القرآن (٢)
(١) تطوُّر رسالة محمد
وهذا النَّهج أنجحُ بكثيرٍ حين تُتناول الفترة المدنية. هناك إشاراتٌ كثيرة في المواد التي نزلتْ في المدينة إلى أحداثٍ خارجية شهدتْ عليها مصادرُ أخرى. وكانت كافيةً لتأسيس اتفاق ما على السور التي تعتبر مدنية؛ لأنَّ محتوياتها نزلت كاملة هناك. عاكسةً ترتيبًا بارزًا، تصنِّف الطبعة المصرية المحقَّقة ثمانيًا وعشرين سورةً مدنية. وهي: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، الرعد، الحج، النور، الأحزاب، محمد، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن، الطلاق، التحريم، الإنسان، البينة، الزلزلة، النصر. السور التي يمثِّل إدراجها أمرًا مدهِشًا هي: الرحمن، الإنسان، الزلزلة؛ ويعترف بها بهذا الشكل في المصادر الإسلامية الأخرى. المحاولات لوضع السور المدنية في ترتيبٍ زمني تفصيلي أقلَّ إقناعًا بكثير؛ لأنها تعتمد من ناحيةٍ على اللجوء إلى أدلة من مصادرَ أخرى قائمة في ذاتها على موادَّ مدنية في القرآن.
المكية المبكِّرة جدًّا: الفاتحة، القلم، المزمِّل، المدثِّر، الفجر، البلد، الشمس، الليل، التين، العَلق، القَدْر، الزلزلة، العاديات، القارعة، التكاثر، العصر، الفيل، قريش، الكافرون (١٩ سورة).
المكية الوسطى: الحجر، الإسراء، الكهف، الأنبياء، الفرقان، الشعراء، النمل، الروم، السجدة، يس، الصافات، ص، الزمر، غافر، فُصِّلت، الشورى، الزخرف، الدُّخان، الجاثية، الأحقاف، ق، المُلك، الحاقة (٢٣ سورة).
المكية المتأخِّرة: الأنعام، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، النحل، المؤمنون، القَصص، العنكبوت، لقمان، التغابن، الجن (١٤ سورة).
المَدنيَّة: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، الحج، النور، الأحزاب، محمد، الفتح، الحجرات، الحديد، المُجَادلة، الحشر، المُمْتَحنة، الصَّف، الجمعة، المنافقون، الطلاق، التحريم، البَيِّنة، النصر (٢٣ سورة).
يلاحَظ أنَّ السور المدنية في تقسيمِ بكثال تقلُّ خمس سورٍ عن تقسيم النصِّ المصري المحقَّق. يضع سورة التغابن ضمنَ المكية المتأخِّرة أو من المحتمَل أن تكون مدنية، وسورة الرعد مكيَّة متأخرة، وسورتَي الرحمن والإنسان في الفترة المكية المبكِّرة وسورة الزلزلة في الفترة المكية المبكِّرة جدًّا.
يتمثَّل ضعفُ منهجَيْ فيل ونولدكه في أنَّ المعايير، حيث بنيت الأحكام على الأسلوب والمحتويات فقط، فجَّة تمامًا وتتضمَّن قدرًا غير ضئيلٍ من الذاتية. وإضافةً إلى ذلك، يتبعان ممارسةَ المسلمين في معالجة السور المكية، كما لو كانت قِطَعًا موحَّدة من الآيات إلا إذا تضمن الأمر آياتٍ مدنيَّةً بوضوح. (وهكذا اعتُبرت سورة العَلَق كلُّها أولَ ما نزل من الوحي.) مرةً أخرى، ينبغي اعتبارُ الترتيب التفصيلي مشكوكًا فيه إلى حدٍّ كبير، لكنَّ التقسيم إلى مجموعاتٍ له بعض المصداقية. مع وضعِ السُّوَر في كلِّ مجموعةٍ في ترتيبٍ رقمي، أقسامُ نولدكه كالتالي:
المكية المبكِّرة: ١، ٥١–٥٣، ٥٥-٥٦، ٦٨–٧٠، ٧٣–٧٥، ٧٧–٩٧، ٩٩–١٠٩، ١١١–١١٤ (٤٨ سورة).
المكية الوسطى: ١٥، ١٧–٢١، ٢٣، ٢٥–٢٧، ٣٦–٣٨، ٤٣-٤٤، ٥٠، ٥٤، ٦٧، ٧١-٧٢، ٧٦ (٢١ سورة).
المكية المتأخِّرة: ٦-٧، ١٠–١٤، ١٦، ٢٨–٣٢، ٣٤-٣٥، ٣٩–٤٢، ٤٥-٤٦ (٢١ سورة).
المدنيَّة: ٢–٥، ٨-٩، ٢٢، ٢٤، ٣٣، ٤٧–٤٩، ٥٧–٦٦، ٩٨–١١٠ (٢٤ سورة).
توضِّح المقارنة بمجموعاتِ بكثال قدْرًا كبيرًا من التماثل. وهكذا تقابل مجموعتا بثكال «المبكِّرة جدًّا» و«المبكِّرة» إلى حدٍّ بعيد بشكلٍ معقول المجموعةَ «المبكِّرة» عند نولدكه. تشملان سبع سُوَر (١٩، ٢٠، ٣٤، ٣٥، ٥٤، ٧١، ٧٦) يضعها نولدكه في مجموعاته الأخيرة ويستبعد واحدةً فقط (٦٩) وُضعتْ في المجموعة الأولى لنولدكه. وهناك اختلافٌ أوسع في المجموعتَين التاليتَين، لكنَّ السور المدنية توضِّح اختلافًا واحدًا فقط: يعتبر بكثال سورة التغابن مكيَّة أو قد تكون مدنيَّة، مقابل تقسيمٍ مدني واضح لنولدكه.
تشير كلُّ هذه المحاولات إلى أمرٍ واحد فقط: وضع السور، وخاصة المكية، بترتيبٍ تفصيلي طموح بعيد جدًّا. وإضافةً إلى ذلك، في هذا الموقف غير المؤكَّد، هناك نقطةٌ ضئيلة جدًّا يمكن قولها، وهي أنَّ سورة البلد (رقم ٩٠) رقم ١١ في ترتيب نولدكه، ١٨ في ترتيب جريم، ٣٥ في الترتيب المصري؛ أو أن سورة العاديات (رقم ١٠٠) رقم ٣٠ في ترتيب نولدكه، ١٣ في ترتيب بلاشير، لكن من المفيد القول إنَّ سورة البلد وسورة العاديات مكيتان مبكِّرتان، أو إنَّ سورة الصافات من أوائل سُوَر الفترة المكية الوسطى. هناك بالطبع محاذير: لا يمكن أن تكون هناك خطوطٌ محدَّدة للتقسيم بين المجموعات، معايير التقسيم ذاتية، يختلف عدد التقسيمات طبقًا لآراء واضع المجموعات. ومع ذلك، تُعطينا المجموعات مؤشراتٍ على التطور العام في المواد المكية، وتعطينا، بشرط مراعاة الدقة، إطارًا محدودًا لمناقشةِ الموادِّ المدنيَّة.
نحن على أرضيَّة أكثرَ صلابةً في المدينة، مع توفُّر موادَّ يمكن تحديدُ تاريخها، لكنَّ الشكوك تستمرُّ هنا، ومرةً أخرى أمرٌ لا يتَّسم بالحكمة، أنْ نسعى إلى تحديدٍ صارم، لكنْ حيث إنَّ تحديد التاريخ في المدينة حاسمٌ؛ من المرجَّح أن يكون بشأنِ نقطةٍ معيَّنة، على سبيل المثال نسخ آية، أكثرَ بكثيرٍ من أن يكون بشأن تطوراتٍ عامة. في هذه الظروف، لا يمكن إلا أن نلجأ إلى المصادر الإسلامية التقليدية.
(٢) القرآن في حياة محمد
(٢-١) التطور والجمع
لم تكُن عملية الجمع متَّسقة، ولا توضع السور بالضرورة معًا بطريقةٍ من السهل تتبُّعها. هناك القليل من السور، بعضها سور طويلة، شُكِّلتْ معًا بعناية؛ وفي بقيَّة السور لا تحدُث فقط تغيُّراتٌ كثيرة مفاجئة، وكثيرًا ما تكون مذهِلةً في البناء والمحتوى والموقف، لكن هناك أيضًا تكرارًا كثيرًا وتعديلًا وحتى تناقُضًا في الحُجج. وتؤدي هذه السمات، التي كثيرًا ما ينتقدها الكتَّاب الغربيون، إلى مشاكلَ عويصة. وينبغي عدم تجاهُل هذه المشاكل أو التقليل من شأنها، وينبغي أيضًا تذكُّر أنَّ الكلَّ أعظمُ من مجموع أجزائه.
(٢-٢) الحفظ والنقل
إن لم نعتمد اعتمادًا كبيرًا جدًّا على الحديث، لن يكون لدينا إلا معلوماتٌ ضئيلة عن حفظ النص القرآني ونقله في حياة محمد، وما لدينا ليس مدهِشًا أو مضيئًا جدًّا. الصورة كما تبدو أنَّ الأمر تضمَّن وسائل شفهية وكتابية، وزادت أهميةُ الأخيرة تدريجيًّا في السنوات الأخيرة من حياة محمد مع تراكم المادة وتعقيدها بشكلٍ متزايد.
كما هي الحال مع الكثير من أبعاد القرآن، لدينا انطباعٌ بشأن ما حدث في المدينة أوضحُ ممَّا لدينا بشأن ما حدَثَ في مكة. في هذه الحالة، المؤشرات بشأن الفترة المكية أكثر ندرةً من المعتاد. الحديث الوحيد الذي يمثِّل فيه نصٌّ مكتوب جزءًا لا يتجزأ من القصة، حديثٌ يتعلَّق بإسلام عُمرَ بنِ الخطاب، الذي صار خليفةً بعد ذلك. يحكي كيف أنَّ عمرَ ألحَّ على أنْ يقرأ صحيفة في حوزة أخته وزوجها، اللَّذين اكتشَفَ أنهما مسلمان؛ «ليعرف ما أتى به محمَّد.» أُعطيت له الصحيفة في النهاية، وكانت تحتوي على سورة طه، وبعد أن قرأها طلَبَ الذهابَ إلى محمَّد ليُعلن إسلامه. ثمَّة مشكلتان تجعلان من الصعب قَبولَ هذا الحديث: هناك حكاياتٌ متناقضة عن إسلام عمر، وفيها يبدو أنَّ الدراما تلوح أكثر بكثير من الحقيقة؛ والإيحاء بأنَّ سورة طه كان يتمُّ تداولها مكتوبةً في وقتٍ مبكِّر عند إسلام عمر يبدو مفارقةً تاريخية.
وتبقى عدَّة مشاكل مهمَّة، لا يمكن تشكيل رأي بنَّاء عليها، ببساطة مع عدم وجود دليل. لا نعرف مقدارَ ما كُتب من القرآن في حياة النبي، ولا نعرف مسئوليةَ الكتَّاب عن المادة التي دوَّنوها أو ما حدث لهذه المادة عند وفاة محمد. كلُّ ما يمكن ملاحظته الدورُ الكبير الذي لعبه بعضُهم، وخاصة زيد بن ثابت وأُبَي بن كعب وعثمان، في التاريخ التالي للنص.
(٣) تاريخ نص القرآن بعد وفاة محمد
(٣-١) النصوص قبل العثمانية
تاريخ نَص القرآن بعد وفاة محمد، يهيمن عليه النص الذي أعدَّه زيد بن ثابت والمحقِّقون المشاركون له للخليفة عثمان. وهذا طبيعي وحقيقي؛ لأنَّ المحاولة الناجحة لعثمان لوضع نموذج متَّفق عليه كانت نقلةً بالغة الأهمية للمجتمع الإسلامي. مع إصدار النص العثماني، أُهملت النُّسخ السابقة بسرعةٍ وصارت محتوياتُها مجرَّدَ مادةٍ للاهتمام الأكاديمي لعلماء النَّص. والقراءات المتنوِّعة التي احتوتْ عليها، تُعتبر غير متواترة، وتَضَاءل الاهتمامُ بها تدريجيًّا. والنتيجة أنَّ الأدلة التي لدينا عن نُسخ النَّص قبلَ النَّص العثماني هزيلةٌ ومتضارِبة إلى حدٍّ ما.
لكنَّ النقطة الأكثر أهميةً التي تظهر، لا ترتبط بأيَّة نسخة. صحيحٌ أنَّ القرآن ينبغي أن يُجمع بعد وفاة محمد. وهذه مسألةٌ لها آثار عقائدية كبيرة. العقيدة بأنَّ القرآن أزليٌّ وكلمة الله غير المخلوقة، وكانت العامل الأساسي وراء التناقص المستمر في عدد الاختلافات المقبولة في النص، لم تمتدَّ قَط لتغطِّي النظام الحالي والترتيب. ومن المؤكَّد أنَّ هذا كان سيتمُّ لو لم يَقبل المجتمع الإسلاميُّ ضرورةَ جَمْع النص وترتيبه بنظامٍ بعد وفاة النبي.
في تلك السنوات المبكِّرة، كان جمع المادة المكتوبة على نطاق ضيِّق نسبيًّا. ويبدو أنَّها اعتبرت مكمِّلة للتراث الشفهي، الطريقة المعتادة لنقل العادات والثقافة العربية حتى ذلك الوقت. وبقدْرِ ما نعرف، كان السببُ وراء ذلك الرغبةَ في الحصول على كتابٍ مكتوب وتقليدَ سُنَّة النبي في الحصول على قِطَع مكتوبة.
هناك مشاكلُ بشأن هذه الحكاية، لكنَّها لا تكفي لتبرير النظرة المتشكِّكة لها من بعض المستشرقين. المشكوك فيه خاصة رأي مَن يذهبون إلى درجةِ إنكار وجود مجموعة جَمَعها زيدٌ لأبي بكر. ويرون أنها قصةٌ مُختَلَقة وضعت لتَسلبَ عثمانَ الذي لا يحظى بشعبيةٍ شرفَ الأمر بجمْعِ أول نَص منقَّح. ولا يمكن الدفاع عن هذا الرأي إلا بإثارة مشاكلَ مستعصية بشأن أصلِ نَص حفصةَ وحتى وجوده، وإنكار وجود نصٍّ عند حفصةَ يتعارض بشدَّة مع أدلةٍ قوية على وجوده.
- (أ)
بصرف النَّظر عن أيَّة مشاكل قد تكون أثيرتْ بعد وقعة اليمامة، لم يكن من غير المعقول بالنسبة للخليفة أن يرغب في وجود نسخةٍ مكتوبة من الكتاب المقدَّس الذي أُوحي للنبي.
- (ب)
سواءٌ اعتبرناها شاملةً أو غير شاملة، أيَّة مجموعة جُمعت لأبي بكرٍ تحظى بمكانةٍ خاصة.
- (جـ) حقيقة وصولِ هذا النَّص إلى حفصةَ، يمكن تفسيرها بشكلٍ معقول. حين طُعِن عمر طعنةً قاتلة، كان لديه وقتٌ للقيام ببعض الترتيبات المتعجِّلة بشأن ما ينبغي أن يحدُث بعد ذلك، كما نعرف من تشكيل الشُّورى لاختيار خليفةٍ له. وليس من غير المعقول أنَّه أعطى النَّص الذي استلمه من أَبي بكر لحفصةَ لتحفَظَه. كانت، رغم كلِّ شيء، عضوًا مهمًّا في المجتمع، ليس فقط لأنَّها ابنته، بل وأيضًا لأنَّها أرملةُ النبي.
مقابل هذه الاعتراضات غير المقنعة جدًّا للحديث، هناك دليلان يقدِّمان بعضَ الدعم للاعتقاد بأنَّ زيدًا أعدَّ نصًّا لأبي بكر.
ثانيًا: وجود مجموعاتٍ شاملة أخرى مبكِّرة ليس محلَّ خِلاف، وخاصة بالنسبة لمَن يتشكَّكون في الأحاديث بشأن نص أبي بكر. ولا تشمل هذه المجموعات المبكِّرة فقط تلك التي أصبحت مخطوطاتٍ كبرى شهيرة؛ بل تشمل أيضًا مجموعاتٍ قام بها سكَّان المدينة، ومن بينهم علي وابن عباس وأنس بن مالك. رغم الوجود الأكيد لهذه المجموعات، لا يوجد دليلٌ على أنَّ أيًّا منها استُخدم في إعداد النَّص العثماني.
بوضع هذه الصورة العامة في الاعتبار، يبدو من غير المعقول إنكارُ وجودِ نصٍّ جَمعَه زيدٌ لأَبي بكر ورفْضُ قبول أنَّه يشكِّل نواةَ النص العثماني. وقد نشعر بأنه يمثِّل مرحلةً مهمة في تاريخ النَّص.
الاختلافات الضئيلة، وتقتصر غالبًا على كلمةٍ واحدة، بطبيعتها أقلُّ إثارة. وهي أيضًا في بعض الحالات محفوفةٌ بالصعوبة. على سبيل المثال: نشتبه أحيانًا في أنَّ القراءات التي ابتكَرَها علماءُ دِين ونُحاة في وقتٍ لاحق دُسَّتْ على هذه المصادر المبكِّرة لتُعطيها قيمةً أكبر. وحتى مع التناول الحذِر الذي تتطلَّبه هذه الاحتمالات، قد نستنبط بشكلٍ معقول على الأقل سِمةً لها أهميةٌ خاصة. يمكن أن نجِدَ اختلافًا اعتُبر في وقتٍ لاحق مستحيلًا لأنه انحرف عن النص الصحيح؛ المرادِف. هذه الاختلافات متكرِّرة بالطبع، في التراثِ الشفهي أو المادة المبنيَّة على التراث الشفهي. الأمثلة النموذجية هي «ارشدْنا» في ابن مسعود بدلًا من «اهدنا» في الآية ٦ من سورة الفاتحة، و«بساط» عند أُبَيٍّ بدلًا من «فِراش» في الآية ٢٢ من سورة البقرة. يرفض كثير من علماء المسلمين هذه الاختلافات بوصفها تفسيراتٍ، لكنَّه تقييمٌ ساذج جدًّا.
لدينا أيضًا تقارير بأنَّ ترتيب السور، على الأقل في مصحفَي ابن مسعود وأُبيٍّ، يختلف كثيرًا عن النص العثماني. لدينا قائمتان لكلٍّ من المجموعتَين، لكنَّهما يكشفان عن تبايُن، وهما على أيَّة حال غير مكتمِلتَين. كلُّ ما يمكن أن نستنتجه منهما، أنَّ ابن مسعود وأُبيًّا لم يرتِّبا السور ترتيبًا زمنيًّا. والأكثر إحباطًا أنَّ القائمتَين مقدَّمتان بفرضيَّة أنَّ المادة في كلِّ سورة عمومًا، هي المادة الموجودة في السورة المقابِلة في النَّص العثماني. وببساطة لا يوجد دليلٌ يدعم هذه الفرضيَّة أو يَدحَضها.
المعلومات المسجَّلة بشأن المجموعات قبل العثمانية مجزَّأة جدًّا بدرجةٍ تجعلها بلا قيمة. وربما يمكن فقط أن نستشفَّ نموًّا تدريجيًّا في عددِ المجموعات.
(٣-٢) النص العثماني
لأنَّ الاختلافات بين المخطوطات الرئيسية صارت مسألةَ تحزُّب؛ ممَّا استدعى من عثمان أن يطلُب إعدادَ نصٍّ منقَّح آخر. القصة، التي تُروى على نطاقٍ واسع، واضحةٌ في الإطار العام رغمَ الاختلاف في التفاصيل:
في سنة ٣٠ﻫ/٦٥١م، شارك القائد حذيفة بن اليمان في حملةٍ إلى أذربيجان وأرمينيا. تشكَّلت القوات من أهل الشام والعراق، ونشبتْ خلافات بينهم بشأن القراءة الصحيحة للقرآن. وكلُّ مجموعةٍ من دمشق وحمص والكوفة والبصرة تدعم مصحفها. ممَّا أفزع حذيفةَ وأغضبه، وبعد استشارة سعيد بن العاص ذَكرَ المسألةَ لعثمان وقال له: «أَدرِك الأمَّةَ قبل أن يختلفوا اختلافَ اليهود والنصارى.» وافق عثمان على العمل، وطلب من زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث إعدادَ نسخةٍ مكتوبة جديدة ووجَّههم باستخدامِ لهجةِ قريش إذا انتابهم شكٌّ.
يبدو أنَّ النَّص الذي أعدَّه المحقِّقون حقَّق ثلاثةَ أشياء: ثبَّت نهائيًّا محتويات كلِّ سورة، ووضَعَ السور مرتبة، وقدَّم إطارًا صحيحًا مكتوبًا لما اتفقوا على أنه النص الكامل.
لكنَّ الشيعة لهم رأيٌ مختلف بشأن النص العثماني. ومن الواضح أنَّ اعتراضاتهم ذات صِبغة سياسية ومذهبية. اعتقدوا أنَّ النَّص احتوى في الأصل موادَّ تُشير إلى علي وأهل النبي، لكنَّها بُدلت أو حُذفت. وتتَّجه اتهاماتهم أساسًا إلى عثمان، لكنَّ أبا بكر وعمر متَّهمان أيضًا، على ما يُفترض بشأن حكاية النَّص الذي أعدَّه زيدٌ لأبي بكر. في البداية تعلَّقت الاتهامات بقدْرٍ صغير من المواد، لكنْ بمرور الأيام اتَّسعت الاتهامات لتغطِّي حذفَ قِطَع كبيرة وحتى سُوَرًا كاملة.
إنَّ إخلاصَ المحقِّقين بأكمل معانيه، مهمِلين ادعاءاتِ الشيعة بوصفها تحزُّبًا، عاملٌ لا ينبغي إغفاله. كانوا رجالًا يخشون الله ويعرفون ما أُوحي للنبي. ربما لا يكون هناك شكٌّ في أنَّ رغبتهم في إعداد النص كانت لوجه الله قبلَ كلِّ شيء. كان هذا الموقف حافزًا قويًّا لهم ليراعوا الدِّقة والحَذَر في مراجعتهم.
ويحتمل أن يكون هذا سببَ ترتيب السور، الذي يُعتقد غالبًا أنَّه كان بدون سببٍ معقول. في غياب اليقين بشأن الترتيب الزمني، يأتي نظامان محايدان بشأنِ الطول إلى الذِّهن بسهولة: من الأَقْصَر للأطول، ومن الأطول للأَقْصَر. من هذَين النظامَين، كان من الأطول للأَقْصَر، مع التشريع الاجتماعي في البدايات، أكثرَ جاذبية، لكنَّ هذا الاقتراح مجرَّدُ تخمين.
وكان فرضُ الاتساق الأساسي في النص إنجازًا لافتًا. يتَّضح مدى هذا الاتساق جليًّا بالاختلافات المعروفة في الإطار الصحيح في القراءات المتواترة. في حوالي أربعين موضعًا، حدث بعد ذلك اختلاف في النصِّ الصحيح. تتعلَّق كلُّها، باستثناء اثنَين، بحرفٍ واحد فقط (على سبيل المثال: إضافة «و»، المثال الأكثر شيوعًا، في ثمانيةِ مواضع). في حالتَين أخريين لدينا، إضافة كلمتَين قصيرتَين («من» في الآية ١٠٠ من سورة التوبة، و«هو» في الآية ٢٤ من سورة الأحقاف). وحين يلاحظ أنَّ نصَّ دمشق يحتوي على أكثرَ من نصف هذه الاختلافات، نرى مدى القوة التي تمَّ بها الالتزام بالإطار العثماني. كُتب المصحف بخطٍّ مُيزتْ فيه الصوامت والصوائت بوضوح، وليس هناك مزيدٌ من التاريخ؛ المهم النص.
(٣-٣) فترة «الاختيار»
(٣-٤) القراءات المتواترة
المكان | صاحب القراءة | الرواة |
---|---|---|
المدينة | نافع (ت: ١٦٩ﻫ/٧٨٥-٧٨٦م) | ورش (ت: ١٩٧ﻫ/٨١٣م) |
قالون (ت: ٢٢٠ﻫ/٨٣٥م) | ||
مكة | ابن كثير (ت: ١٢٠ﻫ/٧٣٨م) | البَزِّي (ت: ٢٥٠ﻫ/٨٦٤م) |
قُنْدُل (ت: ٢٩١ﻫ/٩٠٤م) | ||
دمشق | ابن عامر (ت: ١١٨ﻫ/٨٣٦م) | هشام (ت: ٢٤٢ﻫ/٨٥٦-٨٥٧م) |
ابن خلكان (ت: ٢٤٥ﻫ/٨٥٩م) | ||
البصرة | أبو عمرو (ت: ١٥٤ﻫ/٧٧١م) | الدوري (ت: ٢٤٦ﻫ/٨٦٠م) |
السيوطي (ت: ٢٦١ﻫ/٨٧٥م) | ||
الكوفة | عاصم (ت: ١٢٨ﻫ/٧٤٦م) | حفص (ت: ١٩٠ﻫ/٨٠٦م) |
ابن عياش (ت: ١٩٤ﻫ/٨١٠م) | ||
الكوفة | حمزة (ت: ١٥٨ﻫ/٧٧٥م) | خلف (ت: ٢٢٩ﻫ/٨٤٤م) |
خلاد (ت: ٢٢٠ﻫ/٨٣٥م) | ||
الكوفة | الكسائي (ت: ١٨٩ﻫ/٨٠٥م) | الدُّوري (ت: ٢٤٠ﻫ/٨٥٤-٨٥٥م) |
أبو الحارث (ت: ٢٤٦ﻫ/٨٦٠م) |
في معظم الحالات، الاختلافات في القراءات المتواترة أقلُّ أهميةً نسبيًّا؛ وحتى تأثيرها متراكمًا، ليس كبيرًا، لكنَّها حاسمةٌ أحيانًا. المثال الأكثر وضوحًا لهذا، في الكلمة الأخيرة من سورة البروج. الآيتان الأخيرتان على النحو التالي: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. المقطع الأخير محلُّ شك. «أو» ستٌّ من القراءات المتواترة تجرُّ كلمة «محفوظ»؛ ممَّا يعني أن «القرآن المجيد في لوحٍ محفوظ»؛ الإشارة الوحيدة في النص للَّوح المحفوظ في العقيدة الإسلامية. القراءة السابعة، وهي قراءة نافع، ترفع كلمة «محفوظ»؛ ممَّا يعني أنَّ «القرآن الكريم محفوظٌ على لوح». توجد أحيانًا أسسٌ أخرى من نوعٍ مماثل في آياتٍ تتناول التشريع الاجتماعي.