كيف قد يتطوَّر الذكاء الاصطناعي في المُستقبل؟
(١) المُستقبل القريب
في الثالث من مايو عام ١٩٩٧، بدأت مُباراة شطرنج بين «ديب بلو»؛ الكمبيوتر الذي صمَّمته شركة آي بي إم ليلعب الشطرنج، وبين جاري كاسباروف؛ بطلُ العالم في الشطرنج ويُقال إنه أفضل لاعب شطرنجٍ بشري في التاريخ. وصفت حينها مجلَّة «نيوزويك» تلك المباراة بأنَّها «معركة الصُّمُود الأخيرة للعقل البشري». وفي الحادي عشر من مايو، بعد أن كانت النَّتيجة مُتعادلة ٢٫٥–٢٫٥، هزم «ديب بلو» كاسباروف في المُباراة النهائية. فهاجت وسائل الإعلام وماجت ووقفت الدنيا ولم تقعُد. وارتفعت القيمة السُّوقيَّة لشركة آي بي إم ١٨ مليار دولار بين عشيَّةٍ وضُحاها. وأُعلن على جميع الأصعدة أنَّ مجال الذكاء الاصطناعي قد أحرز تقدُّمًا هائلًا.
أما بالنسبة إلى باحثي الذكاء الاصطناعي حينها، فإن الطَّفرات الحقيقية حدثت «قبل» أن يظهر «ديب بلو» على الساحة ويخطف الأضواء بثلاثين أو أربعين عامًا. وبالمثل، فإنَّ الشبكات الالتفافيَّة المُتعمِّقة ظهرت، وقد عولجت جميع عملياتها الرِّياضيَّة، قبل ما يزيد عن عشرين سنةً من بدء تصدُّرها للعناوين الرئيسية في وسائل الإعلام.
أما ما يتلَّقاه العامَّة من تصوُّراتٍ عن الطَّفرات في مجال الذكاء الاصطناعي عبر وسائل الإعلام (مثل فوز الآلات الساحق على البشر، وأنَّ إنسانًا آليًّا قد تجنَّس بجنسية المملكة العربية السعودية، وما إلى ذلك من أخبار)، فإنَّه لا ينطوي إلا على النَّذر اليسير من حقيقة ما يحدث في مُختبرات الأبحاث العالمية. فبداخل المُختبر، يقتضي البحث تفكيرًا مُطوَّلًا ونقاشاتٍ وكتابةً للصِّيغ الرياضيَّة على السُّبورات البيضاء. تُطرح الأفكارُ بلا انقطاعٍ؛ فمنها ما يُنحَّى جانبًا ومنها ما يُعاد اكتشافه. والفكرة الجيدة، التي قد تقودنا إلى طفرةٍ حقيقية، غالبًا ما تمُرُّ على أذهان الباحثين مرور الكرام في وقت طرحها، ثمَّ بعد ذلك قد تُفهم ويُنظر إليها أنَّها شكَّلت أساسًا لطفرةٍ جوهريةٍ في مجال الذكاء الاصطناعي؛ وذلك حين يُعيد اكتشافها شخصٌ آخر في وقتٍ أكثر ملاءمة. وحين تُجرَّب الأفكار، تُختبر مبدئيًّا لحلِّ مشاكل بسيطةٍ ليُنظر في أمر بديهياتها الأساسية أهي صحيحة أم لا، ثمَّ تُختبر لحلِّ مشاكل أصعب لنقف على حجم قُدراتها وإلى أي مدًى ستصل. وغالبًا ما تُخفق الفكرة المُفردة بنفسها في تقديم أي تحسُّنٍ ملحوظٍ في القُدرات، ولذا عليها أن تنتظر إلى أن تظهر فكرة أخرى فيُدمجا معًا ليُقدِّما قيمةً ما.
كل هذا العمل يكون مخفيًّا تمامًا عن الأنظار. ففي العالم الخارجي فيما وراء أبواب المُختبرات، يُصبح الذكاء الاصطناعي مرئيًّا فقط حين يتجاوز التَّراكُم التَّدريجي للأفكار وللبراهين الدَّالَّة على صحَّتها وفاعليتها عتبةً ما؛ أي النقطة التي يكون عندها من المفيد استثمار الأموال والجُهود الهندسية لبناء مُنتجٍ تجاري جديدٍ أو تقديم عرض مُبهر. حينها فقط، تُعلن وسائل الإعلام أنَّ طفرةً ما قد حدثت.
يمكن أن يتوقَّع المرء إذن أنَّ الأفكار الأخرى العديدة التي ما تزال جنينًا في رحم مُختبرات الأبحاث العالمية ستتخطَّى عتبة الرِّبحيَّة التِّجارية خلال السنوات القليلة المُقبلة. وسنرى هذا الأمر يكثُر حُدُوثه كُلَّما ازداد مُعدَّل الاستثمارات التِّجارية وزاد تقبُّل العالم لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أكثر. هذا الفصل سيُطلعُك على عينةٍ مما قد نراه واقعًا من طفراتٍ في هذا المجال في المُستقبل القريب.
وأثناء العرض، سأذكر بعض مساوئ تلك الطَّفرات التِّقنيَّة. وقد يجُول بذهنك العديد من مساوئها الأخرى، ولكن لا تحمل همًّا؛ فأنا سأُفرد الفصل القادم للحديث عن كل ذلك.
(١-١) بيئة الذكاء الاصطناعي
في البداية، كانت البيئة التي عملت بها معظم أجهزة الكمبيوتر فراغًا لا شكل له؛ فمُدخلاتها الوحيدة كانت تأتي من البطاقات المثقُوبة وكانت الطريقة الوحيدة لإنتاج المخرجات هي طباعة الرموز عبر طابعة سطرية. رُبما لهذا السبب، كان يرى مُعظمُ الباحثين الآلات الذكية على أنَّها آلات تجيب على الأسئلة، ولمْ ينتشر المفهوم الحالي للآلات بأنَّها «كيانات ذكية» تُدرك وتتصرَّف في بيئةٍ ما إلا في ثمانينيات القرن الماضي.
عندما اختُرعت شبكة الويب العالمية في تسعينيات القرن الماضي، فتحت بابًا واسعًا لعالمٍ جديدٍ أمام الآلات الذكية لتتحرك فيه. واستُحدثت كلمة جديدة وهي «سوفت بوت» لوصف «روبوتات» البرمجيات التي تعمل بالكامل في بيئةٍ برمجيَّةٍ مثل شبكة الويب. هؤلاء الآليُّون يطلعون على صفحات الويب ثمَّ ينتجون استجابةً عن طريق إنتاج مجموعاتٍ من الرموز وعناوين الصفحات وغيرها من الأشياء.
ازداد عدد شركات الذكاء الاصطناعي ازديادًا كبيرًا خلال الفترة التي حدث فيها ما يُسمى ﺑ «فقاعة الإنترنت» والتي كانت ما بين عامي ١٩٩٧ و٢٠٠٠، مما وفَّر القُدرات الأساسية للبحث والتجارة الإلكترونية، بما في ذلك تحليل الرَّوابط ونظم التوصية ونظم بناء السُّمعة والتسوق القائم على مُقارنة السِّلع وتصنيف المُنتجات.
وفي بداية الألفيَّة الجديدة، مهَّد الانتشار الواسع للهواتف الجوَّالة، بما فيها من ميكروفونات وكاميرات ومقاييس تَسارُعٍ ونظُم تحديد مواقع، الطريق أمام نُظم الذكاء الاصطناعي لتتغلغل في حياة البشر اليومية، ثمَّ ها نحن نرى «السماعات الذكية» مثل «إيكو» التابعة لشركة أمازون و«هوم» التابعة لشركة جوجل و«هوم بود» التابعة لشركة أبل وقد أكملت هذه العملية.
وبحُلول عام ٢٠٠٨ تقريبًا، تخطَّى عدد الأشياء المُتَّصلة بالإنترنت عدد البشر المُتَّصلين بها، في نقلةٍ يُشير إليها البعض بأنَّها كانت بداية مفهوم «إنترنت الأشياء». وتلك الأشياء تتضمن السيارات والأجهزة المنزلية وإشارات المرور وآلات البيع والثرموستات والطَّوافات الرباعيَّة والكاميرات والحساسات البيئية والروبوتات، وجميع أنواع السِّلع المادِّية في كلٍّ من عملية التَّصنيع ونظام التَّوزيع والبيع بالتَّجزئة. إن هذا يتيح لنظم الذكاء الاصطناعي وصولًا أكبر بكثيرٍ إلى العالم الواقعي.
وأخيرًا، التطوُّرات التي حدثت في الإدراك مكَّنت الروبوتات المدعومة بنظم ذكاء اصطناعي من مُغادرة المصانع حيث كانت تعتمد على ترتيباتٍ ثابتةٍ ومُقيِّدةٍ للأشياء، وباتت الآن في قلب العالم الواقعي المليء بالفوضى والمُفتقر للنُّظم حيث تطَّلع كاميراتها على أشياء شيِّقةٍ وأكثر إمتاعًا.
(١-٢) السَّيارات الذاتية القيادة
والسُّؤال هُنا: لم استغرقنا كل ذلك الوقت لتحقيق القيادة الذَّاتية الآمنة؟ السَّبب الأول هو أنَّ مُتطلَّبات الأداء كثيرة وتستلزم الحرص والدِّقَّة. مثلًا في الولايات المتحدة، يتكبَّد السائق البشري تقريبًا حادثةً واحدةً مُميتةً في كُلِّ مائة مليون ميلٍ يقطعُها بسيارته. هذا بدوره يضعُ معيارًا عاليًا لقبُول المركبات الذاتية القيادة التي عليها إذن أن تُحقِّق مُستوًى أعلى من ذلك؛ رُبَّما بمُعدَّل حادثةٍ مُميتةٍ في كل مليار ميلٍ أو خمسة وعشرين عامًا من القيادة بمُعدَّل أربعين ساعةٍ أسبوعيًّا. أما السبب الثاني فهو ببساطةٍ فشلُ وسيلة التَّحايُل المُتوقَّعة، المتمثلة في إسناد التحكم في السيارة للسائق البشري حين تكون المركبة مُشوَّشةً ولا تقدر على اتِّخاذ القرار أو خارج ظروف العمل الآمنة التي صُمِّمت للعمل فيها. فعندما تقود السيارة نفسها، سرعان ما ينفصل البشر عن ظروف القيادة المُباشرة ولا يُمكنُهم استعادة وعيهم بالبيئة المُحيطة استعادةً سريعةً تكفي لتولِّي القيادة بأمان. زد على ذلك أن الرُّكاب غير القادرين على القيادة في السيارة ورُكاب سيارات الأجرة في المقعد الخلفي يكونون في وضعٍ لا يسمح لهم بتولِّي القيادة إن حدث خطأ ما.
(١-٣) المُساعد الشَّخصي الذَّكي
تلك النظم البدائية لها عيوب تندرج تحت ثلاثة أقسام: الدِّراية والمحتوى والسِّياق. «عيوب الدِّراية» تعني أنَّها تفتقد الوعي الحسي بما يحدث حولها؛ فمثلًا، قد يُمكن لتلك النظم أن تسمع ما يقوله المُستخدِم، لكن لا يُمكنها أن ترى لمن يُوجِّه المُستخدمُ حديثه. و«عيوب المحتوى» تعني أنَّها ببساطةٍ لا تستطيع فهم معنًى ما يقوله المُستخدِم أو يكتبُه، حتى ولو لديها دراية به. أما «عيوب السِّياق» فتعني أنَّها لا تملكُ القدرة على مُتابعة أي سياقٍ والتَّفكُّر بما يحتويه من أهدافٍ وأنشطةٍ وعلاقاتٍ تُشكِّل أجزاء الحياة اليومية.
رغم تلك العيوب، فإنَّ السماعات الذكية ومُساعدات الهواتف الجوَّالة تُقدِّم ما يكفي من قيمةٍ للمُستخدم ليُدخلها مئات الملايين من الناس بُيوتهم ويحملوها معهم في جُيوبهم. هذه النُّظُم يمكن النظر إليها على أنَّها أحصنة طروادة لمجال الذكاء الاصطناعي. ونظرًا لأنها مدمجة في نسيج حياة الكثير من الناس، فإن كلَّ تطورٍ في قدراتها، مهما كان صغيرًا، يُساوي المليارات من الدولارات.
وكما هو معروف؛ فالتطويرات تأتي بسرعةٍ وكثافة. وربَّما كان أهمها هو القدرة الأساسية على فهم المُحتوى؛ أي مثلًا فهم أنَّ جُملة «جون في المستشفى» لا يُردُّ عليها فقط بجملة «أرجو أن يكون بخير!» لكنها جُملة تحوي معلومةً حقيقةً وهي أن ابن المُستخدم ذا الثماني سنواتٍ في مُستشفًى قريبٍ وربما كان مُصابًا أو مريضًا وحالته خطيرة. تُعدُّ قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على الوصول إلى البريد الإلكتروني والرسائل النَّصيَّة بالإضافة إلى المكالمات الصوتية والمحادثات المنزلية (من خلال السماعة الذكية) عاملًا مهمًّا في الحصول على ما يكفي من المعلومات لبناء تصوُّرٍ كاملٍ نسبيًّا عن حياة المُستخدم؛ تلك المصادر رُبما تُعطي معلوماتٍ أكثر مما كان متاحًا لكبير الخدَم الذي يعمل لدى أسرةٍ من طبقة النُّبلاء في القرن التاسع عشر، أو المساعد التنفيذي الذي يعمل برفقة رئيس إحدى الشركات المعاصرة.
تلك المعلومات الأساسية ليست كافية بلا شك. ولتكون تلك المعلومات مُفيدة بحق، على المُساعد الذكي أن يكون على علمٍ ببديهيات العالم وكيف يعمل: فالطفل الذي في المُستشفى لا يكون في المنزل في الوقت ذاته؛ والرعاية الطبية لذراعٍ مكسورة نادرًا ما تدوم لأكثر من يومٍ أو يومين؛ وأنَّ مدرسة الطفل يجب أن تعرف بذلك الغياب المُتوقَّع؛ وغيرها من البديهيات. تلك المعرفة تُمكِّن المُساعد الذكي من أن يُتابع سياق الأشياء التي لا يراها مُباشرةً؛ وهي مهارة أساسية للنظم الذكية.
على هذا النَّحو، نستطيع أن نترقَّب رؤية مُساعداتٍ ذكيةٍ تقدِر، لقاء حفنةٍ من البنسات كل شهر، أن تُساعد المُستخدِمين في إدارة يومهم بما فيه من أنشطةٍ كثيرةٍ ومتنوِّعة مثل: المواعيد والرحلات، والتَّسوق للحصول على احتياجات المنزل ودفع الفواتير ومُساعدة الأطفال في الفُرُوض المدرسية، وفرز رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الواردة، والتنبيهات، وإعداد الوجبات، ورُبما نشطح بأحلامنا ونأمُل أن تُساعدهم أيضًا في إيجاد مفاتيحهم الضائعة. كل تلك المهارات لن تكون مُبعثرةً بين العديد من التطبيقات؛ بل ستكون جميعها تحت مظلَّة كيانٍ واحد ومُتكامل يُمكنه أن يستفيد من جميع فُرص التَّضافُر والتآزُر المُتاحة، فيما يُسمِّيها العسكريون ﺑ «الصورة العملياتية العامة».
يتضمَّن القالب التَّصميمي العام لأي مُساعدٍ ذكي المعرفة المُسبقة للأنشطة البشرية والقدرة على استخلاص المعلومات من بين تدفقات البيانات الإدراكية والنَّصيَّة. ويتضمَّن أيضًا عملية تعلُّمٍ لتهيئة المُساعد لظُرُوف المُستخدم الخاصة. وهذا القالب العام يُمكن تطبيقه في ثلاثة مجالاتٍ كبرى أخرى على الأقل: الصِّحة والتَّعليم والشُّئون المالية الشخصية. وفي تلك التطبيقات، على النِّظام أن يُتابع جسد المُستخدم أو عقله أو حسابه المصرفي (إذا ما فسَّرنا مهامه تفسيرًا واسعًا). وكما هو الحال مع المُساعدات الخاصة بالحياة اليومية، فإن التَّكلفة الأولية لبناء المعرفة العامة الضَّرورية لكل مجالٍ من تلك المجالات الثلاثة ستُسدَّد تدريجيًّا من خلال الوصول إلى مليارات من المُستخدِمين.
أما في مجال الشُّئون المالية الشخصية، فسوف تُتابع النظم سير الاستثمارات، وتدفُّق مصادر الدَّخل، والنَّفقات الإلزامية والاختيارية، والديون وسداد الفوائد، ومُدَّخرات الطوارئ وما إلى ذلك، تمامًا كما يُتابع المُحلِّلُون الماليون الشئون المالية للشركات وفُرصها المُستقبليَّة. ولو تكامل هذا مع عمل الكيان الذكي الذي يُدير شئون الحياة اليومية، فسيُوفِّر ذلك فهمًا أعمق وأدق للجوانب المالية، ورُبما كان من فوائد ذلك أن يحرص النِّظام على خصم أي عقوباتٍ وقعت على الأطفال الأشقياء من مصروفهم الشهري قبل إعطائهم إيَّاه. وهكذا، يمكن للمرء أن يتوقع الحصول على نوعية النصائح المالية اليومية التي كانت مقتصرة في السابق على الأشخاص ذوي الثراء الشديد.
(١-٤) المنازل الذكيَّة والروبوتات المنزلية
ومن بين المهارات المادِّية الأساسية الثلاث المطلوبة للروبوت المنزلي حتى يكون مفيدًا — الإدراك وسهولة الحركة والبراعة — تُعدُّ المهارة الأخيرة أكثرها إشكالًا. والأمر كما عبَّرت عنه ستيفاني تاليكس أستاذة علم الروبوتات بجامعة براون فقالت: «مُعظم الروبوتات لا تستطيع التقاط مُعظم الأشياء في مُعظم الأوقات.» جزء من هذا يرجع إلى مشكلةٍ في حاسة اللمس، وجزء آخر يرجع إلى مشكلةٍ في التصنيع (فالأيادي ذات الأصابع الماهرة كُلفة تصنيعها عالية جدًّا حاليًّا) والجُزء الأخير يرجع إلى مُشكلةٍ في الخوارزمية؛ فإلى الآن، نحن لا نفهم جيِّدًا كيف ندمج قدرتي الحس والتَّحكم للإمساك والتَّلاعُب بالأشياء المُختلفة والمُتنوِّعة الموجودة في أرجاء المنزل العادي. وهناك العشرات من أنواع القبضات المُختلفة للإمساك بالأشياء الصلبة، والآلاف من مهارات التَّلاعُب المختلفة؛ كمهارة هزِّ العُلبة لإخراج حبتي دواءٍ فقط منها، أو نزع المُلصق من على برطمان مُربى، أو فرد الزُّبدة الجامدة على الخُبز الطَّري، أو إخراج شريطٍ واحدٍ من المكرونة الإسباجتي بشوكة ليرى هل نضجت وجاهزة للأكل أم ليس بعد.
وأوَّل من سيستفيد حقًّا من الروبوتات في المنازل هم كبار السِّن والضُّعفاء؛ فالروبوتات يمكن أن توفر لهم قدرًا من الاستقلال لم يكن ليُتاح لولا وجودهم. وحتى لو كانت قدرات الروبوت محدودة وفهمُه لما يحدث حوله فهمًا بدائيًّا، فيمكن أن يكون مفيدًا جدًّا رغم ذلك. أما الروبوت كبير الخدم، على الجانب الآخر، الذي يُدير المنزل بهدوءٍ وثقةٍ ويتوقَّع كل ما قد يُفكِّر فيه سيده، فهو حُلم بعيد حاليًّا؛ إذ يتطلَّب مستوًى قريبًا من الذكاء الاصطناعي العام المُضاهي للذكاء البشري.
(١-٥) الذَّكاء على نطاق عالمي
ومثل ذلك النِّظام، إن استطاع فقط أن يستخلص حقائق بسيطة ثمَّ يعمم كل تلك المعلومات على كل اللُّغات الموجودة، سيكون مصدرًا خارقًا للإجابة على الأسئلة وكشف الأنماط؛ رُبَّما يكون أقوى بكثيرٍ من محركات البحث التي تُقدَّر قيمتها الحالية بقُرابة التريليون دولار. وستكون قيمته البحثيَّة في مجالات مثل التاريخ وعلم الاجتماع لا تُقدَّر بثمن.
(٢) متى سنشهدُ وُصول الذكاء الاصطناعي الخارق؟
السبب الثاني لرفضي التَّنبؤ بتاريخٍ نشهدُ فيه الذكاء الاصطناعي الخارق هو أنِّي لا أرى أي عتبة واضحة أمامنا لنتخطَّاها. إن الآلات في الوقت الحالي تفوق القدرات البشرية في بعض المجالات والتي ستتوسَّع وتتعمَّق، ومن المُحتمَل أن تُؤدِّي بنا إلى نظم معرفةٍ عامةٍ خارقة، ونُظُم بحثٍ طبية حيوية خارقة، وروبوتات ماهرة وحاذقةٍ تتمتع بقدراتٍ خارقة، ونظم تخطيطٍ مُؤسَّسيةٍ خارقة، وهلُمَّ جرًّا؛ كُلُّ ذلك سيحدُث قبل أن يكون لدينا نظم ذكاءٍ اصطناعي خارق وعام بالكامل. وتلك النظم التي تحظى ﺑ «شبه ذكاءٍ خارقٍ» ستبدأ، فُرادى ومُجتمعة، في طرح العديد من المشاكل الشَّبيهة التي يطرحُها أي نظامٍ ذي ذكاءٍ عامٍّ.
ذات مرةٍ في اجتماعٍ للمنتدى الاقتصادي العالمي عام ٢٠١٥، أجبت على هذا السؤال حول متى قد نشهد حُلُول الذكاء الاصطناعي الخارق. كان ذلك الاجتماع مُنعقدًا في إطار قاعدة تشاتم هاوس؛ وهذا يعني أنَّ هُويَّة الحاضرين في ذلك الاجتماع ستكون سريَّة ولن يُعرف صاحب أي مشاركة أو رأي، وإنما يُكتفى بمضمون المشاركة أو الرأي. وحتى مع ذلك، ونبعًا من حرصٍ زائدٍ لديَّ، بدأت إجابتي بقولي: «إجابتي هذه سريَّة وليست للنشر بأي حالٍ من الأحوال …» وتوقَّعتُ حينها أنَّنا، إن لم نُبلَ بأيِّ كوراث مُعرقلة، فقد نشهدُ وُصول الذكاء الاصطناعي الخارق في حياة أولادي، الذين كانوا صغارًا جدًّا حينها ومن المُحتمل أن يعيشوا عُمرًا أطول بكثيرٍ من الكثير من الحاضرين في ذلك الاجتماع بفضل التَّقدُّم في العُلوم الطِّبية. لم تمض ساعتَان، حتى نُشِر مقال في جريدة «ذا ديلي تليجراف» يذكُر تعليقاتي بجانب صورٍ لروبوتات شريرة مُدمِّرة في ثورةٍ عارمة. وكان عنوان المقال: «الروبوتات «المختلة» قد تقضي على الجنس البشري كاملًا في غضونٍ جيلٍ واحد».
(٣) الطَّفرات المفاهيمية المُتصوَّرة في المُستقبل
بفهم «كيف» سيفشل هذا النِّظام، يستطيع باحثو الذكاء الاصطناعي أن يتعرَّفوا على المشاكل التي عليهم حلُّها؛ أي الطَّفرات المفاهيمية التي يحتاجون إليها، للوُصُول بمستوى الذكاء الاصطناعي إلى مُضاهاة الذكاء البشري. وسأبيِّن لكم الآن بعضًا من تلك المشاكل المُتبقِّية والتي إن حُلَّت، رُبما سنجد مشاكل أخرى، لكنَّها لن تكون كثيرةً ومُضنية.
(٣-١) اللُّغة والبديهة
ذكاء من غير معرفة، كمُحرِّك من غير وقود. البشرُ يكتسبون كمًّا هائلًا من المعرفة من أقرانهم من البشر؛ فالمعرفة تنتقل من جيلٍ إلى آخر عن طريق اللُّغة. بعض من تلك المعرفة عبارة عن حقائق؛ «أوباما انتُخب رئيسًا في عام ٢٠٠٩»، «كثافة النحاس تبلغ ٨٫٩٢ جرامات لكل سنتيمتر مكعَّب»، «قانون أور-نامو وضع عقوباتٍ للعديد من الجرائم»، وهلمَّ جرًّا. وهكذا فإننا نرى أنَّ قدرًا كبيرًا من المعرفة يكمُن في اللغة نفسها؛ في المفاهيم التي تُتيحُها. فكلمات مثل «رئيس» و«٢٠٠٩» و«كثافة» و«النُّحاس» و«جرام» و«سنتيمتر» و«الجرائم» وبقيَّة كلمات اللغة جميعها تحمل في طياتها قدرًا كبيرًا من المعلومات التي تُمثِّل خُلاصة عمليات الاكتشاف والتَّنظيم التي جعلت تلك الكلمات جزءًا من اللغة في المقام الأول.
لنأخذ على سبيل المثال كلمة «النُّحاس» التي تُشير إلى مجموعةٍ من الذَّرات في الكون، ثُمَّ نقارنها بكلمة «أرجلبرجليوم»؛ وهي كلمة عشوائية وضعتها من مُخيِّلتي لتسمية عددٍ من ذرات الكون اختيرت عشوائيًّا وتُساوي في كمِّيتها عدد ذرات النُّحاس. الواحدُ منَّا يُمكن أن يكتشف العديد من القوانين العامة والمُفيدة والتنبؤية حول النُّحاس؛ كثافتها وقدرتها على التوصيل، وقابليتها للطَّرْق، ودرجة حرارة انصهارها، وأصلها النَّجمي، ومُركَّباتها الكيمائية واستخداماتها العملية وهلُمَّ جرًّا. وفي المُقابل، لا يُمكننا قول أي شيء نهائيًّا حول مادة «أرجلبرجليوم». فالكائن الحي الذي يتحدَّث لُغةً تحتوي على كلماتٍ لا معنى لها مثل «أرجلبرجليوم» لن يكون قادرًا على أداء وظيفته، لأنَّه لن يكتشف أبدًا حالات الانتظام التي تجعله قادرًا على تخيُّل عالمه والتَّنبُّؤ به.
الآلات التي تفهم لُغات البشر فهمًا حقيقيًّا ستكون مُؤهَّلةً لتلقِّي كمياتٍ هائلةٍ من المعرفة البشرية على نحوٍ سريعٍ يجعلها تجتاز عشرات الآلاف من السنين من التَّعلُّم قضاها أكثر من مائة مليار إنسانٍ عاشوا على وجه الأرض. فمِن غير العملي أن نتوقع أن تُعيد الآلات اكتشاف جميع تلك المعرفة من الصفر، بداية من البيانات الحسيَّة الخام.
لكن، في الوقت الحالي، تقنية اللغة الطبيعية لا تقوى على تنفيذ مهمة قراءة وفهم ملايين الكُتب – التي قد يُحيِّر الكثير منها حتى إنسانًا ذا علمٍ وخبرة. إن نظم مثل نظام «واطسون» من تصميم شركة آي بي إم الذي هزم بطلي مُسابقة «المحك» الأمريكية هزيمةً ساحقةً عام ٢٠١١، يُمكنه استخلاص معلوماتٍ بسيطةٍ من حقائق واضحة من النُّصوص، لكنَّه يعجز عن بناء تراكيب معرفيةٍ مُعقَّدةٍ منها؛ ولا يُمكنه أيضًا الإجابة على الأسئلة التي تتطلب تفكيرًا منطقيًّا مُوسَّعًا في معلوماتٍ من مصادر مُتعدِّدة. على سبيل المثال، مهمَّة قراءة جميع الوثائق المُتاحة حتى نهاية عام ١٩٧٣ وتقييم (مع الشَّرح) النتائج المُتوقَّعة لعملية اتِّهام الرئيس الأمريكي حينها؛ نيكسون، بفضيحة «ووترجيت»، ستكون صعبة التحقيق في ضوء إمكانياتنا الحالية.
- (أ)
الأرض الحصباء.
- (ب)
الأرض الرملية.
- (جـ)
الأرض الأسفلتية.
- (د)
الأرض المُعشوشبة.
الآلة التي ستُجيب على هذا السؤال ستُواجه مصدري صُعوبة على الأقل. الأول هو المُشكلة التقليدية لفهم اللغة وما يعنيه هذا السؤال؛ تحليل البنية النَّحويَّة، وفهم معاني الكلمات وما إلى ذلك. (جرِّب ذلك بنفسك: استخدم أي موقعٍ من مواقع الترجمة الآلية المُتاحة على الإنترنت لتُترجم هذا السؤال إلى لُغةٍ تجهلُها، ثمَّ استخدم قاموسًا لتلك اللُّغة وحاول ترجمتها عكسيًّا إلى اللغة الأصلية.) أما مصدر الصُّعوبة الثاني، فهو الحاجة إلى بديهةٍ وإدراكٍ عام لكي تفهم الآلة أنَّ هذا السباق هو على الأرجح سباق بين أُناسٍ يرتدون أحذية التَّزلُّج (في أقدامهم)؛ وأنَّ «السَّطح» هو ما سيتزلَّج عليه المتزلجون وليس ما سيجلس عليه المُشجِّعون؛ وأنَّ كلمة «أفضل» تصف في هذا السِّياق سطح أرض السِّباق وهكذا دواليك. تخيَّل كيف قد تكون الإجابة إذا غيَّرنا عبارة «طُلاب الصَّف الرابع» إلى عبارة «مُدرِّبو مركز تدريبٍ عسكري ساديون».
وإذا أردنا أن نُلخِّص صعوبة الأمر فيُمكن لنا أن نقول إن القراءة تحتاج إلى معرفةٍ والمعرفةُ (في مُعظمها) تأتي من القراءة. بعبارةٍ أخرى، نحن نُواجه مُعضلة الدجاجة والبيضة الكلاسيكية. قد نأمل إذن في وجود عملية تمهيدٍ ذاتي تُمكِّن النظام من قراءة بعض النصوص السهلة واكتساب بعض المعرفة منها، ثمَّ استخدام تلك المعرفة لقراءة نُصوصٍ أصعب ليكتسب معرفةً أكثر وهكذا دواليك. ولسوء الحظِّ، ما يحدُث غالبًا هو العكس؛ فالمعرفة المُكتسبة معظمها خاطئ؛ ومن ثمَّ تُسبِّب أخطاء في القراءة التي تؤدِّي بدورها لمعرفةٍ أكثر خطأً وتستمرُّ الدائرة.
(٣-٢) التعلم التراكمي للنظريات والمفاهيم
كان ذلك مُمكنًا بسبب تراكم المعرفة والمفاهيم وتبادلهما بين آلاف البشر عبر قرونٍ من البحث والمُشاهدة. بدايةً من طاليس الملطي الذي كان يفرُك حجر الكهرمان بالصُّوف ويُراقب شُحنة الكهرباء الساكنة وهي تنتُج، ومُرورًا بالعالم جاليليو الذي كان يُلقي الأحجار من أعلى بُرج بيزا المائل، وانتهاءً بنيوتن الذي رأى تُفاحةً تسقط من شجرة، وغيرهم الآلاف من الباحثين والمُشاهدين للظواهر الكونية، استطاعت البشرية أن تضع تدريجيًّا طبقة فوق أخرى من المفاهيم والنَّظريات والآلات؛ مثل الكُتلة والسُّرعة المتجهة والتَّسارُع والقوة وقوانين نيوتن للحركة والجاذبية، ومعادلات المدارات، والظواهر الكهربية، والذرات والإلكترونات والحقول الكهربية والحقول المغناطيسية والموجات الكهرومغناطيسيَّة، والنسبية العامة والخاصة، وميكانيكا الكم وأشباه الموصِّلات ووحدات الليزر وأجهزة الكمبيوتر وما إلى آخره.
يُمكننا، من حيث المبدأ، أن نفهم عملية الاكتشاف هذه بأنَّها تحويل لكل البيانات الحسية التي خبرَها البشر جميعًا إلى فرضيَّة شديدة التَّعقيد حول البيانات الحسية التي رصدها علماء مرصد «ليجو» في يوم ١٤ سبتمبر عام ٢٠١٥ بينما هم ينظرون إلى شاشات أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. هذه هي ما تُسمَّى بطريقة التَّعلُّم المُستنِدة إلى البيانات استنادًا محضًا؛ فالبيانات هي المُدخلات، والفرضيات هي المُخرجات وما بين هذا وذلك صُندوق أسود. وإذا ما أمكننا تنفيذ هذه الطريقة، فسنشهد ذروة نجاح منهج التَّعلُّم المُتعمِّق الذي شعاره «بيانات أكثر، شبكة أكبر»، ولكن مع الأسف لا يُمكن تنفيذها. والفكرة الوحيدة المعقولة التي لدَينا الآن وتُفسِّر كيف لكيانات ذكيةٍ أن تُحقِّق شيئًا فريدًا كأن تكتشف أنَّ ثُقبَين أسودَين قد اندمجا معًا، هي أنَّ «المعرفة الفيزيائية المُسبقة» لعلماء المرصد إلى جانب بيانات الرَّصد من أجهزتهم مكَّنتهم أن يتوقَّعوا حدوث اندماج الثُّقبَين معًا. أضف على ذلك أنَّ تلك المعرفة المُسبقة ذاتها كانت نتيجةً للتَّعلُّم بمعرفةٍ مُسبقة أخرى، وهكذا حتى بداية التاريخ البشري. ولذلك فنحن لدَينا، تقريبًا، صُورة «تراكُميَّة» عن كيف يمكن أن تستخدم الكيانات الذكية المعرفة كمادة لبناء قدراتها التنبُّؤية.
قُلتُ «تقريبًا» لأنَّ العلم، بلا شكٍّ، قد انعطف إلى مساراتٍ خاطئةٍ في مراتٍ قليلة فيما مضى من القرون، فنراه ينحرف مُؤقَّتًا سعيًا وراء مفاهيم خياليةٍ مثل الأثير المُضيء والفلوجيستون. لكنَّنا نعرف حقيقةً أن الصُّورة التَّراكُميَّة هي ما حدث «بالفعل»، من حيثُ إن جميع العلماء عبر العُصور دوَّنُوا اكتشافاتهم ونظرياتهم في الكُتب والأبحاث العلمية، ثمَّ أتى العُلماء المتأخِّرون ووجدوا بين أيديهم سُبُل المعرفة الصريحة هذه، وليس التجارب الحسية الأصليَّة للأجيال السابقة البائدة. ولأنَّ أعضاء فريق مرصد «ليجو» عُلماء حقًّا، فقد فطنوا إلى أنَّ جميع أجزاء المعرفة التي استخدموها، بما في ذلك نظرية النسبية العامة لأينشتاين، ما تزال في فترةٍ اختباريةٍ (وستبقى هكذا للأبد) و«رُبَّما» يثبُت خطؤها بالتَّجربة في وقتٍ ما. ولكن تبيَّن أنَّ البيانات التي أصدرها المرصد قدَّمت دليلًا دامغًا على صحة نظرية النِّسبية العامة، بالإضافة إلى طرح أدلةٍ أخرى على أنَّ الجرافيتون، وهو جُسيْم افتراضي حامل لقوة الجاذبية، إنما هو جُسَيْم عديم الكُتلة.
الأمر الأول هو: ما الذي يجب أن يُضمَّن في «البيانات» التي تُستقى منها التَّنبؤات؟ فمثلًا، في تجربة مرصد «ليجو»، كان النَّموذج، الذي استُعمل للتَّنبؤ بمقدار تمدُّد الفضاء وانكماشه عندما وصلت موجات الجاذبية، يأخذ في حُسبانه معلوماتٍ مثل كُتلتي الثُّقبَين الأسودين المُتصادمين، وسُرعة دوران أحدهما حول الآخر وما إلى ذلك، لكنَّه لم يلتفِت إلى بياناتٍ مثل، في أيِّ يوم من أيام الأسبوع كان ذلك الاصطدام بين الثُّقبَين، أو جدول مباريات الدوري المُمتاز للعبة البيسبول. على الجانب الآخر، فإن النَّموذج المُصمَّم ليتنبأ بالحركة المُروريَّة على جسر سان فرانسيسكو-أوكلاند لا محالة سيأخُذ أيام الأسبوع في اعتباره، وسيُراعي بلا شكٍّ جدول مباريات الدوري المُمتاز للعبة البيسبول، وفي الوقت ذاته، سيتجاهل بياناتٍ ككُتلتَي الثَّقبَين الأسودَين المُتصادمَين وسُرعة دورانهما. وبالمثل، فإنَّ البرمجيات التي تتعلَّم كيفية التَّعرُّف على «أنواع» العناصر في الصور تستخدِم البكسلات كمُدخلاتٍ لها، بينما البرمجيات التي تتعلَّم مهارة تقدير «قيمة» القطع الأثرية يجب أن تعرف معلوماتٍ مثل، المادة التي صُنعت منها كل قطعة، ومَن صنعها ومتى، وتاريخ استخدامها وملكيَّتها وما إلى ذلك. قد تتساءل: لماذا كل هذه المعلومات؟ ببساطةٍ، لأننا نحن البشر نعرف ولو قليلًا من المعلومات عن موجات الجاذبية وحركة المُرور والصُّور المرئية وقطع الأثاث. ونحن نستخدم تلك المعرفة لتحديد المُدخلات المطلوبة للتَّنبؤ بمُخرجاتٍ مُحدَّدة. وهذا يُسمَّى ﺑ «هندسة الخصائص»، وإجادة تنفيذ تلك العملية يتطلَّب فهمًا جيدًا لِما يُراد التَّنبؤ به بالتَّحديد.
الأمر الثاني والذي رُبما يكون أكثر أهميةً، هو الإنتاج التَّراكُمي لمفاهيم جديدة مثل الكُتلة والتَّسارع والشُّحنة والإلكترون وقوة الجاذبية. فبدون تلك المفاهيم، سيُضطرُّ العُلماء (والعامَّة من الناس) إلى تفسير العالَم المُحيط بهم والتَّنبؤ على أساس المُدخلات الإدراكية الأولية. ولكن إذا تتبَّعنا سَير التاريخ، فإننا نرى أنَّ نيوتن استطاع أن يُكمل ما بدأه جاليليو وغيره من تطويرٍ لمفهومي الكُتلة والتَّسارُع، ونجد أنَّ إرنست رذرفورد قد استطاع أن يثبت أنَّ الذرة تتكوَّن من نواة ذات كثافةٍ وذات شُحنةٍ موجبةٍ وتدور حولها الإلكترونات، لأنَّ مفهوم الإلكترون كان قد طُوِّر في أواخر القرن التاسع عشر (على يد العديد من الباحثين الذين ساهموا بخطواتٍ صغيرةٍ، الواحدة تلو الأخرى). وبلا شكٍّ، فإن جميع الاكتشافات العلمية مبنيَّة على طبقةٍ فوق الأخرى من المفاهيم التي تمتدُّ عبر الزمان وتتخلَّلُها جميع الخبرات البشرية المُكتسبة.
أما في وقتنا الحالي، فنحن نعرف كيف نفعل هذا في الحالات البسيطة نسبيًّا، ولكن في حالات النَّظريات الأشد تعقيدًا، فإن العدد المُحتمَل للمفاهيم الجديدة التي يُمكن أن تُطرح يُصبحُ عددًا هائلًا لا طاقة لنا به. وهذا يجعل التَّقدُّم الحالي في طرق التَّعلُّم المُتعمِّق في مجال الرؤية الحاسوبية أمرًا مُثيرًا للفُضُول والاهتمام. فالشَّبكات المُعمَّقة غالبًا ما تنجح في التَّعرُّف على سماتٍ وسيطة مفيدةٍ مثل العينين والساقين، والخُطوط والزَّوايا، رُغم أنَّها تعمل بخوارزميات تعلُّمٍ شديدة البساطة. وإذا ما استطعنا أن نفهم على نحوٍ أفضل كيفية حدوث هذا الأمر، يُمكننا تطبيق نفس هذا المنهج لتعلُّم مفاهيم جديدة باللُّغات الأكثر تعبيرية التي تحتاجها العُلوم. هذا الأمر بالتَّحديد سينقل البشرية نقلةً نوعيةً وسيكون خُطوةً فارقةً نحو الذكاء الاصطناعي العام.
(٣-٣) اكتشاف الأفعال
يتطلَّب السُّلوكُ الذَّكي لفتراتٍ طويلةٍ القُدرة على التخطيط للنشاط وإدارته على نحوٍ تسلسُليٍّ؛ وعبر العديد من مُستويات التَّجريد؛ بدايةً مثلًا من تحضير رسالة الدكتوراه (حوالي تريليون فعل)، إلى إرسال أمر تحكُّمٍ حركيٍّ إلى إصبعٍ من أصابع اليد لكتابة حرفٍ واحدٍ في الخطاب التَّقديمي.
أفعالُنا مُرتَّبة في تسلسُلاتٍ هرميَّةٍ مُعقَّدةٍ تنطوي على «عشرات» المستويات من التَّجريد. وتلك المستويات وما تحتويه من أنشطةٍ هي جُزء رئيسيٌّ من حضارتنا البشرية، ويُسلِّمُها جيل إلى آخر عبر وعاء اللغة والمُمارسات العمليَّة. على سبيل المثال، أفعال مثل «صيد خنزيرٍ بريٍّ» أو «التَّقدُّم للحصول على تأشيرة الدخول لبلدٍ ما» و«حجز تذكرة طيرانٍ» قد يتخلَّلُها الملايين من الأفعال البدائية، ومع ذلك فنحن قادرون على التَّفكير فيها كوحدات فردية لأنَّها موجودة بالفعل في «مكتبة» الأفعال التي تُوفِّرها لنا لُغتنا وثقافتنا، ولأنَّنا ندري (بدرجاتٍ مُتفاوتة) كيفية إنجازها.
بمجرد أن تُوجَد تلك الأفعال في المكتبة، فإننا نستطيع أن نشبكها مع أفعال أخرى أكثر تعقيدًا، مثل إقامة مأدبة لأبناء القبيلة بمناسبة الانقلاب الصيفي، أو الشُّروع في بحثٍ أثريٍّ في فصل الصيف بمنطقةٍ نائيةٍ بدولة نيبال. ومُحاولة التَّخطيط لتلك الأنشطة من الصِّفر، بدءًا من خُطوات التحكم الحركيِّ الأكثر بساطة، سيكون ضربًا من العبث، لأنَّ تلك الأنشطة تحوي الملايين أو المليارات من الخُطُوات التي يكون مُعظمها عصِيًّا بشدةٍ على التَّنبؤ. (فأين يا تُرى نجد خنزيرًا بريًّا، وفي أي اتِّجاه سيحاول أن يلُوذ بالفرار؟) أما إذا توفَّرت الأنشطة المعقدة المُناسبة في مكتبتنا، ففي هذه الحالة سنحتاج أن نُخطِّط لبضع خطواتٍ أو نحو ذلك فقط، لأنَّ كُلَّ خطوةٍ من تلك الخطوات ما هي إلا جُزء رئيسيٌّ من أجزاء النَّشاط ككُل. وهذا شيء حتى أدمغتنا الواهنة، نحن البشر، قادرة على التَّعامل معه، لكنه، في الوقت ذاته، يُعطينا «قُوَّةً خارقةً» على التَّخطيط لفتراتٍ زمنيةٍ طويلة.
في الوقت الحالي، لدينا فقط بعض القطع الرَّئيسيَّة للصورة الكلية هذه في مكانها الصَّحيح لبناء نظم ذكاءٍ اصطناعي. وإذا ما توفَّر تسلسُل الأنشطة المُجرَّدة — بما في ذلك معرفة كيفية تحويل كل نشاطٍ مُجرَّدٍ إلى خطة فرعية تتكوَّن من أنشطة ملمُوسة أكثر — حينها سيكون في حوزتنا خوارزميات تستطيع بناء خُططٍ مُعقَّدةٍ لتحقيق أهدافٍ مُحدَّدة. حاليًّا، هناك خوارزميات تستطيع تنفيذ خُططٍ مُجرَّدة ومُتسلسلة هرميًّا بحيث يكون دائمًا لدى الكيان الذكي نشاط بدائي وبدني «جاهز للتنفيذ الفوري»، حتى لو كانت الأنشطة المُستقبلية ما تزال في طور التَّجريد وليست قابلة للتَّنفيذ بعد.
ستصير الآلات الذكية التي تتمتَّع بهذه القُدرة مؤهَّلةً للنظر إلى مسافةٍ أبعد في المُستقبل والتَّنبؤ به أفضل من البشر. كما سيكون بإمكانها أن تأخذ بعين اعتبارها مزيدًا من المعلومات الهائلة. هاتان القُدرتان معًا ستقودانها لا محالة إلى اتِّخاذ قراراتٍ واقعيةٍ أفضل. وفي أي نوعٍ من أنواع الصراع بين البشر والآلات، سنجد سريعًا، مثل لي سيدول وجاري كاسباروف، أن خُطواتُنا القادمة جميعها قد توقَّعتها الآلات وصدَّتها. وهكذا سنخسر، نحن البشر، الصراع قبل أن يدقَّ طبوله أصلًا.
(٣-٤) إدارة الأنشطة العقلية
إذا كنت تظُنُّ أن إدارة الأنشطة في العالم الواقعي تبدو مُعقَّدةً، فما بالك بإدارة أنشطة «أكثر الأشياء تعقيدًا في هذا الكون»، والذي هو عقلك المسكين؟ إننا نُولد ونحن لا نعرف أي شيءٍ عن كيفية التَّفكير، تمامًا كما لا نعرف أيَّ شيءٍ عن كيفية المشي أو عزف البيانو. إننا نتعلم كيف نُفكِّر. إن بإمكاننا، إلى حدٍّ ما، أن «نختار» أي أفكارٍ نحملُها في دماغنا. (هيا، فكِّر في شطيرة همبُرجر لذيذة ودسمة، أو فكِّر في لوائح نظام الجمارك البلغارية. إنه خيارك!) بطريقة ما، تُعدُّ أنشطتنا العقلية أكثر تعقيدًا من أنشطتنا في العالم الواقعي. وهذا راجع إلى أنَّ أدمغتنا بها أجزاء متحرِّكة أكثر بكثيرٍ من أجسادنا، وتلك الأجزاء تتحرَّك بسرعةٍ فائقة. والأمر ينطبق على أجهزة الكمبيوتر أيضًا؛ فمثلًا لكلِّ تحرُّكٍ من تحرُّكات برنامج «ألفا جو» على رُقعة لُعبة جو، يجرى تنفيذ «ملايين» أو «مليارات» من وحدات الحوسبة، وكُلُّ وحدةٍ من تلك الوحدات تقتضي إضافة فرعٍ لشجرة البحث الاستباقي ثُمَّ تقييم وضع الرُّقعة في نهاية هذا الفرع. وتُنفَّذ كلُّ واحدةٍ من تلك الوحدات لأنَّ البرنامج يختار أي فرعٍ من فُروع شجرة البحث الاستباقي الذي سيجري استكشافه في الخُطوة القادمة. وعلى نحوٍ تقريبي، فإن «ألفا جو» يختار وحدات الحوسبة التي يتوقع أنَّها ستُحسِّن قراره النهائي في التَّحرُّك على الرُّقعة.
لقد تمكَّنا من وضع نظامٍ مقبول لإدارة نشاط برنامج «ألفا جو» الحوسبيِّ لأنَّ ذلك النَّشاط بسيط ومُتجانس؛ فكُلُّ وحدةٍ من وحدات الحوسبة مثل التي قبلها. وبمُقارنة برنامج «ألفا جو» بالبرامج الأخرى التي تستخدم نفس الوحدة الأساسية للحوسبة، ستجد على الأرجح أنَّه شديد الكفاءة، ولكن إذا ما قُورن بأنواع أخرى من البرمجيات، فربما سنجده عديم الكفاءة بشدَّة. فمثلًا، لي سيدول، الخصم البشري لبرنامج «ألفا جو» في المُباراة التاريخيَّة عام ٢٠١٦، كان على الأرجح لا يُنفِّذ أكثر من بضعة آلافٍ من وحدات الحوسبة في كُلِّ خُطوة، لكنَّه كان لديه هيكل حوسبي أكثر مرونة بكثير، به أنواع مُختلفة من وحدات الحوسبة، بما في ذلك تقسيم الرُّقعة إلى أجزاءٍ فرعية ثُمَّ مُحاولة التَّركيز على كُلِّ جزءٍ على حدةٍ وحلُّه؛ وتمييز الأهداف المُحتملة ووضع خُططٍ معقدة ذات أنشطة مثل «حافظ على هذه المجموعة معًا» أو «صُدَّ الخصم وامنعه من توصيل هاتين المجموعتَين معًا»؛ وأيضًا استبعاد فئات كاملة من التَّحرُّكات لأنَّها تفشل في التعامل مع أحد الأخطار الشَّديدة.
ببساطة، نحن لا نعرف كيفية تنظيم مثل هذه الأنشطة الحوسبيَّة المُعقَّدة والمُختلفة؛ أي كيفية الدمج بين نتائج كُلٍّ منها والبناء عليها، وكيفية تخصيص الموارد الحوسبيَّة للأنواع المُختلفة من التَّفكير والتدبُّر حتى نجد قراراتٍ جيدةً بأسرع ما يُمكن. من الواضح، مع ذلك، أنَّ هيكلًا حوسبيًّا بسيطًا كهذا الذي لدى برنامج «ألفا جو» لا يُمكنه العمل في العالم الحقيقي حيث نحتاج إلى التَّعامل على نحوٍ اعتيادي مع آفاق قراراتٍ تحتوي ليس على العشرات بل المليارات من الخُطوات البدائية، وحيث عدد الأنشطة المُمكنة في أي نقطةٍ هو تقريبًا عدد لا نهائي. من المُهمِّ أن نتذكَّر أن أي كيانٍ ذكي في العالَم الواقعي لن يكون مُقتصرًا على «لعب» لُعبة جو فقط، أو حتى «إيجاد مفاتيحي»؛ فهو يُمكنه فعل «أي شيء» بعد ذلك، لكنَّه لا يُمكنه على الأرجح التَّفكير في جميع الأشياء التي قد يفعلها.
إن أي نظامٍ يُمكنه اكتشاف أفعال معقدة جديدة، كما فصَّلنا سابقًا، بالإضافة إلى إدارة أنشطته الحوسبيَّة للتَّركيز على وحدات الحوسبة التي تُفضي بسرعة إلى تحسُّنٍ كبير لجودة اتَّخاذ القرارات، سيكون صانع قرارٍ لا يُقهَر في العالم الواقعي. وسيضاهي تفكيره وتدبُّره ما عليه البشرُ من «كفاءةٍ معرفية»، لكنَّه لن يُعاني من الذاكرة الضَّعيفة القصيرة الأمد، أو الإمكانات البطيئة اللتين تُحجِّمان بشدةٍ قدرتنا على استشراف المُستقبل، ومعالجة عددٍ كبير من الأمور الطارئة ووضع عددٍ كبير من الخُطط البديلة.
(٣-٥) أهذا كُلُّ شيء؟
إذا وضعنا معرفتنا عن كلِّ شيءٍ يُمكننا فعله جنبًا إلى جنبٍ مع جميع التَّطوُّرات الجديدة الممكنة المعروضة بين دفَّتي هذا الفصل، فهل سُيجدي هذا نفعًا؟ وكيف سيكون سُلوك النِّظام الناتج؟ ظنِّي أنَّه سيشُقُّ عُباب الزَّمن وسيكتسب كمياتٍ هائلة من المعلومات، وسيُتابع أوضاع العالَم على نطاقٍ واسعٍ عبر المُشاهدة والاستنتاج. وشيئًا فشيئًا، سيُحسِّن من نماذج تصوُّراته عن العالم (بما في ذلك تصوُّراته عن البشر)، وسيستخدم تلك النَّماذج لحلِّ المشاكل المُعقَّدة وسيختزل عمليات الحل ويُعيد استخدامها ليجعل من طريقة تفكيره وتدبُّره طريقةً ذات كفاءة أعلى وليتمكَّن من إيجاد حُلولٍ للمشاكل الأكثر تعقيدًا. وسيكتشف النظام مفاهيم وأنشطة جديدة ستُمكِّنه من تحسين مُعدَّل الاكتشاف لديه، وسيستطيع وضع خُططٍ فعالةٍ لفتراتٍ زمنيةٍ أطول.
خُلاصة القول هي أنَّ من الجليِّ أن لا شيء آخر ذا قيمةٍ كبيرة ينقُصُ هذا الطَّرح، من وجهة نظر النُّظم التي تعمل بكفاءةٍ لتحقيق غاياتها. وبلا شكٍّ، فإن الطريقة الوحيدة لنتأكد من ذلك هي بناء هذا النظام (بعد أن نُحقِّق ما ينقُصُنا من طفراتٍ علميَّةٍ) ثم رؤية ما سيحدُث.
(٤) تخيل كيف هي الآلة ذات الذكاء الخارق
والآن تخيَّل معي أنَّ مُحرِّكات البحث غير موجودةٍ بعدُ لأنَّ العمل المطلوب على مدى عقود لاختراعها لم يُنجز، لكن في الوقت ذاته، لدَينا نظام ذكاءٍ اصطناعي خارق. ببساطة، حينها إذا طلبنا من هذا النظام ابتكار مُحرِّكات البحث، فسيكون لدَينا تقنية محرِّكات البحث في غمضة عين، وكل ذلك لأن لدَينا نظام ذكاء اصطناعي خارقًا بين يدينا. سيكون لدينا تقنية بقيمة تريليونات من الدولارات بطلبٍ واحدٍ فقط، ولن نُضطرَّ حتى إلى كتابة سطرٍ واحد إضافي من الشَّفرة البرمجيَّة. قس على ذلك أي اختراع أو سلسلة اختراعات تنقُصُنا؛ فما يُمكن للبشر فعلُه، يُمكن للآلة فعلُه.
هذه النُّقطة الأخيرة تُعطينا حدًّا أدنى مفيدًا (أي تقديرًا مُتشائمًا) لما يُمكن للآلات ذات الذكاء الاصطناعي الخارق فعله. افتراضيًّا، الآلة لدَيها قُدُراتٍ تفوق قُدرة أيِّ إنسانٍ بمُفرده. وهناك أشياءُ كثيرة لا يقدر على فعلها إنسان بمُفرده، لكنَّ جماعةً من البشر عددها «ن» تستطيع تنفيذها، ومثالُ ذلك إرسالُ رائد فضاءٍ إلى القمر، أو صُنع كشاف لموجات الجاذبيَّة، أو اكتشاف تسلسُل الجينوم البشري، أو حُكمُ دولةٍ بها مئات الملايين من الناس. لذا وعلى نحوٍ تقريبي، فإننا سنبني عدد «ن» من نُسخ برنامج الآلة ثُمَّ نُوصل بعضها ببعضٍ بالطريقة ذاتها، مع تزويدها بنفس المعلومات وتدفقات التحكُّم، كما نفعل مع عدد «ن» من البشر. حينها سيكون لدَينا آلة واحدة تستطيع أن تُنفِّذ أي شيءٍ تستطيع مجموعة البشر التي عددها «ن» فعله، بل وبجودةٍ أفضل؛ لأنَّ كُلًّا من المكونات التي عددها «ن» للآلة هو في حدِّ ذاته بمثابة إنسان خارق.
من الطرق المُفيدة الأخرى لتوسيع خيالك التَّفكير في شكلٍ ما من أشكال المُدخلات الحسِّيَّة، القراءة على سبيل المثال، ثُمَّ توسيع نطاق التفكير. بينما يُمكن للإنسان أن يقرأ ويستوعب كتابًا واحدًا في الأسبوع، يمكن للآلة أن تقرأ وتفهم جميع الكُتُب التي خطَّتها يد البشر، والتي عددها ١٥٠ مليون كتابٍ، في ساعاتٍ قليلة. هذا العمل سيتطلَّبُ كميَّةً لا بأس بها من قُدرة المُعالجة الحاسُوبيَّة، لكنْ يُمكن أن تُقرأ تلك الكتبُ على نحو كبير بالتَّوازي؛ وذلك بإضافة مزيدٍ من الرُّقاقات التي تسمح للآلة أن تُوسِّع من حجم عملية القراءة. ومن نفس المُنطلق، يُمكن للآلة أن ترى كُلَّ شيءٍ في وقتٍ واحد عبر الأقمار الصِّناعيَّة، والروبوتات ومئات الملايين من كاميرات المُراقبة؛ وتُشاهد جميع محطات التِّلفزيون في العالم في وقتٍ واحد؛ وتستمع إلى جميع المحطات الإذاعية والمُكالمات الهاتفيَّة على مُستوى العالم أيضًا. فبسرعة شديدة، ستكون الآلة قد كوَّنت فهمًا مُفصَّلًا ودقيقًا عن العالم وسُكانه، أفضل بكثيرٍ مما قد يطمُح إليه أيُّ إنسان.
يمكن أن يتخيَّل المرء أيضًا أن تتوسَّع الآلات في قدرتها على الفعل. إن الإنسان المُفرد لا يملك أي تحكُّمٍ مُباشرٍ إلا في جسدٍ واحدٍ فقط، بينما الآلة المُفردة يُمكن أن تتحكَّم في الآلاف أو ملايين الآلات الأخرى. والعديد من المصانع المُؤتمتة تستغلُّ هذه الخاصية وتُطبِّقُها بالفعل. أما إذا نظرنا إلى تطبيقات الأمر خارج المصانع، فآلة واحدة يُمكنها أن تتحكَّم بالآلاف من الروبوتات الماهرة لبناء عددٍ كبير من المنازل، على سبيل المثال، يكون كُلُّ منزلٍ فيها مُصمَّمًا ومبنيًّا حسب احتياجات ورغبات سُكانه المُستقبليِّين. أما في المُختبرات، فيُمكن للنظم الآلية الحالية للبحث العلمي أن تُطوِّر قدراتها لتنفيذ ملايين التَّجارب في آنٍ واحد، ورُبَّما لإنشاء نماذج تنبُّئيةٍ كاملةٍ خاصة بعلم الأحياء البشري يُمكن أن تصل إلى المُستوى الجُزيئي. لاحظ أنَّ قُدرات الآلة الخاصة بالتفكير ستجعلها قادرةً أكثر على اكتشاف نقاط التَّضارُب بين النظريات العلمية، وبين النَّظريات والمُلاحظات. ولا يُستبعد أنَّنا، في وقتنا الحالي، لدينا ما يكفي من الأدلة التجريبية حول علم الأحياء البشري لوضع علاجٍ لمرض السَّرطان، لكنَّنا لم نُرتِّبها معًا بعْد.
في العالم الإلكتروني، تستطيع الآلات بالفعل الوصول إلى ملياراتٍ من أدوات التَّوجيه؛ وأعني بذلك شاشات كل الهواتف وأجهزة الكمبيوتر في العالم بأسره. وهذا يُفسِّر جزئيًّا قُدرة شركات تكنولوجيا المعلومات على تحقيق ثروةٍ طائلةٍ بعددٍ قليل جدًّا من المُوظَّفين، وهذا الأمر يُشير أيضًا إلى مدى ضعف الجنس البشري وسُرعة تأثُّره بالتَّلاعُب الذي يتعرَّض له عبر الشاشات.
هُناك توسع من نوعٍ آخر يأتي من قُدرة الآلات على استشراف المُستقبل بدقَّةٍ أكبر تفُوق قدرة البشر. لقد رأينا هذا يحدُث بالفعل في لُعبتي الشطرنج وجو، وإذا ما أضيف للآلات قُدُرات مثل وضع وتحليل خُططٍ بعيدة الأمد ذات تسلسُلٍ هرميٍّ؛ واكتشاف أنشطة مجردة جديدةٍ ونماذج وصفيَّة معقدةٍ، فستُنقل هذه الميزة لخدمة مجالات مثل الرياضيات (مما يُؤدِّي لإثبات نظرياتٍ جديدة ومُفيدة)، وعملية اتِّخاذ القرارات في العالم الواقعي. وستكون مهامُّ مثل إخلاء مدينةٍ كبيرةٍ من سُكانها في حالة إحدى الكوارث البيئيَّة، بسيطةً نسبيًّا؛ فالآلات سيكون بإمكانها إصدار توجيهاتٍ فرديَّة مُخصَّصة لكلِّ شخصٍ ووسيلة نقلٍ لتقليل عدد الضَّحايا.
قد تُضطرُّ الآلات إلى بذل جُهدٍ إضافيٍّ قليل عند محاولة إيجاد اقتراحاتٍ للسياسات العامة للحدِّ من الاحتباس الحراري العالمي. فالتَّخطيط لنُظُمٍ خاصة بكوكب الأرض يتطلَّبُ معرفةً كافيةً بعلم الفيزياء (الغلاف الجوي والمُحيطات)؛ وعلم الكيمياء (دورة الكربون وأنواع التُّربة)؛ وعلم الأحياء (عملية التَّحلُّل والهجرة)؛ والهندسة (الطاقة المُتجدِّدة، واحتباس ثاني أكسيد الكربون)؛ وعلم الاقتصاد (الصِّناعة واستخدامات الطاقة)؛ والطَّبيعة البشرية (الغباء والجشع)؛ والسياسة (غباء أكثر وجشعٌ أكبر). وكما ذكرنا، فالآلات سيكون تحت أيديها كميات ضحمة من الأدلة لتغذية جميع تلك النَّماذج، كما ستكون قادرةً على اقتراح أو تنفيذ تجارب وحملاتٍ استكشافيَّةٍ جديدةٍ للتقليل من حالات عدم اليقين الحتميَّة؛ مثلًا، الوصول إلى الحجم الحقيقي لهيدرات الغاز في خزانات المُحيط الضحلة. كما ستكون الآلات قادرةً على التَّفكير في اقتراحاتٍ للسِّياسة العامة لعددٍ كبيرٍ من المجالات كالقوانين والوكزات بمفهومها السُّلوكي والأسواق والاختراعات وتدخُّلات الهندسة المناخيَّة، لكنَّها بلا شكٍّ ستحتاج لإيجاد طرق لتُقنعنا بالمُوافقة على تلك الاقتراحات وانتهاجها.
(٥) قيود الذَّكاء الاصطناعي الخارق
وكلامي هذا لا يعني أنَّ من المُستحيل التَّنبؤ ﺑ «بعض جوانب» المُستقبل بدرجةٍ مقبولةٍ من اليقين؛ فمثلًا، أنا أعرف أي مادةٍ سأُدرِّس وفي أي قاعةٍ في الجامعة ببيركلي بعد عامٍ تقريبًا من الآن رغم تأكيدات عُلماء نظرية الفوضى بشأن أجنحة الفراشات وتأثيرها وما إلى ذلك. (وأنا لا أعتقد أيضًا أنَّ البشر قد اقتربوا بأي نحو من التَّنبؤ بالمُستقبل في حُدود ما تُتيحُه قوانين الفيزياء!) إن التَّنبؤ بالمُستقبل يعتمدُ على وجود المُجرَّدات الصحيحة؛ فمثلًا، أنا أستطيع أن أتنبأ «أنِّي» سوف أقفُ «على منصَّة قاعة ويلر» في حرم جامعة بيركلي في آخر ثلاثاء من شهر أبريل، لكني لا أستطيع أن أتنبَّأ بموقعي على المنصَّة بدقةٍ قياسًا بالملِّيمتر، أو بأيٍّ من ذرات الكربون ستتَّحد مع جسدي في ذلك الوقت.
على الجانب الآخر، يُمكن لعالِم آلي أن يُجري بالتَّوازي عددًا هائلًا من تجارب بناء النموذج، ثُمَّ يدمج نتائج تلك التَّجارب في نموذجٍ مُتَّسقٍ داخليًّا (لكنَّه شديد التَّعقيد)، ثُمَّ يُقارن تنبُّؤات النَّموذج بجميع الأدلة التجريبية المُثبتة في علم الأحياء. زد على ذلك أنَّ مُحاكاة النموذج لا تتطلَّب بالضَّرورة محاكاةً فيزيائية كمية للكائن الحيِّ بالكامل حتى نصِل إلى مستوى التفاعُلات الجزيئية المُفردة. تلك المُحاكاة، كما أوضح كفن كلي، قد تستغرق وقتًا أطول من وقت إجراء التَّجربة في العالم الواقعي. ومثلما أستطيع أن أتنبَّأ، ببعض اليقين، بمكاني المُستقبلي في أيام الثلاثاء من شهر أبريل، يُمكن التنبؤ بدقةٍ بخصائص النُّظُم الأحيائيَّة باستخدام النَّماذج المُجرَّدة. (يرجع هذا، من ضمن أسبابٍ أخرى، إلى أنَّ علم الأحياء يسيرُ على نظم تحكُّمٍ حازمةٍ تعتمد على حلقات التَّقييم المُستمرَّة بحيث لا تؤدي عادة التغيرات الطَّفيفة في الظروف الأولية إلى تغيُّراتٍ كبيرة في النَّتائج.) وهكذا، رغم أن مُساهمة الآلات باكتشافاتٍ «فوريةٍ» في مجال العلوم التَّجريبيَّة تكادُ تكون حُلمًا بعيد المنال، فإنَّنا يُمكن أن نتوقَّع أن العُلُوم سوف تتقدَّم على نحوٍ أسرع بمُساعدتها. وبالفعل هذا واقع نراه بأمِّ أعيُننا في وقتنا الحاضر.
(٦) كيف سينتفع البشرُ بالذَّكاء الاصطناعي؟
إن تلك التَّطبيقات الحاليَّة للذكاء الاصطناعي هي نظم مُخصَّصة لأهدافٍ بعينها؛ فالسيارات الذاتية القيادة والمناجم الذاتية التشغيل تطلَّبت استثماراتٍ ضخمة في البحث والتَّصميم الميكانيكي وهندسة البرمجيات وإجراء الاختبارات لتطوير الخوارزميات الضرورية والتأكد من أنَّها تعمل كما ينبغي. تلك هي طريقة إنجاز الأشياء في جميع المجالات الهندسية. وهي أيضًا الطريقة التي كان يتمُّ بها السَّفر أيضًا فيما مضى؛ فإذا كنت تريد أن تسافر من أوروبا إلى أستراليا ثُمَّ العودة مرة أخرى في القرن السابع عشر، فهذا الأمر في حدِّ ذاته يعدُّ مشروعًا ضخمًا سيتكلف مبالغ مالية طائلة ويتطلَّب سنواتٍ من التَّخطيط ويحمل مخاطرةً كبيرة بأن يموت الشخص المسافر. أما الآن فقد اعتدنا على فكرة التَّنقُّل كخدمةٍ مُقدَّمة؛ فإذا أردت أن تكون في مُلبُرن في أوائل الأسبوع القادم، فلن يأخذ الأمر منك سوى عدة نقراتٍ على هاتفك وستدفع مقدارًا ضئيلًا نسبيًّا من المال مُقارنةً بالماضي.
في عصر الذكاء الاصطناعي العام، سيكون «كُلُّ شيءٍ مُقدَّمًا كخدمة». فلن يكون بنا حاجة إلى حشد جيوشٍ من المُتخصِّصين في عُلومٍ مُختلفةٍ، ثُمَّ تنظيمهم في سلاسل هرميةٍ من المتعهِّدين الرئيسيين والفرعيين لتنفيذ مشروعٍ ما. فجميع أشكال الذكاء الاصطناعي العام سيكون لديها وصول لكل معرفة الجنس البشري ومهاراته وأشياء أخرى كثيرة. الفرق الوحيد سيكون في القُدُرات الجسدية؛ فسيكون هناك روبوتات بأرجلٍ وبارعة في استخدام أيديها لعمليات البناء والجراحة، وروبوتات بعجلاتٍ لنقل البضائع على نطاقٍ واسع، وروبوتات على هيئة طوافات رباعية تطوف في السماء لمُهمَّة الفحص الجوي، وهلُمَّ جرًّا. من حيث المبدأ، وبصرف النظر عن السياسة والاقتصاد، يُمكن لأي شخصٍ أن يكون تحت إمرته مؤسسة كاملة تتكوَّن من الكيانات البرمجيَّة والروبوتات المادية التي تستطيع تصميم وبناء الجُسور، أو تحسين إنتاج محاصيل الأراضي الزراعية، أو طهي العشاء لمائة ضيفٍ، أو تنظيم الانتخابات أو فعل أي شيءٍ آخر يجب فعله. وما يجعل كلَّ هذا مُمكنًا هو «عمومية» الذَّكاء الاصطناعي العام.
لا شكَّ أننا سنُلاحظ بعض المزايا في حياتنا إلى جانب المنفعة الماديَّة البحتة لرفع مستويات المعيشة. على سبيل المثال، التَّدريس الخُصُوصي معروف أنَّه أكثر كفاءةً بكثير من التَّدريس في الفُصُول، لكن حين يُنفَّذ على يد البشر، فببساطةٍ لا — ولن — يكون مُتاحًا لغالبية الناس. أما مع المُدرِّسين الآليين ذوي الذكاء الاصطناعي، فيُمكن لأي طفلٍ أن يتلقَّى تعليمًا مخصوصًا مهما كان فقيرًا. ستكون تكلفة تعليم الطِّفل الواحد زهيدةً وتكاد لا تُذكَر وسيعيش ذاك الطِّفل حياةً أكثر ثراءً وإنتاجيَّة. وسيغدُو السَّعي وراء الأهداف الفنِّية والفكرية، سواء على مُستوًى فرديٍّ أم جماعي، جزءًا عاديًّا من الحياة بدلًا من أن يكون ضربًا من ضُروب الرفاهية والتَّرف.
أما في المجال الصِّحي، فيُتوقَّع أن تُساعد نظم الذكاء الاصطناعي الباحثين على فهم التَّعقيدات الهائلة لعلم الأحياء البشري والتعامُل معها؛ ومن ثمَّ العمل شيئًا فشيئًا على استئصال جميع الأمراض. وستقُودُنا النَّظرة الأكثر توسُّعًا في علم النَّفس البشري والكيمياء العصبية للبشر إلى إحداث تحسُّنٍ كبير في الصِّحة العقلية.
ربما على نحوٍ غير تقليدي أكثر، يُمكننا أن نتوقَّع أن تُساعد نظم الذكاء الاصطناعي على إيجاد أدوات بناء أكثر كفاءة بكثير للواقع الافتراضي وملء بيئاته بالكثير من الأشياء الأكثر إثارة بكثير. وهذا قد يُحوِّل الواقع الافتراضي إلى وسطٍ مُحبَّبٍ للتعبير الفنِّي والأدبي، مما يُولِّد تجارب ذات عُمقٍ وثراءٍ لا يُمكنُنا تخيُّلهما في وقتنا الحالي.
أما في الحياة اليومية العادية، فسيتيح المُساعد الذَّكي — إذا صُمِّم على نحوٍ جيد ولم يُلوَّث بالمصالح السياسية والاقتصادية — لجميع الأشخاص إمكانية التَّصرُّف بفعاليَّةٍ بالنِّيابة عنهم في ظلِّ نظامٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ يزداد تعقيدًا، وفي بعض الأحيان عدائيةً، يومًا بعد يومٍ. في الحقيقة، سيكون لديك مُحامٍ، ومُحاسب، ومُستشار سياسي خارق مُستعدون لمُساعدتك في أيِّ وقت. وكما نتوقَّع أن تخفَّ الاختناقات المُرورية عبر دمج ولو عددٍ صغيرٍ من المركبات الذاتية القيادة، يُمكن للمرء منا أن يأمُل في وجود سياساتٍ أكثر رشدًا وصراعاتٍ أقلَّ حدة في ظلِّ بُزوُغ فجرٍ جديدٍ يكون فيه مواطنو العالم أكثر معرفةً وحولهم من ينصحُهم نصائح أكثر حكمةً.
إذا ما حقَّقنا جميع ما ذُكر من تطويراتٍ فقد يُغيِّر ذلك من مجرى التاريخ؛ على الأقل ذلك الجزء من التاريخ الذي كانت تدفعُه الصِّراعات والنِّزاعات بين أبناء المُجتمعات نفسها، وبين بعض المُجتمعات وبعضها، للحُصول على أكبر قطعةٍ من كعكة الحياة. فإذا كانت الكعكة نفسها لا نهائيَّة، فلِمَ إذن الصِّراع مع الآخرين للحُصول على نصيبٍ أكبر؟ سيبدو الأمر كما لو كان الصِّراع على من يحصُل على نُسخٍ رقمية أكثر من جريدةٍ ما؛ فالأمر لا يستحقُّ المعاناة إذا كان أيُّ شخصٍ يستطيع أن يحصُل مجانًا على أي عددٍ يريده من النُّسَخ الرقمية من هذه الجريدة.
وكما قال نيك بوستروم في خاتمة كتابه «الذكاء الخارق»، النَّجاحُ في مجال الذَّكاء الاصطناعي سيُنتج «مسارًا حضاريًّا يقودُنا، نحن البشر، إلى استعمال تلك الهبة الكونية استعمالًا رحيمًا وعطُوفًا.» فإذا ما فشلنا في الاستفادة من منافع الذكاء الاصطناعي، فلا نلُومنَّ إلا أنفُسنا.