الفصل الثالث والعشرون

التأثير الفارسي على الأدب العربي

س. إ. بوسورث، جامعة مانشستر

تكمن جذور التعبير الذاتي الإسلامي، العربي أساسًا، في بدايات العصور الوسطى، في التراث الأدبي العظيم لثلاثة شعوب: العرب أنفسهم، وشعبَين تنافست إمبراطوريَّتَاهما العالميَّتان لقرونٍ على السيادة في الشرق الأدنى، وهما الفُرس والإغريق. وهذا التأكيد لا يُلغي المساهمات التابعة للنسيج الغني للأدب العربي من تراثٍ مثل التراث المسيحي السرياني — على الأقل في المناطق السورية والعراقية — وتراث شعوبٍ أخرى على الأطراف، مثل التراث القبطي في مصر، وحتى — في تاريخٍ لاحق — التراث الهندي، لكنْ في أُطرها العقلية الأقلِّ خوفًا من الأجانب ثقافيًّا؛ كانت أساسًا إمبراطوريَّتَا الأكاسرة (بلاد فارس) والقياصرة (بيزنطة)، هما اللتان اعتبرهما العرب معلِّميهم الخارجيِّين ثقافيًّا، وإن يكُن بتقييمٍ أنَّ هذَين التراثَين افتقرا للقوة التحوُّلية الحيوية لوحي محمَّد والدين الإسلامي، الرابطة الموحَّدة التي لا غنَى عنها للحضارة الإسلامية كلِّها.

في العراق وبلاد فارس، اعتبر العرب أنفسَهم ورثة الساسانيين، في البداية بالمعنى العسكري والسياسي فقط؛ وتدريجيًّا اعتبروا أنفُسَهم ورثتهم ثقافيًّا وأدبيًّا وفنيًّا أيضًا. وكانت عملية الاستيعاب من نواحٍ كثيرة أسهل ممَّا كانت في (مثلًا) سوريا أو مصر، وبالتأكيد أسهل ممَّا كانت في الأندلس؛ لأن في هذه البلاد الثلاث الأخيرة احتفظَت الثقافة المسيحية الأصلية بحيويتها الروحية والفكرية وسيطرتها على أرواح نسبة كبيرة من السكان؛ رغم اهتزاز ثقة المسيحيين مؤقتًا بنجاحات الإسلام، سمَحَ منظورٌ غائي لتاريخ الإنسان وثقةٌ في تحقيق خطة الربِّ لفداء شعبه في نهاية المطاف، بفترةٍ مظلِمة بدا فيها الشرُّ الإسلامي يتصاعد قبل عودة المسيح واكتمال الألفية. فوق كلِّ شيء، لا تزال هناك ممالكُ مسيحيةٌ في بيزنطةَ والنوبة وشمال إسبانيا، إلخ. ربما تكون على خطِّ الدفاع، لكنها تبقى مناراتٍ للإيمان.

لكن بالنسبة للفُرس، كان انهيار الدولة الساسانية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن السابع انهيارًا كاملًا. تلاشى الأباطرة الساسانيون أنفُسُهم من التربة الفارسية، مع تركِ أحفادِ يزدجرد الثالث يهيمون عاجزين حول تُخوم آسيا الوسطى الإسلامية في انتظار هجماتٍ مضادة ضدَّ العرب لم تتحقَّق قَط. وفجأةً جُردتْ كنيسة الدولة الزرادشتية من مكانتها المهيمنة، ومن كونها مضطهِدةَ الانشقاقِ الديني الداخلي — المسيحيين واليهود والمزدكيين والمثنويين — وأصبحتْ مضطهَدة. ورغم بقائها قويةً بعض الشيء في المناطق الجبلية النائية مثل فارس وكرمان وأذربيجان وخراسان، وتمتعت بآخِر إحياء فكري في القرن التاسع؛ فقد كانت خارج المسار الرئيسي للحياة الفارسية السياسية والثقافية والدينية. ولم تبقَ بعد القرن الحادي عشر إلا في شكلٍ متحجر. وحيث إنها كانت بلا أملٍ في دعمٍ عسكري خارجي وتحوُّل درامي في الحَظ، وبمواردَ داخليةٍ ضئيلة من الدين الزرادشتي للحفاظ عليها، اعتنقت جموعُ الشعب الفارسي الإسلامَ، بما يبدو أنَّه غالبًا حماسٌ حقيقي، ناشئين على إحساسٍ بالظلم السياسي والاجتماعي. كانت هناك أحيانًا ثوراتٌ حادَّة بمشاعرَ معادية للإسلام في أقاليمَ نائية، مثل أذربيجان وأقاليم بحر قزوين وبلاد ما وراء النهر، لكنَّ مستقبل الإسلام في بلاد فارس لم يتمَّ تسويته بشكلٍ خطير قَط. وإضافةً إلى ذلك، حافظَت الطبقة الساسانية الحاكمة القديمة، وطبقة الدهاقنة أو ملَّاك الأراضي المحليِّين، على تأثيرها وأملاكها في إطار السياسة العربية للحُكم غير المباشر في بلاد فارس، بينما مكَّنت مؤسسةُ الولاية الجماهيرَ الفارسية من العثور على موضع، وإن كان متواضعًا، في البنيان الاجتماعي للدولة الإسلامية.
ونتيجة تقدُّمِ هذا الدمج الديني والسياسي للفُرس في المجتمع العربي الإسلامي؛ لم يوجد نظريًّا أيُّ عائقٍ روحي أمام دمج الثقافة العلمانية الفارسية القديمة وأدبها وفنِّها وسبلِ حياتها المادية، في الثقافة الإسلامية المتوافِقة بشكلٍ متزايد. كان فحوى معظمِ هذه الثقافة محايدًا دينيًّا، ومن المنظور الخلقي مقبولًا تمامًا في الإطار العملي والمعنوي النفعي للإسلام إلى حدٍّ ما. ولا يُستغرب وجودُ عِداءٍ لبعض الوقت لسُبل الحياة والفكر الفارسي بين القطاعات التقليدية من المؤسَّسة الدينية العربية والعلماء والفقهاء، الذين اعتبروا القرآن والسنة كافيَين للخلاص ولكلِّ احتياجات الإنسان؛ وبالتالي لا لزوم لكل ما سواهما ويمكن رفضه. ثمَّة انعكاس واضح لهذا التضاد، وهو ظهور حديث زائف بوضوحٍ ضدَّ أساليب العجم، من قَبيل استخدام السكاكين على الطعام أو رفْعِ القدَمَين علامةً على احترام شخصٍ ما يدخل غرفة. وفي القرن التاسع، اتخذ هذا الرفض الديني شكلًا أدبيًّا وثقافيًّا، يُرَى في خلافات الشعوبية، التي كانت عمومًا صراعًا على قبول الميراث الثقافي الفارسي الراسخ، أو رفضه، في إسلامٍ تهيمن عليه حتى ذلك الوقت أساليبُ العرب في الحياة والتفكير، لكنْ بحلول ذلك الوقت، كان قد تمَّ قدْرٌ كبير من عملية الدمج بشكلٍ لا رجعةَ فيه؛ ولم يكن أنصارُ العرب ضدَّ الشعوبيين يأملون إلا في ضبطِ تدفُّق المواد الأدبية والثقافية غير العربية وتوجيهه. وبحلول ذلك الوقت، يمكن أن نميز طابعًا فارسيًّا مميزًا في قطاعٍ مهم من أدب النثر العربي، قطاع الأدب، ولا نبالغ كثيرًا حين نقول إنَّ نبضاتٍ من بلاد فارس أساسًا شكَّلت هذا الجنس المميَّز والمؤثر جدًّا في الأدب العربي، وقدَّمت قناةً لدخول الكثير من المفاهيم الفارسية السياسية والخُلقية في الحضارة الإسلامية ككل.
ولا حاجة بنا لذِكر أنَّه بحلول العصور الإسلامية اختفى كلُّ اتصالٍ ثقافي وأدبي مباشر مع بلاد فارس الميدية Median والأخمينية Achaemenid. مضتْ ألفيةٌ كاملة، في تأرجح الأعمال العدائية اليونانية الفارسية، منذ جلَبَ الإسكندر الأكبر مُنتصِرًا التأثيرَ الهيليني السياسي والثقافي باتجاه الشرق إلى الأراضي الفارسية. بالنسبة للعرب المسلمين والفُرس أيضًا، لم يَشهَد سوى تراثٍ تاريخيٍّ شِبه أسطوري بالإضافة إلى الآثار المادية لبلاد فارس القديمة على أمجادِ ماضي أسرة قورش الكبير؛ وفي ٣٤٤ﻫ/٩٥٥م، حين زار الأمير البويهي عضد الدولة «فنا خسرو» موقعَ برسبوليس Persepolis، لم يستطع المُوبذ الزرادشتي لكازرون أنْ يفسِّر له إلا النقوشَ الفارسية الوسطى أو البهلوية التالية لعصر شابور الثاني.
وكانت الاستمرارية مع الماضي الساساني المباشرة، من الناحية الأخرى، واقعًا معيشًا في بلاد فارس، وكان للثقافة الأدبية للعصر الساساني بعضُ التأثير على الأدب العربي قبل الإسلام، وإن يكُن فقط من منظورٍ معجمي. كان رجال القبائل العربية على طول حدود مناطق الاستقرار في العراق قواتٍ احتياطيةً للساسانيين، وكان التأثير الثقافي الفارسي في مملكة اللَّخميِّين في الحيرة في وسط العراق واضحًا، يُرَى في حقيقةِ أنَّ أميرًا لخميًّا عربيًّا من أواخر القرن السادس يوجد باسمٍ ملحمي فارسي معتاد، قابوس (ابن المنذر الثالث)، حيث «قابوس» شكلٌ معرب من «كافوس». سعى شعراء الصحراء العربية إلى رعاية ملوك اللَّخميين، وبالتالي واجهوا الثقافة الفارسية وربما حتى الأدب الفارسي والموسيقى. ومن المؤكَّد أنَّ هذا كان بالضرورة نقطةَ دخولِ كلماتٍ فارسية في المعجم العربي قبل الإسلام؛ يعلِّق ابن قتيبة على ميل ميمون بن قيس (الأعشى) إلى استخدام الكلمات الفارسية في شعره، ويقول: «وكان الأعشى يَفِد على ملوك فارس ولذلك كثرت الفارسية في شعره.» (والكلمات الفارسية في شِعر الأعشى المستشهَد بها هنا، تدلُّ على آلاتٍ موسيقية، مثل، «الناي» و«الصنج» و«البربط».)١ ويستخدم القرآن كلماتٍ عديدة من أصل إيراني، وخاصة للتعبير عن أفكار دينية ومعنوية وشخصيات، مثل: «جُنَاح» («جناه» من الفارسية الوسطى المتأخرة، بمعنى «جريمة أو إثم»)، و«عِفْريت» («عَفْريتَنْ» من الفارسية الوسطى المبكرة، بمعنى «يخلق»/«مخلوق»)؛ ولمفاهيم أخروية، مثل: «فردوس» («بريدازا» من الأفستية، وتعني «السياج الدائري»)، و«روضة» (ربما من «رود» الفارسية الوسطى، بمعنى «نهر»، وترتبط بمنطقةٍ غنية بالمياه مثل العراق). وهذه الكلمات ليست قليلةً في الشعر الجاهلي. بينما دخلتْ كلماتٌ فارسية كثيرة بوضوح إلى العربية عبر الآرامية؛ فإن بعضها، مثل «جنة»، ربما استُعير مباشرةً من الفارسية المنطوقة في الدوائر الفارسية في العراق أو خوزستان، حيث لا توجد في السريانية.

(١) الترجمات من الفارسية

بالعودة من المعجم إلى الأدب الحقيقي، نجد اليوم الكثير ممَّا لا بد أنه كان أدبًا غنيًّا دنيويًّا بالفارسية الوسطى قد فُقد إلى غير رجعة. ازدهار تراث الشعر الغنائي، أيْ شعر الجوسان البارثيين والهنياجر الساسانيين («نَفَاجر» في الفارسية الجديدة، تقابِل الكلمة العربية «مطرب» أو «مغنِّي»)، اختفى تمامًا، رغم أنَّ تأثيره بقي في «شاهنامة» الفردوسي، والقصيدة الرومانسية الطويلة «ويس ورامين»٢ إعادةُ كتابةٍ لعملٍ غنائي في القرن الحادي عشر، بسوابقَ بارثيةٍ على ما يبدو. شكَّل أدب النثر للتسلية والقصص والحكايات (بعضها من أصولٍ هندية في النهاية) — أيضًا غير مكتوبٍ في العصر الساساني، لكنه نُقل بدقة عبر التراث الشفهي — كيانَ أدب «المسامرة» و«الخرافات» الذي جُمع في العصور الإسلامية. ودوِّن بعضه قرب نهاية العصر الساساني، ثم وجد طريقه إلى الأدب العربي: عناصر مساهِمة في «ألف ليلة وليلة»؛ في «مروج الذهب» للمسعودي و«فهرست» ابن النديم فقراتٌ مشهورة تشير إلى أنَّ كتاب «هزارأفسانة» الفارسي (ألف قصة) أساسُ «ألف ليلة وليلة» العربية، وخاصة الحكايات ذات التيمات السِّحرية والخرافية، وتؤيِّد نابيا أبوت أنَّ الترجمات إلى العربية تعود إلى وقتٍ مبكِّر يرجع إلى القرن الثامن.٣ لكنَّ الكتابة عمومًا في بلاد فارس قبل الإسلام، كانت لحفظ الأعمال الكهنوتية والمكتبية. وحفظت بهذا الشكل أساسًا للأعمال الدينية الزرادشتية (رغم أنَّ الكثير منها نُقل شفهيًّا حتى تاريخٍ متأخِّر) وللمراسيم القانونية والاتصالات الدبلوماسية. وكان معظم هذا الأدب يُعتبر، بعد أسلمة بلاد فارس، هرطقةً أو غيرَ مناسب؛ فأُهملت معرفته. وحدث أحيانًا تدميرٌ متعمَّد على أيدي الفاتحين؛ حيث يسجِّل البيروني أنَّ عرب قتيبة بن مسلم دمَّروا الكثير من الثقافة الإيرانية القديمة في خوارزم حين غزوا هذا الإقليم في ٩٣ﻫ/٧١٢م. وكما أشرنا من قبل، لم تنحسر قوة ما تبقى من الزرادشتية في بلاد فارس إلا في العصر الإسلامي، وتمَّت محاولاتٌ لتسجيل الأدب المقدَّس للمجوس، معظمه باللغة الفارسية الوسطى والخطِّ البهلوي، قبل أن يتلاشى تمامًا.
ما تبقَّى في العصر الإسلامي، وقد تكون له قدرة على بعض التأثير على الأدب العربي الإسلامي الناشئ، قدْرٌ صغير من الأدب الفارسي من خلال الترجمات العربية لبعض مُعتنِقي الدين الجديد من الفُرس؛ حيث تعلَّم الفرس اللغة العربية، اللغة السامية الغريبة تمامًا عن بنية لغتهم الهندوأوروبية والإحساس بها، بسرعةٍ وطلاقة مدهِشة، ويمكن اعتبار المساهمة المباشِرة للموالي الفُرس في الأدب العربي في العصر العباسي بالغةَ الأهمية. تتكوَّن المواد الموروثة من الماضي الساساني كلُّها تقريبًا من التاريخ أو الأدب، وتأثيرها على الأدب العربي لا يتناسب مع حجمها الضئيل؛ كان، على سبيل المثال، ضئيلَ الكمية مقارنةً بالقَدْر الكبير من الأدبيات اليونانية العلمية والفلسفية والطبية التي جُلبت للعرب عن طريق المترجمين السريان وقنواتٍ أخرى.
في عملية النقل من البهلوية، كانت الشخصية الرائدة على ما يبدو عبد الله بن المقفع (١٠٢ﻫ تقريبًا–١٥٩ﻫ تقريبًا/٧٢٠م تقريبًا–٧٥٦م تقريبًا)، وهو فارسي من إقليم فارس؛ لدينا فقط جزءٌ ممَّا ترجمه، وهو ليس في نُسخه العربية الأصلية. وكان الأهم من بين أعماله «كليلة ودمنة»، نسخة من مجموعة حكايات الحيوانات، في الأصل من «الفصول الخمسة» السِّنسكريتية «تنترا خيكا Tantrakhyayika»، لكنَّ ابن المقفع قدَّمها عن نسخةٍ بهلويةٍ منقَّحةٍ عن نسخةٍ من منتصف القرن السادس، ألَّفها لكسرى أنوشروان طبيبُه برزوَيْه. وحيث إن هذه الأخيرة فُقدت (رغم أنَّ نسخةً سريانية مأخوذة عنها، كانت باقيةً بشكلٍ متزامن تقريبًا)، فمن الصعب تقييم أيِّ السمات الفارسية تحديدًا، التي اجتمعت في هذه المجموعة الهندية القديمة من الحكايات، جُلبتْ إلى الأدب العربي، لكنَّ فكرة التعبير عن نقدِ دينٍ مُوحًى ومجتمعٍ بشري وأخلاقٍ من خلال أفواه الحيوانات؛ كانت مؤثِّرة في التراث الأدبي والفلسفي الإسلامي بعد ذلك، وتُرَى بوضوحٍ في «رسائل إخوان الصفا» في القرن العاشر في البصرة، حيث اعتُمدت هذه الحيلة المكشوفة في مناظراتِ الحيوانات والبشر أمام ملك الجِن. وبطبيعة الحال، أثنى على هذا النهجِ نفسه — كما في حالة إخوان الصفا — مَن كانت عقيدتهم الدينية أو الفلسفية موضعَ شك في عيون المتحدثين الرسميين باسم الإسلام (كان يُشكُّ في أنَّ ابن المقفع نفسه زنديق، ارتبط بمعتقداتٍ قديمة في العالم الإيراني، وخاصةً التعاطف مع المثنوية المانوية، ودفاعًا عن ذلك يُزعَم أنه ألَّف مجادلةً، محفوظة في تفنيدٍ للشيعة الزيدية لها من القرن التاسع).
لترجمة «كليلة ودمنة» أهميةٌ أخرى بوصفها بدايةَ أدب «مرايا الأمراء» بالعربية؛ أعمال عن الكفاءة السياسية العملية وعن السلوك الدنيوي والأخلاق، تزخر عادةً بالأمثال والمستشارين الحكماء وبحكاياتٍ تاريخية توضيحية، وهو مجالٌ أدبي ازدهر في الفارسية الوسطى في أواخر العصر الساساني. افتتح ابن المقفع نفسه هذا الجنس الأدبي في العربية ﺑ «كتاب الأدب الكبير»، عن سلوك الأمير المثالي وحاشيته؛ و«رسالة في الصحابة»، نصيحة عملية بارزة عن معالجة الشئون السياسية والعسكرية موجَّهة لخليفةٍ أو أمير عباسي. ويُرَى تطوره بعد ذلك في سلسلةٍ من الأعمال تمتدُّ من وصايا القائد الفارسي طاهر ذي اليمينَين لابنه عبد الله (أوائل القرن التسع)، ليبلغ ذِروته بعد ثلاثة قرون في عمل الغزالي «نصيحة الملوك»، وفيه تَحقَّق الانصهار الكامل بين تراثِ «بند نامة» أو «أندرز نامة» الفارسي وتراث الدين الإسلامي. نعرف أنَّ في أدب الفارسية الوسطى كتبًا — مثل: الوصية السياسية للملك أردشير، ونصيحة خسرو أنوشروان وأقوال وزيره الحكيم بزرجمهر — موجودةٌ في نُسخ عديدة. وهكذا رغم أنَّ هذه الأعمال البهلوية لم تبقَ سليمة؛ فإنَّ الكثير من المادة المقتبَسة منها ومن أنصارها، أصبحتْ صورًا نمطية في الأدب العربي وأدب مرايا الأمراء، يستشهد به كلما تعلَّق الأمر بالحكمة الدنيوية والسلوك اليقِظ في السياسة أو الحرب.
اهتمَّ أيضًا ابن المقفع بما كان ذات يوم ميراثًا إمبراطوريًّا مجيدًا لبلاد فارس، مآثِر ملوكها وإنجازات ثقافتها المادية. وتُنسب له ترجمةُ ثلاثة أعمالٍ مهمَّة ذات طبيعة ملحمية تاريخية. أولًا: مصنَّف «خوتاي نامة» («كتاب الملوك») من الفارسية الوسطى، ويُنسب لثلاثة كتَّاب فُرس في عهدِ آخِر الأباطرة الساسانيين، يزدجرد الثالث، ويغطِّي تاريخ بلاد فارس من العصور الأسطورية حتى وفاة خسرو برويز في ٦٢٨م.٤ كانت النسخة العربية لابن المقفع، النسخةَ الأُولى فقط من الكثير من ترجمات هذا التاريخ الملكي، استخدَمَ بعضُها ترجمَتَه بينما عادت أخرى على ما يبدو إلى الأصل في الفارسية الوسطى، مضيفةً موادَّ لم يستخدمها ابن المقفع وساعيةً لجعلها تتَّسق مع المادة التاريخية الموجودة. ثانيًا: كان هناك نوعٌ يماثل «كتاب الملوك» وهو «تاج نامة» («كتاب التيجان»)، عن الإمبراطور الحكيم خسرو أنوشروان أساسًا، رغم أنَّ الاستشهادات التي بقيتْ منه في الأعمال العربية تتعلَّق أكثر بالحاكم التالي خسرو برويز.
كان الفُرس دائمًا على وعيٍ عميق بتراثهم التاريخي القديم وباستمرارية بيئتهم الحالية مع هذا الماضي، ويبدو أنَّ دهاقنةً وغيرَهم في بداية العصر الإسلامي حفظوا في ممتلكاتهم الشخصية نُسخًا من هذه الأعمال التاريخية والملحمية؛ حيث يذكر المؤلفون المسلمون رؤيةَ تواريخَ وسِيَرٍ؛ كان في حوزة الأشفين حيدر الأشروسني في آسيا الوسطى، حين اعتقلتْه سلطات الخِلافة في ٢٢٥ﻫ/٨٤٠م، كُتُب فارسية جميلة ولامعة، كتاب عن أدب الفُرس، ونسخةٌ من «كليلة ودمنة»، وكتاب عن مزدك («مزدكنامة» ترجمه ابن المقفع). يذكر المسعودي أنه كان في ٣٠٣ﻫ/٩١٥م في اصطخر في فارس، مركز الإمبراطورية الفارسية القديمة، ورأى في حوزة أسرةٍ قديمة من نُبلاء الفُرس كتابًا كبيرًا عن تاريخ ملوكِ الفُرس وآثارهم، فيه صورٌ ملوَّنة للأباطرة الساسانيين، ويحتوي على مادةٍ لا توجد في أيٍّ من الكتب الفارسية الأخرى، من قَبيل «خُدَاي نامة» أو «آيين نامة» أو «كُهَن نامة». وهذا المجلَّد نسخةٌ عربية عن أصلٍ فارسي، يقال إنه وُجِد في خِزانة ملَكية فارسية (في قطيسفون، أو في فارس نفسها؟) وتُرجم بناءً على أوامر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. وإذا صحَّ، فإنه مؤشِّرٌ على أنَّ اهتمام العرب بالماضي الملحمي والتاريخي الفارسي، يسبق أعمالَ ابن المقفع. وتُرَى نتيجة كل هذا الاهتمام الإسلامي العام ببلاد فارس القديمة، في الأقسام الشاملة، إلى حدٍّ ما، عن الحوليات والتاريخ الفارسي، التي تعود إلى أُسرتَي بشادي وكيان الأسطورتَين. ويمكن العثور عليها في معظم الأعمال التي تتناول الحوليات والتاريخ العام، من القرن التاسع وما يليه، مثل: «كتاب المعارف» لابن قتيبة، و«تاريخ» اليعقوبي، و«الأخبار الطِّوال» للدِّينَوري، و«تاريخ سني ملوك الأرض» لحمزة الأصفهاني، و«تاريخ الرُّسلوالملوك» للطبري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«كتاب البدء والتاريخ» لأبي المطهر المقدسي، و«تاريخ غُرَر السِّيَر» للثعالبي، و«الآثار الباقية» للبيروني. وتستمدُّ معظم هذه المواد من أعمال ابن المقفع، لكنَّ أجزاء أخرى جاءت على ما يبدو من مصادر أخرى، ربما من تراثٍ شفهي.
بجانب الاهتمام بتاريخ الأُسر الحاكمة الفارسية، كان هناك اهتمامٌ من المجتمع الإسلامي المبكِّر بالثقافة الدنيوية المادية للفُرس، وكان ثالثُ الترجمات التاريخية لابن المقفع «آيين نامة» («كتاب الأعراف والحكم»)، تناظر كلمة «آيين» الفارسية في المعنى بشكلٍ كبير كلمةَ «أدب» العربية أو «رَسْم» العربية، وتعني وسيلةً أو إجراءً أو عرفًا (لذا يعرِّف قاموس أسدي الطوسي في القرن الخامس/الحادي عشر «لغةَ الفرس»، «آيين»، بأنها «رسم»). و«آيين» التي تصوَّر هنا أساسًا آيين البلاط الملكي وآداب الحياة هناك، آيين مصاحبة العاهل، والأكل والشرب، والصيد ولعب البولو معه. ويُرى تطور هذا الجنس الأدبي في العربية تحت هذا التأثير الفارسي، في عملٍ مثل «كتاب التاج في أخلاق الملوك»، ويُنسب غالبًا للجاحظ، لكن اعتبره ثقات في أسلوب الجاحظ، ونهجه المعرفي مثل أوسكار ريتشر Rescher وشارل بيلا Pellat، مزيفًا ومن أعمال عالمٍ فارسي موهبته أدنى من موهبة الجاحظ؛ ويعتمد هذا العمل على موادَّ عربية وفارسية، لكنْ مع رجحان كفَّة الأخيرة، ومع «آيين نامة» و«تاج نامة» بترجمةِ ابن المقفع؛ يقدِّم قدرًا معينًا من الموضوع. حينذاك أُدخِلت المفاهيم الفارسية عن السلوك العام وأسلوب الحياة الخاصة عن طريق هذه القنوات، لقطاعاتٍ من المجتمع أدنى من مستوى الحكام ورجال الحاشية. وبحلول القرن التاسع، كانت تؤثِّر على كل الطبقات في الأجزاء الوُسطى والشرقية من العالَم الإسلامي ممَّن كانوا على صلةٍ بالأدب والتعليم بأيِّ شكل، كما يظهر من حكايةٍ في كتاب «البخلاء» للجاحظ؛ شيخٌ خراساني بخيل، يعيش، على ما يبدو قربَ بغداد، عليه أن يشارك في غدائه عابر سبيل؛ لأنَّ الأخير يُخطئ فَهْم الرد المعتاد للتحية بأنه دعوةٌ لتناول الطعام، فيفسِّر الشيخ له النقط الدقيقة من «الآيين» التي يتضمَّنها الرد.٥
ورغم أنَّ ابن المقفع كان شخصية بارزةً؛ لم يكُن بحال من الأحوال الشخصَ الوحيد النشِط في بداية العصر العباسي في تفسير الأدب والثقافة الفارسية لجمهورٍ إسلامي عام، كما يشهد تنوُّع ذِكر مترجِمين آخَرين في «الفهرست». وهكذا نقَلَ المولى الفارسي أبان بن عبد الحميد اللاحقي البصري (ت: ٢٠٠ﻫ/٨١٥-٨١٦م)، صاحب البرامكة، مثل ابن المقفع — ويشتبه البعض في زندقته — «كليلة ودمنة» شِعرًا. ونال عليها مكافأةً كبيرة من الخليفة هارون الرشيد، ونقل «كتاب مزدك» شِعرًا، من النسخ العربية النثرية لابن المقفع. وقام أيضًا بترجماتٍ كثيرة مباشرة، وتشمل بعض القصص البوذية في النهاية عن «بلوهرويوذاسف»، وقصة السندباد، وسيرة خسرو أنوشروان. وتُذكَر حتى ترجمة ﻟ «كليلة ودمنة» للمعتزلي بِشْر بن المعتمر. وإضافةً إلى ذلك، رغم أن جزءًا من علماء سوريا والعراق، والكثير منهم مسيحيون أو صابئة، كان مهيمنًا على العمل في تفسير الميراث اليوناني العلمي والطبي للعرب؛ يشير ابن النديم إلى دور بعض الفُرس هنا، مثل أبي حفص عمر بن فَرُّخَان الطبري (ت: ١٩٩ﻫ/٨١٥م) وابنه أبي بكر محمد. ومن غير الواضح في هذا المصدر الأخير، إن كان أيٌّ من هذه النصوص نُقل إلى العربية عن طريق نُسَخ بالفارسية الوسطى، ربما في أكاديمية جنديشابور في خوزستان. ترجمت بعض الأعمال الفلكية الساسانية بالفارسية الوسطى، المعتمدة على التراث العلمي اليوناني والهندي، في السياق المناسب إلى الآرامية أو العربية. ويبدو أنه ظهَرَ حتى وضعٌ غريب؛ حيث استُخدِمَت الترجمات العربية عن الفارسية الوسطى بعد ذلك أسسًا لترجماتٍ عكسية إلى الفارسية الجديدة؛ وربما هذا أصلُ نسخة «كليلة ودمنة» بالفارسية الجديدة للشاعر الساساني رودكي (ت: ٣٢٩ﻫ/٩٤٠-٩٤١م)، المعروفة من بعض الاستشهادات في «لغة الفرس» لأسدي الطوسي.
معظم المترجِمين الفُرس المذكورين في «الفهرست»، مجرد أسماء بالنسبة لنا، ولا يعرف من ترجماتهم إلا العناوين، وبصرف النظر عن العملَين الصغيرَين المذكورَين سابقًا، لا يُعرف إلا القليل من الكلمات الفعلية المكتوبة لابن المقفع. وصلت أعمالهم إلينا من استخدام الكتَّاب العرب الأكثرَ شهرةً لها في وقتٍ لاحق، مثل ابن قُتيبة والجاحظ وابن عبد ربه، وتُرَى بوضوحٍ خاص في أعمالٍ للمؤلف الأول مثل: كتاب «المعارف»، و«عيونالأخبار». وابن قتيبة نفسه من أصلٍ فارسي بعيد (رغم أنه كان مدافِعًا شرِسًا في جانب العرب في منازعات الشعوبية)؛ يستشِهد كثيرًا ﺑ «أدب» ابن المقفع، ويذكُر «كتب العجم» و«كتاب الهند». واعتمد مباشرة، طبقًا لمَا يقوله جبريلي Gabrieli، على ترجماتِ ابن المقفع ﻟ «كليلة ودمنة». على سبيل المثال، في الفصل الأخير من «المعارف» عن «ملوكالعجم»، وعلى ترجمته لكتاب «تاجنامة» (نصائح خسرو برويز إلى ابنه شيرويه) في «عيون الأخبار».
في تقييم مساهمة الثقافة الفارسية في الأدب العربي المبكِّر، نحتاج إلى تجنُّب الموقف الشعوبي الجديد المفرط في حماسه بنسبةِ الكثير جدًّا للتأثير الفارسي؛ وليس لدينا إلا القليل جدًّا من الأدب المنبثِق مباشرةً عن المترجِمين. على سبيل المثال، الاعتماد بشكلٍ غير مناسِب على مجرَّد عناوين لكُتبٍ مذكورة في «الفهرست» وأعمال أخرى، قاد الجيل الأخير من المستشرقين إلى تمييزِ مفهومٍ فارسي مفيد (حتى لو كان الموضوع إسلاميًّا بوضوح) خلْفَ جنسٍ أدبي ضئيل من الأدب العباسي، يوازن النقائض في الخصائص والأفعال، إلخ. جنسٌ أدبي يوضِّحه كتاب «المحاسن والمساوئ» لإبراهيم بن محمد البيهقي (ازدهر في أوائل القرن الرابع/العاشر). ويُرَى هنا إلهامٌ في العمل الزرادشتي بالفارسية الوسطى عن مسائل القانون ونقاء الطقوس «شايست نشايست» («المباح والمحظور»)، ورابطٌ وُجِد في ترجمةٍ بعنوان «كتابالمحاسن» لعمر بن فرخان، لا يُعرف عنه أيُّ شيء حقًّا، إلا أنه اعتُبر نموذجًا لكتبٍ تالية متنوِّعة بهذا العنوان. وأوضَحَ آخِر الباحثين في هذا الجنس الأدبي الفرعي في أدبيات الأدب العربي، إبراهيم جريس Geries، أنَّ هذَين العملَين الأخيرَين معروفان فقط باسم المؤلف، وثالث — لابن قتيبة — هو فقط جزءٌ من عمل إشكالي للمؤلف الأخير، «كتاب عيون الشعر»؛ الفكرة بأنَّ التوازن الطباقي للمحاسن والمساوئ، للخير والشر، يعكس انقسامًا في الفكر الديني الفارسي للمبدأين الأساسيين للوجود؛ جذابةٌ وممكنة أيضًا، لكنْ لم تثبت تمامًا.

(٢) التأثيرات العربية على الأدب الفارسي

وممَّا هو جدير بملاحظةٍ موجزة فقط بين قوسَين، حيث إنه لا يمثِّل اهتمامنا المباشِر في هذا الفصل وينتمي بشكلٍ أصحَّ إلى تاريخ الأدب الفارسي، تأثير الأدب العربي في الاتجاه العكسي، وخاصة الشِّعر، على الأدب الفارسي الجديد الذي يظهر في القرن التاسع ويزدهر في القرن التالي. مسألةُ العروض والبحور الفارسية، لم يتمَّ توضيحها بشكلٍ كامل بعدُ، لكنَّ الشعر بالفارسية الوسطى يبدو أنَّه كان أساسًا مقطعيًّا وإيقاعيًّا، مع بعض الاهتمام بالقافية والسجع، رغم أنَّ هاتَين الخاصيتَين الأخيرتَين لم تكونا أساسيتَين. في ظِل صفاريان السيستان والسامانيين من بلاد ما وراء النهر وخراسان (أواخر القرن التاسع وما بعده)، نجِدُ بنيةً شعرية متطورة بالفارسية الجديدة، ببحورٍ كمية وتخطيطٍ شعري مقفًّى تمامًا، ربما تمَّ تبنِّيها تحت التأثير العربي، حلَّت بشكلٍ كامل مكانَ النوع القديم من الشعر الغنائي. (عقد بروفيسور بويس Boyce مقارنةً مثيرة، في هذا الصدد، مع ما حدَثَ في إنجلترا بعد الفتح النورماني؛ هُجر الشعر الأنجلوسكسوني غير الموزون غير المقفَّى لصالح بحورٍ فرنسية جديدة مقفَّاة.) وإضافةً إلى ذلك، يعتمد الأسلوب والمحتوى في الكثير من الشعر الفارسي الجديد الغنائي والرومانسي بوضوح على «موجةٍ جديدة» في الشعر العربي في أوائل العصر العباسي، موجة المُحدَثين، بحيث كان شاعرٌ غزنوي مبكِّر مثل منوشهري (ازدهر في أوائل القرن الخامس/الحادي عشر) يتبع بصدق النماذج العربية في البنية الشعرية، ويردد في صياغته أصداءَ شاعرٍ مثل امرئ القيس، ويستخدم كلَّ الحيل الأسلوبية للبديع.

(٢-١) اللغة

تعايُش الثقافة العربية والفارسية في الخلافة العباسية ونظيرتها في المجال اللغوي إضافةً إلى الأدبي، وتبنِّي كلمات مستعارة من الفارسية في العربية، وقد لوحظ مثلَ تيارٍ واهٍ قبل الإسلام وفي عصر القرآن، ينتشر على نطاقٍ أكبر بصورةٍ محسوسة. ويمكن تمييز هذه العملية بمجرد أن بدأت موجاتُ الفتوحات الكبرى تجلبُ أعدادًا من العبيد والموالي الفُرس إلى مدن الحاميات في العراق بقدْرِ ما تجلبهم للمدينة والحجاز. تعلَّم الموسيقي والمغني الكبير في أواسط العصر الأموي، ابن مسجح المكي، الألحانَ والأغاني الفارسية من العبيد الفُرس الذين استخدمهم عبد الله بن الزبير المُعادي للخليفة لترميم الكعبة، واشتهر بمجرد أن أدخل الغناءَ الفارسي إلى الموسيقى العربية. واستخدم أهل الكوفة التعبير الفارسي «بُزُرج أشكنب» («منتفخ البطن») للخليفة البدين علي، وفي القرن التاسع يقدِّم الجاحظ أمثلةً لشيوع استخدام أهل المدينة كلماتٍ فارسيةً لكلمات عربية معتادة، على سبيل المثال، عُربت «خَرْبُز» الفارسية إلى «خِرْبِز» للكلمة العربية «بطيخ». في الشعر العربي، بأصوله الصحراوية، قد نتخيَّل أنه أكثر مقاومةً للكلمات الجديدة وغير العربية، يستخدم شعر العصر الأموي أحيانًا كلماتٍ فارسيةً دخيلة، وخاصة في حالة الشعراء الذين لهم روابطُ بشرق العالم الإسلامي. وهكذا في قصيدة أعشى حمدان (ت: ٨٢ﻫ/٧٠١م، أو ٨٣ﻫ/٧٠٢م)، عن أحداث في أفغانستان على الحدود النائية للإمبراطورية العربية، نجِدُ كلماتٍ فارسيةً مثل: «دَيْزج»، «غامق اللون»، (معربة عن «دِيزه» الفارسية الوسطى، «دَيْزه» في الفارسية الجديدة)؛ و«رَيذج»، «أمرد»، (معربة عن «رِتَك» من الفارسية الوسطى، «ريدك» من الفارسية الجديدة). أعمال الجاحظ شواهدُ ثمينةٌ على حالة المعجم العربي في القرن الثالث/التاسع، موضِّحة أنَّ الكلمات الفارسية صارتْ ضروريةً، خاصةً للدلالة على جوانب الحياة والثقافة المادية غير المعروفة في المجتمع البدوي أو الزراعي العربي القديم؛ على سبيل المثال، لأنواع الطعام («سيكباج» وتعني «حساء اللحوم بالخل»، و«تباهج» وتعني «اللحم المفروم مع البيض والبصل»، إلخ). مفردات الحياة الحضرية الدنيا — الجريمة، التسول، الانحراف الجنسي؛ نابعة إلى حدٍّ كبير من الامتداد الحضري لبغداد — غنيةٌ بشكل خاص بالكلمات الفارسية.
حيث إنَّ الكثير من الشعراء والكتَّاب ذوي الأصول الفارسية، كانوا بدون شكٍّ ثنائيِّي اللغة في العربية الأدبية والفارسية الجديدة المبكِّرة المنطوقة في ذلك العصر، نجد من القرن الثامن وما بعده شعراء، على سبيل المثال، لا يدرِجون في أشعارهم العربية كلماتٍ فارسيةً شائعة فقط عرِّبت مبكرًا وصارت جزءًا من مخزون المعجم العربي الشائع؛ بل يدرِجون أيضًا كلماتٍ فارسيةً نقيَّة، من الواضح أنها كانت غيرَ مفهومةٍ للقارئ الذي لا يتحدث الفارسية. بعض أشعار أبي نواس دليلٌ مبكِّر قيِّم لهذا النوع الأخير في شكلٍ مكتوب؛ كان مؤلِّفَ عدَّة «فارسيَّات»، وهي قصائدُ مؤلَّفة، بالطبع، بالعربية أساسًا، لكن بمزيجٍ كبير ممَّا يمكن أن يسمَّى كلماتٍ وتعبيراتٍ فارسيةً «خامًا». درس مُجْتبى منوفي بشكلٍ مكثَّف نصَ إحدى هذه القصائد، الموجَّهة إلى أمرد مجوسيٍّ يسمَّى بهريز، مع شرحٍ لحمزة الأصفهاني، وهو أحد راوِيَيْن أساسيَّين لديوان أبي نواس، عن كلماتٍ فارسية غير مألوفة؛ وتشمل الكلمات الفارسية التي استخدمها أبو نواس كلماتٍ مألوفةً في هجاءٍ قديم غير معتاد (مثل: «نُكْرُز» بدلًا من «نيروز» بمعنى «العام الجديد»)، وكلمات ربما استوعبتْها العربية في زمن الشاعر (مثل: «البِسْتَق» بدلًا من «بيشتاق» بمعنى «القاعة أو الرواق»)، وأيضًا كلمات من الواضح أنها لم تستوعب (مثلًا: «دِفَهرِي» بمعنى «بائس، منبوذ»، من الفارسية الوسطى «ديبر» بمعنى «غضبان»). وخاصة من القرن الرابع/العاشر وما بعده، نجِدُ شعراء ثنائيِّي اللغة يؤلفون شعرًا خليطًا بكلماتٍ فارسية مدرجة في العربية أو بأشعارٍ بديلة، مختلفة المعنى، بالعربية والفارسية (المُلمَّعات)، كما توضِّح أمثلةٌ متنوعة في مختارات أدبية من القرن الحادي عشر لأبي منصور محمد الثعالبي، «يتيمة الدهر» و«تتمَّة اليتيمة»، واستمرارهما لأبي الحسن علي الباخرزي «دُمْية القَصْر». حين تكون كلمة فارسية متَّسقةً مع كلمة عربية، يمكن فقط نُصح الأشخاص البارعين في اللُّغتين بالرغبة في اللعب بالكلمات. يستخدم شاعرٌ مجهول الاسم، يستشهد به الجاحظ في شطر كلمة «مردا» بمعنى «يا رجل!» (فارسية)، و«مرد» بمعنى «شاب بخدَّين ناعمَين» (عربية)؛ ويلعب شاعرٌ ومسئول ساساني، هو أبو علي الساجي، على معنيَين للحروف «م، ر، و»: مدينة مرو بالعربية، والنهي «مَ–رو» بمعنى «لا تذهب» بالفارسية.

(٢-٢) الاتجاهات العامة

بالنظر إلى الاتجاهات العامة خلْفَ استقبال الأشكال الأدبية والمفاهيم الفارسية في الأدب العربي في بداية القرون الوسطى، نلاحظ قبل كلِّ شيء تأثيرًا فارسيًّا ملموسًا على تطور التأريخ العربي. ما يميِّز التراث الفارسي في كتابة التاريخ، نثرًا أو شعرًا ملحميًّا كما في «الشاهنامة»، التمكن من هذا الشكل الملحمي، بالقدرة على تصوير الفعل بشكلٍ مقنع ومزْج التاريخ الخالص والقصة والعنصر الصوفي معًا لإنتاج قصةٍ مثيرة، لكنَّ العرب لم يهيمنوا تمامًا قَط على هذا التراث التاريخي، حتى رغم توفُّر مواضيعَ لا نظير لعظمتها في تجلِّي رسالة النبي محمد والفتوحات العسكرية الكُبرى. حين كان تاريخٌ منظوم يُقبل في النهاية على مضض في بداية القرن العاشر (على سبيل المثال: في «سيرة الإمام» لابن المعتز عن مآثِر ابن عمه الخليفة المعتمد، وفي قصيدة أبي فراس الحمداني عن حملات ابن عمِّه سيف الدولة، وقصيدة ابن عبد ربه عن غارات عبد الرحمن الثالث في الأندلس ضد المسيحيين)، واعتُمِدت الثنائية الفارسية المقفَّاة، على الأقل في قصائد الرجز لأول هؤلاء المؤلفين وثالثهم، لكنَّ جهودًا مثلَ هذه لا تبرهِن على أنها بدايةُ تراثٍ مثمر في الأدب العربي. وكان ما له أهمية في المستقبل، الاستعارة من الأدب التاريخي الفارسي لفكرةِ الشخصية الفردية. وجاءت خيوطُ عناصرَ مكمِّلة أيضًا من سيرة النبي، والحكايات الوثنية عن أيام العرب. وتحولت إلى مغازي رسول الله، وربما نبضات من سِيَر القِديسين المسيحيين؛ لكنَّ الكثير من الكتابة التاريخية بالفارسية الوسطى، كما رأينا، تناولتْ شخصيات مفردة وعهودهم (أردشير، بهرام شوبين، خسرو أنوشروان، خسرو برويز، إلخ)، وقام العرب بذلك تحت عنوانٍ عام «سيَر الملوك وأخبارهم».
دمج هذه المادة التاريخية الفارسية في الأدب العربي، بدوره، مكوِّن مساهِم في تكوُّن الأدب عمومًا. في أوائل العصر العباسي، نمو حياة الحضر، وازدهار الاقتصاد الداخلي، إضافةً إلى بعض الاسترخاء وارتفاع المعنويات بعد اضطراب عصر الفتوحات؛ جلبتْ معيارًا مرتفعًا للحياة وتهذيب الطِّباع، مغطِّيًا ما سبق من الخشونة والعنف البدوي. اتسع الأدب، المثال الخلقي والعملي للشخص المتحضر، ليستوعب الثقافات الأجنبية، بحيث يُتوقع من الأديب حينذاك أن يكون على علمٍ بأقسام الآداب الأجنبية، الفارسية والهيلينية وحتى الهندية، إضافةً إلى القسم الأساسي المتعلِّق بالعِلم، ويشمل: العلوم العربية المحلية لتفسير القرآن والحديث والدين والشرع والنحو والشعر والتاريخ، إلخ. توضَّح بعض الجوانب الخاصة الأدبَ بوضوحِ مصدرها الفارسي. بشكل خاص، المتعلِّقة بإقدام الفروسية وألعاب المهارة، مثل الشطرنج والطاولة، والمتعلِّقة بالطعام والشراب وبالملابس (وكثيرًا ما تُستعار الكلمات الفارسية لهذه الأمور)، والمتعلقة بمرافقة الحاكم، والمتعلقة بالمهارات المكتبية والدبلوماسية، إلخ. اقتبس جولدتسهير تصريحًا مثيرًا للحَسن بن سَهْل (ت: ٢٣٦ﻫ/٨٥٠-٨٥١م)، الوزير الفارسي للخليفة المأمون، عن طبيعة الأدب كما رآه المعاصرون: «الآداب عشرة، فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربَّتْ عليهنَّ؛ فأما الشهرجانية فضربُ العود ولعبُ الشطرنج ولعب الصَّوالج، وأما الأنوشروانية فالطِّب والهندسة والفُروسية، وأمَّا العربية فالشِّعر والنسب وأيام الناس، وأما الواحدةُ التي أربَّت عليهنَّ فُمُقَطَّعاتُ الحديث والسَّمَر وما يتلقَّاه الناس بينهم في المجالس.»
لذا في كلِّ الجوانب الرفيعة للحياة، يقدِّم الأدب العربي أقسامًا خاصَّة لأعمالٍ كبيرة في الأدب، أو مختاراتِ الأدب، أو كُتيباتِ مستقلَّة للإرشاد بشأن مواضيعَ معيَّنة، مثل: «أدب النديم» لأبي الفتح محمود كُشاجم السندي (ربما توفي في ٣٦٠ﻫ/٩٧١م، وأُسرته من أصلٍ فارسي هندي)، و«أدب الكاتب» لابن قُتيبة، و«كتاب في الشطرنج» لأبي بكر محمد بن يحيى الصُّولي (ت: ٣٣٥ﻫ/٩٤٦-٩٤٧م، أو ٣٣٦ﻫ/ ٩٤٧-٩٤٨م؛ وينحدر ربما من أصلٍ تركي). وطبقًا لهذا، لم يكُن من المستغرَب أن يثير الأصلُ الشرقي، للكثير من هذه المعارف والموادِّ، الريبةَ والشكَّ بين التقليديِّين وذوي الميول التقليدية، وخاصةً وأنه لم يكُن القليل من مترجِمي الأعمال الفارسية وأنصار الأدب يُعتبرون متعاطفين مع الزندقة أو مؤيِّدين للشعوبية. ومن هنا، جاء ردُّ فعلِ المدافِعين عن ثقافةٍ عربية نقيَّة، والذي يُرى في انتقاداتِ الجاحظ (في «رسالة في ذمِّ أخلاق الكتَّاب») للكتَّاب الذين يختالون ويمجِّدون حكمةَ الأباطرة الساسانيين والبيزنطيين، وأدب ابن المقفع فوق أدب النبي والخلفاء، وحتى فوق القرآن، لكنْ بحلول القرن التالي، تغلَّب الأدب العاشر على هذه التحفُّظات ورَسخَ باعتباره وجهًا معترَفًا به لتشكيل كلِّ المسلمين المتعلِّمين حقًّا.
١  ابن قتيبة، الشعر، ١٣٦-١٣٧.
٢  قصيدة بالفارسية لفخر الدين أسعد جرجاني عن قصة حُب فارسية قديمة. (المترجم)
٣  “Fragment,” 129–164, esp. 153-154.
٤  في الأصل ٧٢٨، وهو خطأ واضح. (المترجم)
٥  البخلاء، ٢٤–٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥