الفصل السابع

القرآن (٢)

أ. جونز، جامعة أكسفورد

(١) تطوُّر رسالة محمد

كان الترتيب الزمني للمادة الواردة في القرآن، التي ينبغي أن تعتمد عليها أيَّة محاولة لتتبُّع تطور تعاليم محمد، موضوعَ دراسةٍ مكثَّفة للعلماء المسلمين وللمستشرقين، لكنْ لا يمكن القول إنَّ دراساتهم تأخذنا بعيدًا جدًّا. العقبات الرئيسية هائلة: الطبيعة المركَّبة عمومًا للسُّوَر. الترتيب المحايد للسور في النص الأصلي، والنقص النسبي لإشارات محدِّدة لأحداث يوجد عليها دليل ثابت بشكلٍ معقول في مواضع أخرى.
تركِّز دراسات الترتيب الزمني على أسباب النزول. حيثما وُجدت أسبابٌ للنزول، لا تعالَج فقط في السور والحديث والتفسير؛ بل وفي أعمالٍ خاصة تتناول أسباب النزول فقط. كان العلماء المسلمون على وعيٍ بمعاييرَ أخرى، لكنَّهم لم يتتبَّعوها، مثل معايير الأسلوب. لُوحظ، على سبيل المثال، أنَّ أوائل السور تتكوَّن من آياتٍ قصيرة وأنَّ طول الآيات اتَّجه إلى الزيادةِ بمرور الوقت. على مستوًى أكثر تفصيلًا، استخدام عبارة «يا أيها الناس»، استخدامٌ مكي أساسًا، تقابلها عبارة «يا أيها المؤمنون»، واستُخدمت في المدينة فقط.
الحُكم المبني على أسباب النزول نهجٌ مفيد؛ لأنَّ التحديد الحقيقي لآية بشيء ما خارجي يقدِّم الدليلَ الصحيح الوحيد لتحديد تاريخها. يكمن الضَّعف في التنفيذ لا في المنهج. بينما توجد أسباب عملية جيدة لمعرفة موعد نزول آية، كان الكثير من التأثير نتيجةَ حماس ديني وفزع من العجز عن تفسير المُبهَمات. وهذه هي الحالة بالضبط مع المواد المكية، حيث الإشارات التاريخية قليلة. ويوضِّح مثال واحد هذا الاتجاه. نقرأ في الآيتين ٦-٧ من سورة العَلَق: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. يعتبر المفسرون الآيتَين إشارةً إلى أبي جهل، أحد المُعارِضين البارزين لمحمد في مكة، ودليلًا على تاريخٍ مبكِّر بدأتْ فيه معارضته للنبي. ربما كان ذلك معروفًا في المجتمع، لكنْ ليس هناك دليلٌ حقيقي عليه.

وهذا النَّهج أنجحُ بكثيرٍ حين تُتناول الفترة المدنية. هناك إشاراتٌ كثيرة في المواد التي نزلتْ في المدينة إلى أحداثٍ خارجية شهدتْ عليها مصادرُ أخرى. وكانت كافيةً لتأسيس اتفاق ما على السور التي تعتبر مدنية؛ لأنَّ محتوياتها نزلت كاملة هناك. عاكسةً ترتيبًا بارزًا، تصنِّف الطبعة المصرية المحقَّقة ثمانيًا وعشرين سورةً مدنية. وهي: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، الرعد، الحج، النور، الأحزاب، محمد، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن، الطلاق، التحريم، الإنسان، البينة، الزلزلة، النصر. السور التي يمثِّل إدراجها أمرًا مدهِشًا هي: الرحمن، الإنسان، الزلزلة؛ ويعترف بها بهذا الشكل في المصادر الإسلامية الأخرى. المحاولات لوضع السور المدنية في ترتيبٍ زمني تفصيلي أقلَّ إقناعًا بكثير؛ لأنها تعتمد من ناحيةٍ على اللجوء إلى أدلة من مصادرَ أخرى قائمة في ذاتها على موادَّ مدنية في القرآن.

هناك بالقَدْر نفسه قوائمُ تفصيلية بترتيب السور المكية؛ حيث إنها مبنية بالكامل تقريبًا على تقليدٍ شائع، لا تحمل التفاصيلُ أيَّ إقناع. الصعوبات مع هذه التقاليد، تتمثَّل بالمعرفة المعطاة بشأن آياتٍ يقال غالبًا إنها أولُ ما نزَلَ من الوحي: الآيات ١–٥ من سورة العَلق، والآيات ١–٧ من سورة المدثر. في الحالتَين لدينا تعليقاتٌ كثيرة وشاملة (يتعارض بعضها مع الآخر) في مجموعةِ مصادر، عن كيفية نزول الفقرتَين.١ ومن المتصوَّر تمامًا أنَّ أساسيات هذه التعليقات صحيحة، لكنَّها لا تخبرنا بشيءٍ لا يمكن أن يفسَّر إلا بأنَّه توضيحُ الفقرتَين.
لكنْ يمكن أن نتصوَّر في المصادر التقليدية، أساسًا لتصنيفٍ أكثرَ عموميةً. وإن كانت السور المكية تقسَّم إلى ثلاثِ مجموعاتٍ واسعة أو أربع؛ فإنَّ السور داخل الأقسام تقع غالبًا في مجموعاتٍ لا يبدو أنَّها بدون أساس تمامًا. كما هي الحال مع تصنيف السور المدنية، هناك بعض الشذوذ. على سبيل المثال: التواريخ المبكِّرة المعطاة لسورتَي مريم وطه، مؤسَّسة على أسبابٍ للنزول مشكوكٍ فيها تمامًا، لا يمكن أن تستمر. وليست هناك أسبابٌ معقولة لاعتبارِ سورتَي سبأ وفاطر مبكِّرتَين. إذا تجاوزنا هذه الحالات الشاذة، من المفيد أن نتطلَّع إلى تقسيمٍ واسع إلى أربعِ مجموعات مكية فرعية ومجموعة مدنية، توجد في ترجمةِ معتنقٍ للإسلام، بكثال Pickthall (معاني القرآن الكريم The meaning of the glorious Koran)، الذي استخدم مجموعةً كبيرة من المصادر الإسلامية التقليدية في تقييمه. ومجموعاته هي:

المكية المبكِّرة جدًّا: الفاتحة، القلم، المزمِّل، المدثِّر، الفجر، البلد، الشمس، الليل، التين، العَلق، القَدْر، الزلزلة، العاديات، القارعة، التكاثر، العصر، الفيل، قريش، الكافرون (١٩ سورة).

المكية المبكِّرة: مريم، طه، سبأ، فاطر، الذَّاريات، الطور، النَّجم، القمر، الرحمن، الواقعة، المَعارِج، نوح، القيامة، الإنسان، المرسَلات، النَّبأ، النازعات، عبَسَ، التكوير، الانفطار، المطفِّفين، الانشقاق، البروج، الطارق، الأعلى، الغاشية، الضحى، الشرح، الماعون، الكوثر، المسد، الإخلاص، الفَلَق، الناس (٣٥ سورة).٢

المكية الوسطى: الحجر، الإسراء، الكهف، الأنبياء، الفرقان، الشعراء، النمل، الروم، السجدة، يس، الصافات، ص، الزمر، غافر، فُصِّلت، الشورى، الزخرف، الدُّخان، الجاثية، الأحقاف، ق، المُلك، الحاقة (٢٣ سورة).

المكية المتأخِّرة: الأنعام، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، النحل، المؤمنون، القَصص، العنكبوت، لقمان، التغابن، الجن (١٤ سورة).

المَدنيَّة: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، الحج، النور، الأحزاب، محمد، الفتح، الحجرات، الحديد، المُجَادلة، الحشر، المُمْتَحنة، الصَّف، الجمعة، المنافقون، الطلاق، التحريم، البَيِّنة، النصر (٢٣ سورة).

يلاحَظ أنَّ السور المدنية في تقسيمِ بكثال تقلُّ خمس سورٍ عن تقسيم النصِّ المصري المحقَّق. يضع سورة التغابن ضمنَ المكية المتأخِّرة أو من المحتمَل أن تكون مدنية، وسورة الرعد مكيَّة متأخرة، وسورتَي الرحمن والإنسان في الفترة المكية المبكِّرة وسورة الزلزلة في الفترة المكية المبكِّرة جدًّا.

أول محاولة أكاديمية لمستشرقٍ لترتيب السور كانت للألماني فيل Weil،٣ مستخدِمًا إشاراتِ القرآن لأحداثٍ معروفة، ومحتوى السور وأسلوبها معايير أساسية. لم يضعْ فقط التقسيمَ التقليدي والجوهري بين السور المكية والمدنية، لكنَّه أولُ مَن قسَّم السورَ المكية إلى مجموعات مبكِّرة ووسطى ومتأخِّرة. طبَّق طرق نولدكه بفطنةٍ ومعرفة أكبر،٤ وقُبِلَ ترتيبه على أوسع نطاقٍ بين المستشرقين.
طبقًا لتقييم نولدكه، السمة الرئيسية للسور المكية المبكِّرة لغتُها القوية، مع آياتٍ قصيرة بإيقاعاتٍ وقَوَافٍ، وصورٍ حيَّة مبنية على الطبيعة وأيمانٍ تمهيدية متكرِّرة، بأسلوبٍ قريب جدًّا من أسلوبِ الكهَّان. وتشكِّل السورُ المكية الوسطى مرحلةً انتقالية من سورِ الفترة المبكِّرة إلى سور الفترة الأخيرة. تبدأ مناقشة العقيدة في الظهور. وتُوضَّح بأمثلةٍ من دلائل قُدرة الله في الطبيعة بقصصِ الأنبياء السابقين. وكثيرًا ما تُستهلُّ بفعل الأمر «قُل». ولبعض السور مقدمة رسمية، مثل: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ … يضع نولدكه في الاعتبار أيضًا أن استخدام «الرحمن» اسمًا لله خاص بهذه الفترة. ويواصل ليقترح أنَّ السور المكية الأخيرة توضِّح التأكيدَ على ميولٍ أكثرَ نثريةً من الفترة المكية الوسطى، وأنَّ قصص الأنبياء تتكرَّر إلى حدِّ الإشباع.

يتمثَّل ضعفُ منهجَيْ فيل ونولدكه في أنَّ المعايير، حيث بنيت الأحكام على الأسلوب والمحتويات فقط، فجَّة تمامًا وتتضمَّن قدرًا غير ضئيلٍ من الذاتية. وإضافةً إلى ذلك، يتبعان ممارسةَ المسلمين في معالجة السور المكية، كما لو كانت قِطَعًا موحَّدة من الآيات إلا إذا تضمن الأمر آياتٍ مدنيَّةً بوضوح. (وهكذا اعتُبرت سورة العَلَق كلُّها أولَ ما نزل من الوحي.) مرةً أخرى، ينبغي اعتبارُ الترتيب التفصيلي مشكوكًا فيه إلى حدٍّ كبير، لكنَّ التقسيم إلى مجموعاتٍ له بعض المصداقية. مع وضعِ السُّوَر في كلِّ مجموعةٍ في ترتيبٍ رقمي، أقسامُ نولدكه كالتالي:

المكية المبكِّرة: ١، ٥١–٥٣، ٥٥-٥٦، ٦٨–٧٠، ٧٣–٧٥، ٧٧–٩٧، ٩٩–١٠٩، ١١١–١١٤ (٤٨ سورة).

المكية الوسطى: ١٥، ١٧–٢١، ٢٣، ٢٥–٢٧، ٣٦–٣٨، ٤٣-٤٤، ٥٠، ٥٤، ٦٧، ٧١-٧٢، ٧٦ (٢١ سورة).

المكية المتأخِّرة: ٦-٧، ١٠–١٤، ١٦، ٢٨–٣٢، ٣٤-٣٥، ٣٩–٤٢، ٤٥-٤٦ (٢١ سورة).

المدنيَّة: ٢–٥، ٨-٩، ٢٢، ٢٤، ٣٣، ٤٧–٤٩، ٥٧–٦٦، ٩٨–١١٠ (٢٤ سورة).

توضِّح المقارنة بمجموعاتِ بكثال قدْرًا كبيرًا من التماثل. وهكذا تقابل مجموعتا بثكال «المبكِّرة جدًّا» و«المبكِّرة» إلى حدٍّ بعيد بشكلٍ معقول المجموعةَ «المبكِّرة» عند نولدكه. تشملان سبع سُوَر (١٩، ٢٠، ٣٤، ٣٥، ٥٤، ٧١، ٧٦) يضعها نولدكه في مجموعاته الأخيرة ويستبعد واحدةً فقط (٦٩) وُضعتْ في المجموعة الأولى لنولدكه. وهناك اختلافٌ أوسع في المجموعتَين التاليتَين، لكنَّ السور المدنية توضِّح اختلافًا واحدًا فقط: يعتبر بكثال سورة التغابن مكيَّة أو قد تكون مدنيَّة، مقابل تقسيمٍ مدني واضح لنولدكه.

من المحاولات الأخرى للمستشرقين لتناول مشاكل الترتيب الزمني للنص، تستحقُّ ثلاث محاولات الذِّكر: جريم،٥ الذي أكَّد بشكلٍ خاص على معايير التيمة. بِل،٦ الذي تشمل ترجمته تفكيكَ السور إلى مئاتِ القِطَع الصغيرة؛ إنجازٌ رائع يحدِّثنا عن منطق بِل أكثر ممَّا يحدِّثنا عن القرآن. وبلاشير،٧ وترتيبه تعديلٌ لترتيب نولدكه، مع تأكيدٍ أكبر على التفاعل مع معارِضي محمد وتطوُّر العبادة. يُجري بلاشير تغيراتٍ كبيرة في ترتيب السور المكية، ومتأثرًا ببِل، يقسِّم بعضها. ترتيبه للسوَر المدنية مطابِقٌ لترتيب نولدكه.

تشير كلُّ هذه المحاولات إلى أمرٍ واحد فقط: وضع السور، وخاصة المكية، بترتيبٍ تفصيلي طموح بعيد جدًّا. وإضافةً إلى ذلك، في هذا الموقف غير المؤكَّد، هناك نقطةٌ ضئيلة جدًّا يمكن قولها، وهي أنَّ سورة البلد (رقم ٩٠) رقم ١١ في ترتيب نولدكه، ١٨ في ترتيب جريم، ٣٥ في الترتيب المصري؛ أو أن سورة العاديات (رقم ١٠٠) رقم ٣٠ في ترتيب نولدكه، ١٣ في ترتيب بلاشير، لكن من المفيد القول إنَّ سورة البلد وسورة العاديات مكيتان مبكِّرتان، أو إنَّ سورة الصافات من أوائل سُوَر الفترة المكية الوسطى. هناك بالطبع محاذير: لا يمكن أن تكون هناك خطوطٌ محدَّدة للتقسيم بين المجموعات، معايير التقسيم ذاتية، يختلف عدد التقسيمات طبقًا لآراء واضع المجموعات. ومع ذلك، تُعطينا المجموعات مؤشراتٍ على التطور العام في المواد المكية، وتعطينا، بشرط مراعاة الدقة، إطارًا محدودًا لمناقشةِ الموادِّ المدنيَّة.

نحن على أرضيَّة أكثرَ صلابةً في المدينة، مع توفُّر موادَّ يمكن تحديدُ تاريخها، لكنَّ الشكوك تستمرُّ هنا، ومرةً أخرى أمرٌ لا يتَّسم بالحكمة، أنْ نسعى إلى تحديدٍ صارم، لكنْ حيث إنَّ تحديد التاريخ في المدينة حاسمٌ؛ من المرجَّح أن يكون بشأنِ نقطةٍ معيَّنة، على سبيل المثال نسخ آية، أكثرَ بكثيرٍ من أن يكون بشأن تطوراتٍ عامة. في هذه الظروف، لا يمكن إلا أن نلجأ إلى المصادر الإسلامية التقليدية.

(٢) القرآن في حياة محمد

(٢-١) التطور والجمع

نزل الوحي الذي يشكل القرآن على مدى ٢٣ عامًا تقريبًا، بدايةً في مكة ثم في المدينة. في ٦١٠ ميلادية اقتنع محمد باختياره رسولًا لله. منذ ذلك الوقت حتى وفاته سنة ١٠ﻫ/٦٣٢م،٨ قدَّم على فتراتٍ غير منتظمة وحيًا يعتقد المسلمون أنه كلمةُ الله. يختلف الوحي في الطول من آيةٍ أو اثنتَين إلى قِطع طويلة جدًّا. وبمرور السنوات تغيَّرت في الأسلوب. النقل القوي المشحون جدًّا للآيات المبكِّرة صار أكثر مرونة وتعليميًّا، خاصة في سنوات النبي في المدينة، رغم أنَّ استخدام السجع بقي ثابتًا.
وهذا الوحي المبكِّر، في معظمه لم يحتفظ بهويته الفردية قِطعًا منفصلةً. بدلًا من ذلك، احتلَّ موضعه في وحداتٍ أكبر. الوحدة الأكبر كانت السورة، كلمةٌ أصلها غير مؤكَّد. وكان للسورة دورٌ مهم تلعبه منذ مرحلةٍ مبكرة كما يتَّضح من تحدِّي معارضي محمد بأنْ يأتوا بعشر سوَرٍ مثله (هود: ١٣). ومن المعروف أنَّ معظم السور قِطَع مجمَّعة تحتوي على عددٍ مختلف من الآيات المبكِّرة، لكنْ ليست لدينا معلوماتٌ دقيقة عن كيفية حدوثِ الدمج. يقدِّم حديث مشهور يسعى إلى وصف الممارسة في السنوات الأخيرة لمحمد مؤشرًا عمَّا حدث: «فكان إذا نزَلَ عليه الشيءُ؛ يدعو بعضَ مَن يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه في السورة التي يُذكَر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا.»٩
يعكس الحديث الذي اقتبس للتو فرضيةً عامة في الحديث والتفسير، بأنَّ ترتيب المادة في سُوَر كان من عملِ محمَّد، ربما باستثناءٍ صغير أو اثنَين. ليس هناك سببٌ مقنِع للجدل حول هذه الفرضية، والأدلة التي يمكن أن نستنتجها من القرآن نفسه ساحقةٌ لصالحها. على وجه الخصوص، تحتوي سور كثيرة على تنقيحاتٍ جوهرية، ما كان لها أن تتمَّ بدون سُلطةِ النبي. هناك، على سبيل المثال، عددٌ من الآيات، حيث العبارات التي تلائم قافيةَ السورة، يبدو أنها أُضيفت لآياتٍ تبدو جيدة بدونها؛ وحيث يمكن تمييز القافية أو القوافي الأصلية.١٠ واللافت أكثر، الفقرات الكثيرة التي ضمَّت قِطعًا من فتراتٍ زمنية مختلفة. وتقدِّم ثلاثة أمثلة نموذجية مؤشرًا للطُّرق المختلفة التي تمَّ بها هذا. تبدأ سورة المزمِّل بتسع عشرة آيةً قصيرة، تعترف كل المصادر أنَّها نزلتْ مبكِّرًا جدًّا في مكة، تنتهي بآيةٍ ختامية طويلة متَّفق على أنَّها مدنية. في سورة العنكبوت، البداية (الآيات: ١–١١) مدنية؛ بينما في سورة إبراهيم، توجد ٣ آيات مدنية (٢٨–٣٠) في وسط مادةٍ كلها مكية. وقد تكون هناك مؤشرات أخرى لدور محمد في الأطوال المتباينة للسور على نطاقٍ واسع. الاختلافات فيها لا ترجع للمحتوى أو الشكل أو القافية؛ في وضع البسملة في بداية كلِّ السور ما عدا سورة التوبة، وفي إدراج الحروف الغامضة التي تلي البسملة في تسعٍ وعشرين سورة.

لم تكُن عملية الجمع متَّسقة، ولا توضع السور بالضرورة معًا بطريقةٍ من السهل تتبُّعها. هناك القليل من السور، بعضها سور طويلة، شُكِّلتْ معًا بعناية؛ وفي بقيَّة السور لا تحدُث فقط تغيُّراتٌ كثيرة مفاجئة، وكثيرًا ما تكون مذهِلةً في البناء والمحتوى والموقف، لكن هناك أيضًا تكرارًا كثيرًا وتعديلًا وحتى تناقُضًا في الحُجج. وتؤدي هذه السمات، التي كثيرًا ما ينتقدها الكتَّاب الغربيون، إلى مشاكلَ عويصة. وينبغي عدم تجاهُل هذه المشاكل أو التقليل من شأنها، وينبغي أيضًا تذكُّر أنَّ الكلَّ أعظمُ من مجموع أجزائه.

(٢-٢) الحفظ والنقل

إن لم نعتمد اعتمادًا كبيرًا جدًّا على الحديث، لن يكون لدينا إلا معلوماتٌ ضئيلة عن حفظ النص القرآني ونقله في حياة محمد، وما لدينا ليس مدهِشًا أو مضيئًا جدًّا. الصورة كما تبدو أنَّ الأمر تضمَّن وسائل شفهية وكتابية، وزادت أهميةُ الأخيرة تدريجيًّا في السنوات الأخيرة من حياة محمد مع تراكم المادة وتعقيدها بشكلٍ متزايد.

كما هي الحال مع الكثير من أبعاد القرآن، لدينا انطباعٌ بشأن ما حدث في المدينة أوضحُ ممَّا لدينا بشأن ما حدَثَ في مكة. في هذه الحالة، المؤشرات بشأن الفترة المكية أكثر ندرةً من المعتاد. الحديث الوحيد الذي يمثِّل فيه نصٌّ مكتوب جزءًا لا يتجزأ من القصة، حديثٌ يتعلَّق بإسلام عُمرَ بنِ الخطاب، الذي صار خليفةً بعد ذلك. يحكي كيف أنَّ عمرَ ألحَّ على أنْ يقرأ صحيفة في حوزة أخته وزوجها، اللَّذين اكتشَفَ أنهما مسلمان؛ «ليعرف ما أتى به محمَّد.» أُعطيت له الصحيفة في النهاية، وكانت تحتوي على سورة طه، وبعد أن قرأها طلَبَ الذهابَ إلى محمَّد ليُعلن إسلامه. ثمَّة مشكلتان تجعلان من الصعب قَبولَ هذا الحديث: هناك حكاياتٌ متناقضة عن إسلام عمر، وفيها يبدو أنَّ الدراما تلوح أكثر بكثير من الحقيقة؛ والإيحاء بأنَّ سورة طه كان يتمُّ تداولها مكتوبةً في وقتٍ مبكِّر عند إسلام عمر يبدو مفارقةً تاريخية.

ولذا علينا البحث في القرآن. لسوء الحظ، في الإشارات المتكرِّرة للكتابة في السور المكية، لا توجد إلا آياتٌ قليلة عن الموضوع. اثنتان يبدو أنهما تشيران إلى عدم وجود كتابٍ مكتوب: في الآية ٩٣ من سورة الإسراء نقرأ: … وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ …، وفي الآية ٧ من سورة الأنعام: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. ومقابل هذا علينا تأمُّل عبارةٍ تكرَّرت عدَّة مرَّات في سورة مريم:١١  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، وفقرةٍ في سورة عبس: … إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ … * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ. بينما لا تقدِّم فقرةٌ من هذه الفقرات دليلًا دامغًا، ليس من غير المعقول أن نعتبر أنَّها تقدِّم مؤشراتٍ للنقل الشفهي والكتابي.
بالنسبة للفترة المدنية، لدينا أدلة وفيرة، لا توجد أسبابٌ لرفضها، بأنَّ النبي استخدم كُتَّابًا وأنَّ عددهم ارتفع بمرور الوقت. ويقال لنا أيضًا إنَّ بعض الكتَّاب كانوا مسئولين مسئوليةً خاصة عن تدوين القرآن. ويمكن رفض هذا باعتباره حديثًا غير مؤكَّد، إلا بالنسبة للقصة الرائعة عن أحدهم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح. يُخبرنا المفسِّر الزمخشري١٢ أنَّ عبد الله لم يعبث فقط بنهايتَي آيتَين، لكنَّه رأى أيضًا أنه اقترح أن تُستخدما لتختما الآية ١٤ من سورة المؤمنون.١٣ على ما يبدو كان محمد يملي عليه فقرةً تبدأ بالآية ١٢ من سورة المؤمنون. قُرب نهاية الآية ١٤ توقَّف وأضاف عبد الله بصوتٍ عالٍ عبارة: «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.» فطلَبَ النبي منه أن يكتبها، فكذلك نزلت. عدم يقين محمد على ما يبدو ممَّا نزل، حطَّم ثقةَ عبد الله فيه؛ فارتدَّ عن الإسلام ولَحقَ بمكة. ونعرف من مصادر كثيرة، أنَّه كان واحدًا من بضعة منبوذين عند فتْحِ مكة، ولم يُنقذه إلا شفاعةُ عثمان. ربما نجادل بأنَّ القصة ملفَّقة ضدَّ الأمويين؛ لأنَّ عبد الله أُموي، لكنَّ القصة لا تُظهر النبيَّ بصورةٍ إيجابية، ومن غير المرجَّح أن تُلفَّق مادةٌ ضدَّ الأمويين على حسابه؛ لذا يبدو عمومًا من المعقول قبولُ القصة واستنباط أنَّ المعلومات عن أنَّ عددًا ضئيلًا من الآخَرين كانوا مهتمين خاصةً بكتابةِ النص صحيحة في جوهرها.

وتبقى عدَّة مشاكل مهمَّة، لا يمكن تشكيل رأي بنَّاء عليها، ببساطة مع عدم وجود دليل. لا نعرف مقدارَ ما كُتب من القرآن في حياة النبي، ولا نعرف مسئوليةَ الكتَّاب عن المادة التي دوَّنوها أو ما حدث لهذه المادة عند وفاة محمد. كلُّ ما يمكن ملاحظته الدورُ الكبير الذي لعبه بعضُهم، وخاصة زيد بن ثابت وأُبَي بن كعب وعثمان، في التاريخ التالي للنص.

(٣) تاريخ نص القرآن بعد وفاة محمد

(٣-١) النصوص قبل العثمانية

تاريخ نَص القرآن بعد وفاة محمد، يهيمن عليه النص الذي أعدَّه زيد بن ثابت والمحقِّقون المشاركون له للخليفة عثمان. وهذا طبيعي وحقيقي؛ لأنَّ المحاولة الناجحة لعثمان لوضع نموذج متَّفق عليه كانت نقلةً بالغة الأهمية للمجتمع الإسلامي. مع إصدار النص العثماني، أُهملت النُّسخ السابقة بسرعةٍ وصارت محتوياتُها مجرَّدَ مادةٍ للاهتمام الأكاديمي لعلماء النَّص. والقراءات المتنوِّعة التي احتوتْ عليها، تُعتبر غير متواترة، وتَضَاءل الاهتمامُ بها تدريجيًّا. والنتيجة أنَّ الأدلة التي لدينا عن نُسخ النَّص قبلَ النَّص العثماني هزيلةٌ ومتضارِبة إلى حدٍّ ما.

لكنَّ النقطة الأكثر أهميةً التي تظهر، لا ترتبط بأيَّة نسخة. صحيحٌ أنَّ القرآن ينبغي أن يُجمع بعد وفاة محمد. وهذه مسألةٌ لها آثار عقائدية كبيرة. العقيدة بأنَّ القرآن أزليٌّ وكلمة الله غير المخلوقة، وكانت العامل الأساسي وراء التناقص المستمر في عدد الاختلافات المقبولة في النص، لم تمتدَّ قَط لتغطِّي النظام الحالي والترتيب. ومن المؤكَّد أنَّ هذا كان سيتمُّ لو لم يَقبل المجتمع الإسلاميُّ ضرورةَ جَمْع النص وترتيبه بنظامٍ بعد وفاة النبي.

في تلك السنوات المبكِّرة، كان جمع المادة المكتوبة على نطاق ضيِّق نسبيًّا. ويبدو أنَّها اعتبرت مكمِّلة للتراث الشفهي، الطريقة المعتادة لنقل العادات والثقافة العربية حتى ذلك الوقت. وبقدْرِ ما نعرف، كان السببُ وراء ذلك الرغبةَ في الحصول على كتابٍ مكتوب وتقليدَ سُنَّة النبي في الحصول على قِطَع مكتوبة.

ثمَّة نسخةٌ من النسخ المبكِّرة تُعتبر متميِّزةً ومختلفة جدًّا في طبيعتها عن بقيَّة النُّسخ. وهي مجموعةٌ يقال إنَّ زيد بن ثابت وضعها للخليفة أبي بكر. الغريب أننا ليس لدينا معرفةٌ مباشِرة بمحتوياتها؛ لأنَّ من المفترض أنَّها لا تحتوي على أيِّ اختلافات عن النص العثماني. تحمل المصادر العربية حكاياتٍ كثيرةً عن وضع هذه المجموعة.١٤ وتختلف هذه الحكايات في كمية التفاصيل التي تقدِّمها وتحتوي على عددٍ لا بأسَ به من التناقضات، لكن الإطار العام واضح. ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
في وقعةِ اليمامة، بعد عامٍ تقريبًا من وفاة النبي، قُتل كثير من القرَّاء. ممَّا جعل عمر بن الخطاب يخشى من أنه لو حدثتْ خسائرُ مماثِلة في غزواتٍ أخرى، فربما تضيع أجزاءٌ من القرآن. مُقتنِعًا بضرورة القيام بخطواتٍ فورية، ألحَّ على أَبي بكرٍ بأنْ يضمن حفْظَ القرآن بشكلٍ صحيح بجمعه وتدوينه. في البداية تردَّد أبو بكر، لكنَّ عمر أقنعه. ونفَّذ زيدٌ ما طُلِب منه، وجمَعَ مجموعةً من «العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال».١٥ فلمَّا فَرغَ منه أودع صُحُفه عند أبي بكر، ومنه انتقلتْ إلى عمر. وعند وفاة عمر انتقلت إلى ابنته حفصة، واحتفظتْ بها حتى بعد اختيار الخليفة الجديد.

هناك مشاكلُ بشأن هذه الحكاية، لكنَّها لا تكفي لتبرير النظرة المتشكِّكة لها من بعض المستشرقين. المشكوك فيه خاصة رأي مَن يذهبون إلى درجةِ إنكار وجود مجموعة جَمَعها زيدٌ لأبي بكر. ويرون أنها قصةٌ مُختَلَقة وضعت لتَسلبَ عثمانَ الذي لا يحظى بشعبيةٍ شرفَ الأمر بجمْعِ أول نَص منقَّح. ولا يمكن الدفاع عن هذا الرأي إلا بإثارة مشاكلَ مستعصية بشأن أصلِ نَص حفصةَ وحتى وجوده، وإنكار وجود نصٍّ عند حفصةَ يتعارض بشدَّة مع أدلةٍ قوية على وجوده.

يوجد رأيٌ أكثرُ تكرارًا هو أنَّ أبا بكرٍ كان لديه نَص منقَّح، لكنه ليس نصًّا شاملًا، وأنَّه لم ينتهِ إلى حفصة. وبشأن هذا ينبغي وضعُ هذه النقاط الثلاث في الاعتبار:
  • (أ)

    بصرف النَّظر عن أيَّة مشاكل قد تكون أثيرتْ بعد وقعة اليمامة، لم يكن من غير المعقول بالنسبة للخليفة أن يرغب في وجود نسخةٍ مكتوبة من الكتاب المقدَّس الذي أُوحي للنبي.

  • (ب)

    سواءٌ اعتبرناها شاملةً أو غير شاملة، أيَّة مجموعة جُمعت لأبي بكرٍ تحظى بمكانةٍ خاصة.

  • (جـ)
    حقيقة وصولِ هذا النَّص إلى حفصةَ، يمكن تفسيرها بشكلٍ معقول. حين طُعِن عمر طعنةً قاتلة، كان لديه وقتٌ للقيام ببعض الترتيبات المتعجِّلة بشأن ما ينبغي أن يحدُث بعد ذلك، كما نعرف من تشكيل الشُّورى لاختيار خليفةٍ له. وليس من غير المعقول أنَّه أعطى النَّص الذي استلمه من أَبي بكر لحفصةَ لتحفَظَه. كانت، رغم كلِّ شيء، عضوًا مهمًّا في المجتمع، ليس فقط لأنَّها ابنته، بل وأيضًا لأنَّها أرملةُ النبي.
أكثر جزءٍ مشكوك فيه من الحكاية هو السبب المقدَّم لجمعِ المجموعة: موتُ القرَّاء في وقعةِ اليمامة. وتبيَّن١٦ أنَّه كان هناك قارئان فقط، معروفان في قوائم الخسائر في اليمامة. وهذا تبايُن لا يمكن تفسيره، لكنْ ينبغي ملاحظةُ أنَّ أحد الاثنَين كان سالمَ بن معقب، وكان طبقًا للحديث أولَ مَن حاوَلَ تدوينَ كلِّ ما لديه من مادةٍ في مصحف.١٧

مقابل هذه الاعتراضات غير المقنعة جدًّا للحديث، هناك دليلان يقدِّمان بعضَ الدعم للاعتقاد بأنَّ زيدًا أعدَّ نصًّا لأبي بكر.

أولهما غيرُ مباشِر إلى حدٍّ ما: حديثٌ محفوظ عن بعض صحابة النبي بأنَّ قِطعًا مختلفة كانت مفقودةً من نَص القرآن.١٨ أشْهَرها الآية التي تنصُّ على الرَّجم عقوبةً للزناة البالغين، الذي قال عمرُ نفْسُه أنَّها مفقودة (من سورة النور، أو من سورة المؤمنون، طِبقًا لمَن فسَّروا الحديث). الآن لا يمكن طرح شكاوى بشأن فَقْد مادة، إلا إن كان هناك اتفاقٌ معقول حول محتويات العمل المقصود، وأيُّ اتهام يقدِّمه عمر من هذا النوع ينبغي أن يكون قبلَ خلافة عثمان، وطُرح على ما يفترض في المدينة.

ثانيًا: وجود مجموعاتٍ شاملة أخرى مبكِّرة ليس محلَّ خِلاف، وخاصة بالنسبة لمَن يتشكَّكون في الأحاديث بشأن نص أبي بكر. ولا تشمل هذه المجموعات المبكِّرة فقط تلك التي أصبحت مخطوطاتٍ كبرى شهيرة؛ بل تشمل أيضًا مجموعاتٍ قام بها سكَّان المدينة، ومن بينهم علي وابن عباس وأنس بن مالك. رغم الوجود الأكيد لهذه المجموعات، لا يوجد دليلٌ على أنَّ أيًّا منها استُخدم في إعداد النَّص العثماني.

بوضع هذه الصورة العامة في الاعتبار، يبدو من غير المعقول إنكارُ وجودِ نصٍّ جَمعَه زيدٌ لأَبي بكر ورفْضُ قبول أنَّه يشكِّل نواةَ النص العثماني. وقد نشعر بأنه يمثِّل مرحلةً مهمة في تاريخ النَّص.

ينبغي العودة الآن للمجموعات الكبرى الأخرى. إنها المخطوطات الكبرى. بصرف النظر عن المواضع التي تؤثِّر فيها على قصة النَّص العثماني؛ أدلتنا بشأنها محدودة، وتأتي إلى حدٍّ بعيد جدًّا من تفسيرات القرآن ومن المصاحف المتبقية لابن داود. بعض القرَّاء الذين اقتنوا مجموعاتٍ شاملةً، هاجروا إلى مراكزَ خارج الجزيرة العربية، ورسخت قراءاتهم بسرعة باعتبارها النصَّ المحلي. وهكذا تبنَّى أهل الكوفة مصحفَ ابن مسعود نصًّا لهم، وتبنَّى أهل البصرة نسخةَ أَبي موسى الأشعري، وتبنَّى أهل حمص مصحفَ المقداد بن عمرو (أو معاذ بن جبل)، وتبنَّى السوريون الآخرون مصحَف أُبَي بن كعب. وهناك مؤشرات على أنَّ هذه المصاحف كانت مدوَّنة؛ أنصار ابن مسعود دعموه في رفضه تسليمَ ما جمعه ليُحرق حين أمَرَ عثمان بذلك، بينما أُعطيتْ مجموعةُ أَبي موسى لقبَ «لباب القلوب».
تتعلَّق معظم الاختلافات الكبرى بين هذه النسخ بخمس قِطَع قصيرة تمثِّل دعواتٍ أو تراتيل. منها ثلاثٌ في النَّص العثماني (سورة الفاتحة، والفَلَق، والناس) واثنتان، «الخَلع» و«الحَفد»، ليستا فيه. حذَفَ ابن مسعود الخمسَ، وضمَّها أُبيٌّ وأبو موسى. وإضافةً إلى ذلك، هناك حديثٌ مهم في صحيحِ مسلم.١٩ يَذكُر فيه أبا موسى يُشير إلى سورةٍ بطول البراءة وقوَّتها (التوبة) نسيها إلا آيةً واحدة، وأخرى تشبه المسبِّحات (الحديد، الحشر، الصَّف، الجمعة، التغابن)، نسيها أيضًا إلا آيةً واحدة. ولا يوجد أيٌّ من الآيتَين في النَّص العثماني. ما يُقتبَس باعتباره من سورةٍ أطول معروفٌ لنا من مصادرَ أخرى باعتباره آيةً منسوخة أو حتى حديثًا. وهذا يجعل حتى من الأصعب عن المعتاد تقييمَ ما يستحقُّ الذِّكر، لكنْ إذا أخذنا الأمرَ على محمل الجِد، ينبغي افتراضُ أنَّ مصحف أبي موسى يضمُّ ١٥٠ آية تقريبًا، على ما يفترض مادة يعتقد أنَّها نزلتْ في المدينة، لم تُدرج في نَص عثمان. وهذا اختلاف أكبرُ بكثيرٍ من أيِّ اختلافٍ آخَر نعرفه.

الاختلافات الضئيلة، وتقتصر غالبًا على كلمةٍ واحدة، بطبيعتها أقلُّ إثارة. وهي أيضًا في بعض الحالات محفوفةٌ بالصعوبة. على سبيل المثال: نشتبه أحيانًا في أنَّ القراءات التي ابتكَرَها علماءُ دِين ونُحاة في وقتٍ لاحق دُسَّتْ على هذه المصادر المبكِّرة لتُعطيها قيمةً أكبر. وحتى مع التناول الحذِر الذي تتطلَّبه هذه الاحتمالات، قد نستنبط بشكلٍ معقول على الأقل سِمةً لها أهميةٌ خاصة. يمكن أن نجِدَ اختلافًا اعتُبر في وقتٍ لاحق مستحيلًا لأنه انحرف عن النص الصحيح؛ المرادِف. هذه الاختلافات متكرِّرة بالطبع، في التراثِ الشفهي أو المادة المبنيَّة على التراث الشفهي. الأمثلة النموذجية هي «ارشدْنا» في ابن مسعود بدلًا من «اهدنا» في الآية ٦ من سورة الفاتحة، و«بساط» عند أُبَيٍّ بدلًا من «فِراش» في الآية ٢٢ من سورة البقرة. يرفض كثير من علماء المسلمين هذه الاختلافات بوصفها تفسيراتٍ، لكنَّه تقييمٌ ساذج جدًّا.

لدينا أيضًا تقارير بأنَّ ترتيب السور، على الأقل في مصحفَي ابن مسعود وأُبيٍّ، يختلف كثيرًا عن النص العثماني. لدينا قائمتان لكلٍّ من المجموعتَين، لكنَّهما يكشفان عن تبايُن، وهما على أيَّة حال غير مكتمِلتَين. كلُّ ما يمكن أن نستنتجه منهما، أنَّ ابن مسعود وأُبيًّا لم يرتِّبا السور ترتيبًا زمنيًّا. والأكثر إحباطًا أنَّ القائمتَين مقدَّمتان بفرضيَّة أنَّ المادة في كلِّ سورة عمومًا، هي المادة الموجودة في السورة المقابِلة في النَّص العثماني. وببساطة لا يوجد دليلٌ يدعم هذه الفرضيَّة أو يَدحَضها.

المعلومات المسجَّلة بشأن المجموعات قبل العثمانية مجزَّأة جدًّا بدرجةٍ تجعلها بلا قيمة. وربما يمكن فقط أن نستشفَّ نموًّا تدريجيًّا في عددِ المجموعات.

(٣-٢) النص العثماني

لأنَّ الاختلافات بين المخطوطات الرئيسية صارت مسألةَ تحزُّب؛ ممَّا استدعى من عثمان أن يطلُب إعدادَ نصٍّ منقَّح آخر. القصة، التي تُروى على نطاقٍ واسع، واضحةٌ في الإطار العام رغمَ الاختلاف في التفاصيل:

في سنة ٣٠ﻫ/٦٥١م، شارك القائد حذيفة بن اليمان في حملةٍ إلى أذربيجان وأرمينيا. تشكَّلت القوات من أهل الشام والعراق، ونشبتْ خلافات بينهم بشأن القراءة الصحيحة للقرآن. وكلُّ مجموعةٍ من دمشق وحمص والكوفة والبصرة تدعم مصحفها. ممَّا أفزع حذيفةَ وأغضبه، وبعد استشارة سعيد بن العاص ذَكرَ المسألةَ لعثمان وقال له: «أَدرِك الأمَّةَ قبل أن يختلفوا اختلافَ اليهود والنصارى.» وافق عثمان على العمل، وطلب من زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث إعدادَ نسخةٍ مكتوبة جديدة ووجَّههم باستخدامِ لهجةِ قريش إذا انتابهم شكٌّ.

يبدو أنَّ النَّص الذي أعدَّه المحقِّقون حقَّق ثلاثةَ أشياء: ثبَّت نهائيًّا محتويات كلِّ سورة، ووضَعَ السور مرتبة، وقدَّم إطارًا صحيحًا مكتوبًا لما اتفقوا على أنه النص الكامل.

ليس من الواضح كيف أعدَّ النص وكَمْ من الوقت استغرق الأمر. تُخبِرنا كلُّ المصادر أنَّه طُلِب من حفصةَ أن تُعيرهم الصُّحف التي أخذتْها من عمر. ويذهب معظمها إلى القول بأنَّ المحقِّقين نسخوا الصُّحف في مصحفٍ؛ ممَّا يتضمَّن أنَّ هذا كان حجمُ النَّص. لكنْ هناك حكاياتٌ٢٠ تشير إلى مشورةٍ عامة في المدينة، ويبدو من المرجَّح أكثر بشكلٍ جوهري إجراءُ مراجعةٍ عامة.
ويطرح غيرُ المسلمين أسئلةً بشأن النَّص، يُجيب عليها للمسلم السني إيمانُه. السؤالان اللذان يدور بشأنهما أعظمُ قدْرٍ من التخمين إن كان القرآن، كما هو لدينا في نَص عثمان، كاملًا، ومدى مسئولية المحقِّقون عن ترتيب المادة في السور. في كلِّ حالة، الإجابة الصريحة هي أننا لا نعرف؛ الآراء المختلفة للمستشرقين خليطٌ من التحيُّز والتخمين. بالنسبة للاكتمال، ليس هناك سببٌ للاعتقاد بضياع شيءٍ مهم، إلا إذا قبلْنا قصةَ أبي موسى بقيمتها الظاهرة. يعلن بِل٢١ الموقفَ بشكلٍ معقول جدًّا، حين يقول إنَّ الآراء المختلفة، وحتى المتناقِضة أحيانًا، التي بقيت برهانًا قويًّا على أنَّه لم يكن هناك حذفٌ متعمَّد، وأنَّ المحقِّقين عملوا بإخلاص.

لكنَّ الشيعة لهم رأيٌ مختلف بشأن النص العثماني. ومن الواضح أنَّ اعتراضاتهم ذات صِبغة سياسية ومذهبية. اعتقدوا أنَّ النَّص احتوى في الأصل موادَّ تُشير إلى علي وأهل النبي، لكنَّها بُدلت أو حُذفت. وتتَّجه اتهاماتهم أساسًا إلى عثمان، لكنَّ أبا بكر وعمر متَّهمان أيضًا، على ما يُفترض بشأن حكاية النَّص الذي أعدَّه زيدٌ لأبي بكر. في البداية تعلَّقت الاتهامات بقدْرٍ صغير من المواد، لكنْ بمرور الأيام اتَّسعت الاتهامات لتغطِّي حذفَ قِطَع كبيرة وحتى سُوَرًا كاملة.

إنَّ إخلاصَ المحقِّقين بأكمل معانيه، مهمِلين ادعاءاتِ الشيعة بوصفها تحزُّبًا، عاملٌ لا ينبغي إغفاله. كانوا رجالًا يخشون الله ويعرفون ما أُوحي للنبي. ربما لا يكون هناك شكٌّ في أنَّ رغبتهم في إعداد النص كانت لوجه الله قبلَ كلِّ شيء. كان هذا الموقف حافزًا قويًّا لهم ليراعوا الدِّقة والحَذَر في مراجعتهم.

ويحتمل أن يكون هذا سببَ ترتيب السور، الذي يُعتقد غالبًا أنَّه كان بدون سببٍ معقول. في غياب اليقين بشأن الترتيب الزمني، يأتي نظامان محايدان بشأنِ الطول إلى الذِّهن بسهولة: من الأَقْصَر للأطول، ومن الأطول للأَقْصَر. من هذَين النظامَين، كان من الأطول للأَقْصَر، مع التشريع الاجتماعي في البدايات، أكثرَ جاذبية، لكنَّ هذا الاقتراح مجرَّدُ تخمين.

حين انتهى إعدادُ النص، أرسَلَ عثمان مصاحفَ إلى المدن الرئيسية في الإمبراطورية وأمر بإحراق كل النسخ الأخرى. حدثتْ معارضةٌ قوية من ابن مسعود وأنصاره في الكوفة، حيث كان الشعور السيئ تجاه عثمان أكثر تفاقُمًا. ولا يبدو أنَّه كانت هناك صعوبةٌ في الأماكن الأخرى. في فترةٍ قصيرة، اعتُرف عمومًا بالإطار الصحيح الذي قدَّمه النَّص باعتباره الكتابَ المقدَّس في كلِّ أرجاء الإمبراطورية.

وكان فرضُ الاتساق الأساسي في النص إنجازًا لافتًا. يتَّضح مدى هذا الاتساق جليًّا بالاختلافات المعروفة في الإطار الصحيح في القراءات المتواترة. في حوالي أربعين موضعًا، حدث بعد ذلك اختلاف في النصِّ الصحيح. تتعلَّق كلُّها، باستثناء اثنَين، بحرفٍ واحد فقط (على سبيل المثال: إضافة «و»، المثال الأكثر شيوعًا، في ثمانيةِ مواضع). في حالتَين أخريين لدينا، إضافة كلمتَين قصيرتَين («من» في الآية ١٠٠ من سورة التوبة، و«هو» في الآية ٢٤ من سورة الأحقاف). وحين يلاحظ أنَّ نصَّ دمشق يحتوي على أكثرَ من نصف هذه الاختلافات، نرى مدى القوة التي تمَّ بها الالتزام بالإطار العثماني. كُتب المصحف بخطٍّ مُيزتْ فيه الصوامت والصوائت بوضوح، وليس هناك مزيدٌ من التاريخ؛ المهم النص.

(٣-٣) فترة «الاختيار»

عمومًا نتيجة الحالة المذرية جدًّا للخط العربي الشائع في زمن إعداد النص العثماني؛ لم يتحقَّق أكثر من الاتساق الأساسي، لكنَّ هناك أيضًا تعقيدًا ذا أهمية نسبية في التراث الشفهي. بقي الجدل محتدِمًا بشأن التفاصيل. ومنذ إعداد النص العثماني إلى سنة ٣٢٢ﻫ/٩٣٤م، كانت هناك فترةُ اختيار؛ حيث كان علماء النَّص قادرين على اختيار قراءتهم في آيات، حيث كان الإطار الصحيح ملتبِسًا أصلًا.
كانت عيوبُ الخطِّ ذاتَ طبيعة لا يحتملها أُناس يعتمدون بقوة على الكلمة المكتوبة ويُعطون أهميةً ضئيلة للتراث الشفهي؛ أولًا: استُخدمت النقط بشكلٍ ضئيل، أو لم تُستخدم للتمييز بين الحروف. ربما يمثِّل الإطار الأساسي نفسه حتى خمسة صوامت. لم تكُن هناك علاماتٌ تشير إلى الحركات، وكانت حروف العلة تُستخدم فقط بشكلٍ متقطِّع. من الواضح أنَّ مصحفًا مكتوبًا بهذا الخطِّ لا يقدِّم للقارئ إلا التوجيه، وللحصول على مزيدٍ من المعلومات كان يلجأ للنَّقل الشفهي. ومع ذلك، حدُّ قَبول نسخةٍ مكتوبة متَّفق عليها، من مجال البدائل التي يمكن قَبولها من التراث الشفهي. كانت الاختلافات تقع في احتمالاتٍ يسمح بها الإطار النَّصي، وإلا كانت «شاذَّة». وهكذا خضَعَ التراث الشفهي للنَّص المكتوب، رغمَ عيوب الأخير.
في هذا الإطار الأضيق، نجِدُ قرَّاءً ذوي سمعةٍ هائلة يحتلُّون مواضعَ مهيمنة رُواةً للنَّص، مثلما فعَلَ أُبَيُّ وابن مسعود وأبو موسى في الفترة السابقة. بقيَت المدينة ومكة ودمشق والبصرة والكوفة المراكزَ الرئيسية، حيث كان النَّص يُدرَّس، وكلٌّ منها يطوِّر تقاليده الخاصة للطُّرق الصحيحة لتلاوة المصحف.
في أثناء تطور هذه المدارس الكبرى للقراءة، ظهرتْ ثلاثة معايير تَحكُم اختيارَ القارئ، وهي: المصحف والعربية والإسناد. ذَكرَت الأهمية القصوى للمصحف (النَّص الصحيح). بعد ذلك جاءت العربية؛ الوضع في الاعتبار إن كانت القراءة بلغةٍ عربية جيدة أم لا. في ضوء غياب قواعدَ متَّفق عليها، كان هذا — ومنذ زمن المجموعات الأولى — موضوعًا إشكاليًّا. أدَّى في النهاية إلى نموِّ النحو عِلمًا من العلوم الإسلامية، رغم أنَّ مسألةَ إن كان هذا يحلُّ المشاكل مسألةٌ أخرى. في المواضع التي كان اللجوء للمصحف والعربية لا يزال يترك مساحةً للشك، كان هناك مجالٌ لاستخدام الإسناد. على عكس الإسناد في الحديث، كان في مرتبةٍ ثانوية. وإضافةً إلى ذلك، كان هناك اتجاه لرؤيته عمومًا بمصطلحات محلية، رغم أنَّ الطلاب المتجوِّلين كان يتجاوزن الحدود أحيانًا.
لم يعُد بعض رواة القراءات راضين عن الوضع، حين كانت تفاصيل كيفية قراءة المصحف تعتمد فقط على التراث الشفهي. وسَعَوا، بدلًا من ذلك، إلى تسجيل قراءاتهم في النَّص المكتوب. يبدو أنَّ زخم هذا التغيير جاء من البصرة، وارتبط عادةً بأبي الأسود الدؤلي (ت: ٦٩ﻫ/٦٨٨م)، أو نصر بن عاصم (ت: ٨٩ﻫ/٧٠٧م) أو يحيى بن يعمُر (ت: قبل ٩٠ﻫ/٧٠٨م). وأدخلتْ النقاط أو الحركات لتمييز القراءات، وهي طريقة نُسِختْ على ما يبدو من المستخدَمة في النصوص السريانية.٢٢ من المعلومات المحدودة التي لدينا، يبدو أنَّ هذه العلامات استُخدمت في البداية ببساطة للإشارة إلى الاختلافات، وتركت أجزاءَ النص التي لم تكُن تثير خِلافًا بدون علامات. رُفضت هذه الممارسة في أوساطٍ كثيرة، واعتُبرت بدعةً خطيرة. لكنْ، مع الدعم القوي من والي العراق، الحجَّاج بن يوسف، الشهير تطورتْ إلى نظامٍ ثابت يمكن تطبيقه على النص كلِّه. ولم يسمح هذا فقط بتمييز الحروف ذاتِ الشكل الأساسي نفسه من بعضها، لكنَّه سمَحَ أيضًا بإضافة الحركات. وصار استخدام حروف العلَّة منظَّمًا أكثر، وأُدخلت علامة الهمز.
من الصعب تقييم دور الحجَّاج. يمكن أن نتجاهل حُجج المسيحي عبد المسيح الكندي٢٣ بأنَّ الحجَّاج كان مسئولًا بشكلٍ كبير عن نصِّنا؛ حيث إنَّ أساسه انفعالي لا واقعي. في الحكاية الموجودة على أوسع نطاق٢٤ يأمر نصر بن عاصم بإدخال علاماتٍ للحفاظ على نطق النص. وهذا سببٌ مقبول للابتكار، والقصة لا يُطعن فيها، رغم العداء القوي للمصادر ضد الحجَّاج.
ومع ذلك، يبدو هذا تفسيرًا جزئيًّا لمَا حدث. على الناحية الأخرى، لدينا حديثٌ في ابن أبي داود٢٥ بأنَّ الحجَّاج كان مسئولًا عن أحد عشر تغيُّرًا في النَّص الصحيح. وإذا كان الأمر كذلك، يكون مسئولًا عن نصٍّ ثانوي على الأقل. مقابل هذا، ينبغي وضع أدلة من النُّسخ المبكِّرة التي بقيتْ من القرآن، وتوضِّحَ أنه لوقتٍ طويل كان النظام الجديد يُستخدم نادرًا، ويرتبط أساسًا بالاختلافات.
وبصرف النظر عن هذا، ليس لدينا معلوماتٌ كثيرة عمَّا جرى في فترة الاختيار. بعضها تقدِّمه القراءات نفسها، وبعضها كتيبات عن الإملاء والنطق. هناك اتجاهان لافتان. أحدهما المحافِظ بشأن النص المكتوب، كما وضحنا من قبل. والآخَر الاتجاه إلى قبول التغيرات في النطق، التي تجلَّت خاصةً في العراق. لم تكن مهمَّة، لكنها ميَّزت اتجاهًا للبُعد عن نطق أهل الحجاز باتجاه اللهجات الشرقية الأكثر هيمنة. وكانت السمة الأكثر وضوحًا الإدراج الواسع النطاق للهمزة؛ حيث — في الحقيقة — لم تكُن الهمزة موجودةً في اللهجات الحجازية.

(٣-٤) القراءات المتواترة

انتهت فترة الاختيار في ٣٢٢ﻫ/٩٣٤م، حين أقنع العالِم الذي يحظى بتقديرٍ كبير، ابن مجاهد، السُّلطات في بغداد بإعلان سبع قراءات متواترة للنَّص، واعتبار القراءات الأخرى شاذَّة. وكانت هناك محاولاتٌ لزيادة عدد القراءات المتواترة إلى عشر، وحتى أربع عشْرة، لكنَّ هذه القراءات الإضافية لم تلقَ كثيرًا من الدعم. بمرور الزمن، صار هناك إجماعٌ عام يعترف بروايات راوين لكلٍّ من القراءات السبع. القائمة الكاملة لأصحاب القراءات والرواة موضَّحة في الجدول.
المكان صاحب القراءة الرواة
المدينة نافع (ت: ١٦٩ﻫ/٧٨٥-٧٨٦م) ورش (ت: ١٩٧ﻫ/٨١٣م)
قالون (ت: ٢٢٠ﻫ/٨٣٥م)
مكة ابن كثير (ت: ١٢٠ﻫ/٧٣٨م) البَزِّي (ت: ٢٥٠ﻫ/٨٦٤م)
قُنْدُل (ت: ٢٩١ﻫ/٩٠٤م)
دمشق ابن عامر (ت: ١١٨ﻫ/٨٣٦م) هشام (ت: ٢٤٢ﻫ/٨٥٦-٨٥٧م)
ابن خلكان (ت: ٢٤٥ﻫ/٨٥٩م)
البصرة أبو عمرو (ت: ١٥٤ﻫ/٧٧١م) الدوري (ت: ٢٤٦ﻫ/٨٦٠م)
السيوطي (ت: ٢٦١ﻫ/٨٧٥م)
الكوفة عاصم (ت: ١٢٨ﻫ/٧٤٦م) حفص (ت: ١٩٠ﻫ/٨٠٦م)
ابن عياش (ت: ١٩٤ﻫ/٨١٠م)
الكوفة حمزة (ت: ١٥٨ﻫ/٧٧٥م) خلف (ت: ٢٢٩ﻫ/٨٤٤م)
خلاد (ت: ٢٢٠ﻫ/٨٣٥م)
الكوفة الكسائي (ت: ١٨٩ﻫ/٨٠٥م) الدُّوري (ت: ٢٤٠ﻫ/٨٥٤-٨٥٥م)
أبو الحارث (ت: ٢٤٦ﻫ/٨٦٠م)

في معظم الحالات، الاختلافات في القراءات المتواترة أقلُّ أهميةً نسبيًّا؛ وحتى تأثيرها متراكمًا، ليس كبيرًا، لكنَّها حاسمةٌ أحيانًا. المثال الأكثر وضوحًا لهذا، في الكلمة الأخيرة من سورة البروج. الآيتان الأخيرتان على النحو التالي: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. المقطع الأخير محلُّ شك. «أو» ستٌّ من القراءات المتواترة تجرُّ كلمة «محفوظ»؛ ممَّا يعني أن «القرآن المجيد في لوحٍ محفوظ»؛ الإشارة الوحيدة في النص للَّوح المحفوظ في العقيدة الإسلامية. القراءة السابعة، وهي قراءة نافع، ترفع كلمة «محفوظ»؛ ممَّا يعني أنَّ «القرآن الكريم محفوظٌ على لوح». توجد أحيانًا أسسٌ أخرى من نوعٍ مماثل في آياتٍ تتناول التشريع الاجتماعي.

هناك القليل يقال عن النص بعد رسوخ القراءات المتواترة. أدَّى مرورُ الزمن والضغط للتوافق إلى إهمال معظم الروايات المقبولة. اكتسبتْ ثلاث منها فقط قبولًا واسعًا: رواية الدُّوري عن أبي عمرو، ورواية ورش عن نافع، ورواية حفص عن عاصم. بقيت أُولاها رائجةً رواجًا محدودًا في السودان. ورواية ورش عن نافع، بارتباطها الطويل جدًّا بالمذهب المالكي، تقتصر الآن عمومًا على المغرب، وحتى هناك تتراجع أمام الرواية الأكثر قبولًا، رواية حفص عن عاصم. وهذه الأخيرة، أساسُ النَّص المصري المحقَّق الذي نُشر أولَ مرة في ١٣٤٢ﻫ/١٩٢٣م ومعظم الطبعات الشرقية الأخرى. ويبدو أنَّ أسباب نجاح هذه الرواية، ارتباطها بالحنفيين والتفضيل العظيم الذي حظيت به من عصر إلى عصر. وربما ممَّا له بعض الأهمية أيضًا أنها تحتوي على انحرافاتٍ أقلَّ من معظم القراءات الأخرى. أعطاها هذا الوضع، يعزِّزه انتشار النُّسخ المطبوعة، وضعًا يقترب من وضعِ نص محدَّد. لكنْ، يؤمل ألَّا تحلَّ تمامًا محلَّ الرواية الأكثر تحفُّظًا والقيِّمة جدًّا لورشٍ عن نافع.
١  عن الفقرتَين، انظر Nöldeke, Geschichte, I, 78–88؛ حيث توجد إشاراتٌ كثيرة للمصادر المعنيَّة.
٢  مجموع السُّوَر المذكورة ٣٤، والسورة التي لم تُذكر سورة الرحمن. (المترجم)
٣  Weil, Einleitung.
٤  Nöldeke, Geschichte.
٥  Grimme, Mohammed.
٦  Bell, Qur’an.
٧  Blachere, Coran.
٨  الصواب ١١ﻫ/٦٣٢م. (المترجم)
٩  انظر، على سبيل المثال: السيوطي، الإتقان.
١٠  قارن، على سبيل المثال، سورة النحل: ١٠–١٤.
١١  انظر الآيات: ١٦، ٤١، ٥١، ٥٤، ٥٦.
١٢  يقدِّم الزمخشري حكايته في تفسيره للآية ٩٣ من سورة الأنعام، مع إشارةٍ موجَزة للآية ١٤ من سورة المؤمنون نفسها.
١٣  يقال إنَّ عبد الله استبدل «عليمًا حكيمًا» ﺑ «سميعًا عليمًا»، وتوجد فقط في الآية ١٤٨ من سورة النساء. واستبدل «غفورًا رحيمًا» ﺑ «عليمًا حكيمًا»، وتوجد ١٢ مرة (النساء: ١١، ١٧، ٢٤، ٩٢، ١٠٤، ١١١، ١٣٠، ١٧٠؛ الأحزاب: ١؛ الفتح: ٤؛ الإنسان: ٣٠).
١٤  راجع: Nöldeke, Geschichte, II, 11-12n.
١٥  السيوطي، الإتقان، ١٣٧.
١٦  راجع: Nöldeke, Geschichte, II, 20.
١٧  راجع: Nöldeke, Geschichte, I, 234–261.
١٨  راجع السيوطي، الإتقان، ١٣٥.
١٩  مسلم، صحيح، ج١، ٣٨٦.
٢٠  قارِن، على سبيل المثال: السيوطي، الإتقان، ١٣٩.
٢١  Bell, Introduction, 49.
٢٢  قارن «الخط العربي»، سابقًا.
٢٣  رسالة، ٧٨ وما يليها.
٢٤  قارن، على سبيل المثال، ابن خلكان، الوفيات، ج١، ٢٢٠-٢٢١.
٢٥  مصاحف، ١١٨-١١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥