الفصل الخامس
دور التوازي في النثر العربي
ألفريد فليكس لندن بيستون، أكسفورد
في أيَّة ثقافة متطوِّرة بشكلٍ كامل — ويشمل هذا الثقافتَين: العربية، والإنجليزية
— نميل
للتفكير في التضادِّ antithesis بين الشِّعر والنثر،
باعتباره انقسامًا أساسيًّا وجوهريًّا، لكنْ بنظرةٍ أوسع، والأخذ بعين الاعتبار سوابق
الثقافة الأدبية قبل القراءة والكتابة، نجِدُ انقسامًا جوهريًّا أكثر، وهو الانقسام بين
خطابِ الحياة اليومية من ناحية؛ ومن الناحية الأخرى الأساليب الرفيعة للأداء، بصرف النظر
عمَّا إن كانت شِعرًا أم نثرًا رسميًّا. في مجال الأسلوب الرفيع، تدَرُّج ينبغي ملاحظته.
قد
يكون أمامنا سردٌ مباشر، أو كلامٌ يسعى إلى إثارةِ عواطف المستمِعين باستخدام الحيل
اللغوية. وهذه الحيل ليست بالضرورة حيلَ الانتظام الإيقاعي (أي الوزن) الذي يشكِّل في
التفكير العربي، والأوروبي بالمثل، الخاصيةَ الجوهرية في «الشِّعر». آداب الشرق الأدنى
القديم، وعلى رأسها العهد القديم العبري، تستخدم لهذا الغرض أسلوبًا من الأداء الرفيع
لم
يتردَّد الدارسون الأوروبيون في تسميته «شِعرًا».
لا تكمُن الجاذبية الجوهرية لهذا الأسلوب في التأثير الصوتي، بل في النمط الدلالي،
الذي
وصفه إيسفيلد
Eissfeld١ على النحو التالي:
تتكوَّن النصوص الشعرية من آياتٍ
verses [هنا الأقسام التقليدية لنصِّ
الكتاب المقدَّس، ولا علاقة له على الإطلاق بالتضادِّ
بين الشِّعر والنثر] مكوَّنة من سطرَين
— ومن النادر، أكثر من ثلاثة — متَّحدين، فيها الأسطر أو الأجزاء «متوازية»
معًا بطريقة ما؛ بحيث تقدم تنوُّعات على الفكرة نفسها. وقد يتحقَّق هذا بتكرارِ
الجزء الثاني لمحتوى الجزء الأول بكلماتٍ مختلفة (توازٍ ترادفي
synonymous)، أو قد يفصلها بحدَّة بفكرةٍ
متناقضة (توازٍ طِباقي antithetic)، أو ربما
يتناول ببساطة الفكرة أكثر ويُكملها (توازٍ توليفي
synthetic).
وبعد صفحتَين يُضيف: «ويبقى السؤال مطروحًا ما إن … كان من الممكن أيضًا أن يمضي أكثرَ
ويعرف الانتظام العَروضي أيضًا.» لكنْ رغم أنَّ الانتظام العروضي الصارم، قد يكون من
الصَّعب تحديده (وأولئك الدارسون للعهد القديم، الذين يدافعون عنه، يُضطرون أحيانًا إلى
اللجوء إلى تنقيحِ النَّص؛ لتحقيق هذا الانتظام). لا يمكن أن يكون هناك شكٌّ بأنَّ الأصداء
الإيقاعية بين سطرَي كلِّ ثنائية، تلعب دورًا في التوازي، وإن يكُن دورًا ثانويًّا. ورغم
أنَّ مثلَ هذه الأنماط الإيقاعية حيثما تكون، لا تتميز بالتكرار الصارم الذي يميِّز «الشعر»
الأوروبي والعربي. وينبغي التركيز على أمرٍ واحد، وهو أنَّ الزخرفة الصوتية للقافية ليس
مبدئيًّا جزءًا من هذا الأسلوب.
يوجد مثالٌ بسيط لهذا الأسلوب في سِفر التكوين ٤٩، ١٧؛ حيث يُوصف دان بأنه يكون «حَيَّةً
عَلَى الطَّرِيقِ، أُفْعُوانًا عَلَى السَّبِيلِ، يَلْسَعُ عَقِبَيِ الْفَرَسِ فَيَسْقُطُ
رَاكِبُهُ إِلَى الْوَرَاءِ
a viper on the road, a horned snake on the
path, who bites the horse’s fetlock so that the rider tumbles
backward» (نسخة
N.E.B.).
٢ يحجب الغموض النسبي لهذه الترجمة الإنجليزية القوة اللطيفة للأصل، الذي يأتي
حرفيًّا على النحو التالي: «حيَّة على الطريق، أفعى على السبيل، تلسع كعبَي حصان؛ فيسقط
راكبه إلى الوراء
viper upon road, snake upon path, biting heels-of horse,
falls his-rider backward.» في الجزء الأول منها لدينا توازٍ ترادُفي
مباشِر، ولدينا في الثاني نمطٌ أكثر تعقيدًا. توازي الكلمتَين الثانية والثالثة تصالُبي
chiasmic: تردُّد
rider
صدى
horse، وتردُّد
backward صدى
heels
(يوضح هذا المثال أن التوازي «الترادفي» عند إيسفيلد ينبغي أن يُفهَم بمعنًى واسع؛ لأنَّ
كلمة
backward ليستْ بدقَّة مرادِفة لكلمة
heels، لكنَّ الاثنتَين يشتركان في عنصرٍ دلالي مشترَك
«جزءٌ خلفي
back-part»). في الكلمة الأُولى من كلِّ سطر، لا
يتَّضح تمامًا أيُّ توازٍ دلالي محض بين «يلسع
bite» و«يسقط
fall»، لكنْ يعزِّزه بُعدان من أبعاد التوازي النحوي —
وله أيضًا دورٌ يلعبه في الأسلوب — بعد مناظر للترادف الدلالي، وبعد مناظر للطِّباق
الدلالي؛ لأنَّ الكلمتَين مفهومان لفظيان يتمُّ التعبير عنهما في مشتقٍّ لفظي، لكنَّ
اسم
الفاعل يتقابل مع شكلِ تصريف الفعل.
وقد يتساءل القارئ الإنجليزي عن سببِ إدخال الضمير his
الذي يبدو مُقحمًا، حين قد يبدو أنَّ rider وحدها تقدِّم
توازيًا أكثرَ براعة. هنا يتدخَّل عاملٌ صوتي، يردِّد مورفيم الضمير o – إيقاعيًّا في rokěbo «راكبه» صدى مورفيم الجمع
e – في
’iqqěbe«عقبَي».
نواجه في اللغة العربية قبل العباسيين نوعَين متميِّزَين من الأسلوب الرفيع. في المقام
الأول: هناك «الشِّعر»، ويتميز بالقافية وبنمطٍ لإيقاعات
متماثلة، يتكرر بصرامةٍ شديدة. وثانيًا: هناك «الخُطبة»،
وتخلو من القافية، لكنها تتمتع بدِقة بالخصائص التي وصفناها من قبل مميِّزةً لشِعر العهد
القديم. ومن الواضح تمامًا، أنه أسلوبٌ يرجع إلى العصور القديمة العظيمة، مقابل الشعر العربي، وهو نسبيًّا ابتكارٌ في مجال اللغة
السامية.
وينبغي أن نقول، أيضًا، إنَّ الطبيعة الأساسية لهذا الأسلوب لا تقتصر بحالٍ من الأحوال
على الشعوب الناطقة بالسامية، بل تتوافق مع ميلٍ متأصِّل في عقل الإنسان. وهي في الإنجليزية
موثَّقة تمامًا. طوَّر جون ليلي
Lyly وأتباعه في عصر تودور
Tudor أسلوبًا مماثلًا متطورًا جدًّا؛ ثمَّة مثالٌ بسيط
لكنَّه معبِّر وهو لروبرت جرين
Greene: «وحينذاك بُدلتُ
بالبلاط الريفَ وبالحروب زوجةً؛ لكنني وجدتُ حرفة الفلاحين أثقلَ من خُبث الحاشية، ومسئولية
الأطفال أثقلَ من مسئولية الخدَم، ولسان الزوجات أسوأ من الحروب نفسها.
I
then changed the court for the country, and the wars for a wife; but I found the
craft of swains more vile than the knavery of courtiers, the charge of children more
heavy than servants, and wives’ tongue “worse than the wars itself”.»
٣ وبصرف النظر عن استخدام جرين لزخرفةٍ إضافية، وهي جِناسُ حروف البداية
٤ alliteration (غير معروف كليًّا في العربية)؛
فإنَّ المثال بالكامل بأسلوبِ
الخُطبة العربية في
بداياتها. وتبرز الاتجاهات نفسها في النثر الرسمي الإنجليزي في القرن الثامن عشر، وخاصة
في
المواعظ؛ ويستمرُّ بشكلٍ متقطِّع حتى في روايات القرن التاسع عشر، وتكشف [ماريا] لويس
دي
لارمي
Louise de la Ramee («ويدا
Ouida») عن تحيُّزٍ شديد لها.
قد يكفي مثالٌ عربي مبكر هنا؛ يتمُّ الاستشهاد بأمثلةٍ أخرى في مقالٍ لي عن هذا الموضوع.
٥ إنها الخطبة التي ألقاها عثمان عند مبايعته للخلافة:
-
(١) إنكم في دارِ قَلِعَةٍ، وفي بقيَّةِ أعمار.
-
(٢) فبادروا آجالَكم بخير ما تقدِرُون عليه.
-
(٣) فلقَدْ أُتِيتُم، صُبِّحتُم أو مُسِّيتُم.
-
(٤أ) ألا وإنَّ الدنيا طُويتْ على الغرور.
-
(٤ب) فلا تغرَّنَّكم الحياةُ الدنيا.
-
(٤ج) ولا يغرَّنَّكم باللهِ الغَرُور.
-
(٥أ) واعتبروا بمَن مضى.
-
(٥ب) ثم جِدُّوا ولا تَغفَلُوا.
-
(٥ج) فإنَّه لا يغفلُ عنكم.
-
(٦أ) أين أبناءُ الدنيا وإخوانُها.
-
(٦ب) الذين أثاروها وعمَّروها.
-
(٦ج) ومُتِّعوا بها طويلًا؟
-
(٧أ) ألَمْ تلفِظْهُم؟
-
(٧ب) ارمُوا بالدنيا.
-
(٧ج) حيث رمى اللهُ بها.
-
(٧د) واطلُبوا الآخِرة.
التصميم هنا معقَّد جدًّا. تكشف الجملة ١ عن توازٍ نحوي مباشِر: «إنكم في دارِ قَلِعَةٍ،
وفي بقيَّةِ أعمار.» رغم أن التوازي الدلالي تصالُبي، مع «أعمار» تردَّد صدى «دار» وتردِّد
«بقيَّة» صدى «قَلِعَة». الجملة ٢ تصالُبية في المعنى والنحو: «بادروا» طباق مع «تقدِرُون»،
و«بخير» لها ارتباط دلالي ﺑ «آجال»، بينما البنية النحوية فهي فعل-اسم، ثم اسم-فعل. الجملة
٣ صوتيًّا ثلاثية، من ثلاثة أفعالٍ مبنية للمجهول (فلقَدْ أُتِيتُم، صُبِّحتُم أو
مُسِّيتُم) رغم أنَّ آخِر فعلَين تابعان للأول. في ٤ الكلمتان الأُولى والثالثة من كلِّ
سطر
تصميمٌ دقيق للتكرار اللفظي: «الدنيا»، «الغرور»؛ «تغر»، «الدنيا»؛ «يغر»، «الغرور».
وارتباط دلالي وثيق؛ حيث إنَّ الخداع بمغريات هذا العالم تيمةٌ نموذجية في الفكر الإسلامي.
في الكلمة الثانية من كل سطر، «الله» (الخلود) في توازٍ طِباقي مع «الحياة» (وهي في هذا
السياق الحياة المؤقَّتة في هذا العالم)، وربما يكون هناك ارتباطٌ دلالي بين «الحياة»
و«طويت»؛ لأنَّ الفعل «طوى» يُستخدم أيضًا مع الإشارة إلى «حلول نهاية فترةٍ زمنية».
الجملة
٥ ثلاثيةٌ متطوِّرة، في ٥أ، ٥ب توازٍ نحوي (زوجان من الأفعال) ودلالي («اعتبروا»، «جدوا»؛
«مضى»، «تغفلوا»)، وتتطور ٥ج بتكرار الفعل «يغفل» في صيغة المبني للمجهول. ٦أ، ٦ب متوازيان
إيقاعيًّا، مع ثلاثة تأكيدات أساسية في كل منهما، ويردد ٦ج دلاليًّا أصداء الكلمتين
الأخيرتين في ٦ب؛ لأنَّ «أثار» و«مُتِّع» جانبان متطابقان لمتعة الاستفادة، سواء بمجهود
المرء أو لصالح شخصٍ آخر، وفي العربية يظهر الارتباط بين «طويلًا
long» و«عمَّر lived»
أقرب ممَّا يظهر في الإنجليزية؛ لأنَّ الفعل المستخدم هنا مقابل «live
in [عمَّر]» تُشتقُّ منه كلمة «معمِّر» وتعني «عاش طويلًا
long-lived». للجملة ٧ نمطٌ متشابِك أكثر تعقيدًا: يشكل
٧أ، ٧ب ثنائية إيقاعية مع مقطعَين، يليهما ثلاثة مقاطع في كلِّ جزء يردِّد ٧ج صدى ٧ب
بتكرار
الفعل «رمى»، تليه كلمتان مناقضتَين دلاليًّا: «الله»، و«الدنيا». يردِّد ٧د صدى ٧ب بطريقةٍ
مختلفة، مع توازٍ طباقي في الكلمتَين: «رمى»، «طلب»؛ «الدنيا»، «الآخرة».
توضيح هذا المقطع الختامي مثالٌ لاتجاه متفشٍّ جدًّا في العربية. في كتابةٍ بسيطة
جدًّا،
توجد عادةُ جعْلِ جزءٍ من جملة يأتي، بعد أكبر وقفة في الجملة، أطولَ من الجزء الذي قبله؛
حتى بإقحامِ حشوٍ إضافي، ليس ضروريًّا للرسالة الأساسية، لكنه يجعل الجملة مقبولةً أكثر
إيقاعيًّا. وقد يتردَّد كاتبٌ عربي بقوة في صياغة جملة «ألَمْ يكُن ميلُ الملك لدخول
حربٍ
كبيرة في تلك اللحظة أكيدًا That the king was disinclined to enter a major
war at that moment, is certain» بهذا الشكل، نتيجةَ عدم كفاية «أكيد
is certain» إيقاعيًّا، مقارنةً بالجزء الأول من
الجملة. في أسلوب التوازي، الجزء الثاني من ثنائية (أو الثالث من ثلاثية) يكون أحيانًا
أطولَ إيقاعيًّا من الجزء (أو الجزأين) الذي قبله، ولا يكون أقصر أبدًا. وحتى مستوى الفقرة،
وجود مقطعٍ مفصَّل أكثر من المقاطع السابقة له إشارةٌ مؤكَّدة تمامًا إلى أنَّنا مُقبِلون
على الوقفة الكُبرى لنهاية الفقرة.
بينما يُستخدم أسلوب الخُطبة المبكِّرة، لخلقِ تأثيره،
هذه الحيلَ التي هي حيل الشِّعر في الشرق الأدنى القديم، لا يعرف الشِّعرُ في بداياته الأولى أيًّا منها؛ لكنه يعتمد (بعيدًا عن الطبيعة
الشِّعرية بعمقٍ للغته وخياله) على بنيةٍ عروضية دقيقة والقافية. توضِّح أقدمُ قصيدتَين
طويلتَين حُفظتَا — لامية الشَّنفَرَى ومعلقة امرئ القيس — في أقلَّ من ١٥٠ بيتًا، نصفَ
دستةٍ بالكاد تعرض حيل التوازي بخِلاف النوع الأبسط، وتحديدًا، التعداد من قَبيل: «سِيدٌ
عَمَلَّسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وَعَرْفَاءُ جَيْأَلُ»، و«فُؤَادٌ مُشَيَّعٌ وأبْيَضُ
إصْلِيتٌ وَصَفْرَاءُ عَيْطَلُ» للشَّنفَرى.
أنتج العصر العباسي من بعض النواحي انعكاسًا غريبًا للأدوار بين الشعر والخُطبة. استغلَّ البديع في شعر العصر العباسي
وما بعد العباسي كلَّ الحيل البلاغية المعقَّدة للخطبة
المبكرة. على العكس، في أيدي ابن نباتة تصبح الخطبةُ ثنائيةً مقفَّاة، وأدَّى تبنِّي
البديع
إلى تقليصٍ في تعقيد التوازي، مقارنةً بتعقيد الخطبة المبكِّرة (صار من النادر استخدامُ
التصالب على سبيل المثال). وصار الأسلوب بهذا التطور بالضرورة عمليًّا في النثر التالي؛
حيث
يأمل المؤلف أن يرفع كتابته إلى مستوى الفخامة أو الأداء الرفيع. وبشكلٍ خاص، كتَبَ
المقدمات دائمًا بهذا الشكل، حتى حين يكون العمل الرئيسي علميًّا بشدَّة. وإضافةً إلى
ذلك،
يتمُّ اللجوء كثيرًا جدًّا إلى فقرةٍ متوازية (سواء بإضافة قافية على سبيل الزخرفة، أو
بدون
إضافتها) حيلةً لتمييز الإيقاع في نهاية الفقرة، إلى حدٍّ ما، كما في المسرحيات الأولى
لشكسبير، كثيرًا ما تميِّز ثنائيةٌ مقفاة نهايةَ المشهد.
تأصلت هذه العادات بعمق في الكتابة العربية، وحتى اليوم لا تزال الكتابات التاريخية
و«التأمُّليَّة» تستخدم أسلوبَ التوازي باعتدال. ثمَّة مثالٌ معاصر، رغم أنه أكثر تفصيلًا
بكثير ممَّا نصادفه عادةً، جديرٌ بالاقتباس؛ للوضوح الذي يمثِّل به السمات الأسلوبية
التي
نحن بصددها. يكرِّس محاضرٌ في جامعة الرياض، علي القاسمي، وهو يكتب في ١٩٧٠م في مجلةٍ
أدبية
عن تيمةِ الشَّيب في الشعر،
٦ فقرةً عن الأسباب الفسيولوجية للشَّيب، وهي مكتوبةٌ بأسلوبٍ حديث تمامًا على
نمطِ الكتابة العلمية الأوروبية وبدون زخرفةٍ لُغوية بكلِّ معنى الكلمة، لكنْ في الفقرة
التالية في الصفحة نفسها يتحوَّل إلى التأثير النفسي لظهور الشَّيب. وفي تناول هذا الموضوع
المشحون عاطفيًّا، يعود غريزيًّا إلى التوازي من النوع الأكثر تقليدية، رغم أنَّ الفقرة
مقفَّاة في موضعَين فقط (يحدَّدان فيما يلي ﺑ ق١، ق٢)، على النحو التالي:
الشباب مرحلةٌ عزيزة من حياة الإنسان،
حبيبةٌ إلى قلبه،
عزيزةٌ على نفسه،
حافلةٌ بألوان البهجة والمرح،
زاخرةٌ بأشكال السعادة والهناءة،
مليئةٌ بصُنوف النشاط والمغامرات،
مُحتدِمةٌ بمختلف العواطف والانفعالات.
وإذ ينقضي هذا الطَّور، يُخلِفُ
في القلبِ لوعة،
وفي النفس أسًى،
وفي الرُّوح حسرة.
والقتير (وهو أول الشَّيب)
إيذانٌ برحيل الشباب
وانقضاءِ أفراحه (ق١)،
ونذيرٌ بقُدوم المَشيب
وابتداءِ أتراحه (ق١).
وليس هناك أرَقُّ عاطفةً
وأصدَقُ تعبيرًا
من الشاعر الذي
يذكُر أيام شبابه ويَبكيها (ق٢)،
ويتحدَّث عن ليالي صباه ويرثيها (ق٢)،
بعد أن شاهَدَ ثُلوج الشَّيب وهي تزحف مُسرِعةً على رأسه،
مُعلِنةً حلولَ شتاءِ حياته
وذهابَ الربيع بلا عودة.
تجنبتُ حتى الآن استخدام المصطلح التقني الغامض إلى حدٍّ ما، السجع. في تطبيقاته الأولى، وصَفَ طريقة تعبير الكهنة قبل
الإسلام (وحذَّر النبيُّ أتباعه من «سجع الكهَّان»). الكلام من هذا النوع كما سُجِّل
لنا
بأسلوب بدائي جدًّا، لا يشبه أي شيء ممَّا وصفناه من قبل، لكنَّ الدارسين الأوروبيين
كثيرًا
ما لاحظوا تشابُهًا قويًّا مع أسلوبِ أول آياتٍ نزلت من القرآن. وهذه القِطَع قصيرةٌ
جدًّا
دائمًا، وتقسَّم إلى أجزاء مختلفةِ الطول، بقافيةٍ موحَّدة ثابتة في نهاية كلِّ جزء؛
وبهذا
تتميز عن الخُطب المبكِّرة غير المقفاة، وعن الشكل التالي المكوَّن من ثنائيات مقفَّاة.
ومع
ذلك، استخدم مصطلح السجع في العصر العباسي، لشكل الخُطبة
المكوَّنة من ثنائياتٍ مقفَّاة كما مارسها ابن نباتة، وبالتالي ترجَمَ الدارسون الأوروبيون
المصطلحَ تقليديًّا إلى rhymed prose. ومن منظورِ التصنيف
الأدبي، هذه ترجمةٌ سيئة بشكلٍ لافت؛ لأنَّ من الواضح أنَّ أسلوب التوازي، حتى حين لا
يكون
مقفًّى، يشترك مع شكل الثنائيات المقفَّاة أكثر ممَّا يشترك أيٌّ منهما مع «سجع الكهَّان».