الفصل الثالث
بدايات النثر العربي
روبرت سرجنت، جامعة كامبريدج
(١) كتابة الوثائق قبل الإسلام
كانت الحضارة العربية التي وُلد فيها النبيُّ محمَّد، تعرف لفترةٍ طويلة القراءةَ
والكتابة، ومجتمعًا منظَّمًا جدًّا. لبعض الوقت قبل الإسلام، كان العربُ يكتبون باللغة
العربية، رغم أنَّ الخطوط التي استخدموها مسألةٌ معقَّدة. تُذكر رسائلُ بلغةِ نجران،
ربما كانت عربيةً، في رسالةِ شمعون أسقف بيت أرشام، وسُلِّط الضوء عليها أخيرًا، واعتاد
سادةُ نجران أن يرثوا الكتاباتِ أو الكتبَ من بعضهم البعض.
١ في حصنِ مبرق في وادي النقع، موطن قبيلة النخع جنوبَ اليمن، تظهر النقوشُ
الصخرية «الحمرية» والكوفية متجاوِرةً، وتوجد نقوشٌ صخرية عربية مبكِّرة جدًّا أو نقوشٌ
جدارية في أجزاءٍ كثيرة من غربِ الجزيرة العربية. الشعب الذي نقَشَ هذه الصخور، لا يمكن
إلا أن يكون منتميًا لمجتمعٍ على درجةٍ عالية من التعليم.
واتَّبع محمَّدٌ عمومًا الأشكالَ التقليدية للوثائق السياسية المكتوبة وأسلوبها،
المستقرَّ جيدًا، حين ظهَرَ في المشهد. إنَّ العقيدة، التي صِيغَت في تطوُّر الإسلام
بعد ذلك، بأنَّ محمدًا لم يكُن يعرف القراءةَ أو الكتابة من الصعبِ الدفاع عنها. وينبغي
ربطُ تأييدِ «ريتشارد بل»
٢ لتعلُّمه؛ بحقيقة المكانة الاجتماعية لمحمد. كيف يمكن لسليلِ بيتٍ ديني أرستقراطي،
٣ عرَفَ حُكَّامًا مشهورين مثل جدِّه عبد المطلب، وتحمَّل مسئوليةَ قوافلَ
تجاريَّةٍ إلى الشام، أن يفتقر إلى مُنجَزٍ أساسي مثل هذا؟ إذا كان تُجَّار ثقيف من
الطائف يحتفظون ﺑ «
صُحُف» تسجِّل الديون إضافةً إلى
الفوائد، فمن المؤكَّد أنَّ النبي كان يحتفظ بحساباتٍ مكتوبة؟ واستخدامه كُتَّابًا في
المدينة ليس حجَّة على أنَّه كان أُميًّا، وقد تكون كلمة «
أمي»
٤ التي وصَفَه بها القرآنُ نسبةً إلى «الأمَّة» التي أسَّسها، نشأ معنى كلمة
«أمي» بعد ذلك بقرنَين.
ومن المُحتمَل أنَّ مجموعاتٍ شعريةً مكتوبة، مثل كتاب قريش وكتاب ثقيف، عُرفت في
العصر الأُموي، جُمعت ووُثِّقت كتابةً حتى قبل الإسلام. في اليمن يتحدَّث الهَمْداني
عن
سِجِل لخولان ولحِمْيَر في صعدة؛ وعن سجلٍ لمحمد
بن أبان الخنفري، انتقل من شخصٍ إلى آخر من
الجاهلية.
وتحتوي هذه السجلات على أخبارهم وأنسابهم والمواد التي طرأتْ على «
الأيام»؛ معارك العرب قبل الإسلام. وحتى اليوم، يقال إنَّ
خولان تحتفظ بشيءٍ ما كالسِّجل. كتَبَ خولان الأكبر، ويسمَّى خولان بن عمرو أو خولان
صعدة، معاهداته على جِلدٍ أحمر ناعم اشتَهَر به الإقليم. ورأيْتُ هذا الجِلد الأحمر في
سَرايَةِ جبلِ عيال يزيد، وكتُبُ اليهود مكتوبةٌ على الجِلد الأحمر في العُرْضِي في
تعز. يقول الهمداني:
٥ «رأيتُ معظمَ مآثر خولان على
مرائط جلدٍ
أحمر.» وربما يبقى هذا في عادة الأئمة الزيديَّة في رشِّ رسائلهم بمسحوقٍ أحمر. يبدو
أنَّ أقدم الوثائق كُتبت على
صحيفة. يمكن أن تؤكِّد
لنا نابيا أبوت
Abbott، بخبرتها الواسعة في البرديَّات
المبكِّرة، انتشارَ استخدام الكتابة في بداية الإسلام، ليس فقط للوثائق (لكن من منتصف
القرن الأول) في المجالات المتطوِّرة لدراساتِ القرآن و
الحديث والتاريخ.
(٢) أدبُ الأمثال
بينما استُخدمت الكتابة، حتى قبل الإسلام، لهذه
الأغراض؛ فإن النقل الشفهيَّ كان في الوقت ذاته وسيلةً ضرورية لتذكُّر المعرفة والحفاظ
عليها. وكان الشعر، الذي يلعب حتى اليوم دورًا ضروريًّا ونفعيًّا غالبًا في الحياة
الاجتماعية في الريف، في الجزيرة العربية قديمًا، الأداةَ الأكثرَ أهميةً لنقل المعرفة،
لكن السجع استُخدم أيضًا. والمَثَل أو القول المأثور،
من أقدمِ أشكال «الأدب الشفهي». ويمكن العثور عليه فيما يُعرف بوصايا الرِّجال المشهورين — وهي حقًّا أكثر من مجرَّد حِكَم غير
مترابطة — وحِكَم الأبياتِ الأخيرة من القصائد
الكلاسيكية. خطبةُ النبي في حجَّة الوداع، لا تختلف عن الوصايا. كثيرًا ما تَستخدم الخطبةُ أقوالًا مأثورة، وربما تبقى في
المُخيِّلة بعضُ عباراتِ الخطيب وتصبح مَثَلًا.
يعرِّف ابن السكِّيت النحوي المَثَل بأنَّه «لفظٌ يخالف لفظَ المضروبِ له ويوافق
معناه». يُحتمل أنَّ «كتاب تميم» قبل الإسلام كان يحتوي على شِعر
وحِكَم، ويفسِّر «
خِزانة الأدب»
«
مَجَلَّةً» بأنَّها «إنجيل»، ويُضيف: «وكذا كلُّ
كتابٍ جمَعَ حِكمًا وأمثالًا عند العرب
مجلَّة.»
٦ «ومن هذا سمَّى أبو عبيدة كتابه، الذي جمَعَ فيه أمثالَ العرب
المجلَّة». وكلُّ المجموعات الموجودة وُضعتْ بعد الفترة
التي يغطِّيها هذا الفصل، وأقدمها مجموعة محمد الضبِّي (ت: ١٧٠ﻫ/٧٨٦م)، وأشهرها
«
أمثال العرب» للميداني النيسابوري (ت:
٥١٨ﻫ/١١٢٤م). ومن الطبيعي أنَّ الأمثال العربية تشترك في الكثير مع أمثالِ أيَّة لغة؛
لذا رغم وجود العديد من المطابقات مع العبرية التوراتية وما بعد التوراتية وكذلك
الآرامية، من الصعب أن نميِّز ونقيِّم ما هو أصيلٌ في العربية وما هو مستعار. ومن
المحتمَل أنَّ الأمثال الآرامية دخلَت العربيةَ قبل الإسلام، وأنَّ المجموعات القديمة
تضمُّ بعض الأمثال المسيحية، لكنها نادرًا ما احتوت شيئًا من «
العهد القديم».
يبدأ النويري موسوعته، «نهاية الأرب»، بأقوالٍ
للنبي والخلفاء الراشدين وعبد الله بن عباس. وقد يكون بعضُها قديمًا، مثل: «إياكم
وخضراء الدِّمَن.» أي: احذر الزواج من «المرأة
الحسناء في المَنبَت السوء». ويمكن أن يكون مدسوسًا على النبيِّ. وممَّا لا شكَّ فيه
أيضًا أن الأمثال تسلَّلتْ إلى أدب الحديث (أقوال
النبي وأعماله)، لكنَّ القول المنسوب للنبي: «إنَّ من الشعر لحِكمة وإنَّ من البيان
لسحرًا.» يتوافق على الأقلِّ مع شخصيته. اتبع الإمام الراحل أحمد إمام اليمن رأيَ
سَلَفه في أنَّه كثيرًا ما أصدر مرسومًا في بيتٍ من الشعر! من الخلفاء الأوائل يُنسب
إلى أبي بكر أنه قال: «لعَنَ اللهُ قومًا ولَّوا أمرَهم امرأة.» تبدو الحكمة السياسية
لعمر: «وأخيفوا الحيَّات من قبل أن تُخيفَكم.» مناسبةً في أيِّ زمان. يُنسب القليل
لعثمان، والأقوال الكثيرة التي تُنسب لعليٍّ يمكن الاطلاع عليها في «نَهْج البلاغة».
حقَّقت مقولاتُ الحكَّام المشهورين، مثل معاوية، انتشارًا واستشهد بها المؤلفون بعد
ذلك. الأمثال شِعرًا يرتِّبها النويري طبقًا للعصور وتحت أسماء الشعراء الذين كتبوها:
شعراء الجاهلية، والشعراء المخضرمين الذين أدركوا
الجاهلية والإسلام، و«المتقدِّمين».
تبدو بعض الأمثال القديمة غريبةً وصعبةً بشكلٍ لا يُوصف، خاصة تلك الناجمة عن ظروفٍ
غير مألوفة للحياة القَبَلية، رعويةً أو غير ذلك. توضِّح مقولةٌ قبَليَّة حضْرَميَّة،
مُتداوَلة الآن، مسارَ التفكير الغريب حتى بالنسبة للمجتمع المحلي: «على الخشم نز
الخشب.» وبشكلٍ مناظِر، قد يقول رجلٌ مستقر: «مستعدٌّ لتقديم أيَّة خدمةٍ لك، حتى لو
كانت في منتصف الليل، على الخشم نز الخشب.» يُثني المتحدِّث القبلي سبَّابته على أنفه
ليوضِّح أنه يقبل شيئًا ما، وعلى استعداد للقيام به حتى حين «يرشح النسغ من شجر
العِلْب»؛ ويقال إنَّه لا يحدُث إلا في منتصف
الليل. يؤكِّد وجود تعبيرات من هذا النوع اليوم أنَّ الأمثال والأقوال الغامضة، بصورةٍ
مماثلة في العربية القديمة؛ لا ينبغي أن تُعتبر مجرَّد ابتكارٍ لفقهاء اللغة.
تُنسب للقديس الجاهلي قُدَم بن قادم الهمداني، الذي يُدعى الحنيف، وضريحه على قمَّة جبل ضين، قبلة صنعاء، أبياتٌ من الواضح
أنَّها قديمةٌ جدًّا في المشاعر، رغم أنها قد تنتمي إلى أيِّ عصر؛ لأنَّ شعرًا مماثلًا
يُنسب إلى شبه الأسطوري حُميد بن منصور، وكثيرًا ما يستشهد به اليوم. إنها أقوال تجسِّد
الأخلاقَ القَبَلية العربية:
ولا تَخذُلِ المَولَى إذا ما مُلمَّةٌ
ألمَّت ونَازَلَ في الوَغَى مَن ينازلُه
لا خيرَ في مُدافِعٍ يتراجعُ أمام أعزلَ
«صُن العَهد»، «لا تأكلْ وعيالُ مولاك جِياع»، «لا تُفشِ أسرارًا اؤتُمنتَ عليها»
نعثر على مثل هذه الأقوال متوازيةً في فصلٍ كامل عن «الأدب والحكمة» في حماسة أبي
تمَّام. يتمُّ التعبير عن جوهر القَبَلية في المقولة الشهيرة المقتبَسة في «
الفاخر» للمفضَّل بن سلَمة:
٧ «انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا.»
من الفلكلور المتبلوِّر في شكلِ أمثال، لا شيءَ أكثرُ انتشارًا من حِكَم المعرفة
الممتازة، بالسجع غالبًا، عن الطقس أو الفصول أو المحاصيل أو جوانبَ أخرى لدورة الأنشطة
الزراعية. «حين يرتفع بُرج السرطان يعتدل المُناخ»، «حين يرتفع النثرة تحمرُّ التمرة»
حمَلَ العربُ هذه الحِكَم في كلِّ أرجاء العالَم الإسلامي — حتى في الغرب إلى الأندلس
—
وتبقى في الجزيرة العربية وغيرها على ألسنة الفلَّاح والراعي حتى اليوم. ويُستشهد بها
أيضًا في التقاويم المطبوعة؛ اتباعًا لتقليدٍ يعود دون شكٍّ إلى فترةٍ طويلة قبل
الإسلام. الكثير من هذه الأقوال الشعبية الحكيمة يستشهد بها ابنُ قُتيبة شِعرًا، وعادة
في بحر الرَّجَز. الأمثال القديمة التي قد يسمعها
المرءُ اليوم، أو يراها في استشهاداتِ الكتَّاب العرب المعاصِرين، من قَبيل: «مواعيد
سيئة وتدابير قصيرة »، «جوِّعْ كلبك يتبعْك»، «لا ناقةَ لي فيها ولا بعير»، أي «لا
علاقة لي بالأمر!»
(٣) الخطابة والمواعظ والخطب
يوجد أقدمُ شكلٍ معروف للنثر في العربية، الخطبة،
في المختارات الكلاسيكية مثل «أمالي» القالي، و«الأغاني»، و«العِقد الفريد»، و«الكامل»
للمبرِّد، وفي كتابات الجاحظ، وابن قتيبة وآخرين. تطورت الخطابة وحضور البديهة في
الجزيرة العربية القَبَلية القديمة إلى دراما، وقد تعتبر مصدرًا للمفاخرة؛ حربًا من الكلمات تشكِّل جنسًا أدبيًّا، ليس في العربية
الفصحى وحدها، لكنْ أيضًا في اللهجات العامية، تستمرُّ حتى عصرنا. هذه الخُطب لا ينبغي،
بالطبع، نِسبتها بالمعنى الحَرفي للخطباء الكِبار في العصور القديمة؛ قد يكون الكثير
منها مجرَّد ابتكار لمَا ينبغي أن يقال في مناسباتٍ شهيرة، لكنَّ المحفوظ بشكلٍ مُذهِل
في الذاكرة العربية، ربما حفظ جيدًا الجوهر، وحتى بعض لغة الخطب التاريخية.
كان للخطيب المحترف، ربما كان واعظًا، مثل الشاعر،
وظائفُ سياسيةٌ واجتماعية معيَّنة؛ لكنَّ الجاحظ يقول إنَّ مكانته كانت أقلَّ من مكانة
الشاعر. في ١٩٦٤م ألقى كاتب هذه السطور لمحةً حيَّة على الكيفية التي كان عليها المشهد
في بداية الإسلام، حين رأى الخطباءَ المحترفين يقفون
على صخورٍ هائلة يعظون جنودَ القبائل المناصِرة للإمام البدر عن فضائل بيتِ الإمامة
وحقوقه.
تنسب الخرافةُ العربية بعضَ المواعظ لشخصيةٍ مبهمَة، قُس بن ساعِدة الإيادي، أسقف
نجران؛ وتنسب إلى الحارث بن كعب، شهيد نجراني شهير من القرن السادس، خطبةً ذات أهمية
كبيرة، واحدة من بِضْع خُطَب من الجزيرة العربية قبل الإسلام. وبقدر ما يمكن الحكم من
الترجمة الإنجليزية للنسخة الموجودة بالسريانية؛ لا يمكن القول بأنها تشبه الخطبة
الإسلامية بشكلٍ كبير في الأسلوب؛ لكنها تجمع المشاعر العربية مع المسيحية بطريقةٍ ربما
كانت مألوفةً للنبي محمد.
تبدأ
الخطبة الإسلامية بحمْدِ الله وتمجيده، وبعض
العبارات المألوفة عن التقوى، مثل تلك التي قد نسمعها من أشخاص يدخلون غرفةً اليومَ في
مجتمعٍ عربي محافِظ.
والسجع سمةٌ عادية لها، وأيضًا التوازي،
٨ المألوف لنا جدًّا من «العهد القديم». تتراكم العبارات الوصفية إحداها على
الأخرى. ويظهر التضاد، وأيضًا الأكليشيهات (
حال ومال،
كسل وفشل)، والأمثال، وأبيات من الشعر. ومعظم
الخطب التي وصلتْ إلينا سياسيةٌ، لكن
الخطبة بمعنى
العِظة أو الموعظة، سواءٌ أُلقيت في صلاة الجمعة في المسجد أو مناسباتٍ أخرى، هي النسيج
الحقيقي للديانة الإسلامية. ليس من غير الشائع، بالطبع، أن نجِدَ خطبَ الترحيب أو
التهنئة وما شابه في الأدب، وفي العصر الأُموي قدَّمت النساء خُطَبًا أحيانًا، حفظَها
الكُتَّاب بعد ذلك.
تقتصر الخطب الموجودة لأول ثلاثة خلفاء غالبًا على جُمَل موجَزة، لكنَّ خطبَ عليٍّ
ومعاوية، كل منهما للآخر ولأتباعه في أثناء التقاطع السياسي الذي بلغ ذروته في المواجهة
في صِفِّين، حُفظتْ بتفصيلٍ كبير. وينسب الشيعةُ، في المقام الأول، لعليٍّ تصريحاتٍ
عديدة في مجموعةٍ واسعة من المواضيع؛ وقبولها كلِّها باعتبارها كلماتِه حقًّا سذاجة.
القطْع السياسي والديني وبدء العصر الأموي بالقوة، يمكن تتبُّعه في خُطَبٍ ركَّزت على
أحداثٍ بارزة مثل تمرُّد الحسين وما تلاه من مذبحةِ كربلاء، وثورة المختار، والصراعات
المستمرَّة مع الخوارج، والمساجلات السياسية لعبد الله بن العباس مع الخليفة
وأنصاره.
أشهر خُطَب العصر الأموي على الإطلاق الخطبة
القاسية التي ألقاها في الكوفة الوالي الجديد على العراق، الحَجَّاج. سمِعَ صُراخَ
«الله أكبر» في السُّوق؛ فصَعدَ منبرَ المسجد الجامع،
وبعد حمْدِ الله والصلاة على النبي؛ بدأ: «يا أهلَ العِراق، يا أهلَ الشِّقاقِ
والنِّفاق ومَساوِئ الأخلاق، وبني اللَّكيعة وعبيد العصا وأولاد الإماء والفقع بالقرقر؛
إني سمعت تكبيرًا لا يُراد به الله، إنما يراد به الشيطان.» حتى اليوم يتذكَّر
العراقيون ببعضِ الحزنِ أنَّهم «أهل الشِّقاق والنِّفاق»!
الخطبة البطوليَّة شِبهُ الأسطورية لطارقِ بن
زياد، تذكِّرنا إلى حدٍّ ما بالخُطَب البطولية في ليفي
Livy، بعد أن نزل إلى الساحل الإسباني مع قوته
الصغيرة، وكان يواجه الجيش الكبير لرودريك الغوطي؛ حرَقَ مراكبه عمْدًا: «أيها الناس،
أين المَفَرُّ؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصِّدقُ
والصَّبْرُ. واعلموا أنَّكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ
اللِّئام، وقد اسْتَقْبَلَكم عدوَّكم بِجَيْشِهِ وأَسْلِحَتِهِ، وأَقْواتُه موفورةٌ،
وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفُكم، ولا أقواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصُونَه من أيدِي عدوِّكم.»
٩
العراق الأموية، وإسبانيا صرخةٌ بعيدة عن
الجزيرة العربية، مَوطن محمَّد، والخُطبة المنسوبة له في «حجَّة الوداع» إلى مكة؛
مقدِّمةُ مشاكلَ خطيرةٍ إلا أنَّها بارزةٌ في أحكامها القاطعة، في قضايا شرعيَّةٍ
متنوِّعة وغيرها. وقد درَسَ ريجس بلاشير
Blachère هذه الخُطبة.
١٠
(٤) خُطبةُ محمَّدٍ في «حجَّة الوداع»
رغم اختلاف خطبة النبي في حجة الوداع عن
الخطابة قبل الإسلام؛ فإنها تقدِّم جوًّا من الدراما بالسؤال الخطابي: «ألا هل بلَّغْت؟
اللهمَّ اشهد!»، ويتوقَّف، وتردُّ جوقةٌ من الحُجَّاج. إنها في الواقع مجموعةُ لوائحَ
وحِكَم. أولئك المهتَّمون بالحجِّ يمكن إهمالهم هنا؛ لكن كما يقول بلاشير، إنها تتناول
بعض المشاكل العامة «طرَحَها القرآنُ وحلَّها». كثيرًا ما يكون الأمر موضعَ شكٍّ بشأن
ما إن كانت أقوالُ محمَّد حقًّا، رغم إعادة صياغتها، وتنسب المصادرُ بعضَها لمناسباتٍ
أخرى متنوِّعة. يميِّز بلاشير سبعَ عشْرة تيمةً رئيسية، ويشير إلى الآيات القرآنية التي
يعتقد أنَّ النبي أعاد صياغتها. تتَّفق أساسًا نسخ
ابن إسحاق (قبل: ١٥٩ﻫ/٧٦٧م)، والواقدي والطبري في المحتوى، رغم أنَّ ابن إسحاق يقدِّم
إحدى عشرة تيمة ويقدِّم الواقدي سبعًا فقط. وفي المقابل، يُضيف الجاحظ تيماتٍ لا تظهر
في تيمات الثلاثة، لكنَّهم يضمِّنون بعضها في خطبة محمَّد عند دخوله مكةَ
مُنتصِرًا.
وُضعتْ خطبة انتصارِ محمَّد في المناسبة الأخيرة؛ لإهانةِ قريش مكة، بتجريدهم من
مميزاتهم الموروثة وأمجادهم، رعاية الكعبة وتوفير المياه للحُجَّاج. تدينُ
السُّور المكيَّة من القرآن (لا
السور المدنيَّة)
١١ عادة زهوَ الإنسان بتوضيحِ أنَّ الإنسان مخلوقٌ من تراب، وكرَّر محمَّد في
المناسبة نفسها: «الناسُ من آدمَ وآدمُ من تُراب.» لكنَّ نسخةَ الجاحظ تنقل هذه
التصريحات، التي أعلنها النبي في مناسبة خاصة في أوجِ النجاح في ٨ﻫ/٦٢٩م، إلى حجَّة
الوداع في ١٠ﻫ/٦٣٢م، بإضافاتٍ مهمَّة: «إنَّ أباكم واحد؛ كلُّكم لآدمَ وآدمُ من تراب.
أكرمكم عند الله أتقاكم. إنَّ الله عليمٌ خبير، وليس لعربيٍّ على عجمي فضلٌ إلا
بالتقوى.» والجملة الأخيرة ليست موجودةً في المصادر الأخرى على الإطلاق.
بينما يؤكِّد التلميح القرآني لخلق الجسد الفاني لآدم من تراب اعتمادَ الإنسانِ على
الله؛ فقد تحوَّل هنا ببراعةٍ إلى تشجيع أفكار المساواة الدخيلة على المجتمع العربي،
وربما لم يعتنقها النبي. تحوَّل الهجوم الخاص على غرور قريشِ مكة، إلى هجوم على التفوق
العربي عمومًا. ومن الواضح أنَّ هذه الأفكار من تاريخٍ تالٍ لحياة النبي، وهي بشكلٍ
لافت للشُّعوبيِّين، الذين يعادون العرب ويَنزعون للمساواة، والشُّعوبيُّون معروفون
بأنَّهم «مؤيِّدون للمساواة»، رغم أنَّ الجاحظ لم يكن شُعوبيًّا.
إذا كان الرفض في الخُطبة لدعاوى الأبوة الزائفة لم يضعْه محمد، ويبدو غير متَّسق
مع
الأقوال الأخرى؛ فقد يكون موجَّهًا ضدَّ اعتراف معاوية بزيد بن أبيه أخًا غير شقيق.
والحكم القرآني الذي حرَّم الممارسات الربوية، ربما تمَّ التأكيد عليه لاحقًا لاستهداف
ربا العباس بن عبد المطلب ومن ثَم العباسيين. ينبغي
أن يكون الأمر كذلك، بدلًا من افتراض أنه من عملِ الشيعة. توجد التيمتان في النسخ
السابقة على الجاحظ، كما توجد في «البيان».
والتطور اللاحق
للشريعة الإسلامية في الذهن، تكون الوصيَّة، في كلِّ المصادر، بخصوص
السلوك الجنسي للنساء مذهِلةً تمامًا. وتأتي على النحو التالي: «ولكم عليهنَّ حقٌّ. لكم
عليهنَّ ألَّا يُوطِئنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه،
١٢ ولا يأتِينَ بفاحشةٍ مُبيِّنة.
١٣ فإنْ فعلنَ فإنَّ الله قد أذِنَ لكم [يُقحِم نصُّ الجاحظ «أن تعضلوهن»]،
و«تهجروهنَّ في المضاجع وتضربوهُنَّ ضربًا غيرَ مبرِّح. فإن انتهينَ وأطَعنكم؛ فعليكم
رزقهنَّ وكِسوتهنَّ بالمعروف».»
١٤ وتأتي بعد ذلك وصايا بمعاملة النساء بعطف. ما يجري قبل ذلك، هو المعنى
الصريح الذي لا لبْسَ فيه لهذه الفقرة المذهِلة كما تظهر في ابن إسحاق والواقدي
والطبري، وليس في نسخةِ الجاحظ (١٥٠–٢٥٥ﻫ/٧٦٧–٨٦٩م)
١٥. تتحسَّن بمهارة لتُناسب مواقفَ عصره: «لكم عليهنَّ ألَّا يُوطئنَ فُرُشَكم
غيركم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنة.»
لسوء الحظِّ بشأن هذا التصرف، يستشهد الطبري
١٦ بابن عباس: «كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما ظهَرَ من الزنا، ويستحلُّون ما
خفي، يقولون أمَّا ما ظهر منه فهو لؤم، وأمَّا ما خفي فلا بأس بذلك.» الآية التي يشرحها
تحرِّم
المسافحات، ويصِفُهنَّ بأنهنَّ زانياتٍ
مُعلِنات بالزنا، ومَن يتَّخذنَ الأخدان (العشَّاق في السر).
ليس هنا موضعُ التوسُّع في الموضوع، لكنَّ النبي حرَّم الغيابَ الطويل للرجل عن بيته
ليأتي أسرته في الليل، وكان أحدُ أتباعه، أحمقَ بما يكفي لعصيان أمره؛ اكتشف رجلًا مع
زوجته.
١٧ بعد ذلك بوقتٍ طويل يصرِّح ابن مُجَاور
١٨ بأنَّ المرأة في السرو حين يخرج زوجها في رحلةٍ تتَّخذ عشيقًا حتى يعود.
وقبل أن يصِلَ الزوج إلى منزله يصيح ليحذِّر أيَّ عاشقٍ ليغادر. وهذه العادة موجودةٌ
اليوم بين العوالق، وربما قبائل جنوبية أخرى، لكنْ من الواضح أنَّها قديمة جدًّا، وقد
يُفترض باطمئنانٍ أنَّها جاهلية.
ما الفائدة من تبرير ممارسةٍ من قبل الإسلام وبعده في موقف إنساني، ينسب للنبي ويناقض
تحريمًا واضحًا للممارسة نفسها في القرآن، سورة النساء، آية ٢٥؟ إذا كانت الإجابة
بسيطة، وليست صحيحة بالضرورة، هل دُسَّ زُورًا على محمد، وكيف يمكن عمومًا أن يُدرج في
الخطبة؟
يبرز تعقيدٌ آخر بشأنِ مبدأ «الولد للفِراش وللعاهر الحجر».
١٩،٢٠ ويظهر هذا في نسختَي ابن إسحاق والجاحظ، لكنَّه لا يظهر في الواقدي أو
الطبري. من أقدم العصور حتى اليوم، كان المبدأ محلَّ نقاش. أولًا: إنه لا يتَّسق مع
المبدأ السابق بشأن سلوك المرأة. ثانيًا: لا يوصِي القرآنُ بالرَّجم عقابًا للزنا. يرى
شاخت
٢١Schacht أنَّ الرَّجم دخَلَ من الشريعة اليهودية
عِقابًا للزاني، ويشكُّ في صحَّة الأحاديث التي تدَّعي أنَّه عقوبةٌ سنَّها النبي. إنَّ
تشريع النبيِّ للمسائل الجنسية مذهلٌ بخِفَّته أو اعتداله في عصره. لا بدَّ أنَّ
محمدًا، مواطِنًا من مكة، مركز الحجِّ، كان يعلم بالعلاقات المؤقَّتة من قَبيل زواج
المتعة. يبدو أنَّه كان على الإسلام في المرحلة
التكوينية أنْ يشدِّد قوانين الاتصال الجنسي.
ليس هناك ما يدعو للشكِّ حتى في أنَّ محمدًا ألقى خطبةَ «الوداع» في الحجِّ، لكنَّ
هناك دلائلَ واضحةً على أنَّ الأفكار السياسية في عصرٍ لاحق، اتَّحدت مع تناقضات داخلية
وخارجية، تُفقد مصداقيةَ نسبةِ الكثير من النُّسخ الموجودة للنبي.
(٥) القانون والعُرف: الكَهَنة خطباءُ ووسطاءُ في الجزيرةِ العربية قبلَ الإسلام
لا يمكن لشخصٍ مطَّلع على الجزيرة العربية، قديمًا أو حديثًا، ألَّا يدرك مدى عمقِ
تأثير القانون على الحيوات والعقول؛ وينعكس هذا في الوضع بالغ الأهمية الذي تحظى به
الشريعة في الإسلام وفي الأدب العربي. وقد ورث
الإسلام في بداياته الأكليشيهات والأقوال القانونية للجاهلية؛ ويتجسد بعضها حتى في
مجموعة الحديث. إجراءات الفصل في نزاع تُسجَّل
بإيجازٍ في أبياتِ الشاعر الجاهلي زهير:
فَإِنَّ الحَقَّ مَقطَعُهُ ثَلاثٌ
يَمينٌ أَو نِفارٌ أَو جَلاءُ
فَذَلِكُمُ مَقاطِعُ كُلِّ حَقٍّ
ثَلاثٌ كُلُّهُنَّ لَكُم شِفاءُ
٢٢
يقول النجيرمي إنَّ «
نِفار» تعني التوصُّل إلى حكم
(
محاكمة) قُضاة، و«
جَلاء» برهانٌ يمكِّن شخصًا من إقامة العدالة مع حَلف اليمين وأخذ آخر
للحكم. أعلن محمد موقفًا مضادًّا لبعض جوانب
النِّفار، لكن في الجزيرة العربية الإسلامية لا يزال على المدَّعِي عبء
الإثبات، وعلى مَن يُنكر التُّهمة الموجَّهة ضدَّه أن يُقسم. وكانت وظائفُ القضاء
وراثيةً في مجموعاتٍ معيَّنة من العائلات. وقائمة ابن حبيب
٢٣ لقضاةِ الجاهلية قد تتضمَّن أنَّ الوظيفة كانت وراثيةً في بيوتهم. رفض
محمدٌ اللجوءَ في الحُكم للقبائل والعائلات بدلًا من الله؛ عمليًّا لجأ إلى نفسه، كما
توضِّح الوثيقة
B من «الوثائق الثماني». ونهى أيضًا عن
الأحكام التي تتضمَّن عنصرًا سِحريًّا، لكنَّ الإسلام لم ينجح قَط في استئصال
ذلك.
تأسَّس القانون قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية على سلسلةٍ من السوابق المكتوبة
و/أو المتذكَّرة تُعرف
بالسُّنَّة. يصِفُ الشاعر
العربي الشهير لبيد بن ربيعة
٢٤ قبيلته بأنَّها:
من مَعشرٍ سنَّتْ لهُمْ آباؤهُم
ولكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامُهَا
يتحاشى الإسلام «البِدَع»، وعلى الأرجح كانت تتحاشاها الجاهلية أيضًا. يبدو بديهيًّا أنَّ القضايا المرفوعة أمام القاضي،
الحَكَم أو الكاهن، كانت مستقرةً طِبقًا للسُّنَّة
المناسبة. كان الكثير من القضاة كَهَنةً أيضًا، وهناك
آيةٌ تُلمح إلى الكاهن الطاغوت، لكنْ مع الكهنة يبدو السِّحر متضمَّنًا دائمًا في التوصُّل إلى
حُكم. كان الكهنة يُعلنون قراراتهم سجعًا بأسلوبٍ رفيع وإلقاءٍ نبوئي خفي، لكنه ليس خِطابيًّا
أو خليطًا رنَّانًا بلا معنًى، كلامُهم في مجموعةِ أنماطٍ قد تعبِّر عن قراراتٍ
توصَّلوا إليها بمهارةٍ مهنية. وهذه القرارات التي حُفظت ضمن أقدم أمثلة النثر العربي،
غنيةٌ بالمفردات والتعبيرات القَبَلية.
في القرآن ثماني تلميحاتٍ لكلمةٍ تُوازي
الكاهن،
الطاغوت. حرِّم على
المؤمنين أن يبحثوا عن حُكم من الطاغوت لكنْ عليهم أن يُحيلوا
نِزاعاتهم إلى الله ورسوله؛ يُلمح القرآن (سورة النساء: ٥١) أيضًا إلى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ. يفسِّر الطبريُّ
٢٥ الطاغوت بأنَّه «مَن يعظِّمونه … ويرضون بحُكمه من دون حُكم الله». يبقى
المصطلح في شمال اليمن؛ يفسَّر طاغوت الطواغيت في أوائل القرن التاسع عشر عند الشاعر
الأَنِسي
٢٦ بأنَّه رأسُ القبائل التي تحكُم بالقوانين العُرفية. ربما يعني حكم الطاغوت
قديمًا قانونًا على أساس مجموعةٍ كاملة من الأحكام السابقة. وكثيرًا ما يسمَّى قاضي
الطاغوت شيطانًا أو ساحرًا لارتباطه بروحٍ مألوفة. يبدو أنَّ يهود يثرب دخلوا في
المنظومة؛ لأن
الكاهن الأسلمي أبو بردة دعتْه القبائل
اليهودية في النَّضِير وقُريظَة ليحكم بينهم،
٢٧ ويُوصف نصفُ اليهودي كعب بن الأشرف
بالطاغوت. يتكشَّف ارتباط الطاغوت بالعبادات العربية القديمة في وصف
الطواغيت بأنهم «ينطقون باسم الأوثان ويتحدثون مع الناس بألسنتهم». ويقال إن جُهَينة
كان له
طاغوت (وفي موضعٍ آخر
كاهن)، و«كان في كلِّ قبيلة واحد، وكانوا
كَهَنة
تُنزَّل عليهم الشياطين». وكان في صعدة في اليمن كاهنٌ، ويبدو أنَّ
الشماليين كانوا ينتقلون إلى كُهَّان اليمن.
٢٨ وقد استشاروهم بشأنِ شرَف سيدةٍ أنجبتْ فيما بعدُ الخليفةَ معاوية،
وبُرِّئت بشكلٍ مناسب من الشكِّ. تُلمح الحكايةُ إلى تعذيبٍ بحديدٍ ساخن. ثمَّة بيتٌ
غريب
للمُخضرَم عباس بن مرداس، ربما يتضمَّن أنَّ
قُضاة
الطاغوت تمَّ استيعابهم في النهاية في الإسلام.
٢٩
ثمَّة خلطٌ بين الطاغوت والجِبْت، لكنَّ الأخير يعتبر غالبًا سحريًّا أو ساحرًا، وكثيرًا ما
يرتبط بقراءة الطالع بواسطة الطير، وقراءة الكفِّ، ورسم الخطوط على الرمل (حرَّمه
محمَّد). بعض سمات إجراءات الطاغوت تُشبه المحاكمات
الحالية بالتعذيب حين يُنْقَر لسانُ المتهم بنصلِ سكِّين متوهِّجة (البِشْعة)، بينما الممارسات السحرية المماثلة للجبت ليست غير شائعة.
للوهلة الأولى تبدو المنافرة، منافسةً في الشرف بين
نبيلَين متنافِسَين، يَمثُلان أمام كاهنٍ أو
طاغوت يُعلن حُكمه في سجعٍ بلاغي. شِبه أسطوريَّة
في طبيعتها. ويكشف فحصٌ أدقُّ للحالات ذات الصلة أنَّ قضيةً مادية تمامًا في خطر، وليس
مجرَّد شرفٍ قَبَلي يتميَّز بالحساسية.
يختار المتنافسان حَكَمًا (ويمكن أن يَرفُض العمل)، لكنَّهما في البداية يختبرانِ
قُواه بسؤاله أن يتكهَّن أيَّ موضوعٍ الْتقطاه في طريقهما. وعلى هذا يردُّ الحَكَم،
مُستهِلًّا إجابته بأيمانٍ مدوِّية، محدِّدًا الموضوع. على سبيل المثال، الكاهنُ
الخزاعي من عسفان، ردًّا على سؤالِ لمتقاضِيَين من قريش عن سببِ سعيهما إليه،
مُستهِلًّا ردَّه: «حلفتُ بربِّ السماء ومرسلِ العَماء فينبعن بالماء؛ إنْ جِئتموني إلا
لطلَبِ السَّناء.»
٣٠ أسماء الآلهة المُستخدَمة تذكِّرنا في الوقت ذاته بالجاهلية «ذو سماوي»
و«الرحمن»، «مُنزِل المطر» (
رحمة). فيسأل المتنافسان
الكاهن عمَّا خبَّآه؛ ويخمِّنه بشكلٍ صحيح بإلقاءٍ خلَّاب (وهو، لنقُلْ، ما يذكُر كاتبُ
هذه السطور بالعربية الرنَّانة التي سمِعَها بين قبائلِ المشرق في اليمن). بمجرد
اقتناعهما بقدراتِ الكاهن، يدفع المتنافِسان رَهنًا لطرفٍ ثالث مؤشِّرًا على نيتهما
الجادَّة في التوصل إلى حُكم (في الحالات التي يستشهد بها، عشرة جِمالٍ عادةً لكلٍّ
منهما) ويطرحان قضيتهما أمامه. وقدَّم الكاهن الخزاعي إعلانه لقراره باليمين: «وربِّ
مكةَ واليمامة»، و«بأَظْبٍ عُفْر»؛ ربما لتُعتبر رمزًا لربٍّ وثني. ويأخذ الفائز الإبلَ
ويذبحها في الحال ليُقيم مَأدُبة. ومن الجدير بالذِّكر، أنه حين ذهبَت النَّضير
وقُريظَة لعرضِ قضيتهما على أبي بردةَ طالَبَ بأتعابٍ (
لُقْمة) دُفِعتْ له تمرًا؛ لكنْ محمَّد حرَّم أتعاب
حُلْوان الكاهن؛ لأنَّه استخدَمَ وسائلَ خارقة. ومن المثير
للاهتمام، أنَّ النبي نفسه سأله بدويٌّ أن يُثبت أنَّه رسولُ الله، كما اعتقد صحابته،
بأنْ يُخبره بما في بطْنِ ناقته، بالطريقة نفسها التي كان الكهنة يُختَبَرون بها، ويعني
البدويُّ بالطبع أن يُخبره النبي بما إن كان الجنينُ ذكَرًا أم أُنثى. وقد جلَبَ له
طلبُه ردودًا غليظة من الصحابة!
٣١
تحقَّق كاتب هذه السطور من اختبار الكاهن بطريقةٍ مذهِلة؛ لأنَّه وهو يبحث عن
المحاكمة بالتعذيب في أَبْين في ١٩٦٤م أخبره المرافقون بأنَّ الطرفَين يذهبان إلى
القاضي المحبشي في جنوب يافع؛ ليطلبا منه أن يخمِّن ما يخبِّئان؛ على سبيل المثال:
جرادة في حقيبة من الجِلد. ويمكن مقارنة هذا بحكايةِ
المنافرة التي روتْها عدَّة مصادر. كان لعبد المطلب ماءٌ بالطائف يقال
له ذو الهرم؛ فادعتْه ثقيف فخاصمهم فيه عبد المطلب إلى كاهنٍ بالشام يقال له عزَّى سلمة
العذري (اسمه سلمة واسم شيطانه عُزَّى) … حين وصلوا إلى الكاهن خبَّئُوا رأس جرادة في
عُنقِ سوارٍ ذي قِلادة. تنتهي القصة بشكلٍ طبيعي بقرارٍ لصالح عبد المطلب جاء سجعًا:
٣٢ «أحلف بالضِّياء والظُّلَم، والبيتِ ذي الحرم، أنَّ الماء ذي الهرم،
للقُرشيِّ ذي الكرم.»
في منافرةٍ أخرى تشير إلى سلمة العذري، الْتقط الطرفان المعنيَّان نسرًا ميتًا خبَّآه
في عكمٍ من شَعر وأخفياه عنه ليخمِّن. وتأتي إجابته مطابقةً لبلاغة الكهنة:
٣٣
«خبَّأتم لي ذا جناحٍ أعنق، طويلَ الرِّجل أبرق، إذا تغلغَلَ حَلَّق، وإذا انقضَّ
فَتَّق، ذل مِخلَب مِذلق، يعيش حتى يخْلَق … أحلفُ بالنور والقمر، والسنا والدهر،
والرياح والفطر! لقد خبَّأتم لي جثَّة نسر، في عكمٍ من شَعر، مع الفتى من بني
نَصر.»
عن هذه الأيمان للكهنة يقول النجيرمي: «كان قسَمُ كُهَّان العرب بالسماء والماء
والأرض والهواء والرياح والنور والضياء والظُّلمة.» ويضمُّ ابن حبيب
٣٤ أيضًا القمر والبرق والدهر، وبيت الله، ورب السماء والأرض، والكعبة،
والمروة والمناسك، والمكان الذي تُقدَّم فيه الأضاحي، إلخ. بشكلٍ مباشِر أو غير مباشِر،
يُقسِم الحكَّام القضاة بالآلهة الوثنية؛ لكن، أحيانًا، باللهِ نفسه. ويمكن مقارنة هذا
بالحلف بالمعبود الذي تنتهي به بعض النقوش الجاهلية، وأيضًا، رغم أن هذا ليس في صورةِ
قسَم، الجمل الختامية لأربع من «الوثائق الثماني».
تبدأ السور المكية القصيرة من القرآن بطريقةٍ جاهلية بسلسلة من الأيمان، مثل سورة
البروج:
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ *
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، أو سورة الطارق:
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ أو مرة أخرى، سورة الضُّحى:
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى. ويوجد
حتى قسَمٌ بالرياح (سورة المرسلات)، كما يفسِّر بعض المفسِّرين الآيات الأُولى من
السورة. نُقِلتْ رسالة النبي بلغةٍ يمكن أن
يفهمها مُستمِعوه الوثنِيُّون، لكنْ كما رأتْ قريش
٣٥ (على سبيل المثال، الأسود المخزومي) ما جاء به محمَّد «سجعًا كسجع
الكهَّان.» وهكذا وصفتْه قريش بالساحر. تبدو سورة البلد تقريبًا تنصُّلًا من موقفهم
بكلماتها الافتتاحية:
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ؛
تفسَّر بأنَّها الأماكن المقدَّسة في مكة.
(٦) خُطَب مسيلمة
في إعادةِ صياغة تاريخ الأدب العربي، لا يمكن إلا أن نأسف على أنه لم يحفظ من كلامِ
مسيلمة — «الكذَّاب» كما يصِفُه المسلمون — إلا القليل. لم يبقَ إلا نتفٌ خارجَ السياق.
فرضيَّة السير وليم مور Muir بأنَّ دينه كان «تقليدًا
بائسًا للإسلام» غير مقبولة؛ لأنَّ هذه المؤشرات الضئيلة كما بقيتْ تعطي انطباعًا بدين
في التراث العربي نفسه مثل دين محمد، بعناصر مسيحية عارضة. كان مسيلمة (واسمه الحقيقي
مسلمة، و«مسيلمة» صيغة التصغير منها) سيِّدًا ثيوقراطيًّا من منطقة مقدَّسة (حرم) ويوضِّح تقريرٌ، ربما على خلفيةٍ تاريخية، أنَّه
استقرَّ في اليمامة قبل هجرة محمَّد إلى يثرب. وسيطر
على مناطق وممتلكات أوسعَ ممَّا سيطر عليها محمَّد؛ مجموعةٌ كبيرة، في جانبه، من قلبِ
المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية. ويقال إنَّه اقترح تقاسمَ السلطة على الجزيرة
العربية، ولم يتمَّ القضاءُ عليه إلا بعدَ وفاةِ محمد.
تطلَّع مسيلمة إلى
السماء من أجل الوحي، الذي كان ينقله جبريل. وعظ باسم الرحمن، الذي
أودع له، بعد أن يموت، قبيلةَ تميم التي «حماها»: «نجاورهم ما حيينا بالإحسان، ونمنعهم
من كلِّ إنسان، وإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن.» وسعى إلى شفاعته، مثل محمَّد، من أجل
الماء أو المطر. واتبع أسلوبَ سجعِ الكهَّان، وحلف الأيمان. ويوحي قَسَمٌ منها، بعنزة
الجبل والذئب ذي الجِلد الأسود الناعم والليل والمُظلِم، بحيوانات ترمز إلى الآلهة
الوثنية. ثمَّة قَسَم آخر، بالمبذرات والحاصدات والذاريات والطاحنات والخابزات، يبدو
وكأنَّه شُوِّه بمكرٍ ليبدو مُضحِكًا؛ القسم ﺑ «النعجة البيضاء وحليبها الأسود» قد يكون
أيضًا مجرَّد تقليدٍ ساخر؛ لأنَّه خارج السياق: «ألمْ ترَ كيف فعَلَ ربُّك بالحُبلَى،
أخرج من بطنها نسَمةً تَسعَى، من بين شراشيفَ وَحَشَى.»
٣٦ قد يبدو عبثيًّا للوهلة الأولى.
حين الْتقى مسيلمةُ بالنبيَّة سَجَاحَ، تبادلا الحديث سجعًا. ويعود الفضل لمسيلمة
في
استخدام تعبيرات «إسلامية» من قَبيل: «علينا من صلواتِ مَعشرٍ أبرارْ … يقومون الليلَ
ويصومون النَّهارْ، لربكم الكُبَّارْ، ربِّ الغيومِ والأمطارْ.» من الصعب أن ننقل في
الترجمة كلَّ ما تتضمَّنه هذه الفقرة ومعانيها، كما هي الحال بالنسبة للفقرة السابقة.
حرَّم مسيلمة شربَ الخمر، وفرض الامتناعَ عن ممارسة الجنس بعد ولادةِ ذَكَر. وثمَّة
اعتقادٌ مشكوك فيه تمامًا، يجعله يشرِّع الزنا، لكن
إذا فُرض أيُّ قدْرٍ من الحقيقة في ذلك، فقد تكون الإشارة ببساطة إلى أخلاقٍ جنسية
مختلفة عن أخلاق الإسلام.
لم ينتهِ الكهَّان مع الإسلام — هناك إشارةٌ إلى كاهنٍ في القرن الثاني الهجري —
وممارساتهم، كما رأينا، باقيةٌ اليوم. ربما يتضمَّن بيتٌ غير عاديٍّ لشاعر مبكِّر، أنَّ
قضاة الطاغوت تمَّ استيعابهم في النهاية في الإسلام.
لا تزال لغةُ الكهَّان القدماء تزدهر بين قبائل
البدو في الأردن، وربما في أجزاءٍ أخرى من شِبه الجزيرة العربية، ويلاحظ أحمد عويدي
العبادي أنَّ قاضيًا قبليًّا، يعلن قرارًا في قضية قانونٍ عُرفي، قد يستخدم أسلوبًا
خاصًّا يعرف ﺑ «قطف الزهر». الحليب، على سبيل المثال، يمكن أن يُعبِّر عن «مشروبٍ يروي
ويغذِّي ويُرضي». خصائصه بالترتيب كما يقدِّرها البدو. عن قِربة من الحليب، قد يستخدمون
الإطناب: «اللي في فمها تبخه، وعلى ركبتها تطخه، وفي يدها جبَّت مخه.»
(٧) المواثيق والمعاهدات في الجزيرة العربية قبل الإسلام
كما في مجتمعنا العربي اليوم، تنتهي المعاملات بيمينٍ يجب ملاحظتها. «أساس اليمين
أنَّهم، حين يعقدون حِلْفًا معًا، يتصافحون بأيديهم اليُمنى … ويسمُّون الحلفَ «يمين»
بهذا المعنى … ويقولون: «حَلفَ يمينًا برَّةً ويمينًا فاجرةً».»
٣٧ في مكة قبل الإسلام، كان من المعتاد عقدُ الأحلاف في العاشر من ذي الحجة؛
تتشابك أيدي الطرفَين معًا في التصديق، مثل المشتري والبائع. كيف كان اليمين جزءًا لا
يتجزَّأ من العَقد، يمكن استنباطه من اعتقادٍ بأنَّ اليهود رفضوا دفْعَ ما يدينون به
لبعضِ الرجال في العصور الوثنية، بعد أن اعتنق هؤلاء الرجال الإسلام، على أساس أنَّهم
غيَّروا دينَهم، ومن المُفترَض أنْ يعتبروا عَقدَهم باطلًا.
تصنَّف المواثيق والمعاهدات والتعاقدات على
نطاقٍ واسع إلى أمان، و
ذمَّة، و
نُصْرة، وزواج وبيع وشراكة وحِلْف، إلخ. ولها يمكن إضافةُ
حبل، ويقال إنها تعني «
العهد و
الأمان». وتوجد الكلمة في
نقوشٍ جاهلية، وعلى أساس ذلك يمنحها بروفيسور بيستون بُعدَين: معاهدة سلام بين
أمَّتَين، لكنَّها أيضًا حِلْفٌ عُدواني موجَّه ضدَّ أمَّة ثالثة. يأخذ المرء
عهدًا من زعيمِ قبيلةٍ يريد أن يسافر من خلال أراضيها. وقد
وقَّعتْ قريش سلسلةَ اتفاقيات أمنية في الكثير من أرجاء الجزيرة العربية.
البراءة تلغي أيَّ عقد، وبها يُعلن المرء تنصُّله من العقد،
وهي أحيانًا عملٌ من أعمال الحرب؛ حيث يجب أن يتمَّ الحلُّ الصحيح للاتفاقيات باتفاقٍ
متبادَل، كما في حالة أبي بكرٍ وابن الدُّغنَّة.
٣٨ كل ما سبَقَ يُرسم طِبقًا لأنماطٍ معترَفٍ بها، وتظهر معاهدةُ الحِلف بين
أقدم الوثائق العربية التي حُفظت لنا.
أنشأ قُصَي، جدُّ قريش، اتحادًا تهيمن عليه قريش في المنطقة المقدَّسة في مكة؛ ومن
ثَم اكتسَبَ لنفسه لقب
مُجمِّع. وحين اختلف حفيده عبد
المطلب مع أقارب مقرَّبين على بعض الممتلكات، استدعى أخواله من يثرب (المدينة)
لمساعدته. قبيلة خزاعة في جوار مكة، وقد استبعدها قُصَي من رعاية مكة، اقترحوا عَقْد
حِلْفٍ مع عبد المطلب، كارهين على ما يفترض فكرةَ التدخُّل الخارجي. وفي دارِ الندوة
في
مكة، المستخدمة للتسلية، «كتبوا بينهم كتابًا»، ونشروه على الملأ بتعليقه على الكعبة،
وهذه المعاهدة، التي توجد في عدَّة نُسخ، تأتي على النحو التالي:
٣٩
هذا ما تحالف عليه عبد المطلب ورجالاتُ بَني
عمرو من خُزاعة ومَن معهم من أسْلَم ومالك؛ تحالفوا على التناصر والمؤاساة حِلفًا
جامعًا غير مفرِّق، الأشياخ على الأشياخ والأصاغر على الأكابر والشاهد على الغائب،
تعاهدوا وتعاقدوا ما شَرقَت الشمسُ على ثَبير، وما حنَّ بفلاةٍ بعير، وما قام الأخشبان،
وما عُمِّر بمكة إنسان، حلفَ أبدٍ لطولِ أمَد، يزيده طلوع الشمس شدًّا وظُلم الليل
مدًّا، عقَدَه عبد المطلب بن هاشم ورجالُ بَني عمرو، فصاروا يدًا دون بني النضر، فعلى
عبد المطلب النُّصرة لهم على كلِّ طالب وِتر في بر أو بحر أو سهل أو وعر، وعلى بني
عمرٍو النُّصرة لعبد المطلب وولده على جميع العرب في الشرق أو الغرب، أو الحزن أو
السهب، وجعلوا اللهَ على ذلك كفيلًا وكفى بالله حَميلًا.
رغم وجود تشعُّبات مهمَّة لتغطية هذه المعاهدة، تُشير إلى العبثِ أو «التنقيح»؛ فإن
النصَّ لأسبابٍ سياسية في صدر الإسلام، وفحواه العام ولغته وظروفه لا تؤسِّس سببًا
للاعتقاد بأنَّه ليس أصيلًا في الأساس. الوثيقة، جزئيًّا بالسجع أسَّست أكليشيهات،
ويمكن اعتبار الجملة الأخيرة شكلًا من أشكال القسَم المعتاد في الوثائق الإسلامية حتى
اليوم. في حالة المعاهدة الناجحة لمحمَّد في الحُديبية، جاءت خزاعة للانضمام إليه باﻟ
«كِتاب» الذي كُتب مع جدِّه عبد المطلب، وكان محمد على علمٍ به.
في اليمن قبل الإسلام بوقت قصير
٤٠ أُبرمت معاهدةٌ بين همدان وأبناء الفُرس، حين كان باذان بن سنان
مرذبان في حُكم كِسرى برويز بن هُرمز الرابع (٥٩٠–٦٢٧م). في
وجه هجوم تهدَّد به قبائل المشرق، اقترح زعيم بكيل وزعيم حاشد على باذان الدعمَ
المتبادَل والتحالُف. في الاجتماع لاتخاذِ قرارٍ بشأن التحالف، أشاد خطباؤهم
بالحِلفِ والأُلفة والنهي عن الافتراقِ والخِلْفة. يقول
الرازي: إنَّ العرب اعتادوا استهلال الوثائق بعبارة «باسمك اللَّهم.» لكن الفُرس بعبارة
«باسم الله وليِّ الرحمة والهُدى.» وهكذا جمعوا الاستهلالين في عبارة واحدة وكتبوا
النصَّ العربيَّ والنصَّ الفارسيَّ للمعاهدة: «أنَّا تحالفنا على عهْد الله تعالى
ومِيثاقه.» وتتأكَّد الطبيعة المستمرة للحِلف في جزئها التالي في الكثير من العبارات
الرائعة على نمطِ معاهدةِ عبد المطلب مع خُزاعة. ومع أنَّ وثائقنا المبكِّرة تبدو
غالبًا مرصَّعة بإفراط بمثل هذه الصور؛ فإن النوع نفسه من العبارات، بشكلٍ واضح في
التراث القديم المتماثل، يظهر في قَسَم تطلَّب
حكمًا
قبَليًّا في ١٩٤٧م،
٤١ حتى لو كانت الوثائق الجاهلية «نقِّحت»، فإنَّ هذا في ذاته لا يطعن في
أصالتها. قرأ الرازي هذه المعاهدة في المسجد
الجامع
في صنعاء مع
شيخ، لكنه لم يصرِّح بأنها النسخة
الأصلية. يمكن أن يكون إبرام الحِلف حقيقيًّا تمامًا؛ وتبدو صحة الوثيقة نفسُها موضعَ
شك. وينبغي طرحُ سؤالٍ بشأنِ الخطِّ الذي كُتبت به.
(٨) الوثائق في حياة محمد
القرآن بالطبع أفضل وثيقةٍ في حياة محمد، في كلٍّ من أبعاده الأدبية والتاريخية.
وينبغي أن تُضاف له نصوصُ رسائله ومعاهداته، ويُعتبر معظمها صحيحًا رغم عدم الاتِّساق
في تغطيةِ بعضها واحتمال التلاعُب العرَضي أو «التنقيح». وينبغي اعتبار «الأخطاء»
النحوية في بعضها داعمةً للأصالة لا العكس. وينبغي دراسةُ انعكاسها في القرآنِ
نفسه.
في مكة، حين وصلتْ قريش إلى قمَّة السخط على محمد، مُنِعتْ من معالجةِ الأمر معه
نتيجةَ حمايةِ عَشيرتَين [بَني هاشمٍ وبَني عبد المطَّلب. (المترجم)] من عشائر عبد مناف
ائتلفتا معه؛ فقطعَت علاقتها به وبهما. كُتب إعلانٌ على صحيفةٍ علِّقت في الكعبة،
مُفادها أنَّ قريشًا قرَّرت: «ألَّا يُناكحوهم ولا
ينكحوا إليهم، ولا يبايعونهم ولا يبتاعوا منهم، ولا يكلِّموهم ولا يجالسوهم.»
٤٢ يبدو هذا نوعًا من
البراءة، ويوضِّح عمل
قريش بعضَ أوجُه التماثل الإجرائي مع قانون عقوبات سبأ
٤٣ الذي يُعلن طرْدَ رجلٍ من المنطقة تحت حماية علقمة وتجريده من الحماية
المدنية؛ وهو تشريعٌ أُعلن في الحرم (
مَحْرم).
لكنَّ مجموعة قريش نفسها، أعلنتْ نأيها بنفسها عمَّا وُصف بأنه «
صحيفةٌ قاطعة ظالمة»
٤٤؛ البراءة من وثائق مثل معاهدة عبد المطلب (المقتبَسة من قبل) «التي تجمع».
عند فحص الوثيقة وُجد أنَّ يرقاتِ النمل الأبيض أكَلَتها، باستثناء الصيغة الاستهلالية
«باسمك اللهم اغفرْ لنا»!
حين أقنع محمد في النهاية فصيلًا من الأوس والخزرج في يثرب أن تضمن له الحماية؛ اختتم
التصديقَ على المعاهدات في مرحلتَين من المفاوضات في عَقَبة مكة. الأُولى معروفة باسم
غريب «
بَيعَة النساء»، وتتناول ببساطة بعضَ القضايا
الخُلُقية. والثانية معاهدةُ حمايةٍ معروفة تقنيًّا ﺑ «
بَيعَة
الحرب». تبدأ بالقَسَم: «والذي بَعَثك بالحقِّ لنمنعنَّك ممَّا نمنعُ
منه أُزُرَنا.» في مناقشة شروط الحِلف؛ يحددها محمد في أكليشيه تقنَّى بالسَّجع: «الدم
الدم، والهدم الهدم.» مشيرًا إلى أنَّ الطرفَين سوف يدعم كلٌّ منهما الآخَر في حالة
العدوان. كانت المعاهدة على أساس الحرب ضد الجميع دون استثناء، بيعةً لمحمد «على
السَّمع والطاعة»، «في عُسرنا ويُسرنا، ومَنشَطنا ومَكرَهنا»، إلخ.
٤٥ وأميل بشِدَّة إلى أنَّ هذه الشروط كانت بنودًا واردة في وثيقةٍ ربما تمَّ
تجاوزها بالمعاهدتَين
A, B من «الوثائق الثماني». تمَّت
الموافقة على معاهدتَي العقبة بحضور اثني عشَرَ
نَقيبًا من العشائر لعِبُوا دورًا بارزًا جدًّا في سنواتِ محمدٍ في
المدينة. وكان منهم سعدُ بن معاذ، الذي قال لمحمد في بَدْر: «وأعطيناكَ على ذلك
مواثيقنا وعهودنا، على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لمَا أردتَ فنحن معك.»
٤٦
يبدو أنَّ بيعة العقبة الثانية تتضمَّن نقْلَ حماية محمد من أقاربه إلى غُرباء؛ ومن
ثَم ليس هناك شيء غير محتمَل أصلًا في الدور الذي
يُعزَى لعمِّه العباس، أي الاهتمام ومراقبة قصيرة لبيت هاشم والدفاع عن مصالح محمد. ولم
تكُن عملية الهجرة، بالطبع، حيث تخلَّى محمد عن حماية
قريش ليحظى بحماية المؤيِّدين من الأنصار في يثرب، عملًا عدائيًّا في ذاته.
يقول شاخت
٤٧ في المدينة: «صار النبيُّ الحاكمَ والمشرِّع لمجتمعٍ جديد على أساسٍ ديني،
سعى إلى أن يحلَّ محل التنظيم القَبَلي العربي، وبدأ ذلك في الوقت ذاته. ودعا هذا
المجتمع الجديد لتنظيمٍ قانوني جديد. والبذرة التي نما منها التنظيم القانوني للإسلام،
يمكن رؤيتها تتبرعم في القرآن.» وهذه النظرية بلا شك تتَّسق مع نظريةِ الكتَّاب
المسلمين، لكنها لسوء الحظ لا تتَّسق مع الدليل الواضح من المصادر المبكِّرة.
القانون العربي أساسًا قانونُ حالةٍ، يعتمد على سلسلةٍ من القرارات أو الأحكام، كلٌّ
منها قد يعتبر
سُنَّة. النبيُّ نفسه، في التصديق على
المعروف، المساوي للقانون العرفي (
العرف)، في الوثيقة
A من
«الوثائق الثماني»، كما في بيعة العَقَبة الأُولى أيضًا، يُصدِّق على العُرف الموجود.
ويُنسب إليه أنَّه قال: «فكلُّ حِلفٍ كان في الجاهلية، فلا يزيده الإسلام إلا شِدَّة.»
٤٨ ويُعَنْون ابنُ حبيبٍ أحَدَ فصوله «السُّنن التي كانت الجاهليةُ سَنَّتْها
فبقَّى الإسلامُ بعضَها وأسقط بعضَها».
٤٩ هل تمَّ بالتأكيد الحفاظ على أكثرَ بكثيرٍ ممَّا يُستشهد به؟ بدلًا من
اعتبار أنَّ محمدًا كان عازمًا على سياسة الابتكار، علينا أن نتصوَّر مجموعةً مستمرة
من
السُّنن تمتدُّ إلى ما وراء الإسلام في الماضي
البعيد، تخضع لتعديلٍ بطيء. حافَظَ النبيُّ على مجموعةِ
السُّنن الموجودة التي شكلت القانون، معدِّلًا بعضَ
السُّنن القديمة ومُضيفًا القليلَ من
السُّنن الجديدة، برَّرها أحيانًا بالوحي القرآني. ومن أمثلةِ التغيير،
التعديلُ الذي طَرَأ على نسبةِ غنائمِ الحرب المخصَّصة للقائد المُنتصِر. «في الإسلام
يستقطع خُمْس الغنائم «لله» قبلَ إجراء التوزيع العام؛ لكنْ كما يُخبرنا مصنِّفو
المعاجم العربية، قبل الإسلام كان يُخصَّص الرُّبعُ للقائد.»
٥٠ من الأدلة المنقوشة، يتأكَّد أنَّ الممارسة السبئية كانت تخصِّص رُبعًا
للملك بوصفه القائد الأعلى، حيث يتبع محمَّد السُّنن الموجودة؛ من الطبيعي أن يُعتبر
أنَّه يمنحها موافقةً إسلامية.
بعد وفاة النبي، لم يكن هناك انقطاع، وشكَّل
أبو بكرٍ وعمر، وبلا شك عثمان أيضًا، بوصفهم خلفاءه، سُنَنًا لتلبية احتياجات الظروف
واعتُبرت سوابقَ صالحة. عليٌّ وذريته، أهل البيت، الذين طبَّقوا مبدأ «
الاجتهاد» في تصريحاتهم، في تراثٍ حيٍّ يرجع للماضي البعيد.
ويُنسب لعثمان نفسه المقولة الشهيرة «ما يزع الله بالسلطان أكثر ممَّا يزع بالقرآن.»
٥١ حتى
القضاة الذين عملوا للأمويين،
وينحدرون كلُّهم ربما من أُسَر ترِثُ مناصبَ القضاء، من المرجَّح أنهم اتبعوا، في
معظمهم،
سُنَّة معروفة لهم، ومن المؤكَّد أنها
اختلفتْ في التفاصيل طِبقًا للكيانات السياسية والجغرافية في شبه الجزيرة
العربية.
لا يمكن اعتبارُ أنَّ محمدًا، بحالٍ من الأحوال كما تبيَّن، حلَّ محلَّ المجتمع
القَبَلي القديم؛ لكنه صار في عيون قريش، على النقيض من قُصَي سلَفِه النبيل —
المُجمِّع الذي وحَّد قبائل فِهر (قريش) —
«ممزِّقَ» روابطِ قريش ووحدتها، «مفرِّق الجماعة»،
مُدخِلًا غيرَ المعروف (أو العُرف)، وشخصًا أحمقَ مُنحرِفًا وغيرَ مسئول، لكنَّه لعِبَ
في يثرب دورًا يشبه دور قُصَي في توحيد القبائل في اتحادٍ أو أمَّة، وهي كلمةٌ تأخذ بعد ذلك معنى «الجماعة». استغرق الأمر منه
عِدَّة سنوات من المناورة السياسية الذكية؛ لربط الأمة معًا، وجعلها نواةَ اتحادٍ أكبر،
نجَحَ في ضمِّ قريشِ مكةَ إليه.
العملية التي تأسَّست بها الجماعة الجديدة، أمَّة
الله، موازيةٌ بشِدَّة للنمط الكلاسيكي القديم الذي اعتبره جاك ريكمانز
Ryckmans نمطَ الممالك العربية الجنوبية قبل
الإسلام: القبيلة العربية الجنوبية الموحَّدة، بتوجيهٍ من عشيرةٍ متميزة، أو مجموعاتٍ
عرقية أو مجتمع اقتصادي لعمليةِ إقليمٍ قوميٍّ لربٍّ أو راعٍ قبَلي، تعمل من خلال
مَعبَد مملكة سبأ، تعبِّر عن مفهوم الدولة بالصيغة: «إلمقه (إله قومي) وكربئيل
(السيادية) وسبأ.»
ويشبه هذا إلى حدٍّ ما المفهومَ الإسلامي الذي يعبِّر عنه حديثٌ على النحو التالي:
«الأرضُ لله ورسوله … والمسلمون.»
٥٢
الوثيقة الأكثر حيويةً وبروزًا في فترة محمَّد في المدينة، وهي تاريخيًّا ليست أقلَّ
أهميةً من القرآن ذاته، مجموعةُ المعاهدات المعروفة في مجملها، وإن يكُن بشكلٍ غير
صحيح، في أوروبا ﺑ «دستور المدينة»، محفوظةٌ في نسختَين، الأكثر اكتمالًا في سيرة ابن إسحاق، ونسخة مختصَرة في «كتاب الأموال» لأبي
عبيدة. والعنوان الحيادي الأكثر دِقةً لهذه الوثائق ويجمعها معًا هو «الوثائق الثماني»،
وهو ما يتبنَّاه هذا الفصل. نسخة السيرة صحيحةٌ بوضوح، ولا تكشف عن أيَّة علامة على
التلاعب. وليس هناك مبرِّر للشكِّ في الحديث الذي يقول إنِّ عليَّ بن أبي طالب بوصفه
معاوِنًا لمحمد، كتَبَ الوثيقةَ الأصلية واحتفظَ بها في غِمده، لكنَّ النسخة التي في
حوزتنا يمكن أن تكون مجرَّد نسخةٍ منسوخة من «الوثائق الثماني» الأصلية، تهمل الأختامَ
والتوقيعات. إنَّ فقْدَ التوقيعات خسارةٌ كبيرة لتاريخ صدْرِ الإسلام. ربما احتفَظَ
بالنسخة أحدُ أحفاد عليٍّ ونسَخَها ابنُ إسحاق؛ وربما لم يبقَ غيرُ النسخة
المنسوخة.
تلمح فقراتٌ كثيرة من القرآن إلى وثيقةٍ، أو
أخرى من «الوثائق الثماني»، لكنَّ أوضحُها الآية ١٠١ وما يليها من سُورة آلِ عِمران:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا٥٣ وتشير إلى المعاهدة أو البيعة الأُولى بعد وصول محمد إلى يثرب. وحيث إنَّ
«الوثائق الثماني» تمَّ تحليلها في موضعٍ آخر،
٥٤ لا نحتاج هنا إلا توضيح السِّمات البارزة وهي:
-
(A) معاهدة الأمَّة.
-
(B) ملحق معاهدة الأمة
(A).
-
(C) معاهدة تحدِّد وضعَ القبائل اليهودية
في الأمَّة.
-
(D) ملحق للمعاهدة التي تحدِّد وضْعَ
القبائل اليهودية (C).
-
(E) إعادة تأكيد وضع اليهود.
-
(F) إعلان يثرب حرَمًا.
-
(G) المعاهدة المُبرَمة قبلَ الخندق بين
عرَبِ يثربَ، ومع قُريظة اليهودية، لحمايتها من قريشِ مكَّةَ
وحُلفائهم.
-
(H) ملحق لإعلان يثربَ حرَمًا
(F).
تتماثل وثيقتا الأمَّة A, B مع معاهدتَي التحالف بين
المهاجرين والأنصار في بيتِ أنَسِ بن مالك. وتعودان للسَّنةِ الأُولى من الهجرة
وربما تتماثلان مع السُّنَّة الجامعة. الوثيقة
A، يأتي نصُّها، وهي ببساطة تحالُفٌ فيدرالي بين
المهاجرين وقبيلتَي الأوس والخزرج، لكنَّ كلَّ قبيلة تحتفظ بالسيطرة على ترتيبات
الدِّية. وهي قضيةٌ أساسية في كلِّ الشئون القَبَلية العربية، كما لاحظنا من قبل، هذا
«بالمعروف».
(٨-١) الوثيقة A، معاهدة الأمَّة
-
(1) [بسم الله الرحمن الرحيم]، هذا
كتابٌ من محمَّد النبيِّ
ﷺ بين المؤمنين والمسلمين من قريش
ويثرب، ومن تبِعَهم، فلَحقَ بهم، وجاهَدَ معهم.
-
(a-2) إنَّهم أمَّةٌ واحدة من دون
الناس.
-
(b-2) المهاجرون من قريش على
رِبْعَتِهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفدُون عانِيَهُم بالمعروف والقِسْط
بين المؤمنين.
-
(c-2) وبَنُو عوفٍ على رِبْعَتِهم،
يتعاقلون مَعاقِلهم الأُولى، كلُّ طائفةٍ تَفدِي عانِيَها بالمعروف
والقِسْط بين المؤمنين.
-
(البنود من d2 إلى
j2 تكرِّر هذا النصَّ مع القبائل
الأُخرى في الأوس والخزرج.)
-
(a-3) وأنَّ المؤمنين لا يتركون
مفرحًا بينهم، أن يُعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقْل.
-
(b-3) وأنَّ المؤمنين المتَّقين على
مَن بغى منهم.
-
(a-4) أو ابتغى دسيسةَ ظُلمٍ، أو
إثمٍ، أو عُدوانٍ، أو فسادٍ بين المؤمنين.
-
(b-4) وأنَّ أيديهم عليه جميعًا، ولو
كان ولَدَ أحَدِهم.
-
(5) ولا يقتُل مؤمنٌ مؤمنًا في
كافرٍ، ولا ينصُر كافرًا على مؤمن.
-
(6) وأنَّ ذِمَّة الله واحدةٌ، يُجير
عليهم أدناهم.
-
(7) وأنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ
دون الناس.
-
(8) وأنَّ مَن تبِعَنا من يهود؛
فإنَّ له النصر والأُسوة، غير مظلومين، ولا مُتَناصِرين عليهم.
-
(9) وأنَّ سِلْمَ المؤمنين واحدةٌ،
لا يسالم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواء وعَدْل
بينهم.
-
(10) وأنَّ كلَّ غازيةٍ غزتْ معنا
يُعقبُ بعضُها بعضًا.
-
(11) وأنَّ المؤمنين يبيءُ بعضُهم
على بعضٍ بما نال دماءهم في سبيل الله.
-
(12) وأنَّ المؤمنين المتَّقين على
أحسن هدًى وأقوَمِه.
(٨-٢) الوثيقة B، مُلحَق معاهدة الأمَّة
A
-
(1) وإنَّه لا يُجير مشركٌ مالًا
لقريش، ولا نفسًا، ولا يَحُول دُونَه على مؤمن.
-
(a-2) وإنَّه مَن اعتبط مؤمنًا قتلًا
عن بيِّنة؛ فإنَّه قَوَدٌ به، إلا أن يَرضى وليُّ المقتول.
-
(b-2) وإنَّ المؤمنين عليه كافَّة،
ولا يحلُّ لهم إلا قيامٌ عليه.
-
(a-3) وإنَّه لا يحلُّ لمؤمنٍ أقرَّ
بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخِر، أن ينصُر مُحْدِثًا،
ولا يُئْويه.
-
(b-3) وإنَّ مَن نصَرَه أو آواه،
فإنَّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يومَ القيامة، ولا يُؤخذُ منه صَرفٌ ولا
عَدْل.
-
(4) وإنَّكم مهما اختلفتم في شيء؛
فإنَّ مردَّه إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمَّد
ﷺ.
-
هناك إشارةٌ واضحة إلى معاهدةِ الأمَّة، الوثيقة
A، سورة الأنفال، الآية ٧٢:
٥٥ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ولتمكين الأمة من دمج أتباعٍ جُدد،
تُضيف الآية ٧٥:
٥٦ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ.
(٨-٣) الوثائق من C إلى
H
تَدمج الوثيقة C، وترجع أيضًا إلى السَّنةِ
الأُولى، اليهودَ في الأمَّة، محدِّدة بالاسم
كلَّ قبيلة مع المجموعات اليهودية الموالية لها، وتنصُّ على أنَّهم، مثل المؤمنين،
ينبغي أن يدفعوا نفقةً في زمن الحرب.
الوثيقة D ملحق للوثيقة
C، تحدِّد بشكلٍ أكثر دِقة بعضَ علاقات
المَوالي. ينبغي أن تُعتبر وثيقةٌ منهما أو الاثنتان المعاهدةَ الأولية مع النبي.
يبدو أنَّ الوثيقة E إعادةُ تأكيد للمعاهدة مع
اليهود، بعد أن قتل رجلٌ من بَني الحارث حليفَه اليهودي، وهي جريمةٌ برَّأ النبيُّ
نفْسَه منها.
لكلٍّ من «الوثائق الثماني» صيغةٌ ختامية؛ وهي في حالةِ الوثائق من
C إلى H
«البِر دونَ الإثم»، أو صيغة من هذا التعبير.
وهذا يجعل المرء يتصوَّر أنَّ هناك ارتباكًا في نُسَخ الوثائق من
F إلى H، وتبدو
إلى حدٍّ ما خارجَ الترتيب الزمني. ومن السهل فَهمُ هذا إذا كانت المعاهداتُ
مكتوبةً على صحائفَ صغيرةٍ جدًّا في حجم المكتوب عليها القرآن الحضرمي المبكِّر في
مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن.
الوثيقة
F، وتعود إلى أواخر السنة السادسة أو
أوائل السابعة، تُعلن يثرب حرَمًا، وتأتي على النحو التالي:
- (١)
وإنَّ يثربَ حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة.
- (٢)
وإنَّ الجارَ كالنَّفْس، غيرُ مضارٍّ ولا آثِم.
- (٣)
وإنَّه لا تُجار حُرمةٌ إلا بإذن أهلها.
- (٤)
وإنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخاف فسادُه؛
فإنَّ مردَّه إلى الله عزَّ وجل، وإلى محمد
ﷺ.
- (٥)
وإنَّ الله على أتْقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. وإنَّه لا تُجَار
قريش، ولا مَن نصرها.
مع الوثيقة
F، ينبغي أخذ الملحق، الوثيقة
H. لوائح الوثيقة
H مماثلة بشدَّة للقواعد التي اقتبسها ياقوت
للحرم المكي، وبالمناسبة تشبه في جوهرها ما ينطبق على
حوطة حضرموت في أيامنا. يأتي الملحق على النحو التالي:
- (١)
وإنَّه لا يحُولُ هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثِم.
- (٢)
وإنَّه مَن خرَجَ فهو آمِن، ومَن قعَدَ فهو آمِن بالمدينة، إلا مَن
ظلَمَ وأثم.
- (٣)
وإنَّ الله جار لمَن برَّ واتَّقى، ومحمَّد رسولُ الله.
من الواضح أنَّ الوثيقة G في غير موضعها وينبغي
أن تسبق زمنيًّا الوثيقة F. إنها نصُّ معاهدةٍ تربط
المؤمنين وقبيلة قريظة اليهودية للدفاع عن يثربَ ضدَّ عُدوان قريش مكةَ وأحلافهم
فيما يُعرف ﺑ «موقعة» الخندق. وتفرض أشد العقوبات على أي طرف يخلُّ بقَسَمه، وهو ما
قامت به قُريظة على مَضَض، مع عواقب وخيمة تعرضوا لها.
النمط القبلي لهذه المعاهدات واضحٌ على الفور ولا جديد بشأنها. كانت الأطراف
تقسَّم يمينًا بمراعاة البنود التي تنصُّ عليها. تنعكس الوثيقتان
A و
B، وهما
الأساس القانوني للأمة، من حينٍ إلى آخر في مجموعاتِ
الأحاديث، عادةً بشكلٍ مشوَّه قليلًا، ويُنصُّ
أحيانًا على أنَّ بعض المقتطفات، من صحيفة عليٍّ المحفوظة في غِمده. ويمكن أن يكون
قد نقَلَها أشخاصٌ يدركون محتوى «صحيفة» عليٍّ، لكنْ دون الوصول إليها. وهذه
المقتطفات التي يُستشهد بها «مُسنَد» ابن حنبل
٥٧ مثالًا على ذلك، يبدو أنَّها تميل لتوضيحِ أنَّ عليًّا ينفي صراحةً أن
لديه برهانًا أو
نصًّا يرشِّحه خليفةً لمحمد.
علاقة «الوثائق الثماني» كلِّها بالقرآن، وإن كان يلمِّح لها، لم يتمَّ استكشافها
بالكامل.
هناك حديثٌ صحيح بأنْ «كتَبَ رسول الله
ﷺ المعاقل».
٥٨ يقال إنَّ الوثيقة التي احتفظ بها عليٌّ في غِمده احتوت على خليط من
المواضيع تشمل مراسيم
الصدقة، ورعي الإبل،
و(عقوبات) الجروح، إلخ. ولا يظهر هذا بالطبع في «الوثائق الثماني»، لكنَّ النبيَّ
أرسل إلى عامِله على نجران قائمةً لعقوبات الجروح، موجَّهةً إلى بَني الحارث بن كعب.
٥٩ لا يرى المرء قوائم متباينة من الجرائم والعقوبات في حضرموت القبلية،
التي ليس لها بالطبع ارتباطٌ بالشريعة، وهي
عُرفٌ
محليٌّ خالص. أرسلَت الرسائل بشأنِ مراسيمِ
الصدقة أيضًا إلى بَني الحارث وغيرهم. ومن اللافتِ مدى بساطةِ
متطلبات الإسلام في بداياته من القبائل والمقاطعات للولاء لله ومحمد.
(٩) رسائل محمد إلى القبائل العربية الوثائق المنسوبة لعمر الأول
يمكن الرجوع لمراسلات النبي مع القبائل العربية في المجموعة التي جمعها محمد حميد
الله. وتشمل معاهدات الدعم المتبادل وضمانات الأمن التي أبرمها محمد. الاتفاق المهم مع
ثقيف الطائف، أصيلٌ بوضوح، ويمثِّل حلًّا وسطًا؛ حيث يضع نهايةً للربا هناك، ويعترف
ﺑ
«الحِما»، وهو حقًّا مكانٌ مقدَّس لا يشبه
الحرم، وكان لثقيف في وادي وجٍّ. وسُلطة النبيِّ
تنمو. تضمَّنت رسائله تعليماتٍ أكثرَ تفصيلًا بشأن الزكاة. وهناك حتى مطالبات بالأرض،
وبالطبع الترتيب المعروف للمشاركة في حصَّةٍ من المحاصيل مع يهود خَيبَر؛ الذي لا يمكن
إلا أنْ يعكس ممارسةً مستقرَّة لفترةٍ طويلة،
إقطاع،
وكان يعني في العصور الوسطى الإسلامية إقطاعية
fief،
يستخدمه محمد ببساطة ليعني منحَ، أو تخصيص، أرضٍ أو مياه أو حتى مناجم. رسالة محمَّدٍ
إلى تميم الداريِّ،
٦٠ يمنحه أرضًا في الخليل ومرطوم وبيت إبراهيم تأتي بلغةٍ عربية قديمة، تؤيِّد
أصالتها. تعتبر تزويرًا مبكِّرًا، وليس من المستحيل أن تكون القبائل العربية المستقرَّة
في فلسطين البيزنطية أرسلتْ إلى محمد بوصفه حَكمًا وكان هذا قراره. كانت الطريق الشهيرة
لقوافل قريش إلى الشمال والجنوب تمرُّ بغزة، لكن ربما كان أحد أفرعها يمرُّ من خلال
الخليل.
تكشف المفاوضات المفصَّلة تمامًا مع مسيحيِّي نجران وجودَ نوعٍ متطور من التدرج
الهرميِّ في هذا المركز الحضاري القديم. رسالةٌ إلى أسقف أيلةَ في خليجِ العَقَبة،
تمدُّ الحمايةَ إلى قوافلها البحرية والبرية وسكَّانها المخلَّطين. هذه الوثائق
والمعاهدات للخلفاء الأوائل مع المسيحيين في القدس ودمشق والمدائن وأماكن أخرى، تُعتبر
أساسَ مجموعةِ القوانين التي طُبِّقت على مجموعاتِ الذِّمِّيين.
ومحمد يقترب من السُّلطة العليا في شبه الجزيرة العربية، أخذتْ رسائله أحيانًا نبرةَ
تهديد. من الطبيعي أن يصرَّ على قبول الإسلام أو يأمر بقبوله؛ لهذا بُعدٌ سياسي مثلما
له بُعد ديني، كما اقتُرِح. وربما تشمل تبنِّي أشياءَ من قَبيل معيار عقوباته لإصابة
الأشخاص. الرسائل إلى البحرين وعُمان وحضرموت واليمن وقبائل المناطق الحدودية لسوريا
والعراق مؤشِّرٌ على اتِّساع تأثيره السياسي.
وحيث إنَّ هذه الرسائل اعتبرها كتَّاب مثل أبي عبيد، بعد ذلك بنحو قرنَين، مصدرًا
للشريعة، محفوظة في الأدبيات القانونية مثلما هي
محفوظة في الأدبيات التاريخية؛ فلا تزال الدراسة النقدية لهذه الرسائل بعيدة عن
الاكتمال. حين تُعرض وثيقةٌ في نُسَخ عديدة، يبدو أحيانًا أنها «نقِّحت»، سواءٌ نتيجةَ
تغيُّر في أسلوب الرسائل في تاريخٍ لاحق، أو لتبدو أكثرَ ترابُطًا. وقد يكون هناك
«عبَثٌ» متعمَّد لأسبابٍ أخرى. وغالبًا ما يبدو النقلُ بعيدًا عن الكمال، ويمكن أن
نتصوَّر أحيانًا أنَّ ذلك نتيجة الالتباس في الخطِّ العربي في بداياته. التزييف على
أيدي المجتمعات المسيحية واليهودية للوثائق لتضمن لهم بعض الحقوق محتمَل جدًّا. على
سبيل المثال، في معاهدتَين من «معاهدات النبي» في دير سانت كاترين في جبل سيناء؛ لكنَّ
الحُكام المسلمين قبلوها.
٦١
بالنسبة ﻟ «معاهدة عمر»، وهي تدوينٌ للشريعة الإسلامية بشأن الذِّمِّيين المسيحيين،
يقول تريتون
Tritton:
٦٢
لا تصبح الإشارةُ إلى المعاهدة شائعةً إلا متأخِّرًا جدًّا. تمَّ تجاهُلها في القرن
الأول. وفي القرن الثاني، تلاحظ أحيانًا بعض بنودها. بحلول سنة ٢٠٠ﻫ وُجِدتْ في الصورة
التقليدية؛ لكنْ مع الكثير من الاختلافات الضئيلة. الاتفاقيات التي أبرمها القادة
المسلمون مع المدن المفتوحة ليست على غِرارها. ويبدو أنَّ بعضَ بنودها سُنَّت أولًا على
يدَي عمر الثاني، وربما ساعد ذلك في أن تُنسب إلى سَميِّه الأكبر. وربما كانت المعاهدة
التي ذكَرَها أبو يوسف [كتاب الخَرَاج] شكلًا
مبكِّرًا لهذه الوثيقة، لكنْ ربما كان في ذِهنه معاهدةٌ خاصة أو مطلبٌ عام للحقوق
طرَحَه الذِّمِّيون. لاقت المعاهدة اهتمامًا في مدارس الشريعة، ونُسبت، مثل الكثير
غيرها، إلى عمر الأول.
الرسالة الحكيمة لعمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة،
٦٣ يوجِّهه بألَّا يفرِّق بين المدن العراقية وسكَّانها وأنْ يعاملهم والأرض
مثلَ غنيمةٍ معتادة. تضَعُ أيضًا لوائحَ جِزية اليهود والمسيحيين بجانبِ مراسيمَ أخرى،
ينبغي الشكُّ في أصالتها. نَمَطها وأسلوبها الصريح غير المعقَّد يذكِّر بالرسالة
المالية لعُمَر الثاني، لكن ربما كانت إعادةَ صياغةٍ على غِرارها.
(١٠) رسائل محمد إلى الملوك والحكام الأجانب
حافَظَ المؤرِّخون الأوائل على نصوصِ الرسائل
٦٤ التي يزعمون أنَّ النبيَّ كتَبَها إلى هرقل، والمُقَوقِس حاكم الإسكندرية
ومصر، والنجاشي ملك الحبَشة — الذي كان له مراسلاتٌ قليلة تمامًا معه — وإلى كِسرى،
ووالي الغساسنة على دمشق، والحاكم المسيحي لليمامة المُتحالِفة مع الفُرس، وآخرين.
وخضعت أصالتها لكثيرٍ من المناقشات. ومن الغريب جدًّا أنها الوثائق الإسلامية المبكِّرة
الوحيدة التي توجد نُسَخها المزوَّرة، أو في أفضل الأحوال النسخ القديمة، اليوم. رسالة
النبي إلى مسيلمةَ ورسالته إلى المُقَوقِس، وكذلك معاهدة للمسيحيين تُنسب إليه في
إسطنبول على سبيل المثال.
إنَّ مسألةَ أنَّ محمدًا كتَبَ إلى المسئولين أو الحُكَّام البيزنطيين أو
الساسانيِّين للأقاليم العربية المُتحالِفة معهم ليس مستحيلًا؛ كان لقريشِ مكةَ علاقاتٌ
تجارية مع الإمبراطوريَّتَين، لكنْ يبدو من غير المُحتمَل أنَّه بعث برسائلَ مستفزَّة
إلى قيصر أو كسرى. ولم يكن، حتى إلى وفاته، قد سيطر على جزءٍ كبير من الجزيرة العربية.
وإضافةً إلى ذلك، فإنَّ النمط المعياري وأيديولوجيا الرسائل مثيرٌ للشكِّ إلى حدٍّ ما.
هناك موادُّ قديمةٌ بشكلٍ واضح، مثل أنْ يطلب من هرقل ضرورةَ دفْعِ الجِزية إذا لم يعتنق الإسلام. ومن الواضح أنه يقصد بها
الضريبةَ المفروضة على الذِّمِّيين، مع أنَّ مصطلحَ الجِزية لم يكُن يقتصر في حياةِ
محمد على ضريبةِ الذِّميين. ثمَّة رسالةٌ أخرى فيها تلميح غامض إلى «إثم الأرسيين»، أو
«الفلاحين»، ويفترض أنها بدعةُ آريوس Arius. أخيرًا،
اعترافُ قيصر بأنَّ الإنجيل بشَّرَ بمحمَّدٍ رسولِ
الله بوضوحٍ؛ من فئة هذه الأساطير التي تحاول أن ترسِّخ التنبُّؤ بمحمِّد في الكتب
المقدَّسة المسيحية واليهودية.
المراسلة مع النجاشي مزيَّفةٌ بشكلٍ أوضح؛ من غير المرجَّح أن يعترف بأنَّ محمدًا
رسول الله. ولا تحمل المراسلةُ مع كِسرى والحُلفاءِ العرب للساسانيين، أو الاستقبال
العدائي لكسرى لرسالة محمد، إقناعًا أكثر بصحتها.
صحيحٌ أنَّ الرسائل تحتوي على عباراتٍ تقليدية توجد في رسائل محمد للعرب، لكنَّ
أسلوبها متطوِّر بشكلٍ لا يوجد في كتابات النبي. وتعطي انطباعًا بأنَّ العبارات في
تأليفها كانت تقتطف من مادةٍ أصلية، بحيث لا تكون معيبةً من ناحية اللغة.
في البحث عن تاريخ التزييف ودافعه، يمكن أن ننظُر إلى نقطةٍ ما حولَ عصر عمر الثاني
(٩٩–١٠١ﻫ/٧١٧–٧٢٠م). ويُنسب إلى عمر الكتابةُ إلى أمراءِ ما وراء النهر يدعوهم إلى
اعتناق الإسلام، وإرسالُ رسالةٍ إلى ملوك السِّند، وعَدَهم فيها بالمزايا نفسِها
والحصانة التي يَحظَى بها العرب إذا أسلموا. وهناك اعتقادٌ آخر بأنه تبادَلَ الرسائل
مع
البيزنطيِّ ليو الثالث الإيساوري،
٦٥ الذي وضَعَ له النقاطَ المهمَّة للجَدَل بين المسيحيين والمسلمين. هذه
الرسالة محفوظة، مع ردِّ ليو، في التاريخ الأرميني، وكلتاهما ذات مصداقية.
٦٦
يبدو أنَّ الوثائق المزيَّفة، ونضطر على هذا
النحو لاعتبارها كذلك، صُمِّمت لتعزيز مفهوم أنَّ محمدًا تصور الإسلامَ دينًا عالميًّا،
لا مجرد بِدعةٍ عربية (كما عبَّر يوحنَّا الدمشقي)، وأنَّ مَجِيء محمد، مثل مَجِيء موسى
والمسيح، متوقَّع وبُشِّر به في الكتاب المقدَّس. يوحنا الدمشقي، مسئولٌ مسيحي في
الدولة الأموية، وربما لم يترك الخِدمة الحكومية قبل ١٠٢ﻫ/٧٢٠م، يسأل، على سبيل المثال،
بعد وصفِ نُبوءَةِ مَجِيئه: «كيف لم يأتِ نبيُّكم بهذه الطريقة، من خلال شهادةِ
الآخَرين له؟»
٦٧ وفي وصف حادثة رسالة محمَّد إلى هرقل، يدعم الطبريُّ
٦٨ ما لا يمكن إلا أنْ يكون موقفًا وهميًّا للوصول إلى البلاط البيزنطي. ويدعم
هذا الحجَّةَ بأنَّ الرسائل لفِّقت لتقويةِ الدِّفاعات الإسلامية ضدَّ الجدل
المسيحي.
(١١) تحكيم صِفِّينَ وسُنَّة النبي
لا تكشف القراءة المتأنية لمعاهداتِ محمدٍ التالية للوثيقتَين
A,
B من «الوثائق الثماني» عن أيَّة اتحاد إضافي، بل مجرَّد امتدادٍ
أمني، ارتبطتْ عن طريقه مجموعاتٌ أُخرى بالأمَّة. في البداية، كان لوجودِ أتباعٍ جُدد
أن يؤدِّي إلى الهجرة إلى يثربَ (المدينة)
٦٩ للمبايعة والنأيِ بأنفُسهم عن التحالفات الموجودة. وكانت غالبًا تمثِّل
فصائلَ منشقَّة عن كونفدرالية قَبَلية، انضمَّتْ لمحمَّد.
ومن المُناسب عند هذه النقطة، أن نُلقي نظرةً إلى الأمام قليلًا ونتأمَّل وثيقةَ
التحكيم التي اتفق عليها، وإن يكن كَرْهًا، عليٌّ ومعاوية،
بعد المواجهة بينهما في صِفِّينَ، لعلاقتها بالوثائق
السابقة. خلقت الاضطرابات والفتنة التي تَلتْ مَقتلَ
الخليفة عثمان انقسامًا لم يُغلق حتى اليوم، لكنَّ المعاهدة وآثارها — ما يعنينا هنا،
الاتفاق المكتوب الذي تمَّ التوصُّل إليه في هذا الحادث الحاسم في التاريخ الإسلامي —
لا تعبِّر في ذاتها عمَّا كان التحكيمُ بشأنه، لكنَّ القضايا تبدو واضحةً جدًّا. هل
قُتِل الخليفة عثمان «باعتباره جائرًا [أو: طاغية ظالمًا] أو باعتباره ضحيَّة الجور
[أو: المعالجة الخاطئة]»؟ وإذا كان الوضع هو الأخير فإنَّ عليًّا بعدم اتخاذ إجراءٍ
ضدَّ مغتاليه خرَقَ القانون كما نصَّت عليه «الوثائق الثماني»، 3b-2a,
B.
على عكس نص «الثماني»، الذى لا يوجد خلافٌ عليه، توجد اختلافات في صياغة النسخ
العديدة لوثيقة التحكيم. يميل بي فحصٌ للنسخ الكاملة للمعاهدة إلى أن أضع في الاعتبار،
بناءً على الدليل الداخلي، بأنَّ النسخة التي تبدو ظاهريًّا، أن تمثِّل أصل نسخةِ أبي
مخنف (٧٠–١٥٧ﻫ/٦٨٩؟–٧٧٤م)، المحفوظة في تاريخ الطبري،
٧٠ لكنَّها ليست فكرةً غيرَ جذَّابة أن أعتبرها نسخةً موسعة لمعاهدة أبسط كما
استشهد بها ابن عثم. وتقدِّم النسخة المركَّبة التي يقدِّمها الجاحظ
٧١ تحفُّظه الخاص عليها؛ لكنَّ الجاحظ لم يبرهن على أنه ناقلٌ دقيق أو مدقِّق
في جوانبَ أخرى.
يقدِّم المنقري نسخةً عن الشيباني، الذي زعم أنه رأى حقًّا النسخة الأصلية في يدي
أبي
موسى الأشعري، أحد المحكَّمين. التأكيد بأنَّ الوثيقة تحمل ختمَين أو بصمتَين: ختمًا
أعلى الصفحة (عليٌّ؟)، والآخَر أسفلها (معاوية؟). مثير للريبة بعض الشيء؛ لأنَّ التقليد
القديم كان وضَعَ الختم أعلى الصفحة، لكن ربما لم يكُن هذا ثابتًا. صيغت نسخةُ الشيباني
بطريقةٍ خرقاء في بعض المواضع، وتحتوي أحيانًا على تكرار، لكنَّ هذا في ذاته لا يعني
أنَّ احتمال أصالتها أقلُّ من احتمال أصالة ابن مخنف الأكثر تنظيمًا.
٧٢
تضمُّ نسخة ابن مِخنَفٍ ثلاثةَ أقسام:
-
(١)
هذا ما تقاضي عليه عليُّ بن أبي طالب ومعاويةُ بن أبي سفيان وشيعتهما؛
إنَّا ننزل عند حُكم الله وكتابه، وألَّا يجمع بيننا إلاه وأنَّ كتاب الله
بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات
القرآن. ونحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله.
٧٣
-
(٢)
فما وجد الحكَمان في كتابِ الله بيننا وبينكم؛ فإنهما يتبعانه، وما لم
يجداه في كتاب الله؛ فالسنة العادلة الجامعة غير المفرِّقة، والحكمان عبد
الله بن قيس وعمرو بن العاص. وأخَذَ الحَكَمان العهدَ والميثاقَ من عليٍّ
ومعاوية والجُندين، أنَّهما آمِنان على أموالهما وأهليهما. والأمَّة لهما
أنصار على الذي يقضيان به عليهما، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين
كلتيهما عهد الله أنَّا على ما في هذه الصحيفة.
-
(٣)
يحتوي هذا القسم على ترتيبات إدارية وبنود للهُدنة التالية والتحكيم. على
الحَكَمين أنْ يحكُما بين هذه الأمَّة بالحق، ولا يرداها في فِرقة؛ وأن
يأخذ الحَكَمان ما شاءا من الشُّهود ثم يكتبوا شهادتهم على ما في الصحيفة.
وتنتهي على النحو التالي: اللهم إنَّا نستعينك على مَن ترَكَ ما في هذه
الصحيفة.
تتَّفق هذه الأقسام من الوثيقة مع ما يبدو أنَّه الصِّيغ الخِتامية الموازية لصيغ
«الوثائق الثماني»، للتأكُّد من أنَّها ليست متباينة، لكنْ من المقترح أنَّها تمثِّل
أيضًا ثلاثَ اتفاقيات تُبرَم في أوقاتٍ مختلفة. يُشير المنقري، في تعدُّد رواياته، إلى
حدوثِ توقُّف قبل ترشيح الحَكَمين في القسم ٢؛ ومن الواضح أنَّ الإيجاز في القسم ٣ من
المرجَّح أنه جاء بعد تكليف الحَكَمين، مع تفاصيل إدارية فعلية.
هناك تناقُضٌ واضح، لم يتمَّ تسويته قَط، بين القسم ١ والقسم ٢؛ يحدِّد الأول رجوعَ
الحَكَمين إلى كتاب الله فقط (إلا إذا كان حكم الله في القسم ١ ينبغي تفسيره بسنَّة
محمد بوصفها التفسيرَ الدنيوي لكتاب الله)، بينما يُضيف الأخير «السنةَ العادلة الجامعة
غير المفرِّقة». وهذه عبارة بالغة الأهمية فيما يخصُّ القانون والتاريخ في وثائق صدر
الإسلام.
فيما يخصُّ السنة الجامعة اقترحت في ١٩٦٧م أنَّه «يمكن حتى أن تتمَّ عملية التحكيم
بين عليٍّ ومعاوية، حين أعلن أن التحكيم ينبغي أن يكون طبقًا لكتاب الله والسُّنة
الجامعة ويُشير التعبير الأخير إلى معاهدتَي النبي
A, B».
٧٤ وأعتقد الآن أنَّ هذا التحديد صحيح. وتعزِّزه مرثيةُ حسَّان بن ثابت لعثمان،
٧٥ ويلحُّ فيها على ما جعَلَ قتلةَ عثمان لا يراعون
ذمة
الله ويحافظون على الإيمان بعهد محمد. بالوثيقتَين
A,
B والقرآن، سورة الإسراء، الآية ٣٣، يتَّهم معاويةُ نفسُه قتلةَ
عثمان:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا
فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ …. يبدو أنَّ «العدل» هو صيانةُ العهد الذي
يجمع، مقابل العهد الذي يفرِّق أو يفكِّك الوحدة، ويسمَّى الأخير «قَطعًا» أو «جورًا».
ومن الجوهري أن نحدِّد أنَّ
السُّنَّة لم تكن «ما
يفرِّق»؛ حيث إنَّ الوثيقة
A بينما «تجمع»، فإنَّ
«الأمَّة موالي بعض دون الناس»، من منظور المهاجرين والأنصار، «تفصِل» قريشَ مكةَ عنهم
بداية، حتى ينضمُّوا إلى أمَّة النبي. ويظهر هذا في توسُّل النضر بن الحارث من بني عبد
الدار، حين أُسِر في بدر، لرفيقه من عبد الدار، مُصعَب بن عمير؛ ليُنقذه من انتقام
محمد، كما قد يفعل لمصعب في ظرف مشابه. وكان ردُّ مسعود أنَّ الإسلام «قطَعَ العهود
بيننا وبينكم».
٧٦
ثمَّة شرحٌ مهمٌّ للمعاهدة قدَّمه العلوي زيد بن حسن، أحدُ المقرَّبين من ابن العباس
(ت: ٦٨ﻫ، أو ٧٠ﻫ)، يقدِّمه المنقري
٧٧ عن جابر. «ذكر» زيد «كتاب الحَكَمين فزاد فيه شيئًا عمَّا ذكَرَه محمد بن
علي الشعبي، في كثرة الشهود وفي زيادةٍ في الحروف ونقصان أملاها عليَّ من كتابٍ عنده».
وبالنسبة لهذه الحكاية المصقولة الموسَّعة التي أعيدت صياغتها، يتبيَّن أنَّ زيدًا كان
يقدِّم شرحًا متداولًا، مهمِلًا أو مُخفيًا تفاصيلَ معيَّنة، ويبرز هذا خاصة في القسم
الثالث؛ حيث يمزج معًا نُقَطًا معيَّنة من البنود الأساسية من نسخة أبي مخنف/الشيباني،
مكرِّرًا أحيانًا، كما يعود إليها للتأكيد. وبشكلٍ مهم، تصرُّ شروط زيدٍ على أن يصل
الحَكَمان إلى قرارٍ طبقًا لكتاب الله وسنة نبيه أو رسول الله، مُضيفًا أنهما إذا فشلا
في ذلك؛ فلَنْ يكون لهما عهدٌ أو أمان.
بقبولِ أنَّها إشارات إلى السُّنة الجامعة،
المتماثلة مع الوثيقتَين A, B من «الوثائق الثماني»،
لماذا يصرُّ علوي على هذا؟ يعتمد المصير السياسي لعليٍّ على السؤال إن كان عثمان قُتِل
«ظالمًا أم مظلومًا»؛ في أفضل الأحوال سؤالٌ مفتوح، حتى بالنسبة لعليٍّ نفسه، الذي
أعلَنَ في مرحلةٍ أنه لا يستطيع أن يقول إن كان عثمان ظالمًا أم مظلومًا.
الجواب بسيطٌ بشكلٍ غريب. اعتبر أبو موسى الأشعري، الذي يظهر، رغم القيود عليه، على
أنَّه رَجُل المبادئ والنية الشريفة، أنَّ عثمان قُتِل ظُلمًا. وفي مرحلةٍ مبكِّرة من
إجراءات التحكيم، عرَضَ على عمرو بن العاص «أن يُحيي سُنَّةَ عمرَ بنِ الخطَّاب».
٧٨ ولا يمكن أن يكون هذا، في سياق التحكيم، إلا
شورى الناخِبين التي شكَّلها عمرُ، وفيها خسر عليٌّ أمام عثمان. ولا
يمكن بأيِّ معنى اعتبارها سنَّةً جامعة. اعتبر الهاشميون والأمويون أيضًا أنَّ خلافة
أبي بكر للنبي أمرٌ مرتجَل أو انتهازي، لا سابقة. لم تكن بحالٍ من الأحوال قابلةً
للتطبيق في وضعِ ما بعدَ صِفِّين، ولا
سُنَّة خِلافة
عمرَ لأبي بكر. بحلولِ زمن زيدِ بنِ حسن، كانت
سُنَّة
عمر، التي أدَّت إلى رفضِ مطالب عليٍّ بالخلافة، بديلًا أسوأ بكثير بالنسبة للعلويين
من
اللجوء إلى
السُّنَّة الجامعة،
سُنَّة رسول الله. ومن هنا جاء حرصُ زيد على تأييد الأخيرة. ويدعم هذا
بشكلٍ غير مباشر تصريحُ الطبري بأنَّ الحَكَمين قرَّرا بناءً على الشورى. وافق أبو موسى
على أنَّ عثمان قُتل ظلمًا، ويبدو وكأنَّهما اتَّفقا على أنَّ عليًّا خالف
السُّنَّةَ الجامعة.
مهما يكُن حُكمهما، رفض عليٌّ التحكيمَ على أساس أنَّه ليس «سنَّة ماضية»؛
٧٩ وأضاف على ذلك أنَّ الله «بريء» من الحَكَمين. إصرار زيد بن عليٍّ على
أنَّه ينبغي على الحَكَمين ألَّا يتجاوزا
سُنَّة
النبي، وتجنُّب تطبيق سنَّة عمر في تعيين شورى، يعكس موقفَ عليٍّ. إنَّ فشل عليٍّ في
الوصول إلى الخلافة قبل ذلك، يعود إلى عدم رغبته في قَبول «سنَّة» أبي بكر وعمر.
اللعن المتبادَل بين عليٍّ ومعاوية (٣٧-٣٨ﻫ/٦٥٧–٦٥٩م)، يتبع، طِبقًا ﻟ «الوثائق
الثماني»، البند
b3 من الوثيقة
B، والقرآن، سورة النساء، الآية ٩٢. يذكر الحديث
أنَّ النبيَّ لعَنَ بعض معارضيه في الصلاة؛ لذا، إذا أُخذ هذا مع الوثيقة المذكورة،
يتبيَّن أنَّه من غير المحتمَل أنَّ اللَّعن في الصلاة كان من ابتكارِ عليٍّ أو معاوية،
والأرجح أكثر أنَّه كان سُنَّةً قديمة تعود إلى قبل الإسلام. اعتاد المُغيرة بن شُعبة
أن يقول: «لعَنَ الله فلانًا — يعني عليًّا — فإنَّه خالَفَ ما في كتابِكَ وترك سُنَّة
نبيك، وفرَّق الكلمة، وهَراقَ الدِّماء وقتَلَ ظالمًا.»
٨٠ ثمَّة موقفٌ معتدل أخَذَه الحسن البصري (ت: ١١٠ﻫ/٧٢٨م)، الذي اعتاد أن
يترحَّم على عثمان ثلاثًا ويلعن قتَلَتَه ثلاثًا، قائلًا: «لو لم نلعنهم لَلُعِنَّا.»
ثم يذكِّر عليًّا فيقول: «لمَ تحكِّمُ والحقُّ معك؟»
٨١
هدم برافمان
Bravmann بشكلٍ مُقنِع نظريةَ شاخت بأنَّ
السُّنَّة كانت في الأصل تُستخدم لسُنَّة أولِ خليفتَين. وبعد ذلك فقط استُخدمت لسُنَّة
النبي.
٨٢ يتمثَّل ضعفُ النظرية في أنَّ شاخت كان عليه أن يلجأ إلى أنَّ «
سنَّة النبيِّ» التي يشير إليها المؤرِّخون حين يذكرون
اختيارَ عثمان للخلافة، من وضعِ جيلٍ تالٍ. ويرفض برافمان أيضًا أُطروحةَ مرجليوث وشاخت
بأنَّ سُنَّة النبيِّ، التي قرَّر عثمان اتِّباعها، «لم تكُن شيئًا محدَّدًا، بل مجرَّد
عُرف». هذه النظرية الساذجة إلى حدٍّ ما تُسيء فهْمَ أساسِ القانون العُرفي في المجتمع
العربيِّ، الذي يرتكز على قراراتٍ بشأن المُنازعات، ليست نادرةَ التسجيل كتابةً.
وإضافةً إلى ذلك، بالنسبة لجنوب الجزيرة العربية على الأقل، أشار جاك ريكمان
٨٣ إلى وجود «بعض النصوص القانونية وأجزاءٍ من المدوَّنات». كما تعبِّر مقولةُ
برافمان «عند اختيار خليفةِ عمر، الذي أدَّى إلى تعيينِ عثمانَ، كان الالتزام
بسيرة النبيِّ أو
سُنته
قد تطوَّر إلى مبدأ أساسيٍّ ثابت في الإسلام.»
٨٤ تحدَّث عثمان، في خُطبته، عن اتباع القرآن و
سُنَّة النبي، ثمَّ «فِعل أبي بكر وعمر». ولا نخرج عن السياق إذا
تذكَّرنا أنَّ المجموعات الأُولى التي انشقَّت عمَّا صار عقيدةُ الإسلام، وأولئك الذين
مثَّلوا تقريبًا، بعدَّة طرق، المراحلَ البدائية للإيمان، الإباضية والزيدية؛ جعلوا حتى
السُّنَّةَ تُبطِل القرآن مع تنافُس
الاثنين.
(١٢) رسائل عمر بن الخطاب في الإجراءات الشرعية
الرسالة الشهيرة لعمر إلى أبي موسى الأشعري،
٨٥ حين كان واليًا على البصرة، التي وضَعَت مبادئ الإجراء القانوني، بالغةُ
الأهمية في تاريخ الشريعة الإسلامية. إنَّها قطعةٌ جيدة البناء تجسِّد، إضافةً إلى
أمورٍ أخرى، ثلاثةَ مصادر معروفة للنظام الشرعي في الإسلام:
القرآن، و
السنة، و
القياس؛ ينبغي أن يتَّفق معها
الرأي. ينصُّ بندها الأول على أنَّ «القضاءَ فريضةٌ مُحكَمة وسنَّةٌ
متَّبعة». نُدرك في الوقتِ ذاته أنَّ نُطق الحُكم وإصدار القضاة للقرارات؛ ليس جزءًا
من
إجراءٍ شرعي قَبَلي، كما كُشِف عنه في أبياتِ زُهير، واتُّبعَ حتى عصرنا الحالي في
الجزيرة العربية القَبَلية. تتضمَّن ثلاثةُ أبياتٍ للأعشى ميمون (ت: ٨ﻫ/٦٢٩م تقريبًا
دون حتى أن يُسلِم) مصطلحَ
قضاء، لكنْ ليس بمعنى قرار
قاضٍ بالمفهوم الإسلامي. من المؤكَّد أنه ليس
هناك مؤشِّر على وجوده في مكَّة والمدينة قبل الإسلام، ويكتب البروفيسور بيستون: «لا
يوجد الجذر «قضي» على الإطلاق في أيِّ نقوشٍ سواء في جنوب الجزيرة العربية أو شمالها
قبل الإسلام.» ربما ينبغي اعتبار أنَّ عمرَ يعبِّر عن
السُّنَّة الجديدة
للقضاء، لكنَّ
ابنَ قتيبة يقول: إنَّ عمَرَ استحسن الإجراءَ التقليدي الذي يصِفُه زُهير.
يأمر عمرُ بمعاملةٍ متساوية لكلِّ الناس «في مجلسك ووجهك» سواءٌ كانوا
شرفاء أو
ضعفاء، وربما
تعني غير الأحرار. وهذا يختلف عن نظام التحكيم بين الأقران المعمول به في الجزيرة
العربية، حيث يَمثُل الضعيف بواسطة حاميه القَبَلي.
٨٦
ثم تقدِّم الرسالة مبدأَين قديمَين في القانون العربي: «البيِّنة على مَن ادَّعى،
واليمين على مَن أنكر»، «والصلح جائز بين الناس». وبقيا عُرفًا حتى اليوم.
ما قد يكون تراكُمًا في حقبة ما بعد الأمويين يعكس مشاعر المساواة لطبقةِ المَوالي؛ هو التصريح بأنَّ المسلمين، ويستبعد منهم
الفاسدين خُلُقيًّا، عُدول في الشهادة. الكتب القانونية التالية أكثرُ صرامةً بشأن
المؤهِّلات الاجتماعية لهؤلاء الأشخاص؛ وقد تعكس مواقفَ المجتمع قبل الإسلام. تحتوي
بقيَّة الرسالة إلى أبي موسى على مفاهيمَ متوقَّعٍ من أيِّ قاضٍ أن يراعيها.
تضع رسالةٌ أكثرُ إيجازًا بكثيرٍ عن
القضاء،
موجَّهةٌ من عمر إلى معاوية في سوريا،
٨٧ خمسَ خِصال عليه الالتزام بها. وهذه الشروط مجسَّدة أيضًا في الرسالة إلى
أبي موسى: تتطلَّب «البينة العادلة» أو «اليَمين القاطعة». ويجب رعاية
الضعيف والغريب. وما لا يستطيع القضاءُ اتخاذَ قرارٍ واضح
بشأنه؛ ينبغي اللجوءُ فيه إلى الصُّلح.
في مناقشتهم لرسالةِ أبي موسى الأشعري، التي كتَبَها عُمرُ إلى هذا القائد الخبير
الذي ينتمي إلى قبيلةٍ قديمة بارزة، أشاعرة وادي رُماع في اليَمَن، لم يعلِّق العلماء
على رسالة معاوية، ولم يعلِّقوا أيضًا على رسالةٍ أخرى من عمرَ إلى أبي موسى، احتفظ بها
ابن أبي الحديد.
٨٨ تبدأ الرسالة بوصيةٍ غريبة لأبي موسى بأن يستقبل الشرفاءَ ورجالَ الدين
أولًا ثم العامَّة، ويلي ذلك بضعة أوامر خُلُقية عادية، ثم يأتي الأمر بالالتزام بأربعِ
خصالٍ مُماثِلة في الصياغة لتلك الواردة في الرسالة إلى معاوية. إلى الإجراء التقليدي
في استنباطِ بيِّنة أو استخدام القَسَم؛ يُضاف الصُّلح حين لا يستطيع القضاءُ حسْمَ
القضية (رغم أنَّ الصُّلح بالطبع احتمالٌ لا بد أنَّه كان موجودًا دائمًا). بمقارنة هذا
بالإجراءات الثلاثة عند زُهير لحسم القضايا؛ نتصور أنَّ قرار القاضي يحلُّ محلَّ
اللجوءِ الطوعي لرجال القبائل إلى حكم (
نِفار).
والأخير، على ما يُفترض، بائدٌ وغير إسلامي من جوانبَ عديدةٍ تتعلَّق بالظروف في الشام
والعراق.
بالنسبة للغة والظرف الاجتماعي والتاريخي، تتَّسم الرسالةُ إلى معاوية بكلِّ علامات
الأصالة. وبالنسبة للرسالة الثانية إلى أبي موسى (متجاهِلين التمهيد سواءٌ كانت أصيلةً
أو العكس)، هناك احتمالاتٌ عديدة. ومنها: يبدو من المعقول أنْ نفضِّل فكرةَ أنَّ كلًّا
من معاوية وأبي موسى تلقَّيا تعليماتٍ من عمر بكلماتٍ متماثلة إلى حدٍّ ما. تحتوي
الرسالةُ الشهيرة لعمر، الأولى إلى أبي موسى، أساسًا العناصرَ نفسَها التي توجد في
الرسالتَين الأخريين، في فحواها، لكنَّها نقِّحت و«زُيِّفت» و«حسِّنت» في تاريخٍ ما
تالٍ، وخاصة في اتجاهٍ منَحَها ميلًا للمساواة.
ورغم ظهورِ الأُسس التقليدية الثلاثة للقانون الإسلامي، القرآن و
السنة (تضيف بعض المصادر «نبيِّه») و
القياس، في الرسالة؛ فإنَّ التلميح المباشر أو غير المباشر إلى
الإجماع مفقودٌ بوضوح، لكنَّ
السُّنَّة الماضية، التي تَذكُرها، هل من المؤكَّد أنها
توحي بأنَّها قبلَت بالإجماع؟ في ترسيخ أنَّ الإجماع له جذوره في الجاهلية، يوضِّح
برافمان أنَّه يمكن اقتفاؤه حتى «الإجماع الرسمي للاجتماع القَبَلي».
٨٩ في الممارسات العربية، يحلُّها عادةً رؤساءُ يمثِّلون القبيلة كَكُل.
اتهامُ معاوية، المرفوع ضدَّ علي، بأنَّه مسئولٌ عن خرقِ
الملأ يمكن أن يطبَّق على مجموعةِ القادة الذين يمنحون الأمَّة
اتِّجاهًا مشترَكًا.
٩٠ ومع ذلك، لا بد أنَّ تنقيح رسالةِ عُمرَ يعودُ إلى العصر العباسي، وبصرف
النظر عن الآراء التي تعتنقها بشأن صياغة الشريعة الإسلامية،
السنَّة و
الإجماع و
القياس؛ فإن الأخير يستخدم يوميًّا في أيِّ نظامٍ قانوني،
ينبغي اقتفاؤها في أصولها العربية.
(١٣) تطوُّر السِّجل الحكومي … الوثائق الإدارية الأموية
يصمتُ التاريخ بشأنِ إن كان لمحمد نظامٌ، مهما يكُن بدائيًّا، لحِفظ الأوراق الرسمية.
وبينما كان هناك، وقتَ وفاته، بعضُ الارتباك بشأن قِطَع من مادةٍ للكتابة دُونت عليها
الآيات القرآنية، من غير المرجَّح تمامًا وجود أيِّ أرشيف. وقد لا يكون خارج السياق أن
نقارن ممارسةَ الأئمة المتوكِّليَّة وأمراء اليمن، الذين، حتى وقتٍ متأخِّر يعود إلى
ستينيَّات القرن العشرين، أوفدوا بعثةً بمذكِّرة مُخربَشة أو مُملاة أو عن طريق التأشير
على عريضةٍ مكتوبة بعبارةٍ مخربشة دون نَقْط. لم تحفظ نسخٌ، لكنَّ الأكثر أهميةً بكثير
أنَّ نُسَخ وثائقَ من قَبيل المعاهدات مع سلطاتٍ أجنبية لم تُحفظ في أيِّ نوعٍ من
الأرشيفات. نرى الأعمال تُمارس بهذا الشكل اليوم في غُرَف استقبالِ أصحاب السُّلطة في
الجزيرة العربية. وربما تكون الطريقة نفْسُها التي صرَّف بها النبيُّ شئونه. في وقتٍ
تالٍ، طلَبَ عليُّ بن أبي طالب من أنصاره أن يرفعوا له طلباتٍ مكتوبةً ليحفظوا وجوههم
من التسوُّل؛ ربما وقَّعها عليٌّ، على ما نظنُّ، بقراره.
في تأكيد شيوع الكتابة في صدر الإسلام، جمَعَ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي أدلةً
متناثِرة في أرشيفاتٍ موجودة.
٩١ من المعروفِ أنَّ عمرَ أنشأ
ديوانَ
قبائلِ العرب، وينبغي أن ترتبط به كتاباتُ أنسابِ القرن الإسلامي الأول. «كان تابوتٌ
لعمرَ بنِ الخطاب، فيه كلُّ عهدٍ بينه وبين أحَدٍ ممَّن عاهَدَه؛ فلَمْ يوجدْ فيه لأهلِ
مصر عهدٌ.»
٩٢ وكان يتَّصل ببيت عثمان «بيتٌ فيه قراطيس».
٩٣ ومن غير المعروف إنْ كانت القراطيس تضمُّ مراسلاتٍ ومعاهدات. وكما رأينا،
نُسَخ المعاهدات الداخلية الرئيسية في يثرب حتى سنة ٧ﻫ/٦٢٨م حفظها عليٌّ في غِمده. في
أيامِ محمد، ربما كانت الظروف تشبه تلك التي رأيناها في اليمن حتى ١٩٦٢م؛ وحيث إنَّه
لم
يكن هناك أرشيفٌ، كثيرًا ما وُجدت الوثائق المهمَّة للدولة في أيدي المسئولين السابقين
أو أُسَرهم.
ويعود الفضلُ إلى معاويةَ في إنشاءِ سِجِل، يسمَّى ديوان
الخاتم، واستمر حتى العصر العباسي. حين كان الخليفة يُصدِر مرسومًا أو
قرارًا يُرسل إلى الديوان المذكور ليسجَّل؛ وكان
يُغلق بالشمع ويُختم بخاتم المسئول عن الديوان ثم يُرسَل. عبد الملك الأموي
(٦٥-٨٦ﻫ/٦٨٥–٧٠٥م)، الذي كان لديه غرفةُ وثائق متصلة بالديوان، أمَرَ واليه على مصر
(حيث كان ورقُ البردي يُصنع) بأنْ يغيِّر الختمَ على الجانب الأيسر من صيغةٍ يونانية
إلى صيغةٍ عربية. في البداية، كان يُستخدم ختمٌ بلغتَين يونانية عربية، وبعد ذلك عربية
يونانية. وفي النهاية، تمَّ التخلِّي عن اليونانية في حُكم الخليفة هشام. من عصر عبد
الملك أيضًا، سجِّلت الأمور العامة بالعربية.
لقرنٍ تقريبًا من الحُكم الأموي، تُحفظ المراسلات وبعض المراسيم الرسمية، وتدمج في
التواريخ والأدب والمختارات الأدبية، وفي بعض الحالات في رسائلَ عن الخَرَاج. ولا يمكن
أن نعرف حتى الآن إنْ كان أيٌّ من هذه المواد، المقدَّمة بسلسلةٍ من
الإسناد أو المقتبَسة دون أيِّ إسناد، قد أُخذ في النهاية
من أرشيف. تعترف الرسائلُ المالية، التي جُمعت في العصر العباسي، صراحةً بأنَّ عمر بن
عبد العزيز وحده من بين الأمويين أسَّس سوابقَ قانونية (رغم أنَّها تستشهد بممارساتِ
معاوية). وكانت «رسالته المالية» موضوعَ دراسةٍ أولية لهاملتون جِب
Gibb، ولا تزال هناك صعوباتٌ لم تُحلَّ بشأنها.
٩٤
تبدأ رسالة عمرَ بتمهيدٍ مطوَّل من الاستشهاداتِ القرآنية، سنَدًا لبنودها؛ رغمَ
أنَّها لا تلمِّح إلى سُنَّة النبي، ويمكن اعتبار
أنها تذكُر ضمنيًّا في فقراتٍ معينة من القرآن استشهد بها، وتم الاستشهاد بمراسيم النبي
عن الصدقة والخمور. عمومًا، اهتمَّ عمرُ بالضرائب على
المسلمين، ومعتنقي الإسلام، والذِّمِّيين. ويبدو أنَّ لوائحَ استخدام الحِمى (المراعي المحمية)، مقدَّسة أو قَبَلية، عدَّلت
الطبيعة الأساسية لهذه المؤسسة. إذا اعتبر عمر الثاني، كما هو محتمَل، بعضَ أسلافه
الأمويين سُنَّة جَور وتجنَّب الإشارة إليهم؛ فقد
يكون من اللافت أنَّ كاتب مرثيةِ والي معاوية على العراق، زياد بن أبيه، يُشيد بمعرفته
بالعُرف ويقول:
لم يعرف الناسُ مذ وُوريتَ سُنَّتهم
٩٥
(١٤) الملخص
راجع هذا الفصل وحاول أن يقدم تقييمًا نقديًّا للخطابة والوثائق المكتوبة الجاهلية
والإسلامية، وخاصة المرتبطة ببعض التطورات الحاسمة في الشريعة الإسلامية. وحيث إنها
تتجسد في الأدب في فترة تالية، يثار السؤال بشأن صحتها، وتتراوح من الأصيلة بوضوح إلى
«المعدَّلة» والمشكوك فيها، والزائفة أو المزيفة بشكلٍ ملموس.
لم يُقِم الإسلامُ قطيعةً مع الجاهلية بالمعنى
الثقافي الواسع. وحتى في المجال الديني، كان معتقده الأساسي، وحدانية الله، مفهومًا
معروفًا في شبه الجزيرة العربية. وحيث إنَّ بياناتٍ حيوية من النقوش الجاهلية، تفسَّر
الآن بشكلٍ علمي، أصبحت متوفرة؛ تصبح الاستمرارية دون انقطاع مع القرون السابقة لمحمد
أكثرَ وضوحًا. تُلقي المعرفةُ الأكثر دِقةً بشِبه الجزيرة العربية الضوءَ وتفسِّر ما
بدا قبلَ ذلك غامضًا وغريبًا من العصور القديمة؛ وينطبق هذا على اللغة كما ينطبق على
الثقافة. وعلى هذه الخلفية الجديدة نسبيًّا يصبح من الأسهل وضعُ هذه الخطب والوثائق
المذكورة في منظورها الصحيح، وفَهْم المؤسسات التي كانت من تجلياتها.
حين امتدَّ الدين العربي البسيط للإسلام البِكر خارجَ حدود شبه الجزيرة العربية؛
تعرَّض لمجموعةِ مؤثرات تُحسُّ باهتةً نسبيًّا في الحجاز. حدَثَ تشكيلُ الإسلام، كما
هو
عليه اليوم، في فترةٍ تمتدُّ من الجزء الأخير من القرن الأول/السابع إلى القرنين
الثاني/الثامن والثالث/التاسع. بجانب القرآن، المادة الأساسية في التشكيل، كان
الحديث، الذي دُوِّن من مرحلةٍ مبكِّرة جدًّا،
وكانت العناصر الشفهية والمكتوبة التي ناقشناها جزءًا منه. وبصرف النظر عن الاعتبارات
المذهبية، كانت هناك دوافعُ ماديةٌ واجتماعية وسياسية للتلاعُب بالوثائق الموجودة،
وأحيانًا تزويرٌ صريح.
وقد أُشير إلى أنَّ الرسائل الموجَّهة إلى الملوك الأجانب والمنسوبة للنبي؛ ابتكرت
لمواجهة الجدل المسيحي ضد الإسلام. ربما زيَّفَ المسيحيون وغيرهم وثائق؛ ليضمنوا
لأنفُسهم مزايا معيَّنة. ولا يمكن أن نعرف متى بدأ، على سبيل المثال، «تزييف» معاهدة
عبد المطلب وخزاعة، لكننا نميل إلى احتمالِ أنَّه قد يكون من عمل العباسيين في
الحُمَيمة بين عَمَّان والعقبة، قُرب تشعُّب الطرف الشمالي للطريق العربية الرئيسية.
تنقيح تعليمات عُمرَ لإجراءات المحاكم، تبدو وكأنَّها من عمل علماءَ يوضِّحون نظريةً
قضائية على أساس المادة العربية. الإقحام الخاص بالمساواة هنا وهناك، نظنُّ أنه بتأثير
طبقةِ الموالي، وخاصة الشعوبية.
بالتحول إلى معايير اللغة والأسلوب، يمكن أن تتميَّز مجموعةُ الرسائل والمعاهدات في
حياة النبي بأنَّها موجَزة عمومًا، ومقتضَبة وواضحة؛ إنها عربيةُ العرب. الرسائل
الرسمية في الإدارة الأموية، من الناحية الأخرى، تبدو أكثرَ مرونةً في الأسلوب وأبسطَ
في الأداء؛ إنها، على أيَّة حال، مختلفةٌ اختلافًا واضحًا.
حين يقال كلُّ ما ينبغي أن يقال بشأن التلاعب بالوثائق المبكِّرة، يبقى أنَّ هناك
قدرًا كبيرًا جدًّا، ممَّا يبدو مادةً مبكِّرة أصيلة. وهناك مادة أصيلة في وثائق
«مزيَّفة»، كافيةٌ بالتأكيد للمساهمة بشكلٍ مقبول في تاريخ صدر الإسلام وأدبه.