اضطرابُ ما بعد الصدمة
إحدى الطبيبات، وهي طبيبة نفسية … استشعرت ما يسمَّى بعقدة ذنب الناجين، و[شعرت] أنها كانت بحاجة إلى فعلِ المزيد. وفي وقت المقابلة، كانت لا تزال تشعر بالانعزال نوعًا ما عن الآخرين وتعاني العصبيةَ الزائدة، وكانت لا تزال تراودها ذكريات مزعجة.
قال طبيب آخر إنه أصبح يشرب ضِعف كمية الكحول بعد ١١ سبتمبر بالمقارنة بالكميات التي كان يشربها قبلها. عمل الطبيب في وحدة فرز المصابين بالقرب من موقع مركز التجارة العالمي حيث تطوع لمدة ١٠ ساعات في اليوم … وذكر أن أسوأ ذكرياته كانت رؤية الناس يقفزون من الأبراج.
كان أحد الأطباء طبيبًا نفسيًّا للعاملين في وحدة المرضى الداخليين وعمِل ساعاتٍ أطول بعد الهجمات. زاد تناوله للكحول بعد الهجمات، وفي وقت المقابلة، كان لا يزال يعترف بأنه تراوده صور مؤلمة تقتحم أفكاره. وكان لا يزال يتجنَّب المشاركة في الأنشطة التي من شأنها أن تذكِّره بالأحداث.
لكن لم يكن من الضروري المشاركة بشكل مباشر لتظهر المشكلات النفسية. أُصيب العديد من الأمريكيين، حتى أولئك الذين يعيشون بعيدًا عن مدينة نيويورك، بصدمة شديدة. بعد شهرين من ١١ سبتمبر، أَبلغ ١٧٪ من ١٣٠٠ شخص اتُّصِل بهم عبر الولايات المتحدة في أحد الاستطلاعات عن أعراض إجهادِ ما بعد الصدمة. (وَسِّع هذه العينة التمثيلية وستصل إلى إجمالي ٤٥ مليون شخص يعانون آلامًا نفسية خطِرة نتيجةً للهجمات.) بمرور الوقت، انخفض عدد الأشخاص الذين يُبلِغون عن أعراض. وبعد ثلاث سنوات، عندما اتصل نفس الباحثين ﺑ ١٩٥٠ شخصًا، كان ٤٫٥٪ منهم لا يزالون يعانون آثارًا نفسية.
بشكل عام، كان الأشخاص الأكثر عرضةً للإصابة بالمشكلات هم أولئك الذين:
-
شهدوا الهجمات بأنفسهم؛
-
شاهدوا التغطية التليفزيونية الحية؛
-
تعرَّضوا لأحداث صادمة في طفولتهم، أو بعد ١١ سبتمبر؛
-
عانوا سابقًا اضطرابًا نفسيًّا.
(١) ما هو اضطرابُ ما بعد الصدمة؟
الشخص قد اختبر أو شهد أو واجه حدثًا أو أحداثًا انطوت على موت فعلي أو تهديد بالموت أو الإصابة الخطِرة، أو تهديد للسلامة الجسدية للنفس أو للغير.
تشمل الأمثلة على هذه الصدمات حوادثَ المرور الخطِرة، والاعتداء الجنسي، والاعتداء الجسدي، والسرقة أو السطو المقترِن بالعنف، والموت المفاجئ لأحد الأحباء، والمعارك العسكرية، والتعذيب، والكوارث الطبيعية، والتشخيص بمرضٍ محتمل أن يكون مميتًا.
-
معاودة معايشة الحدث الصادم: يمكن أن يأخذ هذا شكل كوابيس أو استرجاع للذكريات، عندها يشعر الشخص بأنه عاد في خضم الرعب. تتكرر أفكار الصدمة باستمرار، بغض النظر عن مدى إصرار الشخص على محاولة النسيان. يمكن لأبسط الأشياء أن تثير الذكريات المؤلمة؛ ربما صوت أو رائحة معينة أو مكان أو نظرة على وجه شخصٍ ما.
-
تجنب أي تذكير بالحدث الصادم/الشعور بالخدر: إن ذكرى الصدمة مزعجةٌ للغاية لدرجةِ أن المرضى يبذلون قصارى جهدهم لتجنُّب إثارتها. فيحاولون قمع الأفكار المتعلقة بالحدث؛ حيث يبتعدون عن الأشخاص والأماكن التي يمكن أن تذكِّرهم بما حدث؛ ولا يريدون التحدُّث عن تجاربهم. غالبًا ما يذكر الأشخاص المصابون باضطرابِ ما بعد الصدمة أنهم «خدرون» انفعاليًّا؛ على الأقل تجاه الانفعالات الإيجابية مثل السعادة. وقد يحاولون القضاءَ على القلق والاكتئاب الذي يشعرون به عن طريق تعاطي الكحوليات أو المخدِّرات. (يرى بعض الخبراء أن الخدَر يختلف بدرجة كافية عن التجنُّب حتى إنه يمكن اعتباره فئةً مستقلة من فئات الأعراض.)
-
الشعور بالتوتر المستمر: هذا ما يسميه علماء النفس حالةَ فرط التيقظ، ويعني ذلك أن تكون دائمًا قلقًا ومتوترًا وسريع الانفعال. يكون الأشخاص المصابون باضطرابِ ما بعد الصدمة في حالة تأهب دائم لأي تذكير بالصدمة: فهي تهيمن على عالمهم ليلًا ونهارًا (مشكلات النوم من الأعراض الشائعة لاضطرابِ ما بعد الصدمة).
كما هو الحال مع جميع التشخيصات النفسية، قد يشعر العديد من الأشخاص بأعراض ليست شديدة أو مستمرة أو متعددة بما يكفي لتستوفيَ معايير تشخيص المرض، ولكنها مع ذلك تسبب الكرب الشديد. وقد شكَّك بعض الباحثين في تعريف «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية» للصدمات، مشيرين إلى أن أحداث الحياة السلبية مثل المرض المزمن أو الطلاق أو البطالة يمكن أن تُولِّد على الأقل نفس القدْر من أعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة التي يولِّدها الاغتصاب والاعتداء والحوادث وما إلى ذلك.
(٢) ما مدى شيوع اضطرابِ ما بعد الصدمة؟
يقدم المسح القومي الأمريكي للاعتلال المشترك صورةً صادقة لانتشار اضطرابِ ما بعد الصدمة؛ إذ وجد أن ما يقرب من ٥٠٪ من الأشخاص يعانون صدمةً واحدة على الأقل في حياتهم، وأن ٧٫٨٪ من إجمالي العينة مصابون باضطرابِ ما بعد الصدمة. لا يختلف الرقم بشكل كبير في حالة الشباب. فمن بين ١٠ آلاف شخص تتراوح أعمارهم بين ١٣ و١٨ عامًا أُجريت معهم مقابلات من أجل «ملحق المسح القومي الأمريكي المكرَّر للاعتلال المشترك المعني بالمراهقين»، أفاد ٥٪ بأنهم قد عانوا اضطرابَ ما بعد الصدمة، ومنهم ١٫٥٪ متأثرون بشدة.
يمكن للعديد من أنواع الصدمات أن تؤديَ إلى اضطرابِ ما بعد الصدمة، لكن بعضها أقوى من البعض الآخر. وفقًا للمسح الوطني الأمريكي للاعتلال المشترك، فإن الصدمات التي من المرجَّح أن تؤديَ إلى اضطرابِ ما بعد الصدمة لدى النساء هي الاغتصاب والتحرش الجنسي والاعتداء البدني والتهديد بالسلاح والاعتداء الجسدي في الطفولة؛ ولدى الرجال، هي الاغتصاب، والتعرُّض لمهامَّ قتالية، والإهمال في الطفولة، والاعتداء البدني في الطفولة.
كانت النساء في المسح الوطني الأمريكي للاعتلال المشترك أكثرَ عرضةً للإصابة باضطرابِ ما بعد الصدمة بمقدار الضعف مقارنةً بالرجال، على الرغم من أنهن تعرَّضن لصدمات أقل. ويمكن تفسير ذلك جزئيًّا فقط من خلال حقيقةِ أن النساء أكثرُ عرضةً لتجربة أنواع الصدمات التي تنتج عادةً اضطرابَ ما بعد الصدمة (مثل الاغتصاب). وعند تعرُّضهن لنفس النوع من الصدمات، تكون النساء أكثرَ عرضةً من الرجال للإصابة باضطرابِ ما بعد الصدمة، لأسباب غير معروفة حاليًّا.
الأبحاث حول اضطرابِ ما بعد الصدمة في العالم النامي نادرة. لكنَّ فريقًا بقيادة جوب دي يونج حقَّق في معدلات انتشاره في أربع من أفقر بلدان العالم وأكثرها معاناةً من النزاعات: الجزائر، حيث اندلعت أعمال عنف مروعة بعد إلغاء الانتخابات في عام ١٩٩١؛ وكمبوديا، التي عانت ويلاتَ حرب أهلية في الستينيات ثم رزحت تحت نِير نظام الخمير الحُمر المجرم؛ وإثيوبيا، التي مزَّقتها الحرب الأهلية أيضًا؛ وغزة، التي تُعَد مسرحًا للصراع المتكرِّر منذ الاحتلال الإسرائيلي في عام ١٩٦٧. يمكن للمرء أن يتوقَّع أن تكون معدلات اضطرابِ ما بعد الصدمة في هذه البلدان البائسة أعلى منها في الغرب، وهذا ما ثبَت: ٣٧٫٤٪ في الجزائر (حيث كان العنف لا يزال دائرًا في وقت بحث دي يونج)؛ و٢٨٫٤٪ في كمبوديا؛ و١٥٫٨٪ في إثيوبيا؛ و١٧٫٨٪ في غزة.
لم تُشخَّص إصابة أحد باضطرابِ ما بعد الصدمة حتى عام ١٩٨٠، عندما أُدرِج في «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية» للمرة الأولى. أُقِرت الآثار النفسية للقتال منذ الحرب العالمية الأولى، عندما أصيب عددٌ كبير من الجنود «بصدمة القصف». لكن الأمر استغرق حتى سبعينيات القرن الماضي حتى يُعتَرف باضطرابِ ما بعد الصدمة، وذلك بفضل جهود منظمات قدامى المحاربين في حرب فيتنام — حيث أسفرت حرب فيتنام عن آلاف الحالات — وأولئك الذين يعملون مع الناجيات من الاغتصاب. في عام ١٩٩٠، قُدِّر أن أكثر من مليون من قدامى المحاربين الأمريكيين قد أُصيبوا باضطرابِ ما بعد الصدمة نتيجةً لتجاربهم في فيتنام، مع وجود ٤٧٩ ألفًا لا يزالون في صراع مع هذا المرض.
(٣) ما الذي يسبب اضطرابَ ما بعد الصدمة؟
(٣-١) المنظور النفسي
من ناحية، فإن سببَ اضطرابِ ما بعد الصدمة واضح: صدمة معينة. ومع ذلك، هذا ليس سوى جزء من التفسير. لماذا يصاب بعض الأشخاص الذين تعرضوا للاغتصاب أو الضرب المبرح باضطرابِ ما بعد الصدمة والبعض الآخر لا؟
من بين المحاولات النفسية للإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إن أكثر المحاولات تأثيرًا هي تلك التي صاغتها آنكِي إيلرز وديفيد كلارك.
وُضِّحَت النظرية بشكل جيد من خلال دراسة بحثية أجرتها إيلرز وزملاؤها. على مدى ستة أشهر، تابعوا تقدُّم ١٤٧ شخصًا أصيبوا في حوادث السيارات. بعد أسبوعين من وقوع الحادث، استوفى ٣٣ شخصًا (٢٢٫٤٪) معاييرَ تشخيص اضطرابِ ما بعد الصدمة (باستثناء، بالطبع، شرط استمرار الأعراض لأكثر من شهر)؛ وبعد ستة أشهر، كان هناك ١٧ شخصًا (١٢٫١٪) متأثرين.
-
قبل وقوع الحادث: تاريخ من المشكلات الانفعالية والتجارب الصادمة السابقة.
-
أثناء الحادث: التركيز على الأحاسيس التي تثيرها الصدمة، بدلًا من التركيز على معنَى ما كان يحدث (هذا يسمَّى «المعالجة القائمة على البيانات») والشعور بأن الحادث وقع لشخص آخر (عدم ربط الصدمة بالذات)؛ وإحساس بالانفصال أو الخدر أو أن الحادث لم يكن حقيقيًّا.
-
بعد الحادث: نظرة متشائمة للصدمة؛ عدم القدرة على تذكرِ ما حدث بوضوح؛ الشعور بعدم تلقي الدعم الكافي من الأصدقاء والعائلة؛ واستمرار التفكير في الحادث وعواقبه أو، على العكس من ذلك، تجنب كلِّ ما يُذكِّر به؛ وتبني سلوكيات السلامة (على سبيل المثال، رفض السفر بالسيارة).
ترى كلٌّ من إيلرز وكلارك أن اضطرابَ ما بعد الصدمة ينشأ عندما يعتقد الشخص أنه لا يزال مهدَّدًا بشكل خطِر بطريقةٍ ما بسبب الصدمة التي تعرَّض لها. ما الذي يجعل شخصًا ما يفترض أنه لا يزال معرَّضًا للخطر بسبب حدث وقع قبل شهور أو حتى سنوات؟ حددت إيلرز وكلارك عاملين.
-
لا مكان آمن
-
أنا أجتذب الكوارث
-
لا أستطيع التعامل مع التوتر
-
سأصاب بالجنون
-
لن أكون قادرًا على تجاوز هذا مطلقًا
-
لا يوجد أحد بجانبي
يمكن لهذه التفسيرات أن تجعل الشخص يشعر بأنه في خطرٍ جسدي (يبدو العالم غير آمن بشكل أساسي)، أو نفسي (تضرُّر ثقتهم بأنفسهم وشعورهم بالسلامة بشكلٍ لا يمكن إصلاحه).
خزانة أُلقيت فيها أشياءُ كثيرة بسرعة وبطريقة غير منظمة؛ لذلك من المستحيل إغلاق الباب بالكامل وتسقط الأشياء خارجةً منها في أوقات غير متوقعة.
يستمر اضطرابُ ما بعد الصدمة عندما يتبنى الشخص نوعَ السلوكيات التي تبناها الأفراد في دراسة حوادث المرور. ومن ثَم، يهدف العلاج المعرفي إلى إقناع الشخص بالتخلي عن هذه السلوكيات، ومعالجة المعتقدات السلبية والذكريات غير المكتملة التي تثيرها.
(٣-٢) المنظور البيولوجي
-
اللوزة الدماغية، وهي مخزن ذكريات الخوف اللاواعية؛
-
القشرة الحزامية الأمامية (ACC)، التي تساعد في السيطرة على استجابات الخوف لدينا؛
-
الحُصين، الذي يخزِّن الذكريات السياقية (على سبيل المثال، أين كنا وماذا كنا نفعل عندما وقع حدث مخيف)، ومن ثَم يمكن أن يساعدنا في الحكم على ما إذا كان الموقف خطِرًا حقًّا أو أنه يشبه في جوانبَ معينة حدثًا ما كان مهدِّدًا سابقًا.
في الأشخاص الذين يعانون اضطرابَ ما بعد الصدمة، قد تكون اللوزة مفرطةَ النشاط وتكون القشرة الحزامية الأمامية والحُصين غير نشطين. في الواقع، توجد أدلةٌ تشير إلى أن القشرة الحزامية الأمامية والحُصين أصغر في الواقع لدى الأشخاص المصابين باضطرابِ ما بعد الصدمة، على الرغم من عدم وضوح ما إذا كان ذلك نتيجةً للمرض أو سببًا له. (في الواقع، قد لا يكون الحُصين بأكمله هو المتضرر؛ فقد سلَّطت أبحاثٌ حديثة الضوءَ على ضمور في منطقة معينة من الحُصين لدى الأشخاص المصابين باضطرابِ ما بعد الصدمة.)
من دون الأثر الملطِّف للقشرة الحزامية الأمامية والحُصين، قد تستشعر اللوزة تهديدًا بينما لا يوجد تهديد؛ وهي السمة المميِّزة لاضطرابِ ما بعد الصدمة، وفي الواقع اضطرابات القلق بشكل عام.
ميل الفرد المتأثر جينيًّا نحو العُصابية من شأنه أن يؤديَ بالفرد إلى الشعور بمزيد من الغضب والتهيج، مما يجعل ذلك الشخص: (١) أكثر عرضةً للانخراط في المشاجرات (مما يَزيد من خطر التعرض لصدمة هجومية) و(٢) أكثر عرضةً للاستثارة الانفعالية نتيجةً للتعرض لمثل هذه الصدمات (مما يزيد من خطر الإصابة بأعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة).
إذن، في بعض الحالات، قد تؤثِّر الشخصية جزئيًّا على احتمال إصابة الشخص بصدمة، ثم الإصابة باضطرابِ ما بعد الصدمة. لكن لا ينبغي لنا أن ننجرف مع ذلك الاستنتاج: فمعظم الأحداث المسبِّبة للصدمة تحدث فجأةً وبغض النظر عن شخصية الفرد.