الفصل الرابع
بدايات أدب النثر العربي … جنس الرسائل
ج. د. لاثام، جامعة إدنبرة
في مجال النثر الفني نربط أساسًا الكلمة المنطوقة لا المكتوبة بالأمويين. في مختلف
قطاعات
الحياة الأموية العامة، كان من الضروري لرجل، واعظًا أو حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا، أن
يعبِّر بلغةٍ واضحة قوية عن الآراء التي يأمُر بها أو يوصي بها. كانت الخطابة (لا الكتابة) أداةَ السياسات
العملية. وطبيعتها الأساسية معروفةٌ لنا، حتى لو لم نقبل بأصالة كلِّ قِطَع الجنس الأدبي
التي تُنسب للعصر. يمكننا، بإيجازٍ، تأكيد أنَّ القادة السياسيين والدينيين في العصر
الأموي، ضربوا، بصرف النظر عن قناعتهم أو انتمائهم، على وتَرِ البلاغة الأصيلة القوية،
وقدَّموا المادةَ الخام لتطور أدبِ النثر الفني. لكنْ، بينما غرس الوُعَّاظ والحكَّام
والقادة ممارسةَ خطابةِ الوعظ والبلاغة الحربية؛ كان اللسان العربي يتعرَّض لعملية نموٍّ
في
اتجاهٍ مختلف، ويتوسع، على أيدي طبقة الكُتَّاب، باتجاهِ لغةِ تأليفِ النثر المكتوب الملائم
لاحتياجات البلاط والإدارة.
من الصعب التأكُّد من نقطةِ البداية بدِقة، لكنْ من البديهي أنَّ إحلال عبد الملك
للعربية
محلَّ اليونانية والفارسية في مكاتب الإمبراطورية من ٧٨ﻫ/٦٩٧م فصاعدًا احتوى على بذور
كلِّ
التطورات المستقبلية في مجال أدب الكتَّاب العرب. وكان ديوان
الرسائل الأرضَ الخصبة، التي نمتْ فيها هذه البذور وتأصَّلت وازدهرت؛ حيث
يستقبل الخليفة، من بداية المؤسَّسة، ويسمع كلَّ المراسلات، ويقدِّم الملاحظات المناسبة.
وعلى كاتبه أن يكتب أيَّةَ رسائل يراها ضروريةً، ويعدَّ
الوثائق الأخرى التي قد تتطلَّبها الظروف. كثيرًا ما يكون كتَبَةُ ديوانِ الرسائل، قادمين
—
كما كانت الحال — من صفوفِ الذِّمِّيين ومعتنقي الإسلام، ملمِّين بالمشاكل الإقليمية
للإمبراطورية بطريقةٍ لا يعرفها ساداتهم. ومن السهل أن نتخيَّل كيف كان للناسخ، مهما
تكُن
فطنته أو دهاؤه، وكلمته مسموعة عند الخليفة، أن ينقل الموقفَ الصارم لمكتبه، ويقوم —
بالابتكار أو الإيحاء — بوظيفة المستشار.
كان وضع طبَقَة الكتَبَة في الفترة التي استهلَّها الخليفة الأموي هشام (حكَمَ:
١٠٥–١٢٥ﻫ/٧٢٤–٧٤٣م) في أعلى الدرجات المفضَّلة. دعَت الإمبراطورية إلى تبنِّي سياساتٍ
تهدف
إلى المركزية وزيادة الكفاءة الإدارية. لهذه المهمَّة حمَلَ هشام — الحاكم الذي قُدِّر
له
أن يكمل تعريب الدواوين، المهمَّة التي بدأها والِدُه —
على عاتقه بقوةِ وضع الأسس الحقيقية، التي ارتفع عليها صرْحُ الإدارة العباسية. من منظورنا
الحالي، الخطوةُ الأبرز التي قام بها الخليفة العاشر، هي التي يمكن أن نسمِّيها بشكلٍ
مناسب
«برنامجه للترجمة». مدفوعًا، سواءٌ بشكٍّ عفويٍّ أو متعمَّد بمهارةٍ من كاتبه، إلى الحاجة
للاستفادة من تراث الحضارات الأقدم، التي كانت حينذاك في فلك الإسلام. جعَلَ الخليفةُ
مهمَّته التعرف على جوانب الحضارات السابقة التي بدتْ أكثرَ ملاءمةً لاحتياجاته. وخاصَّة
يبدو أنه اهتمَّ كثيرًا بتمويل الخبرة الإدارية القديمة التي قد يحتاج إليها. لدينا شهادة
المسعودي (ت: ٣٤٥-٣٤٦ﻫ/٩٥٦م) بأنه رأى تاريخَ ملوك الفُرس وأعمالًا فارسية أخرى تُرجمت
إلى
العربية لهشام. وإضافةً إلى ذلك، يخبرنا ابن النديم (القرن الرابع/العاشر) بأنَّ كاتب
هذا
الخليفة، أبا العلاء سالم، ترجَمَ — وكان لديه آخرون يترجمون له — ما يقول «الفهرست»
إنها
«رسائل أرسطو إلى الإسكندر».
في الماضي، تمَّ تجاهُل مادةِ ابنِ النديم عن سالم، بالمسار العام للمُستعرِبين والكتَّاب
عن تاريخ الأدب العربي. كان جب
Gibb استثناءً بارزًا
للقاعدة؛ فقد أدرَكَ ببصيرته المعتادة أهميةَ سالم، وخاطَرَ بفرضيَّة أنَّ تأثير ترجماته
ترَكَ أثرًا على رسائل خليفته، عبد الحميد، آخِر كاتبٍ أساسي في ديوان الرسائل الأموي.
١ استقرَّ الأمر حتى ١٩٦٧م، حين نشَرَ ماريو جرينتشي
Grignaschi بحثَين يشكِّلان حالةً مبرهَنة جيدًا
ومقنِعة عمومًا؛ لمراجعة كلِّ الأفكار السابقة عن أصول أدب النثر العربي الذي يسمَّى
كذلك
بشكلٍ حقيقي. مشاركًا أصلًا في اقتفاء تاريخ «
سياست نامه»
العربي الوحيد — إن تسامحنا في استخدام اسمٍ فارسي مناسب — معروف للعالَم الغربي في العصور
الوسطى، بمعنى
سر الأسرار، أو
Secretum secretorum. مضى جرينتشي
٢ أبعدَ بكثيرٍ من المصدر المباشِر لإلهام
سر
الأسرار، وقادَتْه مساراتُ تدقيقه إلى ما أقنعتْه أدلَّتُه بأنَّه مصدرٌ
وأصلٌ لعملية تحوُّلٍ طويلة. وكان هذا خطابًا بعنوان «
كتاب في
السياسة العامية مفصلًا».
من النسخ المتنوعة للسياسة المعروفة لنا على نطاق واسع،
تشكِّل نسختان جزءًا من مجموعةٍ من ستة عشر بندًا، يُزعم أنَّها مستمدَّة من مجموعةِ
مراسلات بين أرسطو والإسكندر الأكبر. وهذه المجموعة التي تحتوى عليها مخطوطتان من أوائل
القرن الرابع عشر محفوظةٌ في إسطنبول والاثنتان منسوختان عن مجموعةِ مراسلات «أرسطو»
التي
تعود إلى ٤٧١ﻫ/١٠٧٨م، ولا تحمل عنوانًا خاصًّا، وليست هناك إشارةٌ إلى الشخص الذي يفترض
بالضرورة أنَّه نقَلَ مادةَ الموضوع إلى العربية. وقاد الفحص الطويل والدقيق للشكل
والمحتوى، بناء على معاييرَ بحثيةٍ صارمة، جرينتشي إلى استنتاجَين أساسيَّين: أحدهما
أنَّ
هذه الكتابات ليست، كما قد نفترض بسهولةٍ شديدة، مجموعةً مباشِرة لكتاباتٍ عربية منسوبة
لأرسطو، لكنها عملٌ من وحي الخيال لمراسلات هيلينية تصرَّف فيها مترجِمٌ عربي من العصر
الأموي. وكان الاستنتاج الثاني أنَّ هناك أسبابًا مقنِعةً جدًّا لربط هذه الترجمة والتصرف
بأبي العلاء سالم. ومن المعتاد، أن يكون من الصعب، في تقديم التاريخ العام للأدب، تبريرُ
الاهتمام بتفاصيل أطروحاتٍ لم يطرحْها بدِقة ويناقشها ويقبلها علماءُ أكْفَاء لتقديم
حُكمٍ
مسبَّب، لكنَّ الاستنتاجَين، في حالةِ جرينتشي، حاسمان جدًّا لغرضنا؛ ممَّا يجعل النظر
إليهما بدِقة ضروريًّا، لأننا إذا قبلناهما — والكثير من الحُجج التي يستنبطها لدعمها،
يبدو
من الصعب دَحْضها — ينبغي علينا استبعاد كلِّ التعليقات السابقة عن بدايات تراثِ النثر
الفني المكتوب بالعربية. باختصار، مهما تكُن المكانة التي مُنحت لابن المقفع (١٠٢ﻫ
تقريبًا–١٣٩ﻫ/٧٢٠–٧٥٦م) في السجلات الأدبية للعالم العربي؛ فإنَّ سمعته أستاذًا للنثر
العربي ونجمًا لمدرسة الكتابة لكتَّاب النثر الفني، لا ينبغي السماح بأنْ يسرق كلَّ الأضواء
لجنسٍ من الكتابة، يعود تاريخه إلى ما قبل عبد الحميد الكاتب، ويرجع إلى زمن حُكم هشام
(١٠٥–١٢٥ﻫ/٧٢٤–٧٤٣م)، وابن المقفع لا يزال في فترةِ تدرُّبه الأدبي. هكذا ينبغي أن يكون
موقفنا، إذا كان من الممكن إثبات الحالة التي يعتمد عليها جرينتشي.
قبل أن نمضي أكثرَ، نحتاج إلى أن نذكُر محتوى العمل الذي درَسَه جرينتشي. العناوين
التي
توضَع للموادِّ في مخطوطتَي إسطنبول على النحو التالي: (١) «تشجيع دراسةِ الفلسفة»، (٢)
«اقتراح أرسطو بأن يصبح معلم الإسكندر»، (٣) «الرد على الاقتراح»، (٤) «رسالة عن الأخلاق»،
(٥) «نصح أرسطو للإسكندر»، (٦) «تهنئة [أرسطو] على فتح [الإسكندر] لسيثيا، بلد في الغرب»،
(٧) «تهنئة على فتح أنفيسن، أرض بابل»، (٨) «السياسة» (انظر ما سبق)، (٩) «طلب الإسكندر
لنصيحة عامة بشأن إدارة المملكة»، (١٠) «الرد على التهنئة على فتح بلاد فارس»، (١١) «طلب
[الإسكندر] النصيحة بشأن إعدام أشراف الفرس»، (١٢) «الرد ضد التدابير»، (١٣) «التهنئة
على
فتح أقاليم خراسان»، (١٤) «[الرسالة] الذهبية عن طبيعة العالم، إنَّها أبدع من القصر
الذهبي
الذي شاهده [الإسكندر] في الهند»، (١٥) «رسالة توسط»، (١٦) «خطب جنائزية مختارة».
من هذه القطع الست عشرة التي تمثل ١٠٩ صفحة في مخطوطة، وتمثل ١٢٢ في الأخرى؛ تمثِّل
المواد ٣، ٥، ٨، ٩، ١٠، ١٣ ثُلثي المخطوطة كلِّها. مقدمة المجموعة قصيرة — تتكون، في
عرض
جرينتشي، من ثلاث فقرات — وعنوانها «قسم من خبر الإسكندر يحكي كيف تبوَّأ المملكة.» وتصدر
القِطع المفردة بتعليقاتٍ تفسيرية.
من كلِّ المواد في القائمة، الأكثر أهمية إلى حدٍّ بعيد من منظورنا «السياسة»؛ لعدَّة
أسبابٍ ليس أقلُّها أنَّها تقدِّم، في غياب شهادةٍ مباشِرة غير قابلة للدحض، دليلًا دامغًا
على تاريخها ونسبتها. كما يوحي عنوانها لدينا، رسالة تقدِّم توجيهًا سياسيًّا للحاكم،
ظاهريًّا نصيحة من أرسطو للإسكندر. إنَّ الجزء الأكبر — بدِقة ثلاثة أرباع أو نحو ذلك
تقريبًا — مستمدٌّ من أصلٍ يوناني، مهما يكُن التصرُّف الذي أدخل عليه، يبدو أمرًا لا
جدال
فيه. المذهل خاصة في هذا الصدد، دمجُ المفاهيم الهرمسية في سياقَين متميزَين. هذه المبادئ
الأساسية، التي قد نلاحظها بشكلٍ عابر، قد تكون أقدمَ قِطعٍ معروفة من المُتون الهرمسية
العربية، إذا سلَّمنا بتاريخ «السياسة» ونقائها. ليكُن ما يكون. في السياق الحالي، الجزء
الأكثر أهمية وتشويقًا من «السياسة»، هو الذي يوحي، بسبب المحتوى والمعالجة، بقوة بأنَّ
العمل لكاتبٍ عربي من العصر الأموي يعالج موقفًا سياسيًّا معاصرًا في عهد هشام.
في المجالات الإدارية والسياسية تتماشى النصائح التي تحثُّ الحاكم بالتأكيد مع روح
العصر
الأموي وممارساته. بصوت أرستقراطي قاطع، يتحدَّث المؤلف عن الموالي والعبيد والرجال ذوي
الأصول الوضيعة؛ يُنكر مواقفَ الثقة في الموالي والعبيد ويتجنَّب تجنيد الموالي والرجال
مجهولي الأصل في الخدمة العسكرية. وبالنسبة للقادة و«العمَّال»، من الناحية الأخرى، ينبغي للحاكم أن يسمح لهم بمسئوليةٍ مطلقة
لتعيين مساعديهم؛ إذا لم يشأ أن يسمح لهم بحرية العمل في هذه المسألة، فعليه أن يعفيهم
من
مهامِّهم. الأكثر حسمًا من النبرة العامة للوصايا السابقة، غياب أيِّ ذِكرٍ للوزير في التدرج الهَرَمي، الذي يعتبر مستشارنا أنَّ حياة
الحاكم وأمن إمبراطوريته يعتمدان عليه. حيث نتوقع أن يكون الوزير؛ نجِدُ الحاجب بدلًا منه، أو
بترجمة فضفاضة الياور أو مدير القصر. أهمية الحاجب في
الإدارة الأموية معروفة جيدًا، وقد نضيف أنها انعكستْ بشكلٍ مُذهِل في تاريخٍ لاحق في
إسبانيا الإسلامية؛ حيث كان لقبه أعلى دائمًا من الوزراء الذين خدموا الخلفاء الأمويين
في
قرطبة بوصفهم هيئةً استشارية خالصة. في رسالتنا، إذن، الوزير ليس رئيسَ وزراء الملك أو وزيرًا مطلَق الصلاحية؛ إنه على العكس،
ليس إلا واحدًا من سبعةٍ يُلقي عليهم المؤلف بمسئوليةِ مندوب الحاكم لأقسام إدارته.
العبارة: «يعيَّن لكلِّ قِسم وزيرًا أو ناظرًا.» في رأيي، ذات أهميةٍ خاصة؛ لأنها على ما يبدو تتضمَّن
أنَّ المعنى التقني للوزير والوظائف الدقيقة للوزارة، لم تكن قد استقرَّت. ومن المؤكَّد
أنَّ أعدادهم لا تزال مسألةً خاضعة للجدل؛ حيث إنَّ الكاتب مستعدٌّ للدِّفاع عن سبعةٍ
في
وجه المعارضة. من السياق يتَّضح دورهم المقترح تمامًا: عليهم أن يُشرِفوا على أتباعهم
في
فرع الإدارة الذي عُيِّنوا فيه وبشكلٍ فردي، لكن ليس قَط على مستوى المؤسسات، لتقديم
النُّصح والمشورة للحاكم.
وفي نصائحه العسكرية، كما في نصائحه المدنية، يقدِّم «أرسطو» نصيحةً بمذاقِ نصيحةٍ
من أحد
أفراد الحاشية الأموية للخليفة. العرف القديم الخاص بتحدي المُبارِزين، كان له موضعٌ في طريقته لشئون الحرب. ونظام المعركة الذي
يعرفه في وطنه، هو تشكيل الخطوط، لكنْ ما قد يكون أكثر أهمية، أنه يربط استخدام الأسرابِ
بوصفها وحداتٍ تكتيكيةً بالأتراك. وبما أنَّ من المسلَّم به أنَّ الخليفة الأموي مروان
الثاني (١٢٧–١٣٢ﻫ/٧٤٤–٧٥٠م) هو الذي تخلَّى عن تشكيل الخطِّ العربي القديم لصالح السرب؛
يكون من الفرضيات المبرَّرة أن رسالتنا، إذا قبلت بأنها أمويَّة، سابقةٌ على إصلاح مروان.
وهو تدبير استلهمه، بكلِّ الاحتمالات، من خبرته الطويلة بالتكتيكات التركية على حدود
أذربيجان. وتصبح الفرضية أكثرَ معقوليةً إذا وضعنا في الاعتبار، أولًا: الأهميةَ الواضحة
للسِّرب في الرسالة الموجَّهة باسم مروان إلى وليِّ العهد عبد الله بقلم عبد الحميد الكاتب
(الذي نعرف عنه أكثرَ بعد قليل). وثانيًا: الموقف التاريخي الذي يبدو أنَّ نصائح مؤلفنا
تعكسه. لأسبابٍ، تظهر بعد ذلك، تتطلَّب النقطةُ الثانية من هاتَين النقطتَين — الموقف
التاريخي — إيضاحًا. من الصعب أن نصدِّق أنَّ من الصدفة أنَّ على «أرسطو» أن ينصح
«الإسكندر» في سياسةٍ يتم تبنِّيها تجاهَ الخراسانيين والسُّوقديانيين والأتراك، وخاصَّة
حيث إنَّ الظروف التي ترتبط بها معالجته لهذه السياسات تستدعي بشكلٍ مذهل جدًّا الوضعَ
الحقيقي للدولة في الخلافة الشرقية، في الجزء الأخير من عهد هشام. يظهر الخراسانيون شعبًا
قويًّا يحتمل أن يكون صديقًا حازمًا أو عدوًّا عنيدًا، وينبغي كسبه بالتكتيك والدبلوماسية.
ينبغي على «الإسكندر» أن يطلب منهم إيفادَ بعثةٍ دبلوماسية إليه مختارة من صفوف نُخْبَتهم،
وأنَّ يرسل وفدًا إلى قادتهم يتودَّد إليهم في بيوتهم وضِياعهم. وإذا كان تفسيرُ جرينتشي
لبعض التفاصيل، في ضوءِ الأبحاث الحديثة عن أصولِ حركة العباسيين، محلَّ شك؛ يبدو، من
الناحية الأخرى، أنَّه لا يوجد سببٌ جيِّد لرفضِ اقتراحه بأن رسالتنا كُتبت وخراسان تشكِّل مشكلةً خطيرة للسُّلطة المركزية.
الأطروحة العامة لجرينتشي، بأنَّ مؤلف الرسالة يقدِّم نصيحةً مبطَّنة لهشام، تبدو
مستساغة
تمامًا بمجرَّد أن نقرأ ما يقال بشأن السوقديانيين والأتراك. بمجرد أن يكون «الإسكندر»
في
خراسان، عليه أن يتوجَّه إلى سوقديان ويعامل شعبها بمنتهى اللُّطف. وينبغي أن يكون اهتمامه
الأول تخفيفَ أعبائهم، ومحو الظُّلم القديم من ذاكرتهم ومنحهم امتيازاتٍ خاصَّة. وينبغي
بعد
ذلك، أن يجعل مهمَّته الحِفاظ على قوة حدودهم. إنَّ ضمانَ وضعه من السوقديانيين حيوي؛
لأنه
سوف يطلب خبرتهم العسكرية وأيضًا دعمهم قواتِ الجبهة في الصراع الوشيك مع الأتراك؛ الصراع
الذي يجعله يكسب، ضمن أشياءَ أخرى، النوايا الطيِّبة للخراسانيين. تخفِّف المساحة والاهتمام
المكرَّسان لخطط هزيمةِ الأتراك ودحرهم؛ القلقَ الأكثر إلحاحًا بالنسبة للمؤلف؛ فالأتراك
بالنسبة له العدو اللدود.
حين نتأمَّل المشهد عن بُعد ونفحص الصورة كَكُل؛ يكون المشهد، بشكلٍ غير شائع، شبيهًا
بما
واجه هشام قبل هزيمة الترك في ١١٩ﻫ/٧٣٧م. حقَّقت القبائل التركية بقيادة الخان سو لو
(٧١٦–٧٣٨ ميلادية) الهيمنةَ على الأتراك الغربيين، وخاضوا — وقد استقروا كقوةٍ مستقلَّة
—
صراعاتٍ مع العرب في بلاد ما وراء النهر لمدَّة عشرين عامًا تقريبًا. بحلول عام ١٠٩ﻫ/٧٢٧م،
صار التهديد خطيرًا جدًّا، حتى إنَّ أشرسَ السُّلميَّ أرسل إلى خراسان لاتخاذ التدابير
المناسِبة لمواجهته. وكانت حركته الأُولى، محاولةً لكسْبِ السوقديانيين بدعوتهم لاعتناق
الإسلام مقابل إعفائهم من الجِزية. وبعدَ أنْ أدرك أنَّ
هذا الإجراء غيرُ عملي، رَجعَ عن كلمته بتهوُّر ممَّا أدى إلى ثوراتٍ شعبية لم تشمل
السوقديانيين فقط، بل شملت أيضًا العربَ الذين فضلوا علاقات أفضل معهم. قُمع المتمرِّدون
بسهولة، لكنَّ المسألة لم تنتهِ هناك؛ لأنَّ توسُّلهم لمساعدة الترك أدَّت إلى مواجهةٍ
بين
أشرسَ والترك وفيها غُلِب أشرسُ. ولا بد أنَّ استمالة السوقديانيين بقيتْ نقطةً في السياسة
الأموية؛ حيث أُنصِف بعدَ الهزيمة النهائية والحاسمة للترك حتى السوقديانيون الذين انشقُّوا
وقاتَلُوا إلى جانبهم على أيدي نصر بن سيَّار. كسبت العمليات ضد الترك النوايا الطيِّبة
للخراسانيين، وهو أمرٌ مفهوم على أكثرَ من جانب؛ لأن دهقان خراسان كانت له مصلحةٌ ثابتة
في
الحفاظ على رجال القبائل العربية في الميدان؛ ولأنَّ خراسان كانت في حاجةٍ إلى الحماية
من
تصاعُد تهديد الترك، وهذا ما أدركه هشام جيدًا حين نقَلَ، بعد نزوح حوالي ٢٠٠٠٠ من رجال
القبائل إلى المرو من البصرة والكوفة، رجالَ القبائل شِبه المستقرِّين إلى المرو في مواضعَ
متقدمةٍ في مناطق العمليات.
إذا كان يمكن، بناءً على الأدلة المقدَّمة، أن نعترف بأنَّ «السياسة» عملٌ لمؤلفٍ
أموي
عاش وكتب في عهد هشام؛ لا يبقى إلا أن نرجع إلى تحديد جرينتشي للكاتب. كما شرحنا، لدينا
دليلٌ خارجي، أيْ شهادة ابن النديم، بأنَّ سالمًا، كاتب
هشام، ترجَمَ أو كان مسئولًا عن ترجمةِ مادةٍ أدبية توصف بأنَّها رسائلُ من أرسطو إلى
الإسكندر. وحيث إنَّ الوصف العام ينطبق على رسائلنا الستَّ عشْرة، التي يقال في الديباجة
إنَّها قِطعٌ منتقاة؛ ولذا قد تكون مأخوذةً من عملٍ أكبر؛ فليست هناك حاجةٌ بنا إلى أن
ننظُر أبعدَ من سالم. وكما يرى جرينتشي صراحةً أو ضمنيًّا، من غيره بخلفيته الثقافية
يمكن
أن يوضع في مكانٍ رفيع ليقترح إصلاحاتٍ إداريةً، ويورِّط نفسه في جدلٍ سياسي؟
نتيجةَ الحاجة الواضحة لعرضٍ واضح لحُججٍ خاصة بتحديد التاريخ والمؤلف؛ تركَّز الانتباهُ
بشكلٍ ضيِّق، ليس فقط على رسالةٍ واحدة، بل بالكاد على رُبعها. وحان الوقتُ لنظرةٍ أوسع،
أولًا على «السياسة» ثم على المجموعة كَكُل، وفي أثناء ذلك تدوين ملاحظةٍ دقيقة عن مصادرِ
إلهامها كما حدَّدها جرينتشي. الجزء الذي ناقشناه من «السياسة» ليس مميِّزًا للكلِّ،
وأقل
تمثيلًا بكثير للمجموعة التي ينتمي إليها. والقارئ المطَّلِع يعرف بسهولةٍ أنه مستمِدٌّ
من
أطروحةٍ سياسية يونانية. بعض الأجزاء بالعربية، كما هي الآن، من عمَلِ المترجِم، بينما
الأخرى تصرُّفٌ في الأصل. واللمسات الإيرانية المتكرِّرة مهمَّة جدًّا. وبصرف النظر عن
الحِكَم والأخلاق والتأملات المستمدَّة بوضوحٍ من الأدب الفارسي القديم، تأخذ بعض الأحداث
في حياة الإسكندر مَلمَحًا ساسانيًّا إلى حدٍّ ما. وهكذا، على سبيل المثال، قائمة التُّهم
التي وجَّهها رسول الإسكندر لداريوس Darius (ت: ٣٣٠ قبل
الميلاد) بها رائحةُ التُّهم التي وجَّهها ابن كسرى برويز لأبيه بعد أكثرَ من ثمانية
قرون.
مرةً أخرى، بوريوس Porus، الملك الهندي الذي هزَمَه
الإسكندر في ٣٢٦ق.م. يُتَّهم بقتل أصدقائه الحميمين. التُّهمة نفسها التي حُكِم بها على
شيرويه الساساني. وليس هذا كلُّ شيء؛ عددٌ من الفقرات، على ما يبدو، تضع واحدةً في الاعتبار
عن وصية الملك أردشير لابنه شابور، ما يعرف ﺑ «وصيَّة أردشير». أخيرًا، تجدُر الإشارة
إلى
أنَّ «أرسطو» جعَلَ «الإسكندر» يدخُل بعض المؤسسات المعروفة في إيران قبل الإسلام. على
محاكم عدالته، ينبغي أن يجلس رجالٌ معرفون بتقواهم وعدم اهتمامهم بالأشياء الدنيوية،
ومن
خلال قضاة بهذا الشكل، يرفع مظالم الشعب. وينبغي أن يتجنَّب الظهور مع العامة، بمعنى
أنه
ينبغي ألَّا يظهر أمام جموع رعاياه إلا في بداية السنة الجديدة، وإن كان عليه أن يجلس
يوميًّا في بلاط عدالته. وفي جيشه، ينبغي أن يتكوَّن التدرُّج الهرمي من سبعةِ صفوف،
«وهي
ممارسةٌ امتدحها الفُرس كثيرًا». بينما من الصحيح أنَّ كلَّ ما أوصى به «أرسطو» ليس
مستمدًّا من ممارسةٍ ساسانية معروفة أو حتى يُنسب إلى الفرس؛ فإنَّ التأثيرَ الذي يُوجِّه
قلَمَ المؤلف واضحٌ بما يكفي. يدفع الأمر أيضًا إلى السؤال: ماذا كانت خلفيَّة الأخير؟
هنا
أكثر ما يمكن أن نقوله: إنه إذا حدِّد بشكل صحيح أنَّه أبو العلاء سالم؛ فمن المرجَّح
تمامًا أنَّ أصوله فارسية؛ لأننا نعرف بشكلٍ مؤكَّد أنَّ كاتب هشام كان مولى.
القدْرُ غيرُ المتناسب من المساحة الذي كرَّسه جرينتشي، لأسباب صحيحة وواضحة، «للسياسة»
ينبغي ألَّا يحجب حقيقةَ أنه جعَلَنا نرى من خلالها المجموعةَ التي تنتمي إليها؛ فقد
جادل
بعناية بأنَّ الرسائل الستَّ عشْرة التي نتناولها لا تمثِّل ببساطة ونقاء مجموعةً من
الأعمال العربية المنسوبة لأرسطو، لكنها تشكِّل بالأحرى جزءًا من مجموعةٍ أدبية من أواخر
العصور القديمة، تتركَّز حول مسيرةِ الإسكندر وشخصيته. تتطلَّب معرفةَ حقيقةِ هذه المجموعة
الأدبية كلمةَ توضيح أو اثنتَين من أجل مَن لا درايةَ لهم بها.
كما هي الحال مع معظم عمالقة التاريخ، نشأتْ مجموعةُ خرافات حول الإسكندر ومآثره
المذهلة.
والخرافات تنتشر، توكِّد الشعوب المختلفة على جوانبَ مختلفةٍ لحياة الفاتح وشخصيته لأغراض
مختلفة. في عملية الحكي وإعادة الحكي والترجمة إلى الكثير من اللغات، اكتسبت القصص المروية
عنه تأكيداتٍ وتفسيراتٍ جديدةً، وأدَّت إلى نشأةِ ما نسمِّيه الآن قصص الإسكندر
Alexander Romances. ظهرت القصة الأُولى، الشكل الأصلي
الذي لم يعُد موجودًا، سنة ٢٠٠ قبل الميلاد تقريبًا بكتابةٍ مصرية هيلينية باليونانية.
وتمَّ التوسُّع في الملحمة الشعبية التي نشأت بهذه الطريقة وبلورتها، ربما في القرن الثالث
الميلادي، في رواية يونانية. وبشكلٍ مستحيل تمامًا نُسبت هذه الرواية إلى كاليستينيس
Callisthenes، المؤرخ الشخصي للإسكندر، الذي أُعدم على
يد سيده بسبب الخيانة سنة ٣٢٧ق.م. وبسبب نسبتها له تُوصف غالبًا بالمنسوبةِ خطأً
لكاليستينيس. في أبحاث جرينتشي، في رسائلنا العربية تلعب الروايةُ المنسوبة خطأً
لكاليستينيس دورًا حيويًّا؛ إنَّها الشاهد الأساسي في قضيته بأنَّ المجموعة مستمدَّة
من قصة
الإسكندر اليوناني في شكلِ الرسائل، التي يبدو أنها بقلم أحد الأتباع المتأخِّرين للهرمسية
حوالي منتصف القرن السادس الميلادي. وليس هنا الموضع المناسب لتلخيصِ، ناهيكَ عن توضيح،
الحُجج المعقَّدة المسهبة — بعضها مستساغٌ جدًّا، وبعضها الآخر أقلُّ استساغةً — التي
أوردها دِفاعًا عن قضيته. ويكفي القولُ إنه، حتى إذا كان تسليمه بأنَّ كلَّ الرسائل مستمدَّة بالكامل من هذه القصة المفترَضة اتَّضح في
سياقٍ مناسب أنَّه لا يمكن الدِّفاع عنه؛ فإنَّ أطروحته، في هذه المرحلة على الأقلِّ،
من
المؤكَّد أنَّها تستحقُّ الشكَّ؛ حيث يُطرَح أيُّ شك. وهذه المسألة على أيَّة حالٍ، من
منظورنا، أقلُّ أهميةً بكثير من تحديد تاريخ ولو رسالة
واحدة. ويمكن، كما رأينا، القيامُ بهذا بكثيرٍ من الثقة كما نأمُل بما نعرفه
حاليًّا.
إذا استطعنا أن نقبل أنَّ «السياسة» ترجمةٌ أموية لأصلٍ هيليني تم التصرُّف فيه،
يمكن
التأكَّد بشكلٍ معقول، على خلفيَّة التشابه النوعي، أنَّ ثُلثَي المجموعة — بالمساحة
التي
تشغلها الرسائل لا عددها — يقع في الفئة نفسها. ثمَّة سمةٌ مميزة في هذا الصَّدد، وهي
استخدام الاقتباسات الهوميرية المزيَّفة المستعارة، طبقًا لكلِّ الشواهد، من جنسٍ أدبي
يميِّز أواخر العصر الهيليني. ومسألةُ أنَّ هذه الاقتباسات لا توجد في المجموعة كلِّها،
ليست — طبقًا لرأي جرينتشي — بالأهمية التي قد نفترضها؛ حيث إنَّ كاتبنا العربي لا يسير
على
وتيرةٍ واحدة دائمًا. وبشكلٍ أكثرَ تحديدًا، هناك دليلٌ على أنه يقتبس أحيانًا فقراتٍ
طويلةً من أصلٍ بحذافيره، وفي أخرى يقدِّم اختصاراتٍ مهمَّة. ويظهر هذا كثيرًا بالفحص
الدقيق للرسالة «الذهبية» (البند ١٤ سابقًا). خلاصة بيري كوزمو (دي موندو) أرسطيةٌ زائفة
résumé of the pseudo-Aristotelian Peri
kosmou (De mundo). وبالنسبة للرسالة الأخيرة؛ مختارة من حِكَم يفترض أنَّها قيلتْ في جنازة الإسكندر.
وهذا في ذاته يطرح مشاكلَ خاصة، ليس أقلُّها مسألةَ ارتباطها بالأعمال التالية، وبشكلٍ
خاص
تسبقها تاريخيًّا، أو أجزاء من الأعمال، في تيمةٍ مماثِلة، وخاصَّة «نوادر الفلاسفة»
لحنين
(ت: ٢٦٠ﻫ/٨٧٣م). هناك الكثير ممَّا يوحي بأنها كذلك، وأنها مستمَدَّة من نمطٍ قديم لهذه
الأعمال. وهذا النمط القديم يُشبِّهه جرينتشي بقصةِ الرسائل التي يراها خلفَ الرسائل كَكُل.
كما ذكرنا من قبل، ثمَّة مقدماتٌ تفسيرية تُدخِل القارئ إلى كلِّ رسالة من الرسائل. وهذه المقدمات ليست متماثلةً في الطول أو الطبيعة؛ فهي
أحيانًا إقحامٌ واضح لمؤلفنا العربي، ممَّا يبدو بالتأكيد، نسخةً عربية من الرواية المنسوبة
خطأً لكاليستينيس. وفي أحيانٍ أخرى، من الواضح أنَّها جزءٌ لا يتجزَّأ من قصة الرسائل؛
حيث
إنَّها تحتوي على مادةٍ حاسمة لفهم الرسالة، لا يمكن استنباطها من الرسالة نفسها. للتوضيح،
لا نحتاج إلا إلى الاستشهاد بمثالَين. المقدمة في الرسالة الأولى، وهي ملاحظةٌ بيوجرافية
عن
الإسكندر، تتكون — كما رأينا — من ثلاثِ فقراتٍ مركَّبة. في أول فقرتَين قد نحدِّد يدَ
كاتبنا العربي، معتمدًا — كما يبدو — على الرواية المنسوبة خطأً لكاليستينيس، بينما في
الثالثة يترك انطباعًا بأنَّ الأصول تكمُن في قصة الرسائل النمطية القديمة. في البند
الرابع
عشر — «الذهبية» — تبدو المادة التمهيدية مستمدَّة من وصفٍ لمعبد ديونسيوس في نيسا، موجود
في نُسَخ سريانية وعربية من كاليستينيس. تُقدَّم المقدمة — في حالةٍ، على الأقل، مستقلَّة
عن أيِّ مصدر معروف — في «التهنئة بفتحِ أقاليم خراسان». لا يوجد ذِكرٌ لخراسان. وتكشف
إشارةٌ، إلى أثرَين منقَّحَين، من كاليستينيس الزائف أنَّ الموضوع الحقيقي حملةٌ يقال
إنَّ
الإسكندر قام بها إلى نهاية العالم غداةَ فتْحِ بلاد فارس.
عن الرسائل نفسها لا نحتاج هنا إلى أكثر ممَّا قيل، لكنْ من الجدير بالذِّكر أنَّ
هناك
بعض نقاطِ التشابه بين «رسالة تنسر» — مترجمة وتُنسب عمومًا لابن المقفع — ورسالتينا
اللَّتَين تتناولان مسألةَ أشراف الفُرس (١١، ١٢). هل تعتمد هاتان الرسالتان على عملِ ابن المقفع؟ الفحصُ المفصَّل لجرينتشي لكلِّ الأدلة
المتوفِّرة يقوده إلى استنتاجِ أنَّهما لا تعتمدان عليه. وإضافةً إلى ذلك، يجادل ضدَّ
احتمالِ أصلٍ بهلوي، سواءٌ في حالة ابن المقفع أو في حالة «الرسائل»؛ لأنَّ عمل ابن المقفع
مراسلةٌ بين الإسكندر وأرسطو، تقع في سياقٍ مستمدٍّ من التصرُّف العربي في قصة الإسكندر،
وهي قصة يظنُّ أنَّها مدمجةٌ مع مادةِ المصدر البهلوي لابن المقفع. الرسائل، كما يسلِّم،
أقدمُ من رسالة ابن المقفع، ويبدو أنها كانت مصدرَ إلهام للأخير. ويمكن أن نضيف أنَّ
هذه
الحاجة ليست مُدهِشة. ابن المقفع، رغم تصنيفه عادةً كاتبًا عباسيًّا، بدأ مسيرته في ظلِّ
الأمويين تلميذًا لعبد الحميد أو في مدرسته، الذي قضى تدريبه في الديوان تحت إشرافِ سالم.
واضعين الرؤية الشاملة لموقف جرينتشي في الاعتبار، نركِّز الآن، ونحن نلخِّص، على
النقاط
الرئيسية لأطروحته، تاركين جانبًا بعضَ الاعتراضات التي قد تثار على التفاصيل. يترتب
على
الموافقة على أطروحته قبولُ المقترحات التالية: إنَّ رسائله العربية الستَّ عشْرة أموية،
وهي أساسًا «رسائل من أرسطو إلى الإسكندر» ينسبها ابن النديم بدِقة بهذه الكلمات لمبادرةِ
كاتب هشام، أبي العلاء سالم؛ و«الرسائل» ترجماتٌ بتصرُّف لأصولٍ هيلينية قام بها معجَب
مطَّلع على القيم والمؤسسات الساسانية ومهتمٌّ بها وتوَّاق لتشجيع الاهتمام بالتراث
اليوناني، وخاصة الإيراني؛ لسالمٍ تأثيرٌ على ابن المقفع؛ وأخيرًا — والأكثر أهمية —
«الرسائل» أقدمُ أمثلةِ الأدب النثري لكتَّاب الدواوين.
ولأنَّ هذه المقترحات ترتبط بقوةٍ بكتابة أيِّ تاريخٍ لأدب النثر العربي؛ فإنها تستحقُّ
مزيدًا من البحث والمناقشة، وخاصة لأنها تثير بعض الأسئلة. والأكثر وضوحًا من بينها:
إذا
كنَّا ندين بهذه الرسائل، بالشكل الذي لدينا، لسالم، كيف بقيتْ طول هذا الوقت دون أنْ
تُلاحَظ؟ لماذا لم تحتلَّ موضعًا بجانبِ رسائلِ تلميذه عبد الحميد وخليفته ابن المقفع؟
ومن
المسائل الأخرى التي تحتاج انتباهًا دقيقًا مسائلُ الأسلوب والتعبير، في أجزاء المجموعة
التي هي ترجمةٌ وتصرُّف، وفي الأجزاء التي للمؤلف. عمومًا العربية هي ما نتوقَّعه من
مترجِمٍ كُفء وكاتب نثر مبكِّر، بسيطة نسبيًّا وخالية من المحسِّنات. وعلى الجانب الآخر،
هناك بعضُ المُنعطَفات التي قد يُشتبه عندها ببعض المعالجة. وأخيرًا، هناك مشكلةُ الاتساق
الأسلوبي، وينبغي النظر فيها، رغم أنَّها ينبغي ألَّا تُمنح وزنًا لا مبرِّر له في ضوءِ
تأكيد ابن النديم أنَّ سالمًا لم يُترجِم وحده، لكنْ كان لديه آخرون يترجمون له. لا يوجد
حلٌّ مُقنِع محتمل لأيٍّ من هذه المشاكل أو المشاكل المشابِهة إلى أن تتوفَّر طبعةٌ نقدية
للنصِّ الكامل، وتخضع لتحليل منهجي.
قبِلْنا أو لم نقبل أنَّ سالمًا مترجِمُ رسائلنا الأرسطية المزيَّفة والمتصرَّف فيها؛
ينبغي على الأقل أن نضع في اعتبارنا الدليل على كفاءته وتأثيره كاتبًا لهشام. وليس عبثًا
أن
يوجد ضمن قائمة قصيرة وضَعَها ابن النديم لأصحاب الفصاحة. وإضافة إلى ذلك، علينا الاعتراف
بأنَّه كانت لديه القدرة والفرصة ليضع معايير الرسائل، ولأنَّه عاش وعمِلَ في زمنٍ لم
يعُد
الخليفة فيه يملي رسائله بصيغةِ المتكلم، وكان كاتبه يؤلفها، ويكتب عن «أمير المؤمنين»
بصيغة المفرد الغائب. يقال إنَّ قِطع من فنِّ الرسائل ترجع إلى كُتَّاب ديوان هشام، تتضمَّن
قطعةً قصيرة لسالم ورسالة مطولة منسوبة لابنه عبد الله، محفوظة في أعمال المؤلفين المسلمين،
وهناك وحدةٌ أسلوبية موحية بشأنها. إذا كانت هذه الأعمال المتبقية أصيلة يمكن اعتبارها
مقدَّمة لمؤلفات الكاتب الذي سنتحدث عنه الآن.
(١) عبد الحميد الكاتب
لم يتحقَّق الكمال الرسمي للرسالة الأموية على يد سالم، بل على يد متخرِّج في مدرسته،
وتحديدًا عبد الحميد نفسه الذي أشرنا إليه إشارات عابرة. وبالتالي مع اسمه نربط بالشكل
الأكثر شيوعًا بداياتِ النثر العربي فنًّا مكتوبًا؛ أعني فنًّا مستوحى من غرض أدبي
واعٍ، ورغبة في عرض المواهب الخيالية والإبداعية للكاتب. وكان، كما يصرح ابن عبد ربه
(٢٤٦–٣٢٨ﻫ/٨٦٠–٩٤٠م)، أول مَن «فتَقَ أكمامَ البلاغة وسهَّل طُرُقها»
٣. وهو الذي قال عنه الكاتب المصري الحديث طه حسين، وهو نفسه أستاذٌ شهير في
الأسلوب: «وربما لم يوجد كاتبٌ يعدل عبد الحميد فصاحةَ لفظ، وبلاغةَ معنًى، واستقامةَ
أسلوب.»
٤ لكنْ رغم تفرُّد المكانة التي تمنح له في تاريخ الأدب العربي، ورغم مكانته
كاتبًا لآخر الخلفاء الأمويين في الشام، من المذهل أنه لا يُعرف عن الرجل إلا القليل.
اسمه الكامل كما يقدِّمه ابن خلدون «أبو غالب عبد الحميد بن يحيى بن سعد»، ويقال إنه
كان
مولًى لعشيرة قُرشية، عشيرة عامر بن لؤي.
والتاريخ الدقيق لميلاده غير معروف، ومعظم ما يمكن القيام به هو وضعه في مكان ما في آخر
عشرين سنة من القرن الأول/السابع. وإضافةً إلى ذلك، أصوله ومكان ميلاده ليست بعيدة عن
الخلاف؛ يرى البعض أنه من الرقة في سوريا، ويرى آخرون أنه من الأنبار في العراق وأقام
في الرقة. يبدو من المؤكَّد أنه كان له ارتباطٌ بالعراق؛ حيث يقال إنه قضى جزءًا من
شبابه في الكوفة، حيث استوعب دون شكٍّ كلَّ ما يستطيع أن يعلِّمه له فقهاءُ اللغة.
ولحلِّ صراع الأدلة على أساس الاحتمال، يمكن أن نجازف ونخمِّن أنَّه كان
مولًى من أصولٍ فارسية، هاجَرَ من العراق على أملِ أن يجِدَ
فرصةً للتقدُّم أكثرَ إلى قلب الإمبراطورية.
بعد أن عمِلَ عبد الحميد في وقتٍ مبكِّر معلِّمًا متجوِّلًا، دخَلَ ديوان الأمويين
من
خلال مساعي سالم، رئيس ديوان رسائل هشام، وكان في تلك المرحلة على علاقةٍ قوية به عن
طريق الزواج. ونسمع عنه بعد ذلك كاتبًا لمروان بن
محمد، قائد حملات هشام في أذربيجان (١١٤–١١٩ﻫ/٧٣٢–٧٣٧م). وفي هذه الفترة أنشأ رابطةَ
صداقةٍ قوية مع رجلٍ قُدِّر له أن يصبح حاكمًا، من سنة ١٢٧ﻫ/٧٤٤م، باسم مروان الثاني.
وكان لهذه الرابطة أن تُكسبه وظيفة رئيس ديوان رسائل الخليفة، وهو منصب خدَمَ فيه
سيِّده بإخلاص حتى النهاية الكارثية للأخير في بوصير في ١٣٢ﻫ/٧٥٠م. والمصير الدقيق لعبد
الحميد غير مؤكَّد تمامًا؛ حيث يُذكر بأشكالٍ مختلفة في مختلف المصادر. من النسختَين
الرئيسيتَين عمَّا حدث، تذكُر واحدةٌ أنه مات بجانب مروان في موقفه الأخير في مصر،
بينما تذكُر الأخرى أنه نجح في الهروب إلى الجزيرة؛ حيث اختبأ، طبقًا للبعض، في بيت ابن
المقفع، وبقي هناك حتى خانه في النهاية. على أساس الأدلة يظنُّ جبريلي
Gabrieli أنه ربما بقي مع مروان حتى النهاية، ثم
هرب إلى العراق حيث اختبأ. وفي النهاية قبض عليه العباسيون، وعلى أيديهم لقي حتفه بعد
وقتٍ قصير في ١٣٢ﻫ/٧٥٠م.
«بُدِئت الكتابة بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد.» هكذا يكتب ابن خلدون، ورغم السجع
والتوزان في المقولة، التي قد تعبِّر عن نصف الحقيقة؛ فإنَّ الحُكم ليس خاطئًا. إنَّ
شهرة عبد الحميد ترتكز على رسائله «الرسمية»، أو «الرسائل المنمَّقة». ومن الواضح
أنَّها تميِّز بدايةَ حقبةٍ جديدة في فنِّ الكتابة. من المجموعة الضخمة من الرسائل التي
تنسب إليه — يتحدث ابن النديم عن مجلدٍ من ألف صفحة — لم يبقَ منه إلا حفنة، ويعود هذا
فقط إلى أنَّ أعمالًا لآخرين تضمَّنتها أو استشهدتْ بها. وفي هذا الصدد، نَدينُ بأكبرِ
قدْرٍ لأبي طاهر طيفور (٢٠٤–٢٨٠ﻫ/٨١٩–٨٩٣م)، مؤلِّف كتاب «المنثور والمنظوم»؛ لأننا في
الأجزاء المتبقية من هذه المختارات الأدبية، نجِدُ خلاصةَ كلِّ المعروف ممَّا تبقَّى
من
أعمالِ عبد الحميد، وتشكِّل نواته أشهرَ مؤلفاته، أعني «رسالة الكُتَّاب»، وكُتيبَ
رسائلَ إرشاديًّا موجَّهًا لابن مروان ووريثه. إضافةً إلى أنَّ هذا المصدر نفسه، حَفظَ
لنا رسائلَ عن الصداقة وشرعية الشطرنج ومشهدٍ للصيد.
(٢) محتوى رسائله المتبقية
(٢-١) رسالة الكتَّاب
إنَّ أشهر رسائله رسالته الموجَّهة لكتَّاب الديوان. وربما لا يرجع ذلك فقط إلى
ورود نصِّها في «مقدمة ابن خلدون»، وهو عملٌ قُرئ على نطاقٍ واسع وحظِيَ بكثيرٍ من
الدراسات والاهتمام العالمي، لكن أيضًا لأنَّها يمكن أن تُقرأ في عدَّة لغاتٍ أوروبية.
٥ وهذه
الرسالة في جوهرها مدوَّنة عن
خصائصِ الرجل البارز الشريف والواجبات المطلوبة منه، تبدأ بفقرةٍ تشرح دافعَ
المؤلف. ومحتوى هذا التصدير مضيءٌ؛ حيث يعكس الرُّتبة والمنزلة التي حقَّقها عبد
الحميد نفسه، ويشجِّع طبقةَ الكتَّاب على الطموح إليها. يصرِّح بأنَّ الله خلَقَ
الناس بمختلف أصنافهم وضمِنَ لهم مجموعةً متنوِّعة من المِهَن يمكن أن يكسبوا من
خلالها قوتَ يومهم. ويواصل:
فجعلكم معشرَ الكتَّاب في أشرف الجهات، أهل الأدب
والمروءات والعلم والرزانة، بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها،
وبنصحائكم يُصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم، لا يستغني الملك
عنكم، ولا يوجد كافٍ إلا منكم؛ فموقعكم من الملوك موقعُ أسماعهم التي
بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون،
وأيديهم التي بها يبطشون …
وهو يواصل ليعدِّد الخصائص التي تجعل الكتاب جديرين باسمهم، يؤكِّد عبد الحميد
خاصَّة على التكيُّف والمبادرة ووضعِ الأمور في مواضعها والتواضع والصبر والإحساس
بالعدل والتكتم والسرية والتفاني في الواجب والولاء الثابت والبصيرة المكتسبة
بالذكاء والتعليم الحر والخبرة. ويواصل، ينبغي أن تبدأ ثقافتهم بمعرفة القرآن
والفرائض. ثم إتقان لغتهم العربية، ثم إجادة الخطِّ في كتابتهم. الشِّعر والبراعة
الأدبية، ومعرفة دقيقة بأيام العرب والعجم، جنبًا
إلى جنب مع معرفةٍ في الحساب؛ فإنه قِوامُ كتابِ الخراج. ومنتقِلًا إلى الرذائل، يحثُّ المؤلف زملاءه من الكتَّاب
على تحاشي المطامع والنميمة والافتراء والغطرسة، وكلِّ ما يمكن أن يستعدي زملاءهم.
ويجب إظهار الولاء والإخلاص للزملاء في كلِّ الأوقات؛ على أعضاء المِهنة احترام من
أقعَدَه الكِبر واستشارته ومساعدة الصغير وتوجيهه. العطف على الزملاء والاهتمام بهم
يستدعى الدعمَ المتبادَل والتعاون. في المنصب الرفيع، على الكاتب مراقبة الله
وتذكُّر أنَّ كلَّ الرجال عيالُ الله، ويستحقُّون التعاطف والتفاهم. ويهيمن على
الفقرات الختامية في الرسالة ثلاثُ تيمات؛ الأولى: على الكاتب أن يتجنَّب البذخ
والترف والإفراط في الجوانب المادية في حياته اليومية. والثانية: ينبغي أن يكون
قادرًا ومستعدًّا للتعلم من الخبرة، ومن السماع لا التحدث. الأخيرة، لكنها ليست
الأقل أهمية: يجب أن يعرف اعتماده الكامل على الله، ويعترف بكلِّ تواضع أنه ليس
معصومًا من الخطأ.
(٢-٢) الرسالة إلى ولي العهد
من الرسائل المتبقية القليلة جدًّا لعبد الحميد، والأطول والأكثر تفصيلًا تلك
الموجَّهة إلى عبد الله، ابنُ مروان ووريثُه. الموقف الذي يرتبط به محتواها معروف
بدِقة. في ١٢٧ﻫ/٧٤٥م حقَّقت حركةُ الخوارج المسلَّحة تحت قيادة الضحاك بن قيس
تقدُّمًا مذهلًا، ممَّا شكَّل التهديد الأخطر والأكثر إلحاحًا على الخلافة. مشغولًا
بشكلٍ آخَر في حمص، لم يكُن أمام مروان إلا اللجوء إلى ابنه، الذي تركه وراءه في
حرَّان. في تلك الظروف، كتب عبد الحميد باسم مروان رسالةً لتشجيع ولي العهد وإرشاده
ونُصحه.
يتكوَّن متن الرسالة من جزأين أساسيَّين؛ الأول: موعظة سياسية أخلاقية، تحتلُّ
أقلَّ بقليل من ثلث الرسالة كلِّها وتتكوَّن من نحو ٣٠٠٠ كلمة في النَّص العربي.
والثاني: خطابٌ مدروس يقع بشكلٍ طبيعي في قِسمَين أساسيَّين، ويتناول تكتيكاتِ
التنظيم العسكري. طُول المؤلَّفِ كلِّه لا يتناسب مع أهميته، حتى لا يمكن إلا أن
نتساءل لماذا كان لمؤلَّفٍ صغير بهذا الشكل تأثيرٌ على الدارسين الغربيِّين للأدب
العربي. من المؤكَّد أنَّ القارئ الواعي لا يمكن أن يفشل في تحديد علاقةٍ نوعية
لافتة بأدب «مرايا الأمراء»، الذي تبلور بحلول القرن الخامس/الحادي عشر في جنسٍ
أدبي متطور جدًّا ومحدَّدٍ بوضوح باندماج الرسالة المزخرفة بالمحسنات والوصية الأدبية بالأدب. وحيث إنَّ مؤلَّف عبد الحميد يقِفُ على رأس تراث «مرايا
الرسائل» وبطُرقٍ كثيرة جدًّا يستهلُّ تشكُّل الأشياء ليدخل قصة الأدب العربي؛ فإنه
يستحقُّ معالجة مفصَّلة. إذا كان نمطه يختلف، من نواحٍ معيَّنة، عن نمطِ «المرايا»
الذي اعتدْنا عليه في المراحل الأخيرة من تطوُّره؛ فينبغي أن نتذكَّر أنَّ الظروف
التي كُتب فيها المؤلف ظروفُ حرب، وليست ظروفَ سلام. باختصار، نرى أن الاختلافات
تبدو أكثر من حقيقتها.
تبدأ الرسالة بتصريحٍ عن الموقف الذي كان وراء تأليفها:
أما بعدُ، فإنَّ أمير المؤمنين عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدوِّ الله الجلف
الجافي، الأعرابي المتسكع في حيرةِ الجَهالة، وظُلم الفتنة، ومهاوي الهلَكة،
ورعاعةِ الذين عاثوا في أرضِ الله فسادًا، وانتهكوا حُرمةَ الإسلام استخفافًا،
وبدَّلوا نعمة الله كفرًا، واستحلوا دماء أهلِ سِلمه جهلًا؛ أحبَّ أن يَعهَد إليك
في لطائفِ أمورك وعوامِّ شئونك ودخائل أحوالك ومُصطرَف تنقُّلك، عهدًا يحملك فيه
أدبه ويشرِّع لك به عِظته، وإن كنتَ بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطنعك
الله لولاية العهد، مختصًّا لك بذلك دون لُحمتك وبَني أبيك.
ويُكلَّف وليُّ العهد بعد ذلك بأن يضع في
اعتباره اعتمادَ الإنسان على الله بصرفِ النظر عمَّا يتمتَّع به من معرفةٍ وفَهْم.
إنَّ توجيه ابنه للفضيلة واجبٌ أبويٌّ فرضه الله على أمير المؤمنين، الذي يأمل
بشدَّة أن يحفظ وريثه من كلِّ رذيلة، وأن يمنَّ عليه بفضله ويرفعه إلى ذِروة
الشَّرف «لائحة بك في أزهرِ معالي الأدب مورثة لك أنفَسَ ذخائرِ العِز». وعلى
الأمير أن يسعى إلى التمسُّك بمخزونه من الحكمة وزيادته بالخوف الحقيقي من الله
وطاعته بامتنان. وعليه كلَّ صباح أن يدَّخر جزءًا من نفسه حمدًا لله على إبلاغه
يومَه بصحةٍ وعافية، وأن يقضي هذا الجزء من يومه في قراءة جزءٍ من القرآن. وبذلك
يدرب عقله على تعاليمه ومحتواه ويجمِّل لسانه بتلاوة النص. والأهمُّ أنَّ هذا يمنحه
قوةً معنوية. مؤكِّدًا على التيمة الخُلُقية، يقدِّم عبد الحميد نصائحه بنبرةٍ
بلاغية رفيعة. يحذِّر من أنَّ أهواء الإنسان عدوُّه الطبيعي؛ «لأنَّها خُدعُ إبليس
وخواتلُ مَكْره ومصايد مكيدته». وينبغي على الأمير أن يستعيذ بالله ويجاهدها.
التحدي عبءٌ باهظ، لكنَّ الشريف هو فقط من يتصرَّف كما يتصرَّف الشريف. يحذر من
أنَّ العجب «رأسُ الهوى وأول الغواية ومقادُ الهلَكة». ينبغي أن يصرف الأمور
باعتدالٍ وتكتم وإحسان وعدل وإنصاف. بكلِّ أسلوب الواعظ وحماسه يستغلُّ الكاتب كلَّ أدوات الخطابة وبلاغة الوعظ ويواصل على
النحو التالي:
وتحصِّن عيوبك بتقويمِ أوَدِك، وتمنع عقلك من دخول الآفاتِ عليه بالعُجب المُردي.
وأَناتك فوقِّها الملالَ وفوتَ العمل، ومضاءتك فدرِّعها رويَّة النَّظر واكنفها
بأناة الحِلم، وخلوتك فاحرسْها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانفِ عنه عيَّ
اللفظِ وخفِّ سوءَ القالة، واستماعك فأرعْه حسنَ التفهُّم وقوِّه بإشهادِ الفكر،
وعطاءك فامهدْ له بيوتاتِ الشرف وذوي الحسب وتحرَّز فيه من السرف واستطالة البذخ
وامتنان الصنيعة، وحياءك فامنعه من الخجل وبلادة الحصر، وحلمك فزِعْهُ عن التهاون
وأحضره قوةَ الشكيمة، وعقوبتك فقصِّر بها عن الإفراط وتعمَّدْ بها أهل الاستحقاق،
وعفوك فلا تُدخله تعطيلَ الحقوق وخذْ به واجبَ المفترض وأقمْ به أوَدَ الدِّين
…
على الأمير في اختياره لبطانته وجلسائه أن يراعي أكبرَ قدْرٍ من الحذر، ويسعى
بدون تمييز إلى مَن يعرف محاسنَ الأمور ومواضعَ الرأي وعينَ المشورة، مأمونِ
النصيحة، منطوي الضمير على الطاعة. وليحظى بالاحترام عليه أن يحافظ على كرامته،
لكنْ عليه أن يكون اجتماعيًّا ليحظى بالتعاطف. وينبغي أن يتجنَّب التعرض للانتقاد
بتجنُّب الرعونة من ناحية، ومن الناحية الأخرى التِّيه والاستعراض الذي يؤدِّي إلى
ضياع الهَيبة بين العامة.
يحثُّ مروِّجو الشائعات على الشِّقاق وينبغي منعوهم من الوصول للأمير؛ حتى لا
يتصرَّف ظلمًا بناءً على شهادة زُور. وينبغي على رئيس الحَرَس أو مسئولٍ آخرَ كبيرٍ
تلقِّي تقاريرهم وفَحْصها، وينبغي مع ذلك ألَّا يعمل بعشوائية، لكنْ فقط بناءً على
توجيهٍ من سيده بعد مشورةٍ مناسبة. وبشكلٍ مُماثِل، ينبغي عدم السماح بالطلبات
المباشِرة وغيرِ المتوقَّعة؛ ينبغي تقديم كلِّ الالْتماسات من خلال الكاتب لإتاحة
الوقت لردٍّ مناسب. ويجنِّب هذا الإجراء، ضمن أشياءَ أخرى، الأميرَ حرَجَ رفضِ
الطلبات. وبالمِثل، يجب على المبعوثين والوفود أن يبلِّغوا الكاتبَ أولًا بالغرض من مهامِّهم وعملهم الدقيق خشيةَ أن يستغلَّ
الأمير في لحظةٍ غير مناسبة. وعند السماع إليهم لا ينبغي تقديمُ المزيد. ومع ذلك،
إذا تكلَّم أحدٌ بخلافٍ ما أبلغ به الكاتب، على الأمير أن يدفعه دفعًا جميلًا،
ويمنعه جوابَه منعًا وديعًا، ثم يأمر حاجبه بإظهارِ الجفوة له.
الهيبة ورباطةُ الجأش في كلِّ الأوقات ضرورة. وعلى الأمير عدم السماح للمتعة أو
الغضب بإزعاجه، وينصح بألَّا يسمح بمشادة أو مشاحنة أو نميمة في وجوده. الانبساط في
الضحك والقهقهة والعبوس غير مناسبة؛ ابتسامة لطيفة أو تكشيرة كما يتطلَّب الأمر،
تعبير مناسب عن الشعور. يتمُّ التأكيد أيضًا على سلوك الأمير في المشورة والسماع.
تتطلَّب منه القواعد الرئيسية الاستماع بانتباهٍ للمتكلِّم دون النظر إلى أيِّ شخص
آخر؛ ومعرفة مستشاريه والأماكن التي يحتلُّونها في الجلسة؛ وملاحظة الغائبين وطلب
تفسيرات؛ وتجنُّب الاعتماد الكامل على رجل واحد، مهما تكن قدرته أو جدارته بالثقة؛
وتجنب طرح أسئلةٍ كثيرة جدًّا أو مقاطعة المتحدث أو قطع حديثه قبل أن يُكمل؛ وعليه
عدم الكشف عن أيَّة علامة للسأم أو الغضب؛ وتحاشي ترديد لفظٍ مثل: «اسمع»، «افهم
عني»، إلخ.
عادات العَوام في الملوك ذميمةٌ؛ لذا يحذر الأمير من «التنخُّم، والتبصُّق،
والتنخُّع، والثُّؤْبَاء، والتمطِّي، والجُشاء، وتحريك القدم، وتنقيض الأصابع،
والعبث بالوجه واللِّحية أو الشارب أو المِخصَرَة أو ذُؤابة السيف، أو الإيماض
بالنظر، أو الإشارة بالطَّرْف إلى بعض خَدَمِك بأمْرٍ إن أردْتَه، أو السِّرار في
مجلسك، أو الاستعجال في طعمك أو شُربك». وبالمثل، الشتيمة والبذاءات غيرُ
لائقةٍ.
على الجانب الإيجابي، على الأمير أن يتعهَّد العامة، ويُنعش عديمهم ويَجبُر
كَسيرَهم، ويعلِّم جاهلهم ويستصلح فاسدهم؛ لأنَّ كلَّ هذه الأمور تورثه العزَّة
وتقدِّمه في الفضل وتُحرِز له ثواب الآخرة. مؤكِّدًا مرةً أخرى على ضرورة اختيار
البطانة بحرص، يُنهي عبد الحميد الجزءَ الأول من رسالته بالدعاء للخليفة وابنه
بالسلامة والنجاح.
الانتقال من الآداب والبروتوكول والإتيكيت إلى التنظيم العسكري والتكتيكات
والأمور اللُّوجِستية مفاجئٌ، لكنَّه ملائم؛ لأنَّ تهديد الحرب كان مباشِرًا. وهذا
القسم الثاني، فيما يتناوله وبالنسبة للفترة التي يرتبط بها، فريدٌ، كما يقول
جبريلي. بعد تذكير الأمير بواجبه تجاه الله واعتماده الكامل عليه، ينصحه كاتبُ الخليفة بضبط قوَّاته، والتأكُّد من عدم تحرُّشهم
بالمُسلِم أو غير المسلم. ثم ينبغي أن يواجِهَ العدوَّ بحزم؛ إيمانًا بالله وخوفًا
منه. والنصر، كما يوضِّح، يمكن أن يتحقَّق بوسائلَ سِلميَّة. وهذه الوسائل أفضل،
ليس فقط لأنَّها تجنِّب الجيش المخاطر، وتمنع إزهاقَ الأرواح والمعاناة غير
الضرورية؛ لكن لأنَّها أيضًا تعزِّز سمعةَ الأمير وتجعله ينالُ ثواب الله. الخطوة
الأولى بعد ذلك، مقاربة العدو بعروض الصداقة وآفاق الصَّفح، وتقديم وعودٍ ينبغي
الوفاءُ بها، وإقناع الذين يعودون إلى الجماعة بعدالةِ قضيته والحق في الطاعة بفضل
المنزلة وإكرام المثوى وتشريف الجاه، وإثارة الرغبة في الآخرين في معالجةٍ شبيهة
برؤيةِ سخائه.
ينتقل الكاتب الآن إلى موضوعِ التجسُّس ووظائف جهاز المخابرات واستخداماته.
يحذِّر من القبول غير النقدي لمعلوماتِ العملاء؛ على الأمير ومستشاريه ذوي الخبرة
أن يتفحَّصوها. وقد أعذرَ مَن أنْذَر. والنبرةُ السائدة هنا، هي التبصُّر والفِطنة.
المبالغة في شأن العدو، أفضلُ من التقليل من شأنه؛ لأنَّ الثقة الزائفة قد تكون
قاتلة. ثمَّة تأكيدٌ هائل على الحاجة إلى الجمع بين الحذر والتكتيك في التعامل مع
العيون والجواسيس؛ قد يبدُون على غير حقيقتهم. قبول النصيحة أو عدم قبولها، أمرٌ
ينبغي أن يبقى طيَّ الكِتمان. ولضمان أقصى قدْرٍ من الأمن والكفاءة، ينبغي أن يسيطر
على كلِّ العملاء كاتبُ الأمير وأمينُ سرِّه. وإخفاءُ هوية الجواسيس بصرامة، حتى عن
بعضهم البعض.
ويأتي تنظيمُ الجيش بعدَ ذلك. والشخصية الرئيسية هنا صاحبُ
الشُّرطة. يستدعي منصبه رجلًا متديِّنًا وأمينًا وحكيمًا وخبيرًا،
ومقبولًا في الوقت ذاته من القوَّات ويمكنه أن يحافظ على الانضباط بصرامةٍ وبدون
قسوة. تنظيم المعسكر ونشْرُ الحرَّاس من خلال مسئولٍ تحت تصرُّفه، لكنَّ إقامة
العدل مسئولية القاضي، الذي ينبغي أن يكون رصينًا، لا يمكن إفساده، ونزيهًا،
ومهيبًا، بعيدًا عن المطامع، وصبورًا، ومتواضعًا. وليحظى بالكرامة والشرف في هذا
العالم ورضا الله في الآخرة، عليه أن يدفع له راتبًا كبيرًا ليُقيم، مذكِّرًا
الأمير، عدله.
عائدًا إلى الأمور العسكرية البحتة، يكرِّس عبد الحميد مساحةً كبيرة لأمور مثل
انتشار القوات والجواسيس ولوائح المعسكرات والأسلحة والدروع وما شابه. من كثرةِ
التفاصيل التي يقدِّمها يكفي أن ننتقي السمات البارزة. رأس حربة الجيش — بوضوح
«الخميس» (قوة من مقدِّمة ومركز ومؤخِّرة وجناحَين) — ينبغي أن تكون في مقدمة
الحرَّاس، من نُخبة تختار على أساسِ الجدارة فقط، ويدفعون بمعدلٍ معيَّن، ويرأسهم
قائدٌ بعيدُ الصوت معروفُ الاسم. ويرتبط القَدْر نفسه من الأهمية تقريبًا بالدوريات
بقيادة أشراف، تشمل واجباتها الاستطلاعَ وحمايةَ الكِيان الرئيسي للجيش. يجب عدم
التسامح مع عدم الانضباط، لكنْ ينبغي عدمُ توقيع عقوبةٍ يترتَّب عليها خسارةُ
أرواحٍ أو دماء، وأيضًا الاستبعاد وبعض العقوبات الأخرى ينبغي ألَّا يفرضها إلا
الأمير أو صاحب الشرطة الذي يعمل بأوامر الأمير.
في الخطوط العريضة لإجراءات صدِّ الهجمات الليلية، قدرٌ كبير من التشويق. تحصينُ
المعسكر والسرايا الأساسية، المقاومة المنظَّمة بالسِّهام والرِّماح، طُرق تحديد
موضع القِطاع المهاجَم، وأخيرًا، مطاردة العدوِّ بسيوفٍ مسلولة، من المواضيع التي
تُعالَج. بعد مناقشة مفصلَّة لسلاح الفرسان — ينظَّم في مجموعاتٍ، كلُّ مجموعةٍ من
مائة، وتتكوَّن من سرايا مرقَّمة — تأتي بعد ذلك فقرةٌ تنصح الأمير بوضع خزائنه
تحتَ سيطرةِ مسئولٍ تقيٍّ في حماية مُفرزة من الجياد، وتسافر بعيدًا عن الكيان
الرئيسي للجيش؛ لتقليل مخاطر النَّهب في أوقاتِ الأزمات.
عند هذه النقطة يتمُّ تذكيرنا مرةً أخرى، بأنَّ تجنُّب إراقة الدماء أفضلُ سياسة؛
وأن الدعاية والتخريب وتحريض قوات العدو على اغتيال زعيمهم، أفضل التكتيكات، لكن
إذا وصَلَ الأمر إلى ساحة المعركة، ينبغي أن تكون المقدمة التضرُّع المستمرَّ لله.
للاستمرار ورفعِ الروح المعنوية، على الرجال أن يُسهبوا خاصةً في الصِّياح ﺑ «الله
أكبر!» وحثِّ القوات بأوصافِ الجنة. وتساهم أيضًا المتابعة الشخصية للأمير في
الالتحام والكفاءة.
(٢-٣) رسالة عن الشطرنج
هذه الرسالة موجَّهة من الخليفة إلى والي
إقليمٍ يأمره بفرضِ الحظر على لعبِ الشطرنج، ولا بدَّ أنَّها بوصفها لعبةً إيرانية
هندية حظيتْ بشعبيةٍ هائلة في أرجاء الشرق الإسلامي. النصف الأول، في الواقع،
تحميدٌ، بمعنى أنه يتمُّ تذكيرُ المخاطَب بإسهابٍ بنِعَم الله وتشريعاته وطبيعتها
وغرضها. وفي النصف الثاني، نرى الشطرنج وَسواسًا يشتِّت حتى أذهان الفُقهاء والأئمة
عن صلواتهم وواجباتهم الدينية الأخرى، ويشجِّعهم على استخدام لغةٍ بذيئة. ينبغي
حظْرُه ومعاقبةُ الجُناة بالسَّجن ومحوِ أسمائهم من سجل الأجور والهِبات. وهي
رسالةٌ قصيرة، عدد كلماتها في النصِّ العربي أقلُّ من ألف.
(٢-٤) رسالة عن الصيد
في طولٍ مماثِل، لكنْ من نوعٍ مختلف، وصَفٌ حيٌّ لصيد. موجَّهة إلى الخليفة،
تلتقط لنا رُوح الرياضة الأموية المفضَّلة. يحكي المؤلِّف، ساردًا لنا كيف شرَعَ هو
وفريقه على مطايا أصيلة مع كلاب صيد وصقور، عن مطر يُحيي الأرض، ثم عن أشجارٍ
متلألئة وبراعم ضاحكة والشمس تعاود السطوع في سماءٍ صافية، وأخيرًا عن ضبابٍ يحجُب
الرؤية. مندفِعين على غير هدًى مع اللعبة، في تضاريس صعبة، يرَونَ بعد ذلك، مندفعين
في غابةٍ والضباب ينقشع، يلمحون قطيعًا من الغزلان الظِّباء البيضاء. المواجهة،
والمشهد الطبيعي المتغيِّر ومختلف مراحل الصيد، مع كلابِ صيدٍ مطلقة العِنان وصقور
محلِّقة في الهواء، تتكشَّف أمامَ عيوننا. مأخوذين بالمعركة، نشعُر بأننا جزءٌ من
المطارَدة حتى يعود في النهاية مع الصيَّادين مشحونِين باللعبة. وهنا لدينا
طرديَّة حقيقية في نثرٍ رائع.
(٢-٥) رسالة الصداقة
من الأدلة الداخلية، يمكن أن تعود هذه الرسالة إلى فترةِ حُكم مروان لأرمينيا
وأذربيجان (من ١١٤ﻫ/٧٣٢م)؛ وبالتالي فهي عملٌ مبكِّر. مكوَّنة من
أكثرَ بقليل من خمسمائة كلمةٍ في الأصل، ليست
أهمَّ كتاباتِ عبد الحميد. وكما يلاحظ جبريلي عن حقٍّ، تحتوى مجردَ تعميم لتِيمة
الصداقة، وبسرعة يُصبح المحتوى تابعًا للشكل.
(٢-٦) مؤلَّفات أخرى حقيقية أو محتمَلة … خطابات وشذرات وأعمال مفقودة
إذا كان صحيحًا، خطابٌ من اثنَي عشَرَ سطرًا أو نحو ذلك موجَّه إلى يوسف بن عمر،
والي هشام في اليَّمَن، لطمأنته على سلامة الخليفة. يبدو أنَّه أقدَم عينة (قبل
١١٩ﻫ/٧٣٧م) لتطور أسلوب عبد الحميد في الكتابة، وربما أقصر كتابات الكاتب. ومن الناحية الأخرى، ملاحظته الحادَّة البليغة
غير المزخرَفة إلى عاملٍ أرسل هديةً، من عبدٍ
واحد أسود، إلى مروان: «ألَمْ تجِدْ لونًا أسوأ من الأسود وعددًا أقلَّ من الواحد
لتقدِّم هذه الهدية. هداياك، إلخ.» ويقال إنَّ أطول خطاباته رسالةٌ كبيرة جدًّا إلى
أبي مسلم، قائد الحركة الثورية العباسية، حرَقَها حتى قبل أن يقرأها. والجملة
الوحيدة المعروفة ممَّا ورد فيها، قولٌ مأثور حتى اليوم: «إذا أراد الله أن يُهلك
نملةً رزَقَها أجنحة.» في الموضوع نفسه لدينا شذرةٌ من سطرَين ونصف، تحذِّر العرب
المناصرين للعباسيين من وضعٍ: «لا تمكِّنوا ناصيةَ الدولة العربية من يدِ الفئة
العجمية.» ثمَّة شذرةٌ أخرى متبقية تشكِّل جزءًا من خطابِ عامل متمرِّد. ثمَّة مؤلَّفان قصيران لكنَّهما مصقولان أسلوبيًّا
يحملان الاضطرابات السياسية في تلك الفترة، يبدو من المرجَّح أيضًا أنَّهما بقلَمِ
عبد الحميد. الأول خطابٌ من مروان إلى متمرِّد من الخوارج، حفِظَها ابنُ طيفور،
والثانية «رسالةٌ في الفتنة» ينسبها كُرْد علي للكاتب. ومن القِطَع المتبقِّية من مراسلاتٍ رسمية، يمكن أن نصنِّف
أيضًا عددًا من «التحميد» وفيها يَحمدُ المؤلِّف اللهَ ويُثني عليه لنصرٍ حقَّقه
المخاطَب للإسلام. وفي هذا الصَّدد، ينبغي ملاحظةُ أنَّه يُقال تقليديًّا إنَّ عبد
الحميد مُنشِئ التحميد الذي يمثِّل جوهرَ هذا النوع من التأليف.
قد توجد أمثلةٌ من المراسلات الشخصية، لكنْ نادرًا ما تكون مُزخرَفة؛ أولًا: في
خطابٍ إلى أخٍ يُعلن عن ميلادِ الابن الأول للمؤلف. وثانيًا: في خطابٍ إلى أُسرته
يُعلن عن محنةٍ تعرَّض لها هو والخليفة في الكارثة المصرية. والاثنان قصيرانِ
جدًّا، لا يزيد أيٌّ منهما عن نصفِ صفحةٍ في النَّص العربي. في الفئة نفسها، يمكن
أن نضع خطابَين من خمسةِ أسطر أو ستة، كلٌّ منهما موجَّه للخليفة. أحدهما الْتماس
في مساعدة شخصية في أمورٍ خاصة، والآخَر تعزيةٌ في وفاة جاريةٍ للخليفة.
بحثًا عن الاكتمال، من الضروري أن أُضيف أنَّ هناك شيئًا أو شيئَين بقيا. بصرف
النظر عمَّا حدَثَ للمجموعة الكبيرة من المؤلَّفات التي تُنسب لعبد الحميد، لكنها —
مع ذلك — ليست مهمَّة بالقَدْر الذي يجعلها تستحقُّ تعليقًا إضافيًّا هنا.
(٣) أسلوب عبد الحميد وخصائصه ومصادر إلهامه
من القسم السابق يتبين أن الكتابات المتبقية لمؤلفنا متباينة تمامًا. بالنسبة للطول،
لدينا من ناحيةِ لومه القوي بشكلٍ مقتضب للبخيل، ومن الناحية الأخرى، لدينا رسالته
الإرشادية المطوَّلة للأمير. وبالنسبة للمحتوى، التيمات والمواضيع التي تعالَج، مثل
أمزجة الكاتب التي تتوافق معها، متنوِّعةٌ بقدرِ ما قد نتوقَّع من مجموعة النصوص
الضئيلة من أعماله المتبقية. وهكذا، في الحدود الضيِّقة لهذه المجموعة، يلعب عبد الحميد
أدورًا كثيرة: أحدَ أفراد الحاشية، ومستشارًا ومعلِّمًا في الديوانِ أخلاقيًّا
إسلاميًّا، واعِظًا إرشاديًّا وفقيهًا، ومفسرًا لتقنيات الدعاية والتخريب وفنِّ الحرب،
خطيبًا يتميَّز بالتحميد والفصاحة، صيَّادًا وشاعرًا نثريًّا غنائيًّا، مؤلِّفَ
مراسلاتٍ شخصية وعائلية، لكن وراء تنوُّع التيمات والمزاج يكمن نوعٌ من وحدة الشكل أو
الأسلوب تميِّز كلَّ تلك المؤلفات التي يسعى فيها إلى شيءٍ يتجاوز التواصل المباشِر
لرسالةٍ مقتضَبة في جملةٍ أو جملتَين محكمتَين ودقيقتَين. ليس التوتر والإيجاز الجامع
المانع مثاله؛ طريقته في الكتابة فضفاضة، وأحيانًا غيرُ مركَّزة. منوِّعًا أسلوبه طبقًا
للتيمة، يعدِّل الترتيب النحوي للكلمات من أجل عذوبة الصوت أو التأكيد، وهو يكيِّف
طريقته للموضوع؛ يجعل نثرَه مُسهبًا أو مقتضَبًا، عاليًا أو منخفضًا، يضرب بقوةٍ أو
برِفق طبقًا لمَا يراه مناسبًا. إنَّ ما يضعه في المشهد نثرُ متحدِّثٍ لا كاتبٍ، ويبدو
أنَّه يسعى إلى شدِّ أُذنِ المستمع لا إلى السيطرة على تفكير القارئ. يبدو الأمر كما
لو
كان ينوي أن تُقرَأ رسائله بصوتٍ عالٍ، ويمكن أن نتصوَّر بسهولة كاتبًا خاصًّا
مستقبَلًا يقفُ أمامه مُلقيًا كلماتِ الكاتب. وبشكلٍ
مفهوم، إذن، تناسُق الصوتِ مهمٌّ له بقدْرِ أهمية وضوحِ التعبير أو الترتيب. والتأثيرات
الأسلوبية جوهرُ كتابات عبد الحميد، ولا نحتاج في ذلك إلى أكثرَ من أنَّه يعتقد أنَّ
أخاه وأُسرته جديرةٌ بالتعبيرات الرفيعة والتناسق الدقيق مثل الخليفة أو الأمير.
يعتمد التأثير الأسلوبي لعبد الحميد أساسًا على استغلاله لإمكانيات التوازي، سواء
توازي الصوت أو المعنى أو البِنية. وتتحقَّق تأثيراته السمعية بتوازُن الجمل
والعِبارات، والتكرار الجيِّد للنبرات والوقفات، وتكرار الكلمات، والجناس والسجع،
واستخدام إيقاعات البحور المألوفة للأذن العربية، وبشكلٍ لافت، في الكلماتِ الختامية
لجملةٍ تامة، والتوزيع الصحيح للنبرات القوية والضعيفة للمقاطع. وهنا لا نحتاج إلى
معالجةِ كلِّ نقطة من هذه النقاط بالتفصيل، والحقيقة أننا لا نستطيع، لكنْ مجرَّد مثالٍ
واحد — ولا ينبغي مع ذلك أن يُعتبر صيغةً معيارية — ربما ينقل للقارئ فكرةً ما عن
الشعور بتوازنِ الإيقاع الذي كان عبد الحميد قادرًا عليه. في الأجزاء الخمسة التالية،
المرتَّبة رأسيًّا للتوضيح، سوف نرى أنَّ كلًّا منها يقع بشكلٍ طبيعي في ثلاثِ وحدات
كَميَّة، ومنها يقدِّم المقطع قبل الأخير، أساس النمط، بإيقاعاتٍ عروضية مألوفة:
(من ذلك) أن تَمْلِكَ//أمور/كَ بالقص (i) د/أ
وتدار//يَ جند/ك بالإحسان/ب
وتصو//نَ سرَّ/ك بالكتمان/ب
وتُداو//يَ حقد/ك بالإنصاف/ب
وتذلَّ/لَ نفس/ك بالعد (i) ل/أ
ضمن أدوات تقنيته السمعية، يُضمِّن عبد الحميد السجع أو القافية في الأجزاء الأساسية للثنائيات المتوازنة، أو
الثلاثيات أو أي ترتيب آخَر يختاره، لكن من المهم أن نلاحظ أن الأداة تحتلُّ موقعًا إذا
أُحسَّ فقط أنَّها ملائمة بشكلٍ خاص؛ السجع ليس
زخرفةً يتوسَّع فيها بحُكم العادة لتجليات عبقريته الأدبية. إننا، بالطبع، كثيرًا ما
نواجه جُملًا من النوع التالي: «ثم لتكُن بطانتُك وجُلساؤك في خلوتك/ودخلاؤك في سِرك/
أهل الفقه والورع من خاصة أهل بيتك.» لكنْ هنا، كما في مواضع أخرى كثيرة، تستمدُّ
القافية من نهايات تتعلَّق بالضمائر (بالبنط الأسود)؛ وبالتالي فهي طبيعيةٌ أكثر من
الموجودة في الوصف التالي للصيد: «خرجنا إلى الصيد بأعدى الجوارح/وأثقف الضواري/ أكرمها
أجناسًا/وأعظمها أجسامًا/وأحسنها ألوانًا/وأحدِّها أطرافًا/وأطولها أعضاءً.» إنَّها،
في
الواقع وتحديدًا، في هذه الرسالة عن الصيد، التي قد نعتبرها قصيدةَ نثرٍ بشكلٍ ما. وفي
تراتيله في التحميد، وهي في جوهرها، تراتيلُ ثناءٍ وحمْد. يجِدُ عبد الحميد السجعَ
الزخرفةَ الأنسب، لكنْ حتى في هذه المؤلفات لا يخلُقُ بحالٍ من الأحوال قاعدةً ثابتة
للاتِّساق أو الوحدة يتقيَّد بها. إنه بوضوحٍ يزهد في استغلالِ المزيَّة الكاملة لفُرَص
السجع، وقد تمكَّن منها، في هذَين النوعَين من
التأليف، بسهولة خلفاؤه العباسيون بعد ذلك. وبهذا من غير المدهِش أن يأتي استخدام
السجع في رسالة ابن مروان محدودًا، وفي توجيهاته
للكتَّاب، بأقلِّ ما يمكن.
بينما من الصحيح أنَّ عبد الحميد، وهو يعرف بهجةَ العرب بصوتِ الكلمات، وسعيَهم
لتحقيق التأثير الجمالي على المستوى السمعي باستخدامِ الإيقاع، والنبر، وإلى حدٍّ ما
القافية؛ كان مع ذلك غيرَ مبالٍ بالاحتكام إلى عين العقل للصورة الحيَّة، وفوق كل شيء،
الاحتكام إلى براعة دِقة المفاهيم، لكن إذا كانت مفاهيمه مُحكَمةً وغيرَ معقَّدة؛ فإنه
لا يتردَّد في أن يطوِّعها بالتوسُّع اللفظي لأفكاره إذا شَعرَ أنَّ التِّيمة أو الظرف
يتطلَّب ذلك. في رسالته إلى عبد الله بن مروان يستغلُّ تمامًا التوازي الدِّلالي
والنحوي، متوسِّعًا غالبًا في التضادِّ. الأجزاء المترادِفة أو المركَّبة لتوازياته،
من
خلال جُمل الحال الطويلة. وهنا مرة أخرى، من غير العملي أن نقتبس فقراتٍ مطوَّلة
ونحلِّل براعةَ التوازي عند المؤلِّف وتنوُّعه، لكنَّ القرَّاء الملمِّين بأدبِ الكتاب
المقدَّس والشرق الأدنى القديم يتعرَّفون بسهولةٍ على نمطِ هذا التحذير من مخاطر
اللَّذة المُفرِطة:
«ثم تعهَّدْ نفسك بمجاهدةِ هواك؛ فإنه مغلاقُ الحسنات
ومفتاحُ السيئات وخصمُ العقل. واعلمْ أنَّ كلَّ أهوائك لك عدوٌّ يحاول
هلكتك، ويعترض غفلتك؛ لأنَّها خُدَع إبليس وخواتِلُ مكْرِه ومصايد مكيدته؛
فاحذرها مجانِبًا لها وتوَقَّها محترِسًا منها …»
وبالنسبة لمفردات عبد الحميد وأسلوبه، نحتاج فقط إلى ملاحظةِ أنَّه أساسًا يقدِّم
لنا
القليلَ من المصطلحات والتعبيرات النادرة أو النفيسة.
وإذا واجهتْنا كلماتٌ غريبة؛ فإنها على الأرجح كلماتٌ مهجورة. تبدو نسبةُ الكلمات غيرِ
المألوفة أعلى في الصورة التي يقدِّمها عن الصَّيد، مقارنةً بأيِّ موضعٍ آخر؛ لكنَّ هذا
لا يُثير الدهشة. ومن منظورِ طبيعة القطعة، ربما يكون اللافت نسبةُ الكلمات والتعبيرات
الشائعة.
والخلاصة، إنَّ عبد الحميد أستاذٌ من أساتذة الأسلوب العربي. توجِّهه رغبةٌ في
التأثير الفني، لكنه لا يسمح لها أن تُفلت من قلمه، وهكذا يحقِّق التنوع في مؤلفاته
وبينها. من رسالتيه الكلاسيكيَّتَين، الرسالة إلى الكتَّاب هي الأخفُّ، والأقلُّ
تعقيدًا، والأقلُّ تفصيلًا، والأسهلُ استيعابًا، بينما الرسالة إلى الأمير أكثر وقارًا
وفخامة، لكنْ تحت الرسالتَين نحدِّد اليدَ نفسها. وأخيرًا، إذا كان واعيًا بالإمكانية
الشَّكلية والمعجمية للغة العربية في توليد الأفكار والصُّور البلاغية التي سوف نعرفها
بفنِّ البديع، فإنَّه لا يقدِّم دليلًا على
وعيه.
لأنَّ رسائلَ عبد الحميد، يبدو أنَّها تلوِّح فجأةً وبحِدَّة، من مشهدٍ غائم إلى
حدٍّ
ما للأدب العربي المبكِّر، يصعب غالبًا تتبُّع مساراتها بدِقة؛ نتيجةَ الشكوك
المتعلِّقة بالنقل الشفهي، هي فقط أسهلُ من أن نراها مُنعزِلة عن تضاريسَ هي جزءٌ منها.
قد يكتسب الميل إلى عزلها إلى حدٍّ ما قوةً من الاهتمام الذي تركَّز على التأثيرات
الخارجية. بالنسبة للجزء الأكبر، تعتبر هذه التأثيرات تطعيمًا أو زرعًا من ثقافة العالم
الإيراني القديم. وبشكلٍ خاص، تركَّز الانتباه الشديد على تلك الأجزاء من أعمال
الكاتب التي تعالج آدابَ المُلك والبلاط،
والممارسة الإدارية، والإتيكيت والبروتوكول والاحتفالات. إنَّ كون مادةِ عَرْضه لهذه
المواضيع مستمدَّةً من التقاليد الفارسية قبل الإسلام في الملكية والحكم؛ يبدو أمرًا
لا
شكَّ فيه. في التأكيد، كما يفعل في رسالته إلى الأمير، على نُبْل الأصل شرطًا لعضوية
الحاشية الملكية ومناصب القيادة في الجيش، وأيضًا معيارًا لمنح المحاباة؛ لا يؤكد عبد
الحميد على قِيم الأرستقراطية العربية، لكنه بالأحرى يُعيد صياغة موقف التدرج الهَرَمي
الساساني. وللمصادر الإيرانية أيضًا، على ما يبدو، يرجع للحكمة الدنيوية؛ الحكمة
الناشئة عن الخبرة والحصافة والملاحظة والمحفوظة في مجموعاتِ المأثورات، التي كانت
الفارسيةُ الوسطى غنيَّةً بها.
إنَّ وجودَ تأثيرٍ يونانيٍّ في الرسالة إلى وليِّ العَهْد، اقتراحٌ لم يحظَ بقبولٍ
واسع، رغم حقيقة أنَّه من اقتراحِ البارز طه حسين، ووافق عليه عالِم متميِّز مثل الراحل
سير هاملتون جب. في دعم فرضيته، يرى الأول أنَّ اعتماد الكاتب على جُمل الحال الطويلة
لتحديد أفكاره وتوضيحها، خاصيَّةٌ يونانية، كما في تقسيم أفكاره إلى أقسام دقيقة؛ وأنَّ
أطروحاته عن فنِّ الحرب والتنظيم العسكري، كانت شائعةً في العالم اليوناني الروماني.
وقد وجد بعضُها طريقَه إلى العربية؛ وأنَّ مفهوم المائة وحدةً عسكريةً مفهومٌ كلاسيكي؛
وأنَّ عبد الحميد كان على اتصالٍ بتيارات الفكر الهيليني مباشَرةً، وكان يستطيع أن
يستمدَّ أفكاره الخُلُقية مباشَرةً من المصادر اليونانية.
٦ يُحتمل، بالطبع، أن نواجه هذه الحُجج مع آخَرين، بحيث لا يمكن إنكارها
ببساطة، وقد أثيرَت اعتراضاتٌ ضدَّها. ومنها، وليست أقلَّ إقناعًا، للوهلة الأُولى على
الأقل، أنه، بقَدْر ما يتعلَّق الأمر بالمحتوى، هذه الأفكار اليونانية التي يمكن
تمييزها عند عبد الحميد. يمكن، وهو الاحتمال الأرجح، أنْ تكون قد انتقلتْ من خلال
المصادر الفارسية، لكنْ في ضوء ما نعرفه عن سالم، كاتب هشام — حتى دون أن نضع في
الاعتبار فرضيَّة جرينتشي — هل يمكن حقًّا التأكُّد من أنَّ الفُرس في تلك الفترة،
كانوا وحدهم نقلةُ الأفكار الفلسفية اليونانية؟ وإضافةً إلى ذلك، في عالَمٍ إسلامي
مهيَّأ لقبولِ أنَّ حضارته «توليفةٌ إسلاميةٌ فارسية» هل يمكن الاعتماد كليًّا على
التراث الأدبي التاريخي، حين يرتبط بفترةٍ مبكِّرة جدًّا مثل تلك التي نتناولها؟ هذه
الأسئلة ليست بلاغيةً بل حقيقية، وهي، بهذا الشكل، في انتظار إجاباتٍ منطقية.
يمتدُّ تنوُّع الآراء المستنيرة بشأنِ مصادر إلهام عبد الحميد حتى إلى رسالته عن
الصيد؛ يرى أحد العلماء العرب عرْضَها مميَّزًا تمامًا عن أيِّ شيء في التراث العربي
وأنَّها مُستوحاة، بالأحرى، من ممارسةٍ فارسية. بينما يضَعُ آخَرُ في الاعتبار شِعرَ
أساتذة الجاهلية من قبيل زُهير وامرئ القيس. بصرْفِ النَّظر عن حقيقةِ الأمر، الانشغال
بتأثيراتٍ خارجية، لا ينبغي أن يُخفي عن أعيننا العنصرَ الذي يشدُّ أكثرَ من غيره. في
كلِّ مؤلفات الكاتب، الشخصيةُ العربية، أعني عنصرَ اللغة والأسلوب. بالنسبة للكثيرين
الأديب المتحدِّث بالعربية مع الأُذن المميِّزة، يكون التأثير فوريًّا؛ إذا لم يقرأ
وصفَ الصيد (وهو بطُرق ما فريد)، لن يحلِّق ذهنه
بعيدًا إلى رُؤى الملوك الساسانيِّين، و«رسالة تنسر» أو «شهادة أردشير»، وإلى القرآن
وخُطَب الوعَّاظ أو رجال السياسة مثل الحجَّاج، الوالي الأموي للعراق. بتعبيرٍ آخر،
هناك مؤشِّر حقيقي على أنَّ البلاغة العربية ألهمتْ شكلَ عملِ مؤلِّفنا ووظيفته، وأنَّه
في هذا لم يكُن مبتكِرًا؛ بل بالأحرى الداعية الأعظم لفنٍّ يُمارَس. في أجلِّ وأفخم
أشكال التعبير عن حالاته المزاجية، أصداء أسلوب القرآن بشكلٍ لا لبسَ فيه. وإضافةً إلى
ذلك، على كلِّ مستويات الشعور تتجلى أدواتٌ مألوفة للبلاغيين في كلِّ موضع. ليحرِّك
المخيِّلة، يعود إلى الاستعارة الحيَّة. وليثير العواطف، يلعب بموسيقى الكلمات
الرنَّانة والمُقنِعة. وليكسب العقول، يمزج دِقةَ التعبير بإيجاز الفكرة والكلمة
وضغطهما؛ ليثير الانتباه ويشدَّه. يمنح الموضع المؤكَّد للكلمات المؤكِّدة ويلجأ إلى
وسائلَ ماهرةٍ للتكرار؛ وليتجنُّب الرتابة يطوِّر تيماته وصُوره وينوِّعها بتلك السمة
المشهورة للآداب السامية القديمة: التوازي. لا شيءَ هنا غريب على التراث العربي، وليس
بدون سببٍ قورنت فقرةٌ من رسالته إلى الأمير ببعضِ السطور الشهيرة للحجَّاج لتوضيح أنَّ
النمط أساسًا واحدٌ في الاثنين. جمل الحال الطويلة المسهِبة وحدها عند الأول، الذي
أشرنا إليه، تبدو غيرَ معتادة. وقد بُذلت المحاولات لتفسيرها بالنسبة لتطوُّر الميول
الطبيعية الملحوظة في القرآن، لكنْ ينبغي القول بأنَّ العالِم الكلاسيكي لا يستطيع إلا
أن يفكِّر في البلاغة اليونانية، وبشكلٍ خاص بلاغة ديموستينيس
Demosthenes، الذي يُمنَح الكثير؛ لاستخدامه
العباراتِ المصدريةَ الطويلة والجملَ المكوَّنة من اسمِ الفاعل أو المفعول. ويجب إضافة
أنَّه يعشق الإشارة إلى التناقض ويفرض التوازي، ويتطلَّع إلى الاتِّساق والسجع ومجموعة
من التوسُّع بالطريقة نفسها التي يعمل بها عبد الحميد إلى حدٍّ كبير. ولا يعني هذا، بالطبع، أنَّ الأخير تعرَّض لأيٍّ من هذه
التأثيرات.
بصرفِ النظر عن حقيقة المسألة، هذا أقلُّ ما قد يقال: هذه الكتابات التي نربطها باسم
عبد الحميد تحمل في جوهرها خصائصَ مميِّزة، وجدتْ تفضيلًا عند الأجيال التالية من
المُبدِعين من كتَّاب الديوان والأدباء، الذين طوَّروها وتوسَّعوا فيها. إذا كانت هذه
الخصائص في أسوأ الأيادي بولغ فيها بما يتجاوز الاتساق مع أرفعِ معايير الذائقة الأدبية
والجودة؛ فإنَّ الخطأ لا يقع على الكاتب الأموي. وليس
هناك ما يوحي بأنَّه قبل إخضاع الموضوع للأسلوب، والصوت للمعنى.