مفهوم الذكاء في البشر والآلات
عندما نصل إلى طريقٍ مسدُودٍ، فمن الحكمة أن نعود أدراجنا ونقتفي آثار سيرنا لنقف على أي طريقٍ خاطئٍ سلكناه. ولقد حاججتُ بأنَّ النمُوذج القياسي للذكاء الاصطناعي ما هو إلا طريق مسدُود؛ ذلك النَّموذج الذي تعكفُ الآلات في ظلِّه على الوُصُول بأفضل الطُّرُق إلى الغايات المُحدَّدة التي أودعها البشر إيَّاها. والمُعضلة هنا ليست أنَّنا قد «نفشل» في بناء نظم الذكاء الاصطناعي، بل في أنَّنا قد «ننجح» نجاحًا عظيمًا. فمفهوم النَّجاح في مجال الذكاء الاصطناعي خاطئ بالكُلِّية.
فهيا بنا إذن نعُد أدراجنا ونقتفِ آثارنا من بداية الطَّريق. لنُحاول معًا أن نفهم كيف تبلور مفهُوم الذكاء لدينا وكيف طُبِّق على الآلات. حينها سنحظى بفُرصةٍ لنقترح مفهومًا أفضل لما يُمكن أن يُعدَّ كنظام ذكاءٍ اصطناعي جيد.
(١) الذَّكاء
ما نواميسُ هذا الكون؟ وكيف بدأت الحياة؟ وأين هي سلسلة مفاتيحي؟ تلك أسئلة جوهرية جديرة بالتأمُّل والتَّفكير. ولكن من عساه يسأل مثل هذه الأسئلة؟ وكيف سأجيبُ عنها؟ وكيف لحفنةٍ من الخلايا؛ تلك الكُرة ذات اللون الوردي المائل للرمادي التي تُشبه المُهلَّبية والتي نُسميها الدِّماغ، أن تُدرك وتفهم وتتنبَّأ وتتدبَّر بدهاءٍ أمر عالمٍ من الفضاء الشَّاسع والفسيح؟ ثم بدأ العقل يسبرُ أغوار نفسه.
مُنذُ آلاف السِّنين ونحن نسعى لفهم كيف تعمل عقولنا. في البداية، كان الفُضُول هو ما يدفعُنا إلى ذلك، بجانب مساعي الإدارة الذاتية، وتحصيل القُدرة على الإقناع، ولهدفٍ عمليٍّ آخر وهو تحليل البراهين الرياضية. ومع ذلك، فكلُّ خُطوةٍ نخطُوها إلى الأمام في طريق فهمنا لآلية عمل العقل، هي في الوقت ذاته خُطوة تُقرِّبُنا من مُحاكاة القدرات العقلية في آلةٍ من صُنع الإنسان؛ والتي بدورها خُطوة إلى الأمام في مجال الذكاء الاصطناعي.
إن فهمنا لماهيَّة الذكاء سيُساعدنا في فهم كيف نبنيه في آلات. ولن نتوصَّل إلى هذا الفهم من خلال اختبارات معدَّل الذكاء ولا حتى في اختبارات تورينج، بل هو يقبعُ في علاقةٍ بسيطةٍ بين ما ندركه وما نُريده وما نفعله. يُمكن القول إن أي كيانٍ يُعدُّ ذكيًّا ما دامت فعالُه يُتوقَّع منها أن تُحقِّق ما يريده، مع الأخذ في الاعتبار ما يدركه.
(١-١) الأصول التَّطوريَّة
تأمَّلْ إحدى الجراثيم البسيطة مثل الإي كولاي (جرثومة المعدة). ستجدها مُزوَّدةً بنحو نصف دزينة من الأسواط؛ وهي مجسات طويلة ورقيقة كالشَّعرة تدور قواعدها إما في اتجاه عقارب الساعة أو عكسه. (أمَّا المُحرِّك الدَّوار ذاته فهو آية عظيمة، ولكن ليس هذا مقام الحديث عنه.) وبينما تطفو هذه الجرثومة في بيئتها السائلة؛ الجزء الأسفل من جهازك الهضمي، تُبادل بين تدوير أسواطها في اتجاه عقارب الساعة ممَّا يجعلها تتقلَّب في مكانها، وبين تدويرها في عكس اتجاه عقارب الساعة، فتصير الأسواط كحبلٍ مجدُولٍ يُشبه مروحةً دافعةً مما يُمكِّنُ الجرثومة من السِّباحة في خطٍّ مُستقيم. وهكذا، فإنَّ هذه الجُرثُومة تقوم بنوع من التحرُّك العشوائي؛ تسبح ثمَّ تتقلَّب، ثمَّ تسبح ثم تتقلَّب، وهذا يُتيح لها العثور على جزيئات الجُلوكوز وامتصاصها بدلًا من البقاء ساكنةً مكانها والموت جوعًا.
لو كانت هذه هي الحكاية برُمَّتها، لم نكن لنقول إن جُرثُومة الإي كولاي ذكية على وجه الخصوص؛ لأنَّ فعالها لا تعتمد على أيِّ نحوٍ على البيئة المحيطة؛ فهي بهذه الصُّورة لا تتَّخذ أي قراراتٍ، بل تؤدي سُلُوكًا ثابتًا بناه التَّطور في جيناتها. ولكن ليست القصة كاملةً. فعندما تستشعر هذه الجُرثُومة ازديادًا في تركيز الجُلوكُوز، تبدأ في السِّباحة لمسافةٍ أطول وتُقلِّل الالتفاف، والعكسُ صحيح عندما تستشعر نقصًا في تركيز الجُلوكوز. فما تفعله هذه الجُرثومة إذن (السِّباحة صوب جزيئات الجُلوكُوز) يُتوقَّع منه على الأرجح أن يُحقِّق ما تريده (لنفرض أن ما تريده هو امتصاص المزيد من الجُلوكوز) بناءً على ما أدركته (ازدياد تركيز الجُلوكوز).
رُبَّما تُفكِّر وتقول: «ولكن ألم يدمج التَّطور هذا التَّصرف في جيناتها أيضًا؟! كيف لها إذن أن تُعدَّ كيانًا ذكيًّا؟» أقول لك إن هذا خطُّ تفكيرٍ شديد الخطورة؛ فالتَّطوُّر هو من دمج التصميم الأساسي لدماغك في جيناتك أيضًا، ولا أظنُّ أنَّك سترغبُ في نفي صفة الذَّكاء عنك بناءً على هذا الاعتقاد. ما أرمي إليه هو أنَّ ما دمجه التَّطوُّر في جينات جُرثومة الإي كولاي، الذي هو نفسه ما فعله في جيناتك أنت، هو مُجرَّد آلية يتغيَّر بموجبها سُلوك الجُرثومة طبقًا لما تُدْركه في بيئتها المُحيطة. فالتَّطور لا يعلم مُسبقًا أين سيكون موقع جزيئات الجُلوكوز أو أين هي سلسلة مفاتيحك، لذلك فغرسُ القُدرة التي تُؤهِّلُك للعُثُور عليها هو ثاني أفضل الخيارات.
إن هذه الجرثومة ليست شديدة الذكاء. فعلى حدِّ معرفتنا، هي لا تتذكَّر الأماكن التي مرَّت بها؛ فإذا تحرَّكت من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» ولم تجد جزيئات الجُلوكُوز، فمن المُحتمل أن تعود إلى النقطة «أ» مرةً أخرى. وإذا هيَّئنا بيئةً ما حيث تقُود جزيئات مُدرجة من الجُلوكوز المُغري إلى نُقطةٍ من الفينُول الذي يُعتبر سُمًّا للجُرثومة، ستظلُّ تتبع جزيئات الجُلوكوز المُؤدِّية إلى السُّم. ولن تتعلم أبدًا؛ فلا دماغ لدَيها؛ فما لدَيها هو مجرد بعض التفاعلات الكيميائية البسيطة التي تُساعدها في القيام بمهامها.
في البداية، رُتِّبت العصبُونات في «شبكاتٍ عصبيةٍ» مُوزَّعة في جسد الكائن الحي لتُساعد في تنظيم أنشطة مثل الأكل والهضم، أو تنظيم الانقباضات الموقُوتة لخلايا العضلات على نطاقٍ كبير. وما نراه من حركةٍ رشيقةٍ لقناديل البحر ما هي إلا نتيجة لشبكة عصبية؛ فليس لقناديل البحر دماغ إطلاقًا.
من وجهة نظرٍ تطوُّريَّة، يُمكننا اعتبار نظام المُكافأة في الدماغ، مثله كمثل آلية السَّعي وراء جزيئات الجُلوكُوز عند جُرثُومة الإي كولاي، بمنزلة طريقةٍ لتحسين الصَّلاحية التَّطورية. فالكائنات ذات الآليات الأكثر فعاليَّةً في السَّعي وراء المُكافأة — كالعُثُور على طعامٍ لذيذٍ، وتجنُّب الشعور بالألم، ومُمارسة النَّشاط الجنسي، وما إلى ذلك — يحظون بفُرصٍ أكثر لنقل جيناتهم للأجيال اللاحِقة. من الصعب جدًّا على أيِّ كائنٍ من الكائنات الحية أن يُحدِّد ماهيَّة التَّصرُّفات التي قد تصل به على المدى الطويل إلى أن ينقل جيناته للأجيال اللاحقة بنجاح، لذلك سهَّل التَّطور هذا الأمر لنا بأن زوَّدنا بعلاماتٍ إرشاديةٍ داخلية على طول الطَّريق.
مع ذلك، وباستثناء حالات الإخفاق العارضة تلك، فإنَّ تعلُّم كيفية زيادة الحصول على المُكافأة في البيئات الطبيعية عادةً ما سيُحسِّن من فُرص الفرد في نقل جيناته، ومن فُرص بقائه في ظل التَّغيُّرات البيئية.
(١-٢) تسارُع التَّطوُّر
وهكذا، فالشُّكرُ موصُول إلى ظاهرة بالدوين على إيضاح حقيقة أنَّ العصبُونات بقدرتها على التَّعلم وحلِّ المُشكلات، تنتشر انتشارًا واسعًا في مملكة الحيوان. وفي الوقت ذاته، من المُهم لنا أن نعي أنَّ التَّطوُّر لا يَعنيه حقًّا إن كنت كائنًا ذا دماغٍ أو تُعمل عقلك بأفكارٍ مُدهشة. فما أنت إلا مُجرَّد «كيان» بالنِّسبة إليه؛ أي ما أنت إلا شيء ما يفعل الفعل. ورُبَّما تكون الصِّفات العقلية القيِّمة؛ كالتَّفكير المنطقي والتَّخطيط المُتأنِّي والحكمة والفطنة والخيال والإبداع، أساسيةً في تكوين كيان ذكي، ورُبما كانت غير أساسية. وأحد الأسباب التي تُضفي على مجال الذكاء الاصطناعي سحرًا وجاذبيةً هو أنَّه يُقدِّم مُقترحًا لفهم هذه القضايا؛ مُقترحًا قد يُوصلُنا إلى فهمٍ لكيف تُتيح تلك الصِّفات العقلية تكوين سُلُوك ذكي، ولماذا من المُستحيل أن نُصدر سُلُوكًا ذكيًّا حقيقيًّا دونها.
(١-٣) عقلانيَّة الفرد
يحقُّ للمرء أن يقول إن هذه الفقرة قد أرست أسُس الفكر الغربي حول العقلانيَّة منذ ما يربُو على الألفي عام. فهي تُخبرنا أنَّ «الغاية»، وهي مُراد الإنسان، تكون مُفترضة وثابتة. كما تُخبرنا أيضًا أنَّ التَّصرُّف العقلاني هو التَّصرُّف الذي يصل بصاحبه إلى الغاية المُرادة «بسُهُولةٍ وكفاءةٍ» استنادًا إلى الاستنتاج المنطقي عبر سلسلةٍ من الأفعال.
يبدُو طرح أرسطُو هذا طرحًا معقولًا، لكنَّه لا يُقدِّم تفسيرًا شاملًا للسُّلوك العقلاني. وتحديدًا، فإنَّه يغفل عن مُشكلة الارتياب وعدم اليقين. ففي العالم الحقيقي، يميل الواقع إلى التَّدخُّل، وقليل من الأفعال أو سلاسل الأفعال هي التي تضمن حقًّا تحقيق غاياتك المنشُودة. على سبيل المثال، أنا أكتبُ هذه الجُملة التي تقرءونها في يوم أحدٍ مُمطر في مدينة باريس، وفي يوم الثُّلاثاء تُقلع طائرتي المُتوجِّهة إلى مدينة روما في الساعة الثَّانية والرُّبع عصرًا من مطار شارل ديجول الذي يبعُد حوالي خمسة وأربعين دقيقة من بيتي. خُطَّتي هي أن أُغادر مُتَّجهًا إلى المطار حوالي الساعة الحادية عشرة والنِّصف ظُهرًا مما يمنحُني مُتسعًا من الوقت، ولكن قد يعني هذا أني قد أجلسُ قُرابة الساعة على الأقل مُنتظرًا في صالة المُغادرة. هل أنا هكذا «مُتأكِّد» من أنِّي سألحق بالطائرة؟ قطعًا لا. فلرُبَّما واجهتُ ازدحامًا مروريًّا خانقًا، أو يُعلن سائقو سيارات الأجرة الإضراب، أو رُبَّما تتعطَّل سيارة الأجرة التي أستقلُّها أو يُقبض على السائق بعد مُطاردةٍ بسبب السُّرعة القُصوى، وهلُمَّ جرًّا. ولأتجنَّب كُلَّ ذلك، عليَّ إذن أن أتِّجه إلى المطار يوم الاثنين؛ يوم كامل مُقدَّمًا. بلا شك سيُقلِّلُ هذا التَّصرُّف كثيرًا من احتمالات عدم اللحاق برحلتي، ولكن تخيُّل قضاء ليلةٍ في صالة المُغادرة لا يبدو مشهدًا جيدًا أبدًا. بمعنًى آخر، تتضمَّن خُطَّتي «مُقايضةً» بين حتميَّة النَّجاح وكُلفة ضمان مثل هذه الحتميَّة. الخُطَّة التالية لشراء منزلٍ تتضمَّن أيضًا عملية مُقايضةٍ مُماثلة؛ تشتري بطاقة يانصيب، فتربح مليون دولار ثمَّ تشتري المنزل. إن هذه الخُطَّة تصل بصاحبها إلى الغاية المُرادة «بسهولةٍ وكفاءةٍ»، ولكن تقلُّ كثيرًا احتمالات أن تنجح. الفرقُ بين تلك الخُطَّة الطائشة لشراء منزلٍ وخُطَّتي الأوقع والأكثر حصافةً للذهاب إلى المطار يكمنُ في احتمالية الحُدُوث. فكلتا الخُطَّتين فيهما مُقامرة ومُجازفة، ولكن إحداهُما تبدو أكثر عقلانيَّةً من الأخرى.
- (أ)
احتماليَّة ٢٠ بالمائة أن تربح ١٠ دولارات.
- (ب)
احتماليَّة ٥ بالمائة أن تربح ١٠٠ دولار.
قد تُشابه الأطرُوحة التي عرضها عُلماء الرِّياضيات ما تجُود به قريحتُك في هذه المسألة؛ وهي أن نُقارن «القيمة المُتوقَّعة» لكُلٍّ من الرهانين، أي مُتوسِّط المبلغ الذي قد تحصُل عليه من كُلِّ رهان. فالقيمة المُتوقَّعة للرهان «أ» هي ٢٠ بالمائة من العشرة دولارات؛ أي دولاران. أما الرهان «ب»، فقيمته المُتوقَّعة هي ٥ بالمائة من المائة دولار؛ أي خمسة دولارات. لذلك، وطبقًا لهذه الأطرُوحة، نجدُ أنَّ الرَّهان «ب» هو الأفضل. وعليه يُمكن القول إنها أطرُوحة منطقية، وهذا لأنَّنا إذا قامرنا بنفس الرَّهان مرارًا وتكرارًا، فالمُقامر الذي سيتبع القاعدة سينتهي به المطافُ وقد ربح أموالًا أكثر ممَّن لمْ يتبعها.
- (أ)
احتماليَّة ١٠٠ بالمائة أن تربح ١٠٠٠٠٠٠٠ دولار. (القيمة المُتوقَّعة هي ١٠٠٠٠٠٠٠ دولار.)
- (ب)
احتماليَّة ١ بالمائة أن تربح ١٠٠٠٠٠٠١٠٠ دولارٍ. (القيمة المُتوقَّعة هي ١٠٠٠٠٠٠١ دولارٍ.)
السَّواد الأعظم من قُراء هذا الكتاب ومُؤلِّفُه إلى جانبهم، سيُفضِّلون الرهان «أ» على الرهان «ب»، رغم أنَّ قاعدة القيمة المُتوقَّعة تُشير إلى عكس ذلك! وهُنا افترض دانييل برنولي أنَّ الرهانات لا تُقيَّم وفقًا لقيمتها النَّقديَّة المتوقعة، ولكن حسْب «منفعتها» المُتوقَّعة. والمنفعة — وهي صفةُ كون الشَّيء مُفيدًا أو ذا نفعٍ للشخص — هي، كما اقترح دانييل، كمِّية ذاتية داخلية تتعلَّق بالقيمة النَّقديَّة لكنَّها مُختلفة عنها. وتفصيلًا؛ المنفعة تُظهر عوائد مُتناقصة بالنِّسبة إلى الأموال. وهذا يعني أنَّ منفعة أي مقدارٍ من المال لا تتناسب تناسُبًا دقيقًا مع مقداره، لكنَّها تنمُو ببطءٍ أكثر. ومثال ذلك هو أنَّ منفعة ربح ١٠٠٠٠٠٠١٠٠ دولارٍ أقل بما يزيد عن مائة مرة من منفعة ربح ١٠٠٠٠٠٠٠ دولار. السؤال هو: أقل بكم تحديدًا؟ اسأل نفسك! ما هي نسبة الاحتماليَّة المُرضية لك لتُراهن على ربح مليار دولارٍ وتتخلَّى عن عشرة ملايين مضمُونة؟ سألتُ هذا السُّؤال في صفٍّ لطلبة الدِّراسات العُليا، وكانت إجاباتهم تقعُ قُرب نسبة الخمسين بالمائة، وهذ يعني أنَّ الرهان «ب» سيكون ذا قيمةٍ مُتوقَّعةٍ مقدارُها ٥٠٠ مليون دولارٍ؛ وذلك حتى يُماثل جاذبية الرهان «أ». واسمحُوا لي أن أكرِّر هذه النُّقطة وأقول إن الرهان «ب» سيكون ذا قيمةٍ نقديةٍ مُتوقَّعةٍ أعلى بخمسين مرَّةً من الرهان «أ»، ومع ذلك، فكلا الرهانين سيكون لهُما منفعة مُتساوية.
في ذلك الوقت، كان تقديم دانييل برنولي لمفهُوم المنفعة؛ تلك الصِّفة الخفيَّة، لتفسير السُّلوك الإنساني عبر نظرية رياضية، هو طرح عجيب في بابه. ومما زاده روعةً حقيقة أنَّ قِيَم المنفعة للرهانات والجوائز المُتباينة لا تُلْحظُ مُباشرةً، على عكس القيم النَّقديَّة، بل «تُستنتَج» عوضًا عن ذلك من «التَّفضيلات» التي يُبْديها المرء. وسيمضي على هذه الفكرة قرنان من الزَّمان قبل أن تُستوْعب دلالاتها استيعابًا كاملًا وتصير مقبولةً على نطاقٍ واسع بين علماء الإحصاء والاقتصاد.
ومهما طال الحديث عن أهمية هذا الاستنتاج فلن نُوفِّيه حقَّه. فبطُرقٍ شتَّى، كان مجال الذكاء الاصطناعي، وما يزال، مُتمحورًا على نحو أساسي حول اكتشاف أسرار وتفاصيل كيف نبني آلاتٍ عقلانية.
هيا بنا نُلقي نظرةً مُتعمِّقةً أكثر حول البديهيات التي يُتوقَّع من الكيانات العقلانية أن تُوفِّيها. إليك أوَّلُها؛ والتي تُسمَّى «التَّعدِّي». ومعناها أنَّك إذا كنت تُفضِّل «أ» على «ب»، وفي الوقت ذاته تُفضِّل «ب» على «ﺟ»، إذن أنت تُفضِّل «أ» على «ﺟ». يبدو هذا أمرًا بديهيًّا تمامًا! (إذا كنت تُفضِّل بيتزا السُّجُق على بيتزا الجُبن، وفي نفس الوقت تُفضِّل بيتزا الجُبن على بيتزا الأناناس، فمن المنطقي أن نُخمِّن أنَّك ستختار بيتزا السُّجُق وتترك بيتزا الأناناس.) وإليك ثانية هذه البديهيات والتي تُسمَّى «الرتابة». وهي أنَّك إذا كنت تُفضِّل الجائزة «أ» على الجائزة «ب»، وكنت مُخيَّرًا بين بطاقتَي يانصيب حيث «أ» و«ب» هما فقط النَّتيجتان المُحتملتان، فأنت ستُفضِّل البطاقة ذات الاحتمالية الأعلى لربح الجائزة «أ» عوضًا عن الجائزة «ب». ومرَّة أخرى، يبدُو هذا أمرًا غايةً في البداهة.
نقد آخر لنظرية العقلانية يكمُنُ في تحديد محلِّ اتِّخاذ القرارات. بصيغةٍ أخرى، ما الأشياء التي تُعدُّ كيانًا؟ أظنُّ أنَّنا نتَّفق على أنَّ البشر كيانات، ولكن ماذا عن الأُسَر والقبائل والشَّركات والثَّقافات والأمم القوميَّة؟ إذا ما تأمَّلنا بعض الحشرات الاجتماعية كالنَّمل مثلًا، فهل يُعقل أن نعتبر أي نملة بمفردها كيانًا ذكيًّا، أم أنَّ الذكاء يكمُن حقًّا في المُستعمرة بأسرها كوحدةٍ واحدةٍ تتكوَّن من دماغٍ ضخمةٍ مُؤلَّفةٍ من العديد من أدمغة وأجساد النَّمل التي يربطُها معًا نظامُ تواصُلٍ بإفراز الرَّوائح (الفرمُونات) بدلًا عن نظامٍ يعتمد على الإشارات الكهربيَّة؟ من وجهة نظرٍ تطوُّريَّة، هذا التَّصوُّر حول النَّمل رُبَّما يكون أجدى من غيره؛ لما كان بين النَّمل عادةً من ترابُطٍ وثيقٍ في أي مُستعمرةٍ. يبدو أن النَّمل وغيره من الحشرات الاجتماعية يفتقر، كأفرادٍ، إلى غريزةٍ للحفاظ على الذَّات باعتبارها غريزةً مُنفصلةً عن غريزة الحفاظ على المُستعمرة. فهُو دائمًا ما يهُبُّ لخوض المعارك ضدَّ الغُزاة، حتى ولو كان موتُهُ مُحتَّمًا. بيد أنَّنا نرى أحيانًا بعض البشر يفعلون الشَّيء ذاته ليُدافعوا عن غيرهم من البشر وإن كانوا غير أُولي قُربى؛ كأنَّ النوع بأكمله يستفيد من وجود عددٍ ضئيلٍ من أفراده لديهم الاستعداد للتَّضحية بأنفسهم في المعارك أو الذهاب في رحلاتٍ بحريَّةٍ استكشافيَّةٍ جامحةٍ تحفُّها المخاطر من كُلِّ جانب، أو تنشئة وتربية نسل أناسٍ آخرين. في هذه الحالات، إذا نظرْنا إليها بعينٍ تُحلِّل نظرية العقلانية على أساسٍ فردي محضٍ، فإنَّنا لا محالة فاقدون عُنصُرًا جوهريًّا من الصُّورة الكاملة.
لعلَّ هذا الادِّعاء أقوى مما نحتاج إذا كانت غايتُنا الوحيدة هي أن نضمن أنَّ الآلات ذات الذَّكاء الكافي لن تكُون جالبةً للنَّكبات على الجنس البشري. ومفهُومُ النَّكبة هذا يستلزم حياةً غير مفضلة بلا شك. ولنتفادى النَّكبات، علينا فقط أنْ نحصُر ادِّعاءنا هذا على أنَّ الإنسان البالغ الراشد يقدر على تمييز المُستقبل المنكُوب حين يُطرح أمامه بتفصيلٍ كبير. وبلا شك، فإنَّ التفضيلات البشرية لها بنية أكثر دقَّة، وربما أكثر قابلية للتَّثبُّت منها، من مجرد مُفاضلة بين أبيض أو أسود؛ «عالم بلا نكباتٍ أفضل من عالمٍ منكُوب».
في الحقيقة، يُمكن لنظرية للذكاء الاصطناعي النافع أن تتَّسع لتحتوي عدم الاتساق في تفضيلات البشر، لكنَّ ذلك الجزء غير المُتسق في تفضيلاتك لن يجري إرضاؤه أبدًا، وحينها لن يكون في جعبة الذكاء الاصطناعي شيءٌ ليُقدِّمه. دعنا نفترض على سبيل المثال أنَّ تفضيلاتك للبيتزا تُخالف أحد الأسُس البديهية؛ وهو «التَّعدِّي»:
على هذا المنوال، مهما جهَّز الروبوت من أنواع البيتزا فلن يُرضيك أو يُلبِّي رغبتك؛ لأنَّ هناك دائمًا بيتزا أخرى تُفضِّلُها على ما سيُقدَّم إليك. لكنَّ الروبوت قادر على تلبية الجزء المُتَّسق من تفضيلاتك فقط؛ لنفترض مثلًا أنَّك تُفضِّل أن تأكل أي نوعٍ من أنواع البيتزا الثلاثة على ألا تأكل بيتزا إطلاقًا. في هذه الحالة، الروبوت النافع سيُجهِّز لك أي نوعٍ من الأنواع الثلاثة التي تفضلها من البيتزا، وحينها سيكون قد لبَّى رغبتك في عدم ترك أكل البيتزا، ثمَّ يترُكُك لتتفكَّر برويَّةٍ في تفضيلاتك غير المتسقة على نحوٍ مزعج لنوعيَّة الإضافات على البيتزا.
(١-٤) عقلانيَّة الجماعة
الفكرة الأساسية التي تقضي بأنَّ الكيان العقلاني يتصرَّف ليزيد من المنفعة المُتوقَّعة إلى أقصى حدٍّ، هي فكرة بسيطة بالقدر الكافي، حتى ولو أنَّ تنفيذها فعليًّا يُعدُّ أمرًا بالغ التعقيد حتى يكاد يكون مستحيلًا. لكن هذه النظرية تصلُحُ فقط لتفسير الحالات التي يكون فيها كيانٌ واحد يتصرَّف بمُفرده. أما إنْ كانوا أكثر من كيانٍ، فإنَّ ذلك التصور، الذي يرى أنه يُمكنُنا ولو نظريًّا تحديد احتمالات النتائج المختلفة لتصرُّفات الفرد، يُصبح إشكاليةً مُعقدة. والسَّبب وراء ذلك هو أنَّ هناك جزءًا ما من العالَم، وهو الكيان الآخر، يُحاول الآن أن يُخمِّن كُنْه التصرفات التي ستقوم بها، والعكس صحيح، وهكذا، فلا نرى سبيلًا واضحًا لتحديد احتمالات ما سيصْدُر عن ذلك الجزء من العالَم من تصرُّفات. وبدون الاحتمالات فإنَّ تعريف التَّصرُّف أو الفعل العقلاني بأنَّه يهدف إلى زيادة المنفعة المُتوقَّعة إلى أقصى حدٍّ، يكون غير قابلٍ للتطبيق.
وحالما ينضمُّ شخص آخر إلى العمليَّة، فإنَّ على الكيان أن يجد طريقةً أخرى لاتِّخاذ القرارات العقلانية. وهنا يأتي دور «نظرية الألعاب». لا يغُرنَّك الاسم؛ فهي ليست بالضرورة تتمحور حول الألعاب بالمعنى التقليدي، بل هي تصوُّر عام يُحاول بسْط فكرة العقلانية إلى الحالات التي تضُمُّ أكثر من كيانٍ واحد. وهذا مُهم على نحو واضح لتحقيق غاياتنا؛ لأننا لا نُخطِّط (حتى الآن) لبناء روبوتات لنُرسلها للعيش على كواكب غير مأهولةٍ في نُظُم نجميَّة بعيدة؛ بل على العكس تمامًا، نحن نبني روبوتات لنستخدمها في عالمنا الذي نسكنه نحن البشر.
- (١)
أن تكون خُطَّة أليس هي أفضل ما جادت به قريحتُها، بافتراض أنَّ خُطَّة بوب ثابتة.
- (٢)
أن تكون خُطَّة بوب هي أفضل ما جادت به قريحتُه، بافتراض أنَّ خُطَّة أليس ثابتة.
إذا تحقَّق ذلكُما الشَّرطان، حينها نقول إن كلتا الخُطَّتَين في حالة توازن. ويُسمَّى هذا النوع من التوازن ﺑ «توازن ناش»، تخليدًا لذكرى العالم جون ناش الذي استطاع عام ١٩٥٠ وهو بسنِّ الثانية والعشرين أن يُثبت وجود هذا التوازن بين أيِّ عددٍ من الكيانات مع وجود أي تفضيلات عقلانية ومهما كانت قوانين اللعبة. وبعد أن صارع جون ناش مرض انفصام الشخصية لعدة عقودٍ، تغلَّب عليه أخيرًا وتعافى، ومُنح جائزة نوبل التذكارية في الاقتصاد عام ١٩٩٤ نظير اكتشافه ذلك.
بالنسبة لمُباراة كرة القدم بين أليس وبوب، فإننا نجد توازنًا واحدًا فقط. في حالاتٍ أخرى، ربُما توجد عدَّة توازنات، ولذلك فإن مفهوم توازنات ناش، على عكس ذلك الخاص بقرارات المنفعة المُتوقَّعة، لا تُرشدُنا دومًا إلى الطريق الأمثل للتَّصرُّف.
في تلك الحالة، ستُفكِّر أليس كما يلي: «إن كان بوب سيعترف أمام الشُّرطة، فعليَّ أن أعترف أنا أيضًا (فعشْر سنواتٍ أهون من عشرين)؛ أما إن كان سيلزم الصَّمت، فلأعترفنَّ أنا (فالحُرِّية أفضل من قضاء سنتين في السجن)؛ إذن في كلتا الحالتين، عليَّ أن أعترف.» وكذلك سيُفكِّر بوب بنفس الطريقة. لذا ينتهي المطافُ وقد اعترف كلاهما بالجُرم وعُوقبا بالسَّجن عشْر سنين، رُغم أنَّهُما كانا سيقضيان سنتين فقط إذا لزما الصمت معًا. والمشكلة هنا أنَّ التزام الصمت المشترك لا يُحقِّق توازن ناش؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما لديه من الباعث ما يدفعه لينقلب على صاحبه ويعترف ليفوز بالحرية.
تلك الأمثلة وغيرها الكثير، إنما تُوضِّح حقيقة أنَّ توسيع نطاق نظرية القرارات العقلانية لتشمل كيانات متعدِّدة يُنتج عددًا مهُولًا من السُّلوكيات المُعقَّدة والمُثيرة للانتباه. كما أن هذا ذو أهمية شديدة في الوقت ذاته؛ لأنه كما أظنُّ أنَّه شديد الوضوح، أنَّ هناك أكثر من إنسانٍ في العملية. وعما قريبٍ ستُشاركنا الآلات الذكية هي الأخرى فيها. ولا حاجة بي أن أُنبِّه إلى ضرورة السَّعي إلى تحقيق تعاونٍ مُشتركٍ تكون ثمرتُه هي مصلحة البشر، عوضًا عن اختيار أن يُفني أحدنا الآخر.
(٢) أجهزة الكمبيوتر
إننا، في وقتنا الحالي، اعتدنا أجهزة الكمبيوتر في حياتنا، حتى إننا بالكاد نلتفت إلى قدراتها الخارقة. إن كنت تمتلك جهاز كمبيوتر محمولًا أو مكتبيًّا أو هاتفًا ذكيًّا، فتمعَّن في أيٍّ منها؛ ستجده صندوقًا صغيرًا ذا وسيلةٍ ما لكتابة الرُّمُوز. بالرموز التي تُدخلها فقط، يُمكنُك أن تُنشئ برامج تجعل من هذا الصندوق شيئًا جديدًا؛ رُبَّما شيئًا سحريًّا ينسج مشهدًا مُكونًا من صورٍ متحركة لبواخر عابرةٍ للمُحيطات وهي تصطدم بجبالٍ جليدية، أو لكواكب فضائيين طوال القامة زُرق البشرة؛ أدخل رُموزًا أكثر، وها هو ذاك الصندوق يُترجم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الصينية؛ أدخل رُمُوزًا أكثر، ويصير صندوقًا يسمعُك ويُحدِّثُك؛ أدخل رُمُوزًا أكثر، ليغلب بطل العالَم في لُعبة الشطرنج.
تُعدُّ الورقة البحثيَّة التي قدَّم فيها آلان تورينج مفهوم العمومية من أهم ما كُتب على الإطلاق. في ورقته تلك، كتب وصفًا لجهازٍ حاسوبي بسيطٍ يقدر على قبول توصيف أي جهاز حاسوبي آخر كمُدخلاتٍ، ثمَّ يعمل جنبًا إلى جنبٍ مع مُدخلات ذاك الجهاز الآخر ليُقدِّم نفس المُخرجات التي كان ليُخرجها، عن طريق مُحاكاة عمله من خلال مُدخلاته. نحن الآن نُسمِّي هذا الجهاز الأول «آلة تورينج العمومية». ولإثبات عموميتها، طرح تورينج تعريفَين دقيقَين لنوعَين جديدَين من العناصر الرياضيَّة؛ وهما: الآلات والبرامج. يعمل هذان العنصران معًا لتعريف سلسلة من الأحداث؛ على وجه الخُصُوص، سلسلة من تغيُّرات الحالة في الآلة وذاكرتها.
إن اكتشاف عناصر رياضيةٍ جديدةٍ هو شيء نادر الحُدُوث في تاريخ الرِّياضيات. ففي فجر التاريخ المُدوَّن، بدأت الرِّياضيَّات بظهور الأعداد، ثمَّ حوالي سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، اكتشف قدماء المصريين والبابليون العناصر الهندسية (النقاط، والخطوط، والزَّوايا والمساحات وهلُمَّ جرًّا) وعملوا بها. وفي سنوات الألفيَّة الأولى قبل الميلاد، قدَّم علماءُ الرِّياضيات الصِّينيون المصفُوفات، بينما المجمُوعات كعناصر رياضيَّة عُرفت مُؤخَّرًا في القرن التاسع عشر. ويُعدُّ العنصران الجديدان اللذان قدَّمهُما تورينج؛ الآلات والبرامج، أعظم العناصر الرِّياضيَّة التي اختُرعت على مرِّ العُصُور. ومن عجيب التَّقادير أنَّ علم الرِّياضيات قد أخفق إخفاقًا ذريعًا في إدراك عظمة هذَين العنصرَين الرِّياضيَّين، وابتداءً من أربعينيات القرن الماضي فصاعدًا، أُلحقت دراسة أجهزة الكمبيوتر والحوسبة بأقسام الهندسة في مُعظم الجامعات الرائدة.
ازدهر العلمُ الذي ظهر، وهو علم الكمبيوتر، خلال السَّبعين سنةً اللاحقة، وقدَّم مجموعةً كبيرةً وجديدةً من المفاهيم والتَّصاميم والأساليب والتَّطبيقات، كما تمخَّض عنه سبع من أهمِّ ثماني شركاتٍ في العالم.
المفهوم الرَّئيسيُّ في علم الكمبيوتر يكمُن في «الخوارزميَّة»؛ وهي تُعرَّف بأنَّها طريقة مُحدَّدة بدقَّةٍ شديدةٍ لحوسبة شيءٍ ما. وفي عصرنا هذا، نرى تلك الخوارزميات حولنا كأجزاءٍ مألوفةٍ من حياتنا اليومية؛ فمثلًا خوارزميَّة الجذر التربيعي في حاسبة جيبٍ آليةٍ تستقبل العدد كأحد المُدخلات ثمَّ تحسب الجذر التربيعي لذلك العدد وتُظهره كأحد المُخرجات؛ خوارزميَّةُ لعب الشطرنج تحلُّ محلَّ أحد اللاعبين وتنظر لوضعها في اللعب ثم تُبادر بتحريك إحدى القطع؛ خوارزميَّةُ تحديد الطُّرُق تضع في حُسبانها موقع البداية وموقع الوصول وخريطة الطُّرُق ثمَّ تُخبرك بأسرع طريقٍ يصل بين نقطة البداية ونقطة الوصول. يُمكنُنا وصف الخوارزميات باستخدام اللغة كالإنجليزية أو باستخدام طُرُق التَّدوين الرياضي، ولكن إذا أردنا أن نُطبِّق خوارزميَّةً ما فعلينا كتابتُها كبرامج باستخدام إحدى «لُغات البرمجة». وتُصمَّم الخوارزميات الأكثر تعقيدًا باستخدام خوارزميات أبسط كوحدات بنائيَّةٍ تُسمَّى «الروتينات الفرعيَّة». ومثال ذلك هو السَّيارة الذاتية القيادة التي قد تستخدِم خوارزميَّة تحديد الطُّرُق كروتينٍ فرعي لمعرفة اتِّجاهات سيرها. وبهذه الطَّريقة تُبنى النظم البرمجيَّة البالغة التَّعقيد، طبقةً تلو الأخرى.
(٢-١) حدود الحوسبة
حتى في خمسينيات القرن الماضي، كانت أجهزة الكمبيوتر تُلقَّب في الصُّحُف الشعبية ﺑ «العُقُول الخارقة» التي تعمل «أسرع من عقل أينشتين». ولكن ماذا عن اليوم؟ أيُمكننا أخيرًا أن نقول إنها تُضاهي في قوتها قوة العقل البشري؟ الإجابة هي لا! فالتَّركيز على قوة الحوسبة الهائلة وحدَها يحيد بنا عن الصَّواب تمامًا؛ فالسرعة بمُفردها لن تمنحنا ذكاءً اصطناعيًّا. إن تشغيل خوارزميَّة رديئة التَّصميم على كمبيوتر سريع لن يُحسِّن من أدائها، بل يعني فقط أنَّك ستحصُل على الإجابة الخطأ في وقتٍ أسرع. (وكُلَّما زاد حجم البيانات، زادت احتمالية الإجابات الخطأ!) كانت الغاية الرئيسية من الآلات السريعة، ولا تزال، هي اختصار وقت التَّجارب لتُنجز الأبحاثُ أسرع. إذن المكونات المادية ليست هي ما تكبح مسيرة الذكاء الاصطناعي، بل النُّظُم البرمجيَّة. فحتى الآن، نحن لا ندري كيف نجعل من آلةٍ ما كيانًا ذكيًّا حقًّا، حتى ولو كانت تلك الآلة بحجم الكون كله.
يبدُو إذن أن التركيز على المشكلات ذات القابلية للحسم لا يضع أي قيودٍ حقيقية للذكاء الاصطناعي. رغم ذلك، يتبيَّن لنا أنَّ كون مسألةٍ ما تقبل الحسم لا يعني أنَّ حسمها أمر هيِّن وسهل. يقضي علماء الكمبيوتر أوقاتًا طويلةً وهُم يُفكِّرون في مدى «تعقيد» المُشكلات؛ أي يتساءلون فيما بينهم عن كمية الحوسبة المطلوبة لحلِّ مُشكلةٍ ما بأكفأ الطرق. وهاك مثالًا لمشكلة سهلة: أمامك قائمة بألف عدد، جِدِ العدد الأكبر فيما بينها. إن كنتَ ستتحقَّق من عددٍ واحدٍ في الثانية، فحلُّ هذه المسألة سيستغرق ألف ثانيةٍ إذا اتَّبعت هذه الطريقة الواضحة المُتمثلة في أن تتحقَّق من الأعداد عددًا واحدًا في كل مرة مع تذكُّر أيها أكبر قيمة. أهناك طريقة أسرع؟ لا، لأنَّه إذا تجاهلَتْ أيَّ طريقةٍ بعض الأعداد في القائمة، لا تدري لعل العدد الأكبر قيمةً يكون بين ما تجاهلته، وبهذا ستفشل في إيجاده. هكذا نجد أنَّ الوقت المُستغرق لإيجاد أكبر عنصرٍ في قائمةٍ ما يتناسب تناسبًا طرديًّا مع طُولها. قد تُعلِّق عالمة كمبيوتر على مثل هذه المسألة وتقول إنها مسألة ذات تعقيدٍ خطِّي؛ أي إن حلَّها سهل يسير. ثمَّ تَجِدُّ في البحث عن مسألةٍ أكثر أهمِّيةً وتشويقًا لتعمل على حلِّها.
السؤال هنا: هل يجعلنا وجود مثل هذه المشكلات العسيرة نظُنُّ أن أجهزة الكمبيوتر لن يمكن أن تُضاهي البشر في الذكاء؟ لا؛ فنحن لا نفترض أنَّ البشر قادرون على حلِّ هذه المشكلات العسيرة أيضًا. والحوسبة الكمِّية في هذه الحالات، سواء في الآلات أم الأدمغة، قد تُساعد قليلًا، لكن ليس بالقدْر الذي يُغيِّر من الناتج الأساسي.
والتَّعقيد يعني أنَّ مشكلة حسم القرارات في الحياة الواقعيَّة — كمشكلة اتِّخاذ قرارٍ بما ستفعله الآن في كل لحظةٍ من لحظات حياتك — هي مسألة غاية في الصعوبة، ولن يقدر البشر ولا أجهزة الكمبيوتر أبدًا في أيِّ وقتٍ قريبٍ أو بعيدٍ على إيجاد حلولٍ مثالية لها.
ونستشفُّ من ذلك استنتاجَين؛ أولهما أنَّنا نتوقع، في غالبيَّة الأوقات، أنَّ القرارات في الحياة الواقعية ستكون جيِّدةً على أحسن تقديرٍ، لكنَّها بعيدة كل البُعد عن المثالية؛ وثانيهما، أنَّنا نتوقَّع أنَّ جزءً كبيرًا من «البنية العقلية» للبشر والآلات؛ أي طريقة عمل عمليات اتِّخاذ القرارات، ستكون مُصمَّمة لتفادي التَّعقيد قدْر الإمكان؛ وهذا حتى نتمكَّن من أن نتوصَّل إلى تلك القرارات الجيدة رغم التَّعقيد الهائل في هذا العالم. وأخيرًا، نحن نتوقَّع أنَّ الاستنتاجَين السابقَين سيظلَّان حقيقةً مهما كان ذكاء وقوة الآلات التي قد تُصنع في المُستقبل؛ فالآلات قد تكون أكثر كفاءةً منَّا بكثيرٍ نحن البشر، لكنَّها ستكون بعيدة كلَّ البُعد عن العقلانية التامَّة.
(٣) أجهزة الكمبيوتر الذكية
أتاح تطوُّر المنطق على يد أرسطُو وغيره وضع أُسُسٍ دقيقة للتَّفكير العقلاني، ولكننا لا ندري إذا ما كان قد خطر على بال أرسطُو ذات مرةٍ أن يتفكَّر في احتمالية أن تُطبِّق الآلات تلك القواعد. في القرن الثالث عشر، اقترب رامون لول؛ الفيلسوف وزير النساء والمُتصوِّف الكتالوني الشهير، من هذه الفكرة وصنع بالفعل عجلاتٍ ورقيةً عليها رُمُوز منقوشة يستطيع من خلالها تكوين ودمج عباراتٍ منطقية. لكنَّ بليز باسكال عالم الرياضيات الفرنسي العظيم الذي عاش في القرن السابع عشر، كان أول من طوَّر آلةً حاسبةً ميكانيكية حقيقيَّة وعمليَّة. ومع أنَّها كانت لا تقدرُ إلا على جمع الأعداد أو طرحها، وكانت مُستخدَمة حصريًّا في مكتب أبيه لتحصيل الضرائب، فإنَّها أرشدت باسكال لكتابة ما يلي: «هذه الآلة الحسابية تُحدِث آثارًا تبدو أقرب إلى ما يُحدثه التَّفكير من كل السُّلوك الحيواني.»
إن لُعبة المُحاكاة لها دور مُحدَّد في ورقة آلان تورينج البحثيَّة؛ وهو أنها تجربة فكرية هدفها إخراس ألسنة المُشكِّكين الذين زعموا أنَّ الآلات لا يُمكنها أن تُفكِّر تفكيرًا سليمًا لأسبابٍ وجيهةٍ وبالقدْر المُلائم من الوعي. كان آلان يأمُل أن يُغيِّر اتجاه النقاش إلى مشكلة ما إذا كانت الآلات تستطيع أن تتصرَّف بطريقةٍ مُعيَّنة. وإذا تبيَّن أنَّها قادرة على ذلك؛ فهل تستطيع مثلًا أن تتناقش نقاشًا موزُونًا حول قصائد شكسبير ومعانيها؟ حينها لن يُمكن أن يدوم الشَّك في الذكاء الاصطناعي طويلًا. وخلافًا للتَّفاسير الشائعة، فإنِّي أشُكُّ أنَّ مثل هذا الاختبار كان يُقصَد به أن يُعرِّف الذكاء تعريفًا حقيقيًّا بمعنى أنَّ الآلة تكون ذكيةً فقط إذا اجتازت اختبار تورينج بنجاح. في الواقع، كتب آلان في ورقته البحثيَّة قائلًا: «ألا يُمكن للآلات أن تُنفِّذ شيئًا ما قد يبدُو كأنَّه تفكير في صُورته، لكنَّه في الحقيقة عملية مُختلفة تمامًا عن كيفية إعمال العقل لدينا نحن البشر؟» وسبب آخرُ يدفعنا ألا نلتفت إلى ذلك الاختبار كتعريفٍ للذكاء الاصطناعي، وهو أنَّه لو كان تعريفًا لعُدَّ تعريفًا سيِّئًا جدًّا للعمل في ظلِّه. ولهذا السَّبب، لم يبذُل السَّواد الأعظم من باحثي الذكاء الاصطناعي أيَّ جُهدٍ يُذكر لاجتياز هذا الاختبار.
اختبار تورينج لا يُفيد الذكاء الاصطناعي؛ لأنَّه تعريف عام ومشرُوط للغاية؛ فهو يعتمد على خصائص العقل البشري الشديدة التَّعقيد والتي نجهل عنها أكثر بكثيرٍ مما نعلم، والمستمدة من التَّكوين البيولوجي والثقافي معًا. إنه لا سبيل إلى «تحليل» ذلك التَّعريف إلى مُكوِّنات أساسية يمكننا أن نسير عليها لنبني آلةً تستطيع أن تجتاز الاختبار. عوضًا عن ذلك، انكبَّ مجال الذكاء الاصطناعي على دراسة السلوك العقلاني كما وُضِّح آنفًا؛ أي تُعتبَر الآلة ذكيةً ما دام أنَّ فعالها يُتوقَّع منها على الأرجح أن تُحقِّق غايتها، مع أخذ مقدار إدراكها في الاعتبار.
(٣-١) البيئات والكيانات
يتمحور الذكاء الاصطناعي الحديث حول مفهوم «الكيان الذكي»؛ وهو كيان يُلاحظ ويُدرك ويتصرَّف. وهو عملية تحدث بمرور الوقت بمعنى أنها تُحوِّل سلسلةً من المُدخلات المُدركة إلى سلسلةٍ من التصرفات. ولنضرب مثالًا على ذلك. لنفترض أنَّ الكيان الذكي هنا هو سيارة أجرةٍ ذاتية القيادة تُقلُّني إلى المطار. مُدخلات هذه السيارة قد تشمل ثماني آلات تصويرٍ آر جي بي تلتقط صورًا مُلوَّنة بمُعدَّل ثلاثين إطارًا في الثانية، وكل إطارٍ يحوي ما يُقارب ٧٫٥ ملايين بكسل، وكل منها له قيمة كثافة صورة في كلٍّ من قنوات الألوان الثلاثة؛ لينتج ما يربُو عن ٥ جيجابايتات في الثانية الواحدة. (يُعدُّ سيل البيانات المُتدفِّق من شبكية العين البشرية من خلال مائتي مليون مُستقبلٍ ضوئي بها أكبر حجمًا، وهذا جزئيًّا يُفسِّر لماذا تشغل حاسَّة البصر هذا الجزء الكبير من الدماغ البشري.) كما تشمل مُدخلات سيارة الأجرة أيضًا بياناتٍ من مقياس تسارُع بمُعدَّل مائة مرةٍ في الثانية الواحدة، جنبًا إلى جنبٍ مع بيانات نظام تحديد المواقع العالمي. يُحوَّل هذا السَّيل الهائل من البيانات الخام عبر المليارات من الترانزستورات (أو العُصبُونات) ذات القوة الحوسبية الجبارة إلى قيادةٍ سلسةٍ وفعالة. أما تصرفات سيارة الأجرة فتشمل الإشارات الإلكترونية المُرسلة إلى عجلة القيادة والمكابح ودوَّاسة الوقود بمُعدَّل عشرين مرةً بالثانية الواحدة. (جُلُّ هذه الدَّوامة من التصرفات المُتلاحِقة تتم على نحوٍ غير واعٍ بالنسبة إلى سائقٍ بشريٍّ مُحنَّك، ولا يعي الواحد منا إلا ما يُريد أن يتَّخذه من قراراتٍ مثل تخطِّي الشاحنة البطيئة التي تسير أمامه أو التَّوقف للتَّزُّود بالوقود، أما عيناه وعقله وأعصابه وعضلاته فهي تعمل معًا لتنفيذ بقية المهام.) إذا نظرنا إلى برنامجٍ للُعبة الشطرنج، فإن مُدخلاته تتلخَّص غالبًا في دقات الساعة التي تُشير إلى الوقت المُتاح لتنفيذ الحركة، بالإضافة إلى حركة خصمه على الرقعة ووضعها الجديد. أما التصرفات فهي إما أنَّه ساكن لا يفعل أي شيءٍ بينما يُفكِّر، وإما يختار حركته الجديدة من آنٍ لآخر ثم يُنبِّه الخصم. أما إذا تأمَّلنا مساعدًا رقميًّا شخصيًّا (بي دي إيه) مثل «سيري» أو «كورتانا»، فإن المُدخلات تتضمَّن أكثر من الإشارات الصوتية عبر الميكروفون (بمُعدَّل عينات يُساوي ثمانية وأربعين ألف مرةٍ في الثانية الواحدة) ومُدخلات من الشاشة اللمسيَّة، لتشمل أيضًا محتوى أي صفحةٍ من صفحات الإنترنت يزورها. بينما التصرفات تتضمن التَّحدُّث وعرض المعلومات على الشاشة.
تتوقَّف الطريقة التي نبني بها الكيانات الذكية على طبيعة المشكلة التي نواجهها. ومن ثمَّ، هذا يعتمد على ثلاثة عوامل؛ الأول: طبيعة البيئة التي سيعمل فيها هذا الكيان؛ فرُقعة الشطرنج بيئة مختلفة تمامًا عن أحد الطرق السريعة المزدحمة أو هاتفٍ جوال. أما العامل الثاني فهو المُلاحظات والتَّصرفات التي تربط الكيان بالبيئة، ومثال ذلك هو أنَّ «سيري» قد يكون لديه وصول لكاميرا الهاتف ليرى ما حوله أو لا. والعامل الثالث هو الغاية من الكيان؛ فتعليم الخصم أن يُطوِّر من مهاراته في الشطرنج مهمة مختلفة تمامًا عن تعليمه أن يفوز بالمُباراة.
-
هل البيئة المحيطة يُمكن مُلاحظتها ملاحظةً كاملةً (كما في الشطرنج، حيث المُدخلات توفِّر وصولًا مباشرًا لجميع جوانب الوضع الحالي للبيئة المُحيطة ذات الصلة)؛ أم ملاحظةً جزئيةً (كما في قيادة السيارة حيث مجال رؤية السائق محدود ولا يُمكنه رؤية ما بداخل المركبات الأخرى ونوايا السائقين الآخرين مُبهمة؟)
-
هل البيئة المحيطة والتصرفات مُنفصلتان إحداهما عن الأخرى (كما في الشطرنج)، أم مُتَّصلتان اتصالًا فعَّالًا (كما في قيادة السيارة)؟
-
هل البيئة تضُمُّ كيانات أخرى (كما في الشطرنْج وقيادة السيارة)، أم لا (كما هو الحال أثناء إيجاد أقصر الطُّرُق إلى مكانٍ ما عبر الخريطة)؟
-
بالاستناد إلى ما تنُصُّ عليه «قواعد» البيئة أو «قوانين الفيزياء» فيها، هل نتائج التصرفات قابلة للتَّوقُّع (كما في الشطرنْج)، أم لا يُمكن توقُّعها (كما في حركة المُرور وحالة الطقس)، وهل تلك القواعد التي استندنا عليها معلومة أم مجهولة؟
-
هل البيئة تتغيَّر ديناميكيًّا فيكون الوقت المُتاح لاتخاذ القرار محدودًا (كما في قيادة السيارة)، أم لا (كما في اختيار الخُطَّة الضريبية المُثلى)؟
-
ما مدى الإطار الزمني الذي تُقاس عليه جودة القرار المُتَّخذ وفقًا للغاية المُحدَّدة؟ هذا الإطار الزمني قد يكون قصيرًا جدًّا (كما في الضغط على مكابح السيارة في حالةٍ طارئة)، أو مُتوسط الطول (كما في لعبة الشطرنْج التي يصلُ عدد حركات المباراة فيها إلى حوالي مائة حركة)، أو طويلًا جدًّا (كما في رحلتي إلى المطار، والتي قد تتطلَّب مئات الآلاف من دورات اتخاذ القرار إذا افترضْنا أنَّ السائق يأخُذ مائة قرارٍ في الثانية الواحدة).
يُمكن للمرء منَّا أن يتخيل الكم المُحيِّر الذي تُثيره تلك الخصائص من مشكلاتٍ بأنواعٍ شتَّى. فإذا ما ضربنا بعض تلك الاختيارات ببعضٍ فسنحصُل على ١٩٢ نوعًا، ويُمكن لنا أن نجد مثالًا واقعيًّا لكل نوعٍ من تلك الأنواع. إن بعضها يُدرَس بطبيعة الحال في مجالاتٍ أخرى غير مجال الذكاء الاصطناعي؛ فمثلًا، تصميم نظام طيارٍ آليٍّ يُحافظ على مستوى تحليقٍ أفقي يُعدُّ مشكلة ديناميكية ومتَّصلةً وذات إطارٍ زمني قصير، وغالبًا ما تُدرَس في مجال نظرية التَّحكم.
من الواضح أن بعض المشكلات أسهل من غيرها. لقد أحرز مجال الذكاء تقدمًا كبيرًا في مشاكل كألعاب الطاولة والأحاجي التي تكون قابلة للملاحظة، ومنفصلة البيئة، ومحددة، ولها قواعد معلُومة سلفًا. بالنسبة لأنواع المشاكل الأسهل، فقد طوَّر باحثو الذكاء الاصطناعي خوارزميات ناجحةً وعامةً إلى حدٍّ ما، وكوَّنُوا عنها فهمًا نظريًّا مُتماسكًا، حتى إن الآلات غالبًا ما تتخطى البشر وتتفوَّق عليهم في الأداء في هذا النوع من المشاكل. ونحن نُطلق على خوارزميةٍ ما أنها خوارزمية عامة لأنَّنا نملك أدلةً رياضيةً على أنَّها تُعطي نتائج مثالية أو قريبة منها إذا ما طُبِّقت على فئةٍ كاملةٍ من المشاكل في ظل تعقيدٍ حوسبيٍ مقبول، ولأنها تعمل جيدًا عمليًّا حين تُطبَّق دون الحاجة إلى تعديلاتٍ مُخصَّصة لكل مشكلةٍ على حدة.
أما إذا ما نظرنا إلى مشاكل مثل إدارة حكومةٍ ما أو تدريس البيولوجيا الجزيئية، فسنجدها أصعبَ صعوبةً بالغة عما سبق. فتلك مشاكل ذات بيئاتٍ مُعقدةٍ غالبًا ما تكون غير قابلة للمُلاحظة (حالة دولة بأكملها أو حالة عقل طالب)، وتحتوي على عناصر وأنواعٍ؛ عناصر أكثر بكثير، ولن تجد تعريفاتٍ واضحةً عن ماهية التصرفات، كما أنَّ أغلب القواعد مجهولة، زد على ذلك وجود الكثير من الشَّك وعدم اليقين، وأطرٍ زمنية طويلة جدًّا. نحن نمتلك الأفكار والأدوات الجاهزة التي نتعامل بها مع كل خاصيةٍ من تلك الخصائص على حدة، لكن حتى الآن لا تُوجَد طرق عامة تتماشى مع جميع الخصائص معًا في وقتٍ واحد. عندما نبني نظم ذكاءٍ اصطناعي لحلِّ هذا النوع من المهام، فإن تلك النظم تتطلَّب كمًّا هائلًا من التَّصميم المُخصَّص، وغالبًا ما تكون هشةً للغاية.
إحراز التقدم فيما يتعلَّق بالتوصُّل إلى خوارزميات عامة يحدث عندما نبتكر طرائق فعالة تُستخدم لمُعالجة المشكلات الصَّعبة في فئةٍ ما، أو عندما نُصمِّم طرائق تتطلَّب افتراضاتٍ أقل وأسهل بحيث يمكن أن يُعمَّم تطبيقها على مشكلاتٍ أكثر. إن الذكاء الاصطناعي العام طريقة قابلة للتطبيق في جميع فئات المُشكلات، تعمل بفعاليةٍ عند تطبيقها على المشكلات الأصعب والأكثر تعقيدًا مع استخدام افتراضاتٍ قليلة جدًّا. وهذه هي الغاية الأسمى لأبحاث الذكاء الاصطناعي؛ ابتكار نظامٍ لا يحتاج إلى تصميمٍ مُخصَّصٍ لمُشكلةٍ بعينها ويمكنه أن يُدرِّس محاضرة في علم البيولوجيا الجزيئية أو يدير حكومة دولةٍ ما. إنه نظام يتعلَّم ما يحتاج إلى معرفته من خلال جميع المصادر المُتاحة له، ويطرح الأسئلة حين الحاجة ثمَّ يبدأ في وضع الخطط الفعالة وتنفيذها.
مثل هذا النِّظام العام ليس موجودًا في الوقت الحالي، لكنَّنا نقترب منه شيئًا فشيئًا. وقد تتفاجأ حين تعلم أنَّ مقدارًا كبيرًا من هذا التَّقدُّم تجاه ذكاءٍ اصطناعي عامٍّ يُنسَب إلى أبحاثٍ لا تتمحور حول بناء نظم ذكاء اصطناعي عامة. هذا التَّقدم يُنسب إلى أبحاثٍ في مجال «الذكاء الاصطناعي المحدود» أو «الذكاء الاصطناعي الخاص» والذي يعني نظم ذكاءٍ اصطناعي لطيفة وآمنة ومُملَّة صُمِّمت لحل مشكلات بعينها مثل لعب لُعبة جو أو التَّعرف على الأرقام المكتوبة يدويًّا. إن الأبحاث في هذا النوع من الذكاء الاصطناعي يُظَنُّ عادة أنها لا تُمثِّل أي خطرٍ لأنها مُصمَّمة لغرضٍ بعينه، ولا علاقة لها بالذكاء الاصطناعي العام.
إنَّ هذا الاعتقاد إنما هو ناجم عن سوء فهمٍ لنوعية العمل الذي تنطوي عليه تلك النظم. في الحقيقة، غالبًا ما تُعطي أبحاث الذكاء الاصطناعي المحدود دفعةً باتجاه الذكاء الاصطناعي العام، وخصوصًا عندما تُجرى على يد باحثين يتصدون للمشاكل التي تتخطَّى حدود قدرات الخوارزميات العامَّة الحالية، وطريقتهم في حل المشكلات ليست مجرَّد حشو ما يلزم من شفراتٍ خاصة لمُحاكاة تصرُّفات شخصٍ ذكي إذا وُضع في هذا الموقف أو في ذاك، إنما محاولات لغرس قدرةٍ ما في الآلات تُصبح بعدَها قادرةً بنفسها على إيجاد حلول للمشاكل التي تُواجهها.
كما كان هناك تقدُّم مُعتبر باتِّجاه الذكاء الاصطناعي العام، نابع من الأبحاث التي أُجريت في تسعينيات القرن الماضي للتَّعرف على الأرقام المكتوبة يدويًّا. لم يكتب فريق يان ليكن بمُختبرات شركة إيه تي آند تي أيَّ خوارزمياتٍ خاصة للتعرُّف على الرقم ٨ عن طريق البحث عن الخطوط المُنحنية والحلقات، بل طوَّروا خوارزميات للتَّعلُّم بالشَّبكات العصبونية موجودة بالفعل ليُنتجوا «الشبكات العُصبُونية الالتفافيَّة»، التي أظهرت بدورها نجاحًا في التَّعرُّف على الرموز بعد تدريبٍ مناسب على الأمثلة ذات الصلة. تلك الخوارزميات نفسها يُمكن أن تتعلَّم كيف تتعرَّف على الحروف والأشكال وعلامات التَّوقُّف والكلاب والقطط وسيارات الشُّرطة. وتحت مُسمَّى «التَّعلُّم المُتعمِّق»، أحدثوا ثورةً في مجالَي التَّعرُّف على الكلام وتمييز العناصر المرئية اللذَين يُعدَّان حجر الأساس في برنامج «ألفا زيرو» ومعظم المشاريع المُعاصرة لبناء سياراتٍ ذاتية القيادة.
وإذا ما أمعنت النظر في الأمر، فإنَّك لن تجد غرابةً في إدراك أنَّ التَّقدُّم نحو خوارزميات ذكاءٍ اصطناعي عامة سيحدث عبر مشاريع الذكاء الاصطناعي المحدود التي تُنفِّذ مهامَّ مُحدَّدة؛ فتلك المهام هي التي تجعل باحثي الذكاء الاصطناعي مُنهمِكين في البحث والتطوير. (هناك سبب يجعل الناس لا يقولون: «التَّحديق خارج النافذة هو أمُّ الاختراع».) في الوقت نفسه، من المُهم أن نفهم مدى التَّقدم الذي أُحرز وأين هي حُدود ذلك التَّقدم. عندما هزم برنامج «ألفا جو» لي سيدول ثمَّ لاحقًا سحق جميع عمالقة لُعبة جو الآخرين، افترض العديد من الناس أنَّ هذا الانتصار هو بداية النِّهاية، وما هي إلا مسألة وقتٍ ليس إلا حتى نرى الذكاء الاصطناعي يُسيطر على العالم؛ كُل هذا لأنَّ إحدى الآلات قد تعلَّمت من الصِّفر هزيمة مُنافسيها من البشر في مُهمَّةٍ يُعرف عنها صعوبتها الشديدة حتى بالنسبة إلى أكثر البشر فطنةً ودهاءً. إن بعض المُشكِّكين في موضوع سيطرة الذكاء الاصطناعي قد زالت شُكوكهم واقتنعوا عندما فاز برنامج «ألفا زيرو» في الشطرنج والشُّوجي، بالإضافة إلى لُعبة جو. لكن يجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ برنامج «ألفا زيرو» له قيود صارمة؛ فهو لا يعمل إلا في فئة الألعاب الثنائية اللاعبين، ذات القواعد المعلُومة سلفًا، والتي تكون غير قابلة للملاحظة، وفي بيئةٍ مُنفصلة. ببساطةٍ، مثل هذا الأسلوب لن ينجح مُطلقًا في قيادة السيارات أو التَّدريس أو تولِّي قيادة حكومة دولةٍ ما، أو السيطرة على العالم.
تلك القُيُود الشديدة على كفاءة الآلات تعني أنَّه عندما يتحدث الناس عن ازدياد «مُعدَّل ذكاء الآلات» ازديادًا فائقًا يُنذِر بأنَّه سيتخطَّى معدلات الذكاء البشرية، فإن كلامهم هذا ما هو إلا لغط لا قيمة له مُطلقًا. ونحن إذْ نقول إن مفهوم مُعدَّل الذكاء قد يبدو منطقيًّا إذا ما طُبِّق على البشر، فهذا لأنَّ القُدرات البشرية عادةً ما يترابط بعضها مع بعض في نطاقٍ كبير من الأنشطة المعرفية. ومُحاولة تعيين معدل ذكاءٍ للآلات تُشبه محاولة أن تأتي بحيوانٍ يمشي على أربعٍ وتضعه في مُنافسةٍ مع البشر في مُسابقة العُشاري الخاصة بألعاب القوى. لا أحد يُنكر أنَّ الخيل تستطيع أن ترمح رمحًا سريعًا وأن تقفز عاليًا، لكنَّها ستُواجه الكثير من الصُّعوبات في رياضتَي القفز بالزَّانة ورمي القُرص.
(٣-٢) الغايات والنموذج القياسي
أبسط طرائق نقل الغاية هي أن تُنقل في صيغة «هدف». عندما تستقلُّ سيارتك الذاتية القيادة ثمَّ تضغط على أيقونة «البيت» الظَّاهرة على الشاشة، تستقبل السيارة هذا كغايةٍ يجب بُلوغها ثمَّ تشرع في انتقاء الطَّريق وبدء الرحلة. بعد ذلك إما أن يُحقق العالم الواقعي الهدف المرجو (أجل، وصلت إلى البيت) أو لا يُطابقه (لا، أنا لا أسكن في مطار سان فرانسيسكو). في الحقبة الكلاسيكية لأبحاث الذكاء الاصطناعي وقبل أن تُصبح مشكلة الارتياب وعدم اليقين هي المشكلة الرئيسية في ثمانينيات القرن الماضي، كانت غالبية أبحاث الذكاء الاصطناعي تفترض عالمًا محددًا وقابلًا للملاحظة بالكامل، وتُعدُّ فيه الأهداف طريقةً منطقيةً لتحديد الغايات. أحيانًا تكون هناك أيضًا «دالة تكلفة» لتقييم الحُلُول، وهكذا يكون الحل المثالي هو الذي يُقلِّل من التَّكلفة الإجمالية ويصل إلى الهدف في الوقت ذاته. إذا طبَّقنا هذا على السيارة، فلرُبَّما يكون هذا مدمجًا فيها تتخذه تلقائيًّا — ربما تكون تكلفة طريقٍ ما هي إلا مُحصِّلة ثابتة لمجموع الوقت المُستغرق والوقود المُستهلك معًا، أو قد يكون للراكب البشري الخيار في تحديد أيهما سيُضحِّي به في سبيل الآخر.
تعمل خوارزميات البحث الاستباقي بكفاءةٍ لا مثيل لها في المهامِّ المُحدَّدة المكلفة بها، لكنَّها لا تتَّسم بالمُرُونة الكافية. فمثلًا، برنامج «ألفا جو» «يعرف» قواعد لُعبة جو فقط بصفتها تحوي روتينين فرعيَّين بُنِيا بلُغةٍ برمجيةٍ تقليديةٍ مثل «سي++»؛ روتينًا يُولِّد جميع التَّحرُّكات الجائزة المُحتملة، والآخر يُشفِّر الهدف ثمَّ يُقرِّر ما إذا كان الوضع الحالي فوزًا أم خسارة. وليلعب برنامج «ألفا جو» لُعبةً أخرى، على أحدٍ ما أن يُعيد كتابة تلك الشَّفرة المكتوبة بلُغة «سي++» بالكامل. علاوة على ذلك، إذا أوكل له هدف جديد — لنقُل مثلًا: زيارة الكوكب غير الشمسي الذي يدور حول نجم «القنطُور الأقرب» — ما سيفعله البرنامج حينها هو أنَّه سيسبُر أغوار المليارات من سلاسل تحرُّكات لُعبة جو بحثًا عن تسلسلٍ يُحقِّق الهدف الجديد، ولكن بلا طائل. فهو لا يُمكنه فحص شفرته التي بلُغة «سي++» والانتهاء إلى الحقيقة الواضحة؛ ألا وهي: لن تُجدي أي سلسلةٍ من سلاسل التَّحرُّكات في لُعبة جو نفعًا في إيصاله إلى الكوكب المطلوب. فمعارف البرنامج بصفةٍ أساسيةٍ محبُوسة في داخل صندوقٍ أسود.
لأي «نوع من المعرفةٍ» أو لأي «سؤال» قابل للتعبير عنه بالمنطق الإسنادي، فإن الخوارزمية ستُخبرنا بالإجابة عن هذا السؤال إذا كانت الإجابة موجودة أصلًا.
وهذا ضمان مُذهل! إنه يعني أنَّنا، على سبيل المثال، يُمكن أن نُعلِّم النِّظام قواعد لُعبة جو وهو سيُخبرنا (إذا انتظرنا الوقت الكافي) إذا ما كانت هُناك حركة افتتاحيَّة تُمكِّن صاحبها من الفوز بالمُباراة. كما يُمكننا أن نُغذِّي النظام بالحقائق الجُغرافيَّة لمنطقةٍ ما وسيهدينا إلى طريق المطار. بل ويُمكننا أن نُعلِّمه الحقائق الهندسية وقوانين الحركة وماهية أدوات المطبخ، وسيُعلِّم ذلك النظامُ الروبوت كيفية ترتيب مائدة طعام العشاء. وعلى وجه العُمُوم، إذا ما أعطي الكيان أي هدفٍ قابلٍ للتحقيق ثمَّ غُذِّي بالمعلومات الكافية ليعرف نتائج تصرُّفاته وأثرها، فيُمكنه أن يستخدم الخوارزمية لوضع خُطَّةٍ ليُنفِّذها ليُحقِّق هذا الهدف.
وعدم اليقين هنا يعني أنَّ «الغاية التي جعلنا الآلة تسعى لتحقيقها» لا يُمكن في العُمُوم أن تكون هدفًا موصُوفًا بدقةٍ بحيث يتمُّ تحقيقه مهما كان الثمن. فلم يعُد هناك ما يُسمَّى ﺑ «سلسلة من التَّصرُّفات التي تُفضي بالهدف إلى تحقيقه»، وهذا لأنَّ أي سلسلةٍ من التَّصرفات سيكون لها العديد من النتائج المحتملة، والتي بعضها لن يُحقِّق الهدف المطلوب. وهنا نرى أنَّ أرجحيَّة النَّجاح مسألة مُهمَّة؛ فالمُغادرة إلى المطار قبل موعد الرحلة بثلاث ساعاتٍ «رُبَّما» يعني أنَّك لن تُفوِّت الطائرة، وشراء تذكرة يانصيب «رُبَّما» يعني أنَّك قد تربح ما يكفي من النقود لشراء منزلٍ جديد، وشتان بين «رُبَّما» الأولى و«رُبَّما» الثانية. فالأهداف لا يُمكن أن تُنقذ من الفشل بالبحث عن خُطط تُعزِّز من أرجحيَّة تحقيقها؛ فالخُطَّة التي تزيد من أرجحيَّة الوصول إلى المطار في الوقت المُحدَّد للَّحاق بالرحلة قد تجعلك تُغادر البيت عدة أيامٍ قبل الموعد وبرفقتك حُراس مُسلَّحين بينما ينتظرك عدد من وسائل النَّقل البديلة لنقلك في حال تعطَّلت سيارة الأجرة التي تستقلُّها، وما إلى ذلك من التَّجهيزات. لكن حتمًا، لا بُدَّ للمرء أن يضع في اعتباره التَّفضيلات النِّسبية للنتائج المُختلفة جنبًا إلى جنبٍ مع أرجحيَّة حدوثها.
إذن، يُمكننا أن نستعيض عن الأهداف باستخدام «دالَّة المنفعة» لوصف تفضيلات النتائج المُختلفة أو سلاسل الأوضاع. وغالبًا ما يُعبَّر عن منفعة سلسلةٍ ما من الأوضاع بمجموع «المُكافآت» لُكلِّ وضعٍ من أوضاع السِّلسلة. فإذا أعطيت الآلة غايةً ما وكانت الغاية مُعرَّفةً بدالَّة المنفعة أو المُكافأة، فإنها ستسعى لتنتهج سُلوكًا يُعزِّز من المنفعة المُتوقَّعة أو مجموع المكافآت المتوقَّع لها حسب مُتوسِّط النتائج المُحتملة وحساب أرجحيَّة حدوث كلٍّ منها. وهكذا يُعدُّ مجال الذكاء الاصطناعي الحديث جزئيًّا إعادة إحياءٍ لحُلم جون ماكارثي، مع استبدال المنافع والاحتمالات بالأهداف والمنطق.
أما بالنسبة إلى المشاكل المُعقَّدة مثل لُعبة الطاولة ولُعبة جو حيث عدد الأوضاع هائل والمُكافأة لا تُمنح إلا بنهاية المُباراة، فهُنا البحث الاستباقي لن يُجدي نفعًا. وعوضًا عن ذلك، طوَّر باحثو الذكاء الاصطناعي أسلُوبًا يُسمَّى «التَّعلُّم المُعزَّز». وتتعلَّم خوارزميات التَّعلُّم المُعزَّز من الخبرات المُباشرة لإشارات المُكافأة في البيئة المُحيطة، تمامًا كما يتعلَّم الطفل الرضيع الوقوف على قدميه من المكافأة الإيجابية لكونه يقف مُعتدلًا ومن المكافأة السَّلبيَّة للوقوع أرضًا. وكما في خوارزميات البرمجة الديناميكيَّة، تكون الغاية الموضُوعة في خوارزمية التَّعلُّم المُعزَّز هي دالَّة المكافأة، ثمَّ تتعلَّم الخوارزمية قاعدة لتقدير قيم الأوضاع (أو أحيانًا قيم التَّصرُّفات). وهذه القاعدة يُمكن الجمع بينها وبين البحث الاستباقي قصير المدي نسبيًّا لتوليد سُلوكٍ ذي كفاءةٍ عالية.
إذا علمنا أنَّ رضيعًا في يومه الأول على الأرض قد تعلَّم كيفية لعب العشرات من ألعاب الفيديو بمُستوًى يفوق القدرات البشرية، أو صار بطل العالم في لُعبة جو أو الشطرنج أو الشُّوجي، فقد نظُنُّ أنَّ روحًا شيطانيةً تتلبَّسُه، أو أنَّه كائن ذو عقلٍ فضائي. لكن تذكَّر أنَّ كل تلك المهام هي أبسط بكثيرٍ من العالم الواقعي؛ فهي يُمكن ملاحظتها ملاحظةً كاملة ولها إطار زمني قصير، كما أنَّ لها فضاءات وضعية صغيرةً نسبيًّا وقواعد سهلة ويُمكن التَّنبؤ بها. وإذا أرخينا أيًّا من تلك الشروط، فهذا يعني أنَّ الطرق القياسية ستفشل.
إذا <لاح طيف سريع مُقترب في المجال البصري>، إذن <أغمض الجفنين>.
استجابة الرمش لا «تدري ما الذي تفعله»؛ فالغاية (حماية مُقلة العين من الأجسام الغريبة) لا تتجسَّد في أي مكان، وكذلك الحال بالنسبة للمعرفة (أيُّ طيفٍ سريعٍ يلُوح مُقتربًا يعني أنَّ جسمًا ما يقترب من العين، وأنَّ ذلك الجسم الذي يقترب من العين قد يضُرُّها). وهكذا فإنِّك عندما يُحاول الجانب الإرادي منك وضع قطرات في العين، فإنَّ الجزء اللاإرادي سيظلُّ يرمش ويُغمض الجفنين.
وهكذا فإن برامج الاستجابة اللاإرادية تُنفِّذ الغاية التي أودعها فيها المُصمِّم، لكنَّها في الوقت ذاته لا تعرف ماهيَّة تلك الغاية أو لماذا تتصرَّف على نحوٍ مُعيَّن. وهذا يعني أنَّها لا تستطيع اتِّخاذ القرارات بنفسها، بل يتَّخِذها شخص آخر نيابةً عنها ويُخطِّط لكل شيءٍ سلفًا؛ وهذا الشخص عادة ما يكون المُصمِّم البشري أو ربَّما يكون عملية التَّطور البيولوجي. من الصَّعب جدًّا أن تبني برنامجًا جيدًا من هذا النوع من خلال البرمجة اليدوية فقط، اللهم إلا لتنفيذ بعض المهام البسيطة جدًّا مثل لُعبة «إكس-أو» أو كبح الطَّوارئ. وحتى في تلك الحالات، يكون برنامج الاستجابة اللاإرادية جامدًا للغاية ولا يُمكنه تغيير سُلُوكه عندما تُشير الظُّروف إلى أنَّ السياسة التي طُبِّقت لم تعُد مُلائمة.
وبما أنَّ هناك الآلاف من التَّسميات الممكنة للصُّور؛ فمن ثمَّ هناك الملايين من التَّكاليف الواضحة الخاصة بالتَّصنيف الخطأ لفئةٍ ما على أنَّها فئة أخرى. إن إيجاد كل تلك الأرقام وتحديدها مُقدَّمًا كان سيكون أمرًا غايةً في الصعُوبة على جوجل، حتى ولو حاولت فعله. لكنَّ الصَّواب هنا هو التَّسليم بعدم اليقين فيما يتعلَّق بالتكاليف الحقيقية للتَّصنيف الخطأ، والبدء بتصميم خوارزمية تعلُّمٍ وتصنيفٍ تكون ذات حساسيةٍ مُلائمةٍ للتَّكاليف وبعدم اليقين الذي يُحيط بها. مثل تلك الخوارزميات قد تسأل المُصمِّم البشريَّ في جوجل بين الفيْنة والفيْنة أسئلةً مثل: «أيهما أسوأ؛ التَّصنيف الخطأ لكلبٍ على أنَّه قطَّة، أم التَّصنيف الخطأ لإنسانٍ على أنَّه حيوان ما؟» بالإضافة إلى ذلك، قد ترفُض تلك الخوارزمية أن تضع أيَّ مُسمَّياتٍ لبعض الصُّور إذا وجدت أنَّ هناك قدرًا كبيرًا من الارتياب وعدم اليقين حول تكاليف التَّصنيف الخطأ.
أنا لا أُريد أن أُلمِّح إلى أنَّ تبنِّي الذكاء الاصطناعي للنَّمُوذج القياسي كان اختيارًا سيئًا في ذلك الوقت؛ فقد بُذل قدر عظيم من العمل في تطوير العديد من النُّظم المنطقيَّة والاحتماليَّة والتعليميَّة المبنيَّة على ذلك النمُوذج. ونجد أنَّ العديد من النظم الناتجة هي فعلًا نُظُم مُفيدة؛ وكما سنرى في الفصل القادم، فما يزال هناك المزيد لنراه في المستقبل. على الجانب الآخر، فإنَّنا لا نستطيع أن نستمرَّ في اعتمادنا على أسلوب التَّجربة والخطأ لتحديد الأخطاء الجوهرية في دالة الغاية؛ فالآلات التي تزداد ذكاءً وتأثيرًا على مستوى العالم يومًا بعد يوم لن تسمح لنا بمثل هذه الرَّفاهية بعد الآن.