الفصل التاسع

أبعاد القرآن اليوم

جاك جومييه، معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان، القاهرة
تأثير القرآن على الأدب العربي في الوقت الحالي ليس بارزًا، لكنه كبيرٌ في الوقت ذاته. ليس بارزًا لأنه لا يوجد كاتبٌ عربي يفكِّر في إعادة إنتاج أسلوب القرآن، حتى لو بقي بالنسبة للكثيرين النموذجَ الأكثر أهمية. ينبغي استنتاج أنَّ عقيدة الإعجاز١ تفسِّر هذا الموقف: لا يمكن تقليد القرآن. وفي هذا الصدد يمكن القول إنَّ أحدث الروايات وقصائد الشِّعر الحر، ناهيك عن الرسائل العلمية، أقربُ شبهًا بالأعمال الغربية من الكتاب المقدَّس للإسلام.

لكنْ يبقى تأثير القرآن على الأدب العربي كبيرًا. من خلال الأفكار التي يحتوي عليها، إنه ضوءٌ هادٍ وشفرة للإيمان والمعرفة في مجمل الأعمال الدينية. تفوُّقه، من حيث الشكل، يتجلَّى في شغف المؤلِّفين في التلميح كثيرًا للقرآن والاقتباس من آياته بحريَّة في كتاباتهم.

حقيقة أنَّ الحياة الاجتماعية في العالَم الإسلامي والحياة الشخصية للكثير من السكان تأثرتْ بعمق شديد بالقرآن، تنعكس بوضوحٍ في الأدب. كيف يمكن أن توصف الحياة اليومية في الواقع أو في القصة، كيف يتناول المشاكل الشرعية أو الخُلقية أو الدينية بدون الاضطرار إلى البحث عن دعمٍ في القرآن؟ حتى مَن يدعون ميولًا لا دينية أو مضادَّة للدِّين، لا يمكن أن يفرُّوا من تفوُّقه؛ حيث يقتبسون منه أو يُشيرون إليه للاعتراض عليه.

وبالنسبة للاقتباس النَّصي (اتباعًا لتقليدٍ راسخ جدًّا في العالم الإسلامي، تقليد «التضمين»)، يمكن القيام بذلك لهدفَين. أحيانًا يودُّ الكُتَّاب توضيحَ إعجابهم بالقرآن بالتعبير عن آرائهم بآياته الشهيرة. وهذا الإجراء يتبنَّاه كثيرٌ جدًّا من الوعَّاظ في خطب الجمعة التي تطرَّز بالنصوص القرآنية والحديث. وفي أوقات أخرى قد يلعبون على حساسية وسطٍ ثقافي، فيه مجرد الإشارة إلى نص قرآني تثير أصداءً غير عادية. يستفيدون من مزيَّة المعرفة الواسعة جدًّا بنَص القرآن، وحقيقة أنَّ الجميع مطَّلعون عليه ويحترمونه. في روايته «السقا مات»، القاهرة، ١٩٥٢م،٢ يصِفُ يوسف السباعي منطقةَ طبقة عمَّالية في القاهرة، حيث الناس فقراء راضون بقدَرِهم، لكنَّهم مفعمون بالرقَّة ورُوح الدعابة؛ حيث تحتلُّ الفكاهات البسيطة عن الحياة مكانَ الصدارة. وليخلق شعورًا عامًّا يضع على جدران منزلٍ من تلك المنازل البسيطة آيةً دالة من القرآن تعبِّر أكثرَ من أيِّ وصفٍ تفصيلي: … وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة: ١٧٧). خلَقَ الارتباط الطويل والمستمرُّ بالقرآن استجاباتٍ بين الجماهير، وأيضًا في دوائر المثقفين لدى الكتَّاب خبرةً بهذه الاستجابات؛ ولذا يستطيعون أن يستمدُّوا تأثيراتٍ سيكولوجيةً وأدبية منها.

ويمكن بفحصٍ أكثرَ تفصيلًا التمييزُ بوضوحٍ بين مختلف أبعاد المسألة.

(١) تأثير القرآن على الأدب المعاصر

أولًا وقبل كلِّ شيء، حافَظَ القرآنُ، بوجوده ذاته، على العربية الكلاسيكية. هل كان لها أن تستمرَّ أربعة عشَرَ قرنًا رغم الاتجاه الطبيعي للُّغات للتطور والانقسام، ورغم جهود القوى الأجنبية العازمة على فرض ثقافتها، إن لم تكُن مرتبطةً بالقرآن؟

يعتمد وجود الإسلام وانتشاره على المعرفة بالقرآن؛ ولذا يحتاجان لبيئةٍ مناسبة لدراسته ودراسة علوم القرآن. قاوَمَ العرب، وحتى الأتراك المسلمون من خلفياتٍ بسيطة، برامجَ التتريك المضادَّة للعرب التي حدثتْ في الإمبراطورية العثمانية بعد نجاح تركيا الفتاة (١٩٠٨–١٩١٠م). وبشكلٍ مماثِل في الجزائر، بين عام ١٩٣٠م وعام ١٩٥٥م، كافَحَ العلماء دفاعًا عن العربية، وكان وجودها ذاته مهدَّدًا بزحف الفرنسية.

وينبغي أن نتذكَّر أنَّ منظمات البعثات الإسلامية، في كلِّ أرجاء العالَم، تضع في اعتبارها أنَّ نشْرَ العربية من الأُسس الجوهرية لعملهم. ومن هنا تأتي الأهمية المُعطاة لإنشاء مدارس لتعليم اللغة العربية، وتدريبِ مدرِّسي العربية وإرسالهم للخارج، وطبْعِ كتبِ المدارس العربية وتوزيعها. وُجود اللغة العربية الأدبية يدين بالكثير للقرآن.

وهناك حتى حالاتٌ ساعَدَ فيها الحماسُ الديني المستوحى من الارتباط الشديد بالقرآن على تجديد اللغة وجعلها أكثرَ جاذبية. وبالنسبة للأسلوب الحالي للأعمال النموذجية عن التعاليم الدينية في العالَم العربي، أعمال سيد قطب (ت: ١٩٦٦م) مثالٌ لهذا الجنس الأدبي، لدينا هنا نتاجُ عملٍ طويل في التبسيط قام به بعض الكتَّاب، من بينهم الإمام محمد عبده (ت: ١٩٠٥م) في مصر، واستمرَّ على أيدي الإخوان المسلمين. بإيمانهم بالقرآن، عزموا على الحفاظ على عربيةٍ كلاسيكية، وبمعنًى ما قرآنية. وإضافةً إلى ذلك، حرصهم على أن يكونوا مفهومين أرغَمَهم على الكتابة بوضوحٍ وبساطة؛ ليصلوا إلى عددٍ كبير من القرَّاء قدْرَ المستطاع. هذا الاهتمام المزدوج، قضى على الزخارف المتكلَّفة للسجع العربي القديم، الذي اختفى قربَ نهاية القرن التاسع عشر.

وحين يُثار السؤال عن تأثير القرآن على الأدب، يلفت الانتباه مسألةٌ أكثرُ حساسيةً بكثير. يسعى القرآن في المقام الأول إلى توجيه المؤمنين إلى الطريق المستقيم. لا يروي التاريخَ القديم لذاته، كما قد تفعل وثيقةٌ تاريخية، لكنه يسعى أساسًا إلى استخلاصِ دروسٍ دقيقة من أحداث الماضي. تستعرض آياتٌ كثيرة تيماتٍ تعِظُ بشأن عظمة الله ويوم القيامة، إلخ. للقيم الدنيوية أهميةٌ ضئيلة، وحكايةٌ مثلُ حكايةِ ميلاد عيسى، في سورة مريم، تُروى وكأنها حدثتْ خارج الزمان والمكان، تجري أحداثها في الشرق، بعيدًا عن أسرة مريم، تحت نخلة، بجانب جدول. نحن خارج التاريخ؛ لا يهمُّ إلا نِعَم الله وبركاته ومعجزاته. ويمكن طرحُ سؤالٍ بشأن تأثير الموقف الذهني الذي يفترضه هذا الأسلوب على عقلية الكُتَّاب العرب. هل هناك تأثيرٌ مباشِر؟ أو هل هو من الناحية الأخرى طريقةٌ معينة للتفكير تُشعِر الكتَّاب بالراحة حين يستخدمون أسلوب القرآن؟

وبالمثل، إلى أيِّ مدى شجَّع الكشفُ عن إعجاب المرء بنصِّ القرآن باقتباساتٍ لا نهائية، وممارسة الإشارة باستمرار، إلى المصادر؟ ليس من السهل معرفة ذلك.

يمكن أيضًا أن نتساءل إن كان تفكيرُ القرآن يشغل الكتَّاب العرب. تختلف الإجابة طبقًا لخصوصية كلِّ حالة.

من المؤكَّد أنَّ المسئولين عن تدريس الأدب العربي، يعتبرون معرفة القرآن عنصرًا لا غنى عنه لتعليم الطلاب. تتطلَّب فصول الأدب التي تستهدف كلَّ الطلاب، مسلمين أو غير مسلمين، دراسةَ نصوص القرآن.

لكنْ بصرف النظر عن هذا الاهتمام بالثقافة العامة، يبدو الانشغال بالقرآن في المقام الأول في كلِّ الكتابات التي تتناول الدينَ بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. وتوضِّح هذا أمثلةٌ قليلة، من بين أمثلة أخرى عديدة. يمكن وضع العديد من أعمال المصري عباس محمود العقاد (ت: ١٩٦٤م)٣ في هذه الفئة. بشكلٍ خاص قدَّم لنا سلسلةً من الأعمال عن التفكير الديني الإسلامي، أعني «الفلسفة القرآنية». وتصِفُ كتبٌ أخرى شخصياتٍ عظيمةً في التاريخ الديني، كما يراهم الإسلام، ولا سيما القرآن: على سبيل المثال، «عبقرية المسيح» أو «عبقرية محمد».
في عالَم الروايات التاريخية، قدَّم المصري عبد الحميد جودة السحَّار سلسلةً عن شخصيات عظيمة في الإسلام، من إبراهيم إلى محمَّد. يتَّسق كتابه «المسيح عيسى بن مريم»، على سبيل المثال، مع المعلومات التي يقدِّمها القرآن عن عيسى، حتى لو ملأ الفراغات بمساعدة تفاصيل الإنجيل، وحتى لو رأى في النهاية آلامَ المسيح من خلال التقلُّبات الواردة في إنجيل برنابا الزائف.٤

التحوُّل الحالي في المجتمع تيمةٌ لجأ إليها عدَّة مؤلفين مُحدَثين. وهكذا نشَرَ محمود دياب، وهو روائي ومسرحي مصري، في ١٩٧١م (وهو في الأربعين) المجلدَ الأول من سلسلةٍ هادفة، «أحزان المدينة». تستخدم هذه الرواية اللافتة واللذيذة والرائعة، إحدى أفضل الروايات التي ظهرتْ في السنوات الأخيرة، مدينة الإسماعيلية — على قناة السويس، حيث قضى المؤلف طفولته — رمزًا لأحداثٍ درامية جرَّت إليها مصرَ الحديثة ضدَّ إرادتها: التحضر مع تحوُّل تضامن القرية إلى موقفٍ أناني من جانب رجال المدينة، حرب ١٩٣٩–١٩٤٥م، التفجيرات، أموال الجنود البريطانيين تفسد الاقتصاد، السوق السوداء، الدعارة … في هذه البانوراما يظهر القرآن واحدًا من العناصر المكوِّنة لمجتمع يُستبدل به تدريجيًّا مجتمع آخَر. يُرَى بطلُ الرواية، وهو طفلٌ، على خلفية أُسرته. ذاتَ مرة تعلِّمه أمُّه الفاتحة وتبتسم له حين يتلو السورة دون خطأ. بالنسبة له، كما يؤكِّد المؤلف، كانت الفاتحة، وبقيت، ابتسامة أمِّه. كان للكُتَّاب أيضًا مكان بالِغ الأهمية في هذا المشهد التقليدي.

في الأدب الملتزِم أيديولوجيًّا، نجِدُ القرآن مرة أخرى، لكنه هذه المرة يصِفُ ماضيًا من المقدَّر أن يحلَّ العِلمَ محلَّه. فيما يبدو ظاهريًّا أنها رواية، «أولاد حارتنا»،٥ أراد نجيب محفوظ أن يقدِّم تاريخًا دينيًّا للبشرية. في عمله عدَّة شخصيات يبدو أنهم من سكَّان القاهرة، يمثِّلون عظماءَ الأنبياء في الماضي: آدم وموسى وعيسى ومحمد. تصِفُهم الرواية جزئيًّا من خصائصَ توجد في القرآن، لكنْ جزئيًّا فقط. تِيمة العمل أنَّ الأنبياء فشلوا في محاولاتِ جلب السعادة للبشر. يظلُّ الآخرون يُستغلون على أيدي زعمائهم، مع تواطؤ كبار رجال الدين والشيوخ. العلم وحده قادرٌ حقًّا على تحريرهم، لكنَّ العمل ينتهي بتصريحٍ عن الفشل؛ لأنَّ العلم أيضًا استخدمه الطغاة لفرض هيمنتهم أكثر؛ تلميح إلى القنبلة الذرِّية، أداة قمعٍ في أيدي القوى الرأسمالية.

هذا النوع من استخدام مادة القرآن استثنائيٌّ في العالَم الإسلامي. لا حاجة بنا هنا إلى اللجوء إلى عملٍ مبكِّر لعز الدين مدني، نُشر في تونس في مجلة «الفكر» حوالي ١٩٦٨م، «الإنسان الصفر»، يلتزم بأسلوب القرآن بطريقةٍ لا يسمح بها المسلمون أبدًا!

ومن الناحية الأخرى، يدفع تحوُّل المجتمع حاليًّا الكثيرين من الكتَّاب التقليديين إلى أن يُمسكوا بالقلم؛ دفاعًا عن قضية الإسلام في وجه مَن يصرِّحون بسهولةٍ أنه عفا عليه الزمن. هدَفُهم توضيح كيف أنَّ القرآن يجيب على أسئلة العالَم الحديث. كان سيد قطب مفكرًا كتَبَ بغزارة، وأثَّر تأثيرًا عظيمًا على الإخوان المسلمين، وكان عالِمَ دين ومجادِلًا إلى حدٍّ ما. قرب نهاية حياته كتب عملًا لخَّص فيه فلسفته كلها، بعنوان «معالم في الطريق»، فيه فصلٌ طويل عن القرآن يخاطب الإنسان، الإنسان بما أنه إنسان سواءٌ كان من الشرق أو الغرب، ويقدِّم حلولًا للمشاكل الكبرى في الحياة. تِيمة هذا الكتاب الذي لا هوادةَ فيه هو الإسلام طريقًا ثالثًا، بين الغرب بفشله الثقافي والخُلقي الكامل والاشتراكية الماركسية. باسم القرآن يُدين كلَّ أشكال القومية. ويمكن أن نذكر أعمالًا كثيرة من هذا النوع في العالم الإسلامي الحديث، بجانب مقالاتٍ في الصحف.

(٢) إعادة تفسير القرآن

وضَّحت الأمثلةُ السابقة الاتجاهَ الذي يتحرك فيه الكتَّاب المُحدَثون في استخدام القرآن. قد نتساءل إن كان هؤلاء المؤلِّفون سوف يستمرون في اعتبار القرآن كما اعتبره أسلافهم أم أنَّ النقد الحديث عدَّل موقفهم.

يبدو للوهلة الأُولى أنَّ مشاكل النقد التاريخي لم تُثَر بعدُ (في ١٩٨٣م) في العالَم الإسلامي بشأن القرآن. قد يتغيَّر الوضع بسرعة، لكنَّ المفسِّرين في اللحظة الحالية يقتصرون على النقد الخارجي بفحص سلسلةِ الإسناد. حتى الآن، لم يعرف الإسلام أزمةً مثلَ أزمة الحداثة التي مرَّت بها الكاثوليكية في بداية القرن العشرين، حين بدأ المنهجُ التاريخي يطبَّق على مآثِر زَخرَ بها الكتاب المقدَّس. يستمرُّ الكتَّاب الدينيون في التمسُّك بالمفهوم التقليدي المتصلِّب جدًّا للوحي، المتصوَّر باعتباره نزولًا من السماء لنَصٍّ وُجد من قبل، باعتباره عملًا أملاه الملَك جبريل على محمد، الذي يتلقَّاه سلبيًّا راضيًا بنقله بدون إضافةِ أيِّ شيء من عنده للنَّص. يُحتمل أن يلين هذا الموقف ذات يوم.
في هذه الأثناء، يستمر طلاب المدارس الثانوية في مصر يتعلمون أنَّ الملك جبريل علَّم نص القرآن لمحمَّد. كلَّ عام في شهر رمضان، كان لمحمد قطعٌ من المعرفة يُشرف عليها الملَك جبريل أمامه، يتلو كلَّ ما أنزل عليه حتى ذلك الوقت. في عامِ وفاة محمد، عرَضَ جبريل القرآنَ مرتَين.٦

حاليًّا، حين تبدو حقيقةٌ تاريخية متعارِضةً مع نَص القرآن؛ لا توضع في الاعتبار، وتُطرَح حُجج المشكِّكين بشأن نسبية المعرفة الإنسانية وتُدحض.

لكنْ في ديسمبر ١٩٧٠م، كرَّس عددٌ خاص من المجلة القاهرية الشهرية «الهلال»، جمع النصوص القرآنية عن ألوان من الوحي لغير الأنبياء. بدتْ هذه الحقيقة دعوةً لإعادة فحص المواقف الدينية بشأن هذه المسألة، وخاصة التمييز بين الوحي والإلهام، لكنَّ المزيد من المواقف التقدُّمية نادرٌ، أو استثنائي تمامًا. هناك فقط عددٌ قليل يعتقد بأنَّ القرآن أُوحي بالنزول إلى «قلب» محمَّد؛ ممَّا يسمح بتفسير أوسع.٧
البيان الذي ألَّفه محمَّد أركون — مفكِّر إسلامي من أصلٍ جزائري، ونشَرَ مقدمةً لترجمة فرنسية للقرآن — أهم نص على الإطلاق أعرفه يتناول مشكلةَ التفسير الحديث للقرآن. الكثير من الآراء التي يحتويها تبقى نظريةً إلى حدٍّ بعيد؛ ومتأثِّرة بوضوح بالاتجاهات الحديثة للهيرمونطيقا في الغرب.٨

اعتمدتْ مشكلة تفسير القرآن، في المقام الأول، على نقطةٍ خاصة أو نقطتَين. في جذرِ كلِّ شيء يوجد مفهومُ إعجاز القرآن. لتجاوز مستوى المعجزة الأدبية، وتقديم حُجج قد تؤثِّر حتى على مَن لا يتحدثون العربية، حاوَلَ عددٌ من المفكرين المسلمين توضيحَ أنَّ القرآن يحتوي ثرواتٍ لا تقدَّر. آمَنَ هؤلاء المفكِّرون بهذه الحقيقة: إذا كان لا يمكن تفسير القرآن إنسانيًّا؛ فينبغي إثباتُ أصله الإلهي.

أحد جوانب هذا التبرير يقدِّم ما سمِّيَ التفسير العلمي للقرآن. وهذا الموقف ليس جديدًا، ولفت أحد أكثر معارِضيه تصميمًا في السنوات الأخيرة، البروفيسور الشيخ أمين الخُولي (ت: ١٩٦٥م)، الأنظارَ إلى وجوده في أعمال الصوفي الكبير الغزالي. ويتأسَّس على تفسيرٍ خاص للآية القرآنية: … مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ … (الأنعام: ٣٨)، وفيه يفترض أنَّ الكلمات «ما فرَّطنا من شيء» ينبغي أن يكون معنًى مطلقًا. إذا كان القرآن يحتوي على كلِّ شيء؛ فينبغي أن يوجد فيه أيضًا العلم والفلسفة والاكتشافات الحديثة. بالنسبة لأمين الخولي، على العكس، توضِّح مقارنة هذه الآية وغيرها وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف: ٥٢)، أنَّ القرآن لم يترك شيئًا في عالَم الحقائق الدينية المقدَّرة لتوجيه البشر. ولا يجوز إطلاقًا النظرُ في القرآن بحثًا عن مؤشِّرٍ للاكتشافات العلمية الحديثة.
يتم تناول مسألة ما يُعرف بالتفسير العلمي بانتظام.٩ يعلِّمها بجديَّة مدرِّسو المدارس الابتدائية، والمدرسون المسلمون على المستوى الثانوي. يتم تعليمها في الأعمال الدينية، وفي كُتيبات الإرشاد الديني في المدارس. تحظى بترحيبٍ ولا يرى معظم الناس طبيعتها السطحية. واستُخدمت للعثور على فكرةِ داروين عن الارتقاء في القرآن (وتفسَّر بالآية ١٧ من سورة الرعد). وجرى نقاشٌ بعد إطلاق أول قمرٍ صناعي روسي في خريف ١٩٥٧م، حين ودَّ بعضُ الناس أن يفهموا من الآية ٣٣ من سورة الرحمن احتمالَ الرحلات بين الكواكب. وجرت مناقشات مرةً أخرى في مصر حوالي عام ١٩٧٠م، حين كتَبَ الدكتور مصطفى محمود، وهو طبيب وأديب عاد إلى الإيمان بعد فترةٍ من الشك، سلسلةَ أعماله الحية تمامًا؛ أثَّرت على جمهورٍ واسع، رغم أنَّه يؤيِّد فيها هذا التفسير العلمي. وهاجمتْه حينذاك بنتُ الشاطئ (عائشة عبد الرحمن). حتى الآن لا يبدو أنَّ مؤيِّدي التفسير العلمي يرون أنَّ التلميحات الواردة في النصوص المطروحة عامةٌ جدًّا ومبهمة. ومن الناحية الأخرى، يعترفون بالمغزى الديني البارز الذي يستحقُّ إلقاء المزيد من الضوء.

ودَّ أيضًا عددٌ كبير جدًّا من الكتَّاب، متتبِّعين الخطَ نفسه ومنطلقين من فرضيةِ أنَّ القرآن يحتوي على كلِّ شيء، أن يعثروا فيه على كلِّ القيم التي تتأسَّس عليها المجتمعات الحديثة. ربطت الديمقراطية بما يُعرف ﺑ «آية الشورى»، وهي عن رجالٍ يقيمون الصلاة وَأَمْرُهُمْ شُورَى (الشورى: ٣٨). نوقشت الليبرالية والمساواة والعدالة، إلخ؛ لتوضيح أنَّ القرآن قبل الثورة الفرنسية باثنَي عشَرَ قرنًا طرَحَ أحدث المبادئ. على مدى آخِر خمسة عشر عامًا أو نحو ذلك، تمَّ تبنِّي الإجراء نفسه بشأن الاشتراكية: يتمُّ أيضًا ربطُها بآيات القرآن.

ما حدث في مصر في ١٩٤٧م واحدةٌ من أهمِّ الأزمات، تتعلَّق بتفسير القَصص القرآني. يعترف المسلمون في تراثهم بأنَّ كلَّ الحكايات عن الماضي لا تحظى بالقيمة نفسها. وثار ردُّ فعلٍ شديد ضدَّ ما يسمَّى الإسرائيليات، أو الأساطير الدينية التي وجدتْ طريقَها إلى الأعمال الإسلامية. ومن الناحية الأخرى، القصص في القرآن نفسه لم تتمَّ قَط معارضتُها صراحةً؛ رغم أنَّ في أطروحةٍ للدكتوراه في جامعة القاهرة، ودَّ مدرِّسٌ مساعِد في تفسير القرآن، وهو محمد أحمد خلف الله، أن يقيِّم مختلف القِصص القرآنية. وكان ذلك في ١٩٤٧م. قدَّمَ أطروحته إلى لجنةِ الممتحِنين مقدَّمًا، وبعد تبادُلٍ حيٍّ للآراء قرَّر الممتحِنون عدم قبول العمل ولم يُعقد الامتحان. أثارَت المسألةُ ضجَّةً هائلة، ذُكرت في الصحف والمجلات. اعترَفَ المؤلِّف بملاحظاتٍ قدَّمها مستشرقون بشأن القصص: على سبيل المثال، حقيقة أنَّ «هامان» في الكتاب المقدَّس ليس وزيرَ فرعون، بل وزيرٌ في البلاط الفارسي. واعترف بوجود تضارُب في الحقائق. وميَّز بين الحقيقة المادية والحقيقة السيكولوجية أو الأدبية. باختصار، كان يقدِّم تفسيرًا لفكرة أنَّ كلَّ النصوص ينبغي أن تُقرأ، ليس لدقَّتها المادية، بل بالأحرى للحقيقة العُليا. بدا أنَّ عمله يقدِّم المقدمةَ الضرورية لفكرة الأجناس الأدبية في تفسير القرآن. وكان عليه أن يستقيل. نشَرَ كتابه بعد ذلك بأربع سنوات، وبِيعَ بانتظامٍ في الخفاء. ونفدت طبعاتٌ عديدة متتالية.١٠

لكنَّ هذه المسائل التي أثارت مناقشاتٍ حاميةً لا ينبغي أن تُنسينا الدورَ الأكثر تواضعًا وحيوية، الذي يلعبه التفسير. كانت السمة المميِّزة للتفكير الإسلامي في آخِر مائة سنة، شعارَ الإشارة إلى المصادر. كانت مسألةُ تجاوُز تفسيراتِ القرون الوسطى وتعليقاتها؛ لإعادة اكتشاف رُوح المسلمين الأوائل وأصالة المصادر. فضَّلَت التفسيرات الحديثة العودةَ إلى نصِّ القرآن نفسه. فسَّرَت المجلات فقراتٍ من القرآن في محاولةٍ لمساعدة القرَّاء على فهْمٍ أفضل لها؛ ليستخدموها في التأمل والصلاة. علينا ألَّا نجعل رؤيتنا تُحجَب بالجانب الغريب الذي يسمَّى التفسير العلمي. بتذكير المسلمين بأنَّ الله خالقُ كل شيء، استدعى هذا التفسير أيضًا ثناءً لا يتوقف على أعماله. وحين علَّق مصطفى محمود على أفلامٍ عن جمال الطبيعة أو عن أسماك أعماق البحار؛ كان ما قدَّمه للمشاهِدين نشيدًا في تمجيد الله الخالق، وليس درسًا علميًّا.

(٣) الأدب المتعلِّق بالقرآن

والقرآن يمارِس تأثيرًا واسعًا على المجتمع، يأخذ الأدب القرآني أبعادًا متنوِّعة جدًّا. أولًا وقبل كلِّ شيء، هناك التفسيرات التي تشرحه. وهذه التفسيرات متنوِّعة إلى حدٍّ بعيد. بعضُها مجزَّأ، جُمِع معًا من مقالاتٍ ظهرت في سلسلة، في مجلات دينية أو مجلات لتعليم الجمهور. وبعضها الآخر قد يكون أطروحات عظيمة. أخيرًا، عدد لا يحصى من تفاصيل الحياة تكشف المغزى الذي تؤخذ إليه آياتٌ متنوعة. في مايو ١٩٦٧م، كلُّ الآيات القرآنية المتعلِّقة بالجهاد، التي كانت تُرى على جدران القاهرة، أحدثَت ارتياحًا مدهِشًا في ضوء الموقف السياسي المتوتِّر.

كثيرًا ما تكشف تفسيراتُ القرآن عن احتياجات المجتمع الذي كُتبت له. وهكذا في ١٨٢٠م تقريبًا، ألَّف عبد الله بن فودي، أخو مؤسِّس إمبراطورية السوكوتو في شمال نيجيريا الحالية، تفسيرًا تقليديًّا جدًّا للقرآن بعنوان «ضياء التأويل». في ذلك الوقت، عرَضَ إنتاجٌ أدبي كامل بالعربية في تلك المنطقة احتياجاتِ إسلامٍ متشدِّد، يعارِض الممارسات غير الأصولية، الموروثة من الماضي الوثني. دعمت هذه الحملة لصالح العقيدة، وبررت الجانب العسكري للمسألة؛ حيث إنَّ أخا عبد الله، السلطان عثمان بن فودي، شنَّ حربًا على أمراء المناطق المجاوِرة متهمًا إياهم بإفساد الإسلام.

عمومًا، تحاول التفسيرات الحديثة للقرآن الردَّ على المشاكل التي يثيرها تحوُّل المجتمع، وتأكيد الرسالة التي يمكن أن يجلبها القرآن إلى العالَم الحديث.

إنَّ تفسير القرآن يستحقُّ دراسةً دقيقة. هل كانت الأفكار العظيمة عن الإصلاح تتشكَّل هناك للمرة الأُولى؟ هل يمكن أن يكون جمال الدين الأفغاني، المُصلِح الإسلامي الشهير في القرن التاسع عشر، قد صاغ هذه الأفكار في أثناء ترحاله؟ ترَكَ المفكِّر العظيم شاه ولي الله (١٧٠٣–١٧٦٣م) أعمالًا عديدة عن التفسير ومنهج التفسير بالعربية والأردية (في هذه المنطقة، كانت التفسيرات تُكتب بالأردية أكثر ممَّا تُكتب بالعربية).١١
في العالَم العربي، كان أهمُّ تفسيرٍ حديث للقرآن تفسير «المنار». وهو عملٌ مشترَك للإمام وسيد رشيد رضا، ظهَرَ أولَ مرة في مجلة المنار في القاهرة بين عامي ١٨٩٨–١٩٣٥م، وأُعيدت طباعته منفصلًا بعد ذلك مباشرة. التفسير من بداية القرآن إلى الآية ١٠٧ من سورة يوسف. انتهز الفرصة لفحص كلِّ التيمات الكبرى التي تشغل إصلاح المسلمين. هدف المؤلِّفَين، في إطار العودة إلى القرآن، توضيحُ أنَّ القرآن يحتوي على كلِّ التوجيهات الضرورية للإنسان الحديث، ولتنظيم مجتمعٍ حديث. وضَعَ المؤلفان قدْرًا كبيرًا من الثقة في السعي لترسيخ مصداقية القرآن.١٢
وفي المسار نفسه، يمكن أن نذكُر في سوريا التفسيرَ الكامل لمحمد جمال الدين القاسمي، بعنوان «محاسن التأويل»، ونُشر في القاهرة في سبعة عشَرَ مجلَّدًا.

وفي تونس، كتَبَ الشيخ الطاهر بن عاشور، وهو أحد قادة الفكر الإسلامي في تونس، وكان يعرف محمد عبده؛ تفسيرًا مطوَّلًا، نُشر أولَ مرة في القاهرة في ١٩٦٤م. ويعتمد هذا التفسير إلى حدٍّ كبير على التفسيرات التقليدية، التي يستفيد منها ويقتبس.

وفي الجزائر، كتَبَ الشيخ عبد الحميد بن باديس (١٨٨٩–١٩٤٠م)، زعيمٌ إصلاحي وأحد مؤسِّسي حركةَ العلماء الجزائريين، تفسيرًا في مجلة «الشهاب» لعددٍ من آيات القرآن.١٣ سعى إلى أن يقدِّم لمواطنيه تعاليمَ قرآنيةً أساسية بكلِّ الأبعاد الدينية والثقافية والسياسية الضرورية. بينما كان يتمسك باتجاه «المنار»، استطاع العثورَ على طريقٍ أصيل، يعارض بشكلٍ خاص نوعًا معيَّنًا من ورع المرابِطين.
توجد تفسيراتٌ أخرى بانشغالاتٍ أكثرَ خصوصية. سيد قطب، في تفسيره (في ظلال القرآن، القاهرة) يعطي اهتمامًا خاصًّا للعمل الديني والسياسي. ويهتمُّ فريد وجدي (ت: ١٩٥٤م) والشيخ طنطاوي جوهري (ت: ١٩٤٠م)، في «الجواهر»، اهتمامًا خاصًّا بالعثور على كلِّ العلوم في القرآن.١٤

في البلاد التي يسُود فيها المذهب الشيعي، يُدرَس القرآن بالقَدْر نفسه، ويفحص ويفسَّر. كما في الأعمال العربية للسيد محمد حسين الطباطبائي، الذي نشر «الميزان».

وتوجد أيضًا تفسيراتٌ مبسطة، نشرها أفرادٌ أو منظمات (على سبيل المثال: مجمع البحوث في الأزهر، القاهرة) موجَّهة للتعليم الابتدائي، على سبيل المثال: تفسير برانق، «التربية». وتوجد تفسيراتٌ أخرى تسعى لإحياء الموضوع بالتركيز بشكلٍ خاص على بُعد جديد. على سبيل المثال، أنتج محمد عزة دروزة — مسلمٌ معروف بنشاطه في فلسطين، مولود في نابلس — تفسيرًا أعاد فيه ترتيب السور حسب ترتيب النزول. والعمل بعنوان «التفسير الحديث».

بجانب أدب التفسير، تقف كتبٌ تقدِّم القرآنَ نفسه وعلوم القرآن.١٥ الأعمال التي ذُكرت من قبل للدكتور كامل حسين والدكتور مصطفى محمود مثالٌ لهذه الكتب. وينبغي أيضًا أن نذكر كلَّ الفصول الواردة في أعمالٍ أكثر عمومية، وكلَّ الأعداد الخاصة من المجلات التي يناقَش فيها القرآن. وهناك الدراسات المكرَّسة لمختلف جوانب القرآن وأطروحات الدكتوراه، التي تتناول أسلوبه ومحتواه. ويكفي القول إنَّ المجال هائل والأدب في هذا الموضوع غزير.
١  يتحدى القرآن أن يأتي مخلوقٌ من الإنس والجن بنَصٍّ يعادل سورةً واحدة (قارن البقرة: ٢٣، والإسراء: ٨٨).
٢  لمراجعة لهذا العمل، انظر: Mélanges de I’lnstitut Dominicain d’Etudes Orientates du Caire, I, 1954, 143–9.
٣  عن العقاد، انظر: شوقي ضيف، مع العقاد.
٤  قارن: Jomier, “Quatre ouvrages”.
٥  نُشرت الرواية مسلسلة في جريدة الأهرام اليومية في القاهرة، ورفض الأزهر نشرها في كتاب؛ فتحوَّل المؤلف إلى بيروت لنشرها في ١٩٦٧م. راجع: MIDEO, xi, 1972, 265–72.
٦  راجع: برانق، التربية، ١٠٨.
٧  راجع: القرآن، سورة الشعراء: ١٩٢–١٩٦. وأيضًا: Rahman, Islam, 25–29؛ حيث يذكر أنَّ القرآن كلمةُ الله بالكامل، وبالكامل بالقدر نفسه كلمة محمد، وهو رأي أثار ردود فعلٍ قوية.
٨  “Comment lire”. قارن أيضًا: Hanafi, Methode.
٩  راجع الترجمة لكلمة «تفسير» في EI1؛ لواء الإسلام، ١١، ١٩٥٧م، ٥١٨–٥٢٣؛ MIDEO, iv, 1957, 269–79؛ بنت الشاطئ، القرآن؛ حسين، الذِّكر، وخاصة ٥٩، ١٨٢–١٩٠؛ طبارة، روح؛ محمود، محاولة.
١٠  الفن؛ راجع أيضًا: MIDEO, I, 1954, 39–72.
١١  قارن: Baljon, Interpretation. وقارن أيضًا: Ahmad, Contribution.
١٢  قارن: Jomier, Commentaire.
١٣  قارن: Merad, Ibn Badis, especially 253.
١٤  MIDEO, v, 1958, 115–74.
١٥  على سبيل المثال، Bennabi, Phenomen.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥