بكلماتِ فرنسيس إدوار بيتر Peters، «وطنًا سهلًا وطبيعيًّا» للأفكار العلمية اليونانية في سياقٍ رهباني. ثمَّة عملٌ مماثِل «عن طبيعة الإنسان De natura hominis» لنيميسيوس Nemesius الحمصي، تُرجم إلى العربية في زمنِ حنين بن إسحاق. «هيكساميرون» يعقوب الرهاوي، الذي يضمُّ قِسمًا جغرافيًّا طموحًا، أكمَلَه زميلُه وتلميذه جورج أسقف العرب. وعاش، الذي كان كاهنًا للقبائل الموحِّدة في العراق، في الكوفة. مرةً أخرى، ترجَمَ النصوصَ الحيوية في «المقولات» و«العبارة» و«القياس»، وعلَّق عليها؛ حيث كان العصر لا يميِّز (من حيث العمل) بين نسخةٍ جديدة وطبعةٍ جديدة وعملٍ جديد.
بزَّت الإسكندريةُ، مركزًا دراسيًّا وعلميًّا، أثينا لقرونٍ قبل الهجرة. وحتى في الفلسفة، كان هذا المركز الهيليني الأكبر منافِسًا خطيرًا لأثينا. التأثير المتراكم لأعمال أرستوبولس (١٨١–١٤٦ق.م.) وفيلون (٢٥ق.م. تقريبًا-٤٥م) وأوريجانوس (١٨٥–٢٥٤م) وأفلوطين (٢٠٥–٢٧٠م)، وكثير غيرهم حوَّلَ محور الفلسفة اليونانية إلى مستوى يتواءم إلى حدٍّ ما مع الفرضيات التوحيدية والدين الإنجيلي. هكذا ساهمتْ مدرسة الإسكندرية على انتقالٍ للمسيحية تبيَّنَ أنه كان مستحيلًا، سياسيًّا وفكريًّا وعاطفيًّا، على مدرسةِ أثينا.
كان داماسكيوس Damascius، آخِرَ مديرٍ لأكاديمية أفلاطون في أثينا حتى غلْقِها على يدَي جوستينان في ٥٢٩م، من مواطني المدينة التي يحمل اسمها.٧ وقد حرَمَ بمرسومٍ إمبراطوري من تعليم الفلسفة في أثينا، قَبِل داماسكيوس وستةٌ آخَرون من الأفلاطونيين الجُدد دعوةَ كسرى أنوشروان إلى المدائن ضيوفًا عليه. وعاد الفلاسفة إلى العالَم اليوناني في ٥٣٣م، تحت حماية بندٍ لتأمينهم في معاهدة سلام عقَدَها أنوشروان مع جوستنيان. لم تكُن إقامتهم القصيرة في بلاد فارس بدون تبادُلٍ فلسفي، ويبقى منها بعض الإجابات التي رد بها برسكيان الليدي Lydian، أحد السبعة، على أسئلة العاهل الفارسي.
وكان للصِّدام بين الطبيب السكندري المسيحي يوحنا النحوي ومعاصره سيمبليسيوس Simplicius، فيلسوف آخَر من الأفلاطونيين الوثنيين المنفيِّين، أثرٌ دائم في مستقبل الفكر الإسلامي. تلميذان للأستاذ نفسه، الاسترضائي conciliatory أمونيوس السكندري بن هرمياس Hermias، احتلَّ الاثنان موقعَين على طرفَي نقيض من بعضهما البعض. هاجَمَ فيلوبونوس، بوصفه مسيحيًّا، سرمديَّةَ أرسطو وبرقليس Proclus، مكتشفًا ومبتكرًا الكثيرَ من الحُجج الأصيلة لتقويض مفهوم الأفلاطونيين الجُدد عن ثبات السموات. وفي سياقِ هذا الجدل ذي الدوافع الدينية، على سبيل المثال، احتجَّ فيلوبونوس على المبدأ الأرسطي بشأن بساطة (ومن ثَم استحالة تدمير) الأجسام السماوية بالإشارة إلى اختلاف ألوان النجوم. فسَّر هذه الملاحظة بافتراض أنَّ النجوم تحتوي على مركَّبات مختلفة تحترق بلهبٍ مختلف الألوان؛ توقُّعٌ للأساس النظري للتحليل الطيفي الحديث، كما لاحَظَ أحدُ روَّاد هذا العِلم. في دحض النظرية الأرسطية عن الحركة، يقترب فيلوبونوس من المفهوم الحديث للقصور الذاتي. في الحالتَين، التوقُّع ليس صدفة؛ لأنَّ فحوى حجة فيلوبونوس فحوى حجة جاليلو: معالجة كل المواد، سماوية أو أرضية، طبقًا لقوانين التحوُّل نفسها. بهذه الطريقة فقط يمكن لفيلوبونوس تحقيقُ هدفه في إلقاء الضوء على التضادِّ بين خلود الله وزوال كل الموادِّ المخلوقة. في العملية يقدِّم مثالًا رائعًا جدًّا لرأي وايتهد Whitehead عن العلاقة الحميمة بين التوحيد وعقلانية العلم، وهي تيمةٌ تلخِّصها بإيجازٍ الوصية التوراتية (التي ربما كانت شعار جاليلو أو فيلوبونوس، أو أينشتاين): «تكون شريعة واحدة ﻟ …»
دافَعَ سبمليسيوس، من الناحية الأخرى — خصم فيلوبونوس، الذي يبدو أنَّ خِلافه مع المفكِّر المسيحي عجَّل بسقوط الأكاديمية — عن مبدأ الاستمرارية في الطبيعة، في بُعدٍ مختلف. بينما رأى فيلوبونوس إمكانيةَ تطبيق القوانين الطبيعية نفْسِها على السماء والأرض، اتَّبع سبمليسيوس أرسطو في الإلحاح على حُرمة الرابطة العلِّيَّة خلال بُعد الزمن؛ وبالتالي أيَّد خلودَ الكون، نافيًا الخَلق، كما فعَلَ الفلاسفة من بارمنيدس إلى برقليس (معلم داماسكوس) باعتباره إعاقةً عشوائية وغيرَ مناسبة لاستمرارية قانون العلِّيَّة. ظلَّت أصداءُ هذه الخلافات تُسمع ليس فقط في الإسكندرية والمدرسة التابعة في غزة، بل أيضًا بعد ذلك حيثما تُدرس الفلسفة. وفَهمَ الفلاسفة العربُ أهميةَ المشاكل المعلَّقة. كتب الفارابي، وكان أولَ مسلمٍ يطرح نظامًا فلسفيًّا قويًّا ومنهجيًّا في الإسلام، تفنيدًا لفيلوبونوس.٨ أيَّد ابن رُشد، وهو أهمُّ بطلٍ عربي لتراثٍ فلسفي يوناني عَلَني في الإسلام، الاتساق العلِّيَّ ضدَّ الخَلق، ليس فقط (مثل أرسطو) بوصفه مبدأً عِلميًّا، لكنْ أيضًا (مثل برقليس) بوصفه مبدأً لاهوتيًّا صريحًا. ووَجَد الكندي، من الناحية الأخرى، وهو أولُ فيلسوفٍ مسلم، في فيلوبونوس مَنجَمًا لحجَّة الخَلق. ومضى الغزالي، الذي اعتمد على الحُجج نفسها، أبعدَ بكثير. لم يكتشف في الأبديَّة مجرَّدَ تقديسٍ مفرط وعشوائي لحُرمة الرابط العلِّيِّ، أو خضوع الفضائي للاستمرارية المؤقتة للطبيعة، بل اكتشف أيضًا تنافرًا جوهريًّا للفرَضيَّات مع فرضيات التوحيد. كانت حجَّته، بمصطلحاتٍ حديثة، أنَّ الأبدية سَلَبت من التوحيد معناه الإجرائي. وهو تحليلٌ ثاقب؛ لأنها لم تكُن مجرَّد العلِّية (ومجَّدها أتباع ابن رشد بأنها حكمةُ الله)، بل ألوهية الكون نفسه المعلَّقة بالنسبة لأنصارِ الأبديَّة، أكثر صراحةً من أرسطو إلى سمبليسيوس. إذا كان الكون أبديًّا وقوانينه ثابتة؛ فإنَّ نظامه قد يعبِّر بوضوح عن ألوهيته، وهي فرضيَّة لا تتعارض مع مفهوم أفلاطون لرصدِ إلهٍ في آخَر (كما قد يحتوي عالمٌ مثالي عالمًا آخر)، لكنه مفهوم غريبٌ كلية عن مبادئ التوحيد الجذري.

لم يشأ الغزالي، ولم يستطِع، رغم اعترافه بتنافر الأبدية اليونانية والتوحيد، استئصالَ العنصر الفلسفي اليوناني من الأدب والثقافة الإسلامية؛ لأنَّ الاثنَين تشابكا عليه نظريًّا بحيث يستحيل الفصل بينهما. ناهيك عن احتمال محو علوم اليونان من الحضارة الإسلامية، أو التيمات اليونانية من الأدب والثقافة الإسلامية، أو الرغبة في محوها.

(٣) العصر الأموي

صار من المستحيل فصلُ الفنون والعلوم اليونانية، وحتى عناصر مهمَّة من الرؤية العامة اليونانية، عن التفكير الإسلامي؛ أساسًا نتيجة الاستمرارية التي حدثتْ للتراث الأدبي والمدرسي اليوناني في العالم الإسلامي، لكنْ بحلول زمن الثورة العباسية، لم تكُن علوم المسلمين قد بدأتْ بعدُ. يقدِّم العلماء الناطقين بالسريانية، الذين يمثِّلون المراحل الأخيرة للحكمة اليونانية قبل الإسلام وأثناء ظهوره، والحركة الموازية في بلاد فارس، الروابطَ الحاسمة المتشابكة.

أمَرَ أنوشروان، الذي احتفظ بثلاثة مقاعدَ خاليةٍ في قصره استعدادًا للزمن الذي يجلس فيه أباطرة الصين وبيزنطة والخان العظيم لأتراك آسيا الوسطى عند قدمَيه أتباعًا، أمَرَ بترجمةِ أعمالٍ لأفلاطون وأرسطو إلى الفارسية، وكان في بلاطه فيلسوفٌ، بولس الفارسي، يكتب تفسيراتٍ لمنطق أرسطو بالسريانية والبَهْلوية. كانت قبضةُ أنوشروان، بالطبع، أكبرَ ممَّا في متناوَل يده، وليس هناك دليلٌ على أنَّ بلاط أنوشروان برع في فلسفة أرسطو، لكنْ تمَّ التعبير عن الاهتمام بالفلسفة، وتمَّت الخطوة الأُولى، ليس بعمقِ الأعمال الطبيَّة في جنديشابور أو ديمومتها؛ لكنَّ العلماء السريان أيَّدوها بقوةٍ، وقُدِّر لها أن تتعزَّز بشكلٍ ساحق بمجرد دمْجِ المنطقة كلِّها ثقافيًّا في ظِل الإسلام.

اللوحات الجدارية في «قصير عمرة»، شهادةٌ جليَّة غير أدبية على موقف الأمويين تجاه أمورٍ يونانية، وخاصةً الكتابات اليونانية. وهو موقفٌ وضَعَ أُسس أعمال الترجمة التي بدأت في العصر الأموي، وتمَّت ممنهجةً على أيدي العباسيين الأوائل. لوحاتٌ منفَّذة بأسلوبٍ بيزنطي، ربما على يد فنَّانين مسيحيين ناطقين بالعربية في عصر هشام (حكم: ١٠٥–١٢٥ﻫ/٧٢٤–٧٤٣م)، تكشف أنَّ الخليفة الأموي حقَّق الادعاء العالمي بالسُّلطة الذي اتَّبعه من قبل الحاكم الإيراني. يظهر الرؤساء المتوَّجون للعالَم، القيصر البيزنظي والشاه الفارسي والنجاشي الحبشي ورودريك آخِر الملوك القوط الغربيين لإسبانيا وشخصيتان أخريان، ربما إمبراطور الصين وعاهلٌ تركي أو هندي، وهم يقدِّمون فروضَ الولاء للحاكم العربي. بجوارهم تقف شخصيةٌ ترمز للنصر؛ لأنَّ الأمويين الأوائل هزموا كلَّ هؤلاء الحكَّام الأقوياء في المعارك، لكنَّ ادعاء السُّلطة العالمية يعني أكثر من مجرد الهيمنة. لا يظهر الملوك في صورةِ أتباعٍ فقط، لكنْ في صورة زملاء، ربما يُضيفون بريقًا على الحاكم الأموي. وهناك إحساس بالزهو بالمسئولية عن الإشراف على الثقافة والحضارة التي تعبِّر عنها اللوحات الأموية بوضوح، وفي احتوائها على شخصياتٍ رمزية ومشاهدَ تمثِّل التاريخ والفلسفة والشِّعر والموسيقى والصيد والرقص. ولم يقتصر الاهتمام بالثقافة اليونانية على دائرة الحكَّام الأمويين الذين يصوَّرون عادةً باحثين عن اللَّذة. أظهر عمر بن عبد العزيز نفسه (حكم: ٩٩–١٠٢ﻫ/٧١٧–٧٢٠م)٩ اهتمامًا كبيرًا بالفنون والعلوم اليونانية. وينسب إليه ابنُ النديم الأمرَ بترجمةٍ عربية للأعمال الطبية اليونانية. بالضبط كما تبنَّى الأمويون طرازَ الحمَّام اليوناني، وشيَّدوا مساجدهم الكبرى على طراز البازليكا الكبرى (أو منها) (التي كانت توضع عليها أُسس المعابد الوثنية). نظَرَ الأمويون أيضًا إلى المصادر الأصيلة للفكر الهيليني؛ بحثًا عن الكثير من الأفكار التي شكَّلت فكرَهم وأثَّرت على الإسلام في عصرِ مرونته العظمى وأسرع نمو له.

(٣-١) النحو

ينسب التعبير عن بنية النحو العربي تقليديًّا إلى أبي الأسود الدُّؤلي البصري (٦٠٥م تقريبًا–٦٨٨م تقريبًا) الذي قال له ابن عمِّ النبي،١٠ علي بن أبي طالب، إنَّ أجزاء الكلام ثلاثة — اسم وفعل وحرف — وأن عليه أن يكتب رسالةً على أساس هذه الفرضية. البدايات الجادة للدراسة المنهجية للنحو، بقدْرِ ما يمكن أن نؤكِّد، ترجع إلى قرنٍ تقريبًا بعد إمكانية حدوث هذه المحادثة، إلى عصر عيسى بن عمر الثقفي (ت: ٧٦٦م)، لكنَّ الملاحظة المنسوبة لعلي بالغةُ الأهمية رغم ذلك. لا حاجة لدراسة علم النحو عمومًا، حتى يواجه المرء مشكلةُ دمج سكَّان مختلفي الألسن. بينما لا يمكن لدراسة الصرف العربي أن يستفيد من النحو اليوناني، نظرًا للاختلافات الجوهرية بين اللغتين، كان هناك قدْرٌ هائل من الاستفادة من المنطق اليوناني في نظرية بناء الجملة العربية. بدايةً كان تصنيف أجزاء الكلام عند أرسطو، التصنيف نفسه الذي قدَّمه علي — اسم وحرف وأدوات ربط — وكان من المعروف أنَّ العلاقات المنطقية بين مصطلحات الاقتراح هي نفسها، بصرف النظر عن كيفية التعبير عنها صرفيًّا. ومن المؤكَّد أننا يمكن أن نعرف ذلك بسهولة بدراسة «المقولات» و«العبارة».

ربما كان أحدُ أسباب تسليط الضوء على تأسيس علمِ نحوٍ عربي في زمن علي؛ عدم شعبية الراعي الحقيقي لهذا العلم، المعلم السابق الحجَّاج بن يوسف (ت: ٩٥ﻫ/٧١٤م)، الذي عيِّن واليًا للعراق في خلافة عبد الملك وخلافة الوليد. والحجَّاج هو الذي أدخل الحركات والنقط لتمييز الصوامت في العربية، وشجَّع الدراسة الأولية للنحو فيما أصبحت بعد ذلك مدرسةَ البصرة، لكنَّ الأمويين كانت سمعتهم سيئةً بين المسلمين المتعاطِفين مع العلويين، ومعظم البيانات التي وصلتْنا متأثِّرة بهذا التحيز.

(٣-٢) السجلات والإدارة

يقال إنَّ معاوية، مؤسِّس الأسرة الأموية الحاكمة، قضى ساعات طويلةً من الليل يدرس تاريخ الحكام الأجانب وسياستهم. وكان من مصادر هذه المعرفة يهوديان يمنيان، كانا مستشارَين ومعلمَين في البلاط، وربما ساهما بهذه الطريقة في الحكمة السياسية للخليفة. وليس من الصعب، الاعتقاد بأنَّ معاوية علَّم نفسه باستخدام أمثلة أدبية في الترويج لحِلْمه المشهور أو رأفته. حرص معاوية على أن يبقى على علاقة طيبة برعاياه من غير المسلمين. كان طبيبه مسيحيًّا، وكذلك كثير من موظفيه الإداريين. من زمن عمر اعتبر معاوية الحرب على الجبهة البيزنطية مسئوليته الشخصية، وهي حملةٌ قام بها بنجاح حتى توقفتْ عند القسطنطينية نفسها باستخدام النار اليونانية. كانت الأقاليم، التي حُكمه لها أكثرُ أمنًا، أقاليمَ كلُّها يونانيةٌ سابقة. وأدارها معاوية بوعي على النموذج اليوناني. وهكذا، إلى حد بعيد، فعَلَ خلفاؤه. اعتُبر بروز اليهود والمسيحيين بين المعلِّمين والأطباء والمسئولين في بدايات الأمويين في العصور التالية دليلًا على عدم تقوى الأمويين، لكنَّه قد يكون بشكلٍ أفضل مؤشِّرًا للاستيعاب التدريجي لمواد الثقافة اليونانية ومهاراتها.
لم تنقل السجلات المالية الإسلامية من اليونانية إلى العربية إلا في عصر عبد الملك (حكم: ٦٦–٨٦ﻫ/٦٨٥–٧٠٥م) وحتى آنذاك لم تتغير إلا اللغة؛ بقي العمل بالنظام اليوناني في المحاسبة، واستمرَّ كثير من الموظفين اليونانيين (والفُرس) في وظائفهم. واستغرق الأمر سنواتٍ كثيرةً حتى تشكَّلت طبقةٌ إدارية من المسلمين، ولم يكُن من الممكن أن يتمَّ هذا نفسه بدون التطهير الذي تمَّ في عهد الوليد، أو احتكاك التبادل الثقافي الهائل الذي انعكس في أدب الشعوبية.١١ وحتى العملات لم تُختم بطابع إسلامي إلا بعد الهجرة بخمسة وسبعين عامًا تقريبًا، حين تجدَّدت الأعمال العدائية بين عبد الملك وبيزنطة، بعد توقُّف دام خمسة عشر عامًا؛ ممَّا جعل الرموز المسيحية والفارسية المألوفة غيرَ مقبولةٍ سياسيًّا. ويبدو أنَّ تغيير العلامات المائية على ورق التصدير المصري من موتيفةٍ مسيحية إلى إسلامية؛ سبَقَ مباشرة التغير الأكثر وضوحًا في العملة. لم يستبدل الوليد العربية بالقبطية لغةً للمنابر في مصر حتى عام ٨٧ﻫ/٧٠٦م.
لم تظهر المشكلة الأولية للحكام المسلمين في القرن الأول من الإسلام بوصفها مسألةً، لكن بوصفها مشكلةً وجودية مباشرة متعلقة بوجودٍ فعلي لأعداد كبيرة من غير المسلمين في دار الإسلام. خلق وضع الذِّميين آليةً يمكن من خلالها الوصول لتوازنٍ ثقافي جديد، لكنْ حتى وصول العملية إلى هذا التوازن، مرَّ وقتٌ طويل جدًّا، ولم يكُن انشغال المسلمين بثقافات الشعوب المهزومة عمومًا من نوعٍ يمكن أن يمسك به مؤرخُ الفكر. ومع ذلك، لم يتطلَّب تحقيق هذه العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الطاقاتِ الكاملةَ لكلِّ عضو في المجموعة السائدة حديثًا، ولم يحاول حتى أن يجنِّدها.
وُصف خالد بن يزيد (ت: ٧٠٤م، أو ٧٠٩م)، حفيد معاوية، بأنه عالمُ أُسرته؛ نتيجةَ اهتمامه العميق بالفنون والعلوم. وكان حرًّا في متابعتها؛ لأنه لم يصبح خليفة قَط. كان خطيبًا وشاعرًا وأستاذًا في أسلوب الكتابة العربية الرفيعة، وكانت اهتماماته شاملةً طبقًا لمَا يقوله ابن النديم. وليس من المستغرَب أن يُذكر أنه مؤلِّف قصيدةً عن مصائر الملوك. عاش في مصر، ويقال إنه جمَعَ حوله مجموعةً من العلماء وشغَلَهم بترجمةِ أعمالٍ يونانية وقبطية إلى العربية. وهذه أول ترجمةٍ مسجَّلة إلى العربية لأعمالٍ في الطب والفلك والكيمياء، و«هذا أول نقلٍ في الإسلام من لغةٍ إلى لغة».١٢ ويُذكر شخصٌ اسمه الشيخ ستيفن مترجمًا لخالد. وربما كان الرجل نفسه ستيفن السكندريَّ. الاهتمام الجديد لخالد، بما كان حتى ذلك الوقت فنونًا مجهولة للإغريق، يكتنفه الغموض في لغةٍ غريبة، يعزى بشكلٍ شعبي إلى توقٍ بعلم الكيمياء السري؛ وأساطير الأجيال التالية جعلتْه كيميائيًّا ومؤلفًا لأعمالٍ في الكيمياء. لكن ليس هناك دليلٌ قوي تقوم على أساسه هذه الخرافات. رُفِض كلُّ التراث بشأن الاهتمامات العِلمية لخالد باعتباره من صُنع الخيال. لكنَّ ما يمكن أن نلاحظه، مرةً أخرى، الانحياز العملي في جذور حركة الترجمة العربية، كما تم تصورها تقليديًّا؛ فقد كانت الفنون اليونانية، الكيمياء والطب والفلك «القضائي judicial»، لا العلوم؛ هي ما بُذلتْ من أجلها، في المقام الأول، جهودٌ هائلة.
أعطتْ ترجمة السجلات الرسمية من اليونانية للعربية على يدي أبي ثابت سليمان بن سعد، كاتب عبد الملك وهشام، زخمًا قويًّا لنشأة النثر العربي، لكن هذه الخطوة نفسها، لا تمثل ببساطة «تعريبَ» الإدارة الأموية، الذي تأخَّر كثيرًا. ليست إلا مرحلةً من عمليةٍ هائلة ومعقَّدة من الاستيعاب. فوِّض أبو العلاء سالم، وهو كاتبٌ آخَر لهشام وأحد مؤسِّسي النثر العربي، بترجمةِ مختاراتٍ من رسائل مزعومة من أرسطو إلى تلميذه اللامع، الإسكندر الأكبر. قدمتْ هذه الرسائل أداةً هيلينية آمنة ومريحة لعَرْض الأفكار والمقترحات السياسية. تبدو هذه المجموعة الباقية من أقدم العينات المتبقية من النثر العربي.١٣ كيَّفها سالم نفسه بحرية مع الظروف السياسية لعصره؛ المجموعة مليئةٌ بنصائحَ واضحةٍ «للإسكندر» عن كيفية تنظيم عالَمه طبقًا لأفضل مبادئ الحكمة السياسية اليونانية (والساسانية).

(٣-٣) الشريعة

من الواضح تمامًا أنَّ التطورات الأُولى للشريعة الإسلامية، التي ترجع للقرن الثاني الهجري، تأسَّست إلى حدٍّ بعيد على تعديل الممارسات الموجودة في الأقاليم البيزنطية والفارسية السابقة (وخاصةً العراق) بما يتناسب مع السياق الجديد للإسلام. ومن الطبيعي أنه دمج الكثير جدًّا من مبادئ القانون الروماني وأساليبه في الفقه الإسلامي الناشئ. وسوَّغ هذه العملية في وقتٍ مبكِّر الفقيهُ أبو يوسف (ت: ١٨٢ﻫ/٧٩٨م)، الذي أيَّد أنَّ سُنَّة غيرِ العرب التي لا يُبطلها الإسلام تحديدًا؛ قد يتمُّ تعديلها حتى لو تسببت في مشقَّة. يساعد هذه الحُكم، رغم رفضه من مالك (ت: ١٧٩ﻫ/٧٩٥م) والشافعي (ت: ٢٠٤ﻫ/٨١٩م)، على تفسير الكثير ممَّا نجِدُه من القانون الروماني في الفقه. ويبدو الحُكم نفسه تطبيقًا لفرضيةٍ رومانية عامة تدعم الحُكم السابق، تبنَّاها الإسلام تحت عنوان استصحاب.١٤ الأداة الرئيسية لتبنِّي المبادئ والأساليب القانونية الرومانية، طبقًا لرأي البروفيسور شاخت مؤخرًا، لم تكُن المدونات الرومانية العظيمة نفسها، لكنْ بالأحرى تقاليد البلاغة، وبها تمَّ الإعراب عن مفاهيم العدل والظُّلم وأنماط التبرير القانوني في العراق، ليس فقط بالنسبة للفقهاء المسلمين بل أيضًا بالنسبة للعلماء الكبار بالتلمود، الذي يوضِّح تفكيرهم غالبًا توازيًا لافتًا مع تفكير الفقهاء المسلمين الأوائل.١٥ وربما كان المفهوم التقني الإسلامي عن الإجماع أنجحَ مثالٍ لهذا التعديل، لكنَّ استجلاب الأنماط اليونانية للتبرير القانوني هو الأكثر إثارةً من منظورنا الحالي.
اعترف الفقهاء المسلمون بسهولةٍ وهُمْ يسعون لتطبيق المبادئ الشرعية للقرآن على الأوضاع الجديدة في مدن الحاميات؛ بأنَّ الكتاب محدود، بينما تنوُّع الحالات المحتمَلة لا نهائي. وهكذا كان من الضروري توسيعُ شرع القرآن. وأقدم طريقة منهجية تمَّ بها هذا، تطبيق الرأي. وكان المنطق الذي وجَّه الرأي، مثل المنطق التلمودي، قياسيًّا مؤسسًا غالبًا على المنفعة والغرض. وهكذا افتُرضت العلِّيَّة في الطبيعة وإمكانية تطبيق المعايير الإنسانية للعقلانية على الوحي السماوي؛ لأنَّ في السعي بصدقٍ للتوسع في المعطيات الصريحة للكتاب، تُلتمس علَّة تحريمٍ معيَّن أو أمر، وبعد ذلك يمكن التوسع في الأمر، طبقًا لفهم «رُوحه» أو مبرِّره. كثيرًا ما يقدَّم أبو حنيفة (٨٠–١٥٠ﻫ/٦٩٩–٧٦٧م) باعتباره خيرَ ممثِّل لاستخدام العقل في توضيح الشريعة الإسلامية. لكن هذا التقييم نفسه ببساطة نِتاجُ الجهود التالية لإخضاع العقل للتراث في الإسلام، والمحاولة المصاحِبة لجَعْل أبي حنيفة كبشَ الفداء لمَا بدا بالمعايير اللاحقة عقلانيةً عشوائية مفرطة. بكلمات البروفيسور شاخت: «استخدم أبو حنيفة رأيه واستنتاجاته بالقياس على العُرف الموجود في مدارس الشريعة في عصره؛ وبشكلٍ ضئيل … مال للتخلي عن المذهب التقليدي لصالح الأحاديث «المعزولة» عن النبي … وبدأ هذا يصبح تيارًا في العلم الديني الإسلامي في حياة أبي حنيفة.»١٦ فضَّلت حرفية المسلمين تجاه القرآن، التقليدية المتشدِّدة، حديثًا (نعرف الآن بشكلٍ خاص أنه ملفَّق) على ما يعتبر أحكامًا عشوائية عن العقل البشري. والوضعية الشرعية، التي رفضت النظر في مجموعة لا نهائية من المواقف الشرعية الافتراضية (كما فعل التلمود) وألحَّت على اقتصار الأحكام الشرعية على مجالٍ محدود من الأحداث الفعلية، كانت كلُّها نتاجَ ردِّ فعلٍ للاستخدام الجامح للعقل. من غير المعقول تقريبًا، أن يكون هذا الرد قد حدَثَ قبل وصول علم الدين نقطةً تعتبر إسنادَ الدوافع للإله إشكاليةً. إنَّ موقف الظاهرية المتشددة، لم يظهر في الإسلام حتى القرن الثالث/التاسع. وكان من المستحيل أن يكون هناك ردُّ فعلٍ منهجي ضدَّ تطبيق التفكير المنطقي أو القياسي على مسائل الشرع في الإسلام قبل أن تتشكَّل هذه الأنماط من التفكير وتطبَّق منهجيًّا. ميلاد حَرْفية المسلمين أو الظاهرية، ليس إلا بُعدًا آخَر فاتنًا بشكلٍ خاص من التأثير المتلوِّن للفكر اليوناني على الإسلام.

(٣-٤) تطور الفكر الإسلامي

منذ زمنٍ بعيد، كان من الممكن رؤية التأثير اليوناني على الإسلام بشكلٍ خالص في جلبِ العقلانية الإيونية Ionic 700 إلى سياقِ توحيدٍ «ساميٍّ» جذري. وكما بيَّن إ. ر. دودز Dodds بوضوح (حيث كان الأمر على ما يبدو موضعَ شكٍّ في وقتٍ من الأوقات)، لم يكُن الإغريق أنفُسهم عقلانيين في كلِّ لحظةٍ من الزمن. كانت روحانية الإغريق، وأخلاق الإغريق، وآراء الإغريق عن الوحي، وتصوف الإغريق، تتفاعل مع مفاهيم الشرق الأدنى في المواضيع نفسها قبل ظهور الإسلام في المشهد بزمن طويل؛ وتأثيرهم على الإسلام متعدِّد ومعقَّد. حتى عقلانية الإغريق، ليست بسيطةً أو متماثلة في تأثيراتها. للاستشهاد بمثالٍ واحد فقط، تقدَّم المقولة الرواقية بأنَّه إذا كانت هناك آلهةٌ فهناك نبوءة (والعكس بالعكس). القلب المنطقي لتفسيرِ الوحي عند المعتزلة باللجوء إلى الدفاع عن العدل الإلهي. وتطلَّب الأمر الحسَّ التحليلي الثاقب لأشعريٍّ؛ ليعرف أنَّ العقلانية (أيْ تبرير الوحي) تتعارض مع التيمة القرآنية عن النعمة الإلهية. وبالنسبة لمفكِّر مشَّائي آخَر مثل ابن النفيس، كان عدم اتساق المفهوم القرآني للنعمة مع «استنتاج سابق» لرسالة محمد أقلَّ وضوحًا.
الصورة الرمزية للحسن البصري (ت: ١١٠ﻫ/٧٢٨م) بأن العمل خارج الخلاص الإلهي يشبه السِّباق؛ تذكِّر بوضوح بالصورة الرياضية اليونانية للأوريجانوس Origen، الذي استخدم هذه الرمزية للتعبير عن التيمة الرئيسية لفكره بشأن الخلاص. زُهد الحسن، الذي يشير رمزُه عن السِّباق إليه، هيليني ومسيحي أساسًا، يعود إلى الانتقال الهيليني العظيم من المفاهيم الإيجابية إلى المفاهيم السلبية للأجون agon (أو الصراع)، انتقال يبدأ مع سقراط والرواقيين ويبلغ ذروته في المسيحية. وألقى ماسينيون الضوءَ على آلياتِ انتقال أساليب الزهد/التصوف ومصطلحاتها، من الباحثين المسيحيين عن المتعة الروحية إلى الباحثين المسلمين عنها. حتى القرن الثالث/التاسع، كان الزُّهَّاد المسلمون يستشيرون النسَّاك المسيحيين عن المشاكل النظرية والتقنية للتصوف. وكانت هذه الاستشارات تُقبل بشكلٍ جيد ويُذكَر أن محمدًا نفسه قام بها. وهكذا، لا يبدو مثيرًا للدهشة أنَّ أقدم أثر أدبي عن عِلم جمع الحديث لدينا «كتاب الزهد» لأسد بن موسى (ت: ١٣١-١٣٢ﻫ/٧٤٩م). لم يكن الزهد تيمةً أساسية في رسالة محمد، لكنْ كان، منذ أيام الطوائف السريَّة اليونانية القديمة (روَّاد «الاعتزال» الصوفي) ومفهومهم للتطهير (katharsis) المعنوي والجسدي، تيمةً أساسية للروحانية اليونانية، تسامتْ إلى فلسفةٍ على يدَي أفلاطون، واعتبرتْها المسيحية أضمنَ طريقةٍ للسعي للخلاص. وبقيتْ مشهورة في شكلها الوثني بالمقولة الشهيرة لأفلوطين: «تحرَّرْ من كلِّ شيء!»
كانت أعمال اللاهوتي المسيحي العظيم، يوحنا الدمشقي، وهو مسيحي أرثوذكسي (مِلْكي)،١٧ حاسمةً لتطور الفكر الإسلامي. كان الدمشقي، كما يسمَّى، حفيد منصور بن سرجون، الذي ساعَدَ في وضعِ شروط استسلام دمشق لخالد بن الوليد في رجب سنة ١٤ﻫ/سبتمبر ٦٣٥م ورتَّب لدفع الجِزية لضمان أمن السكَّان المسيحيين. أصبح منصور، قبل تولي مسئولية جمع الجزية، وكان المسئولَ المالي الرئيسي لدمشق في ظِل الحُكم البيزنطي، مستشارًا ماليًّا لا غنَى عنه للولاة المسلمين. وكان ابنه، سرجيوس (والد الدمشقي) وحفيده منصور بن سرجون بن منصور، وزيرَي مالية للخليفتَين الأمويَّين معاوية وعبد الملك. مرتفعًا في البلاط وبشكل ودِّي مع ابن معاوية وخليفته، يزيد، وصاحبه المفضل، الشاعر الأموي الأخطل، يبدو أن الدمشقي ترك الوظيفة في زمنِ أسلمة عمر الثاني وانسحب إلى وجودٍ علمي في دير القديس سابا في فلسطين. كتابه «منهل المعرفة Fount of Knowledge» من ثلاثة أجزاء: الجزء الفلسفي/الجدلي، ويعتمد على الآباء اليونانيين و«أورجانون» أرسطو؛ تقرير عن المهرطِقين المائة، ويشمل الإسلام؛ والجزء الشهير «معرض الإيمان الصحيح»، ويسعى لدمج اللاهوت التوراتي بالأفلاطونية الجديدة لديونيسوس المزيف. وتشمل أعمال الدمشقي الشِّعر والنصائح الدينية، وتفسير الكتاب المقدَّس في تراث يوحنا ذهبي الفم، وأعمال الزهد، والأكثر فتنة، حوارًا بين مسلمٍ ومسيحي، يعتمد بدون شك على مناقشاته الخاصة مع المفكرين المسلمين. ترجم الكثير من هذه المادة، بما فيها الحوار، إلى العربية؛ وكان له تأثيرٌ عميق على الفيلسوف والمترجِم المسيحي تيودور أبي قرة. يصف جارديه Gardet وأناواتي Anawati الدمشقي بأنه آخِر الممثلين الكبار للتراث الآبائي اليوناني. بأكثر من طريقة، كان نموذجًا أوليًّا للكلام. يمهِّد عَرْضُه للهرطقة، الذي يجمع تراثًا طويلًا من هذه الأعمال المسيحية، لدراساتٍ مماثلة للأشعري وابن حزم والشهرستاني. ويغطِّي إخضاعه الفلسفةَ للاهوت تراثًا طويلًا من هذا الاستخدام في منازعاتٍ طائفية مسيحية وتوقعات بما أصبح السمة الأكثر بروزًا لنهج الكلام؛ وضع مقولات الفلسفة ومقولات المنطق نفسه في خدمة اللاهوت. ويتجاوز لاهوته، بتوسيع مسائل الكتاب في سياقِ الفكر الأفلاطوني الجديد، الكلامَ إلى وضعِ ما أصبح المشاكلَ المادية الأساسية للفلسفة الإسلامية.
يبدو أنَّ علم الدين الإسلامي نفسه، بوصفه علمًا رسميًّا قدَّم الركيزةَ الفكرية لدخول الفلسفة، بوصفها تخصصًا تقنيًّا، إلى الإسلام. لم ينشأ في اختلافات طائفية داخل الإسلام؛ لأنها كانت سياسية بدايةً في أصلها، لكن في مناقشات دفاعية من المناقشات التي اهتمَّ بها يوحنا الدمشقي مع محاوِريه المسلمين. لذا يبدو أنَّ التركيز على الدفاع عن العدل الإلهي (ومن ثَم عن الإرادة الحرة)، في أقدم مصادر القدريِّين؛ يعكس جدلا مسيحيًّا ضدَّ الثنائية الزرادشتية. بينما التأكيد على التوحيد (الراديكالي) في بدايات الكلام، كما تبيَّن في رفض الجَهْمية للصفات الإلهية وعقيدة المعتزلة في خلق القرآن (بدلًا من وجوده قبل الخَلق)؛ يعكس بوضوحٍ الجدلَ المسيحي والمعادي للمسيحية عن المنزلة الحقيقية للمسيح باعتباره كلمة/حكمة الرب، والمناقشات اليهودية الموازية التي ترجع إلى زمن فيلون، بشأن وجود التوراة قبل الخَلق.
افترض واصلُ بن عطاء (ت: ١٣١ﻫ/٧٤٨م)، مؤسِّس حركة المعتزلة، حلًّا لمشكلة منزلة المسلم مرتكِب الكبائر؛ مفهومَ «المنزلة بين المنزلتَين». يبقى الفاسق مسلمًا؛ ولذا قد لا يعاقَب (بطريقة الخوارج) بوصفه مرتدًّا. يترك عقابه النهائي لعدل الله في الآخرة، حيث يُدان إلى الأبد كما يستحقُّ؛ لكنَّ عذابه الأبدي ليس بقسوةِ عذاب الكافر. يبدو أنَّ اكتشاف هذه المنزلة الوسطى كان ممكنًا بالتعرف على المقولات المنطقية اليونانية. يوحي التعبير الملتفُّ عنه بأنَّ مفهوم هذه المنزلة الوسطى بين الإدانة والخلاص، في البداية على الأقل، كان جديدًا وغريبًا في الوقت ذاته. كان التأكيد التالي على مفهومٍ إسلامي أكثر أصالة يزعم أن الخلاص يعتمد فقط على رحمة الله؛ ردَّ فعلٍ ضدَّ فرضية أن الإنسان قد يعرف مَن يشاء الله إنقاذه.

وكان التعديل الأكثر أهميةً للمفهوم اليوناني للغاية، التصنيفَ القانوني لكلِّ السلوك إلى واجبٍ ومستحبٍّ وجائزٍ وغيرِ مستحبٍّ ومحرَّمٍ. وحيث إنَّ التصنيف منطقيٌّ وشامل، يمكن تطبيقه على جميع الأفعال التي تناولها القرآن، أو على أي وجه من أوجه سلوك الإنسان. وكان معيار الحُكم أو الرأي الذي تشيد منه هذه الفئات لتطبق، بالطبع، دائمًا؛ موضوعيًّا أو إلهيًّا، لكنْ يبدو أنَّ إدخالَ فئةٍ من الأفعال محايدةٍ أخلاقيًّا، ينشأ في النهاية من تعديلٍ للمبدأ الرواقي بأنَّ بين الخير والشرِّ فئةً أكبر بكثير من الأمور الوسط. وتمييز المستحبِّ من الواجب، يبدو تعديلًا لتمييز الرواقين للأمور الجديرة من الأمور «المستحبة».

(٤) الخلاصة

شهد صدرُ الإسلام تحولَ الشرق الأوسط من إقليمٍ متنازَع عليه بين الدولتين الكبريين، بيزنطة وبلاد فارس، إلى مركزٍ لحضارةٍ جديدة مترابِطة جدًّا وذاتِ طبيعةٍ فريدة. لكنْ، للمفارقة، لم يكُن من الممكن تحقيقُ أصالة هذه الحضارة أو استمرارها بدون حامليها، الذين استطاعوا دمجَ كمياتٍ هائلة من المواد الغريبة، الكثير منها يوناني، وتمثُّلِها في الهوية الجديدة التي تتشكَّل. وصلتْ مراحل امتصاص هذا التمثُّل الفكري ذروته في أوائل العصر العباسي، حين دمجت الآثار الأدبية الكلاسيكية والهيلينية، وبعد ذلك الفكر اليوناني، بشكلٍ منهجي ملموس في الأدب العربي، بحركة الترجمة التي اكتملتْ في النصف الثاني من القرن الثاني/الثامن، ووصلت قمَّتها في القرن الثالث/التاسع، واستمرَّت حتى القرن الخامس/الحادي عشر، وظلَّت تحمل بعضَ علاماتِ الحياة في القرنَين السادس/الثاني عشر والسابع/الثالث عشر، لكنَّ الدَّمج المادي، بالطبع، لموادَّ غريبة؛ لا يعني هضمها وتمثُّلها. العمليات التي استوطنت بها التيمات اليونانية وأنماط التفكير في العالم الإسلامي في الأدب العربي، ليست مجرد عملياتٍ مقنَّعة، لكنها عُدِّلتْ بما يتواءم مع الخبرة الإسلامية واللغة العربية، وهو موضوع أكثر إثارةً وتعقيدًا من حركة الترجمة نفسها؛ لأنَّ الانتحال الفكري الحقيقي (أو الرفض) للموادِّ اليونانية يحدُث، في سياقِ النقد والجدل، حيث ترغَم الأفكار المتناقِضة للإغريق والشرق الأدنى على أن تبرهن على قدرتها، أو يتمُّ التخلُّص منها. ونأمل أن نكون قد تناولنا هذا التفاعل للتيمات اليونانية والإسلامية والعربية بشكلٍ حاسم بالنسبة لتشكيل الأدب العربي كما نعرفه في جزءٍ تالٍ من هذا التاريخ.

١  Medieval Islam, 313-314.
٢  ج١٩، ٨٧؛ ج٢، ١٨ وما يليها.
٣  القرآن، سورة (الكهف: ٨–٢٦)؛ انظر: EI2, “Ashab al-Kahf”.
٤  حكم من ٣٧٩–٣٩٢م. (المترجم)
٥  القرآن، سورة (الكهف: ٥٩–٨١، ٨٢–٩٧).
٦  تم الجزء الأساسي من هذا النشاط، ويشمل الترجمة الممنهجة لأعمالٍ يونانية علمية وتقنية وفلسفية، والوضع النشط للدراسات التي وُجدت فيه، في العنصر العباسي؛ لذا يتمُّ تناوله في مجلد تالٍ من هذا التاريخ.
٧  دمشق. (المترجم)
٨  أعيد اكتشاف النَّص العربي، راجع: M. Mahdi in Hanna, Middle East Studies. ولترجمة وتعليق ومناقشة لمهدي، راجع: Journal of Near Eastern Studies, xxvi, 1967, 233–260. يمثِّل مدرسةَ غَزَّة من جديد إينيس الغزي (ازدهر ٥٣٠م)، وزكريا (ت: ٥٥٣م) الذي صار أسقف Mitelene، وبروكبيوس Procopius الغزي (ت: ٥٣٨م)؛ مدافِعين عن الخَلق والبعث الجسدي، التيمتَين اللَّتَين تبنَّاهما الكندي. للاطلاع على كتاباتهم، انظر: Migne, Patrologia Graeca, lxxxv.
٩  الصواب ٩٩–١٠١. (المترجم)
١٠  في الأصل ابن أخ النبي Prophet’s nephew، وهو خطأ واضح. (المترجم)
١١  سوف يضمُّ مجلَّد تالٍ من هذا التاريخ فصلًا عن أعداء العرب أو أنصار الشعوبية.
١٢  ابن النديم، الفهرست، ٥٨١.
١٣  Grignaschi, “Raso il”, 7–77.
١٤  حُكم بثبوت حكمٍ حاضر، استنادًا لوجوده في الماضي، إلا إذا وُجد دليلٌ آخَر يغيِّر هذا المفهوم. (المترجم)
١٥  راجع: Schacht, “Foreign Elements,” 9–17.
١٦  EI2, “Fikh”.
١٧  مِلْكي: عضو في الكنائس المسيحية في مصر وسوريا التي قبلتْ مجلس خلقيودنية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥