المادية تتجاوز ذاتَها
(١) حُجَّة كانْت
أعتقد أن كانْت قد أصاب كبدَ الحقيقة. ومثلما قال مرةً جوزيف بوبر-لينكيوس إن كل مرة يموت فيها إنسانٌ يكون عالمٌ بأسره قد انحطَم (يدرك المرءُ ذلك إذا ما وضع نفسَه مكانَ هذا الإنسان). إن الكائنات الإنسانية غير قابلة للاستبدال، وهي في ذلك تختلف بشكلٍ بَيِّنٍ عن الآلات اختلافًا شديدًا؛ فهي قادرة على الاستمتاع بالحياة، وعلى المعاناة، وعلى مواجهة الموت مواجهةً واعية. إنها ذوات، إنها غاياتٌ في ذاتها كما قال كانْت.
تبدو لي هذه النظرةُ غيرَ متوافقة مع المذهب المادي القائل بأن البشر آلات.
وهدفي في هذا الفصل التمهيدي هو أن أكشف عددًا من المشكلات، وأن أؤكد أهمية بعض الأشياء التي ينبغي، ربما، أن تجعل صاحب المذهب المادي أو الفيزيائي يتروَّى في أمره. وأود في الوقت نفسه أن أنظر بعين الإنصاف إلى الإنجازات التاريخية العظيمة للمذهب المادي. غير أني أود أن أوضح من فوري أنه ليس في نِيَّتِي أن أُثير أي أسئلة من صنف «ما هو …؟» مثل: «ما هو العقل؟» أو «ما هي المادة؟» (الحق أن ضرورة اجتناب أسئلة «ما هو …؟» سوف يتبين أنها من مقاصدي الكبرى) وإنني لَأقلُّ حرصًا من ذلك على الإجابة عن مثل هذه الأسئلة (أي أنني لا أقوم بتقديم ما يسمى أحيانًا «أنطولوجيا»).
(٢) البشر والآلات
غير أنه من الواضح أن الآلات ليست غايات في ذاتها مهما بلغت من التعقيد. قد تكون الآلات قَيِّمةً بسبب فائدتها أو بسبب ندرتها. وقد تكون لقطعة معينة قيمة بسبب فرادتها التاريخية. ولكن الآلات تصبح بلا قيمة إذا لم يكن لها قيمة الندرة، إذا كانت كثيرة جدًّا ومن صنف نحن على استعداد لأن ندفع ثمنًا للتخلص منه. ونحن، في المقابل، نقدر حياة البشر برغم مشكلة زيادة السكان، التي هي أخطر المشكلات الاجتماعية في زمننا هذا. نحن نحترم حتى حياةَ القاتل.
يجب أن نعترف بعد حربَين عالميَّتَين، وتحت تهديد الوسائل الجديدة للدمار الشامل، أنه كان ثمة تدهور مريع في احترام الحياة الإنسانية لدى بعض طبقات مجتمعنا. هذا ما يجعل من المُلِح والعاجل أن أعيد فيما يلي توكيدَ رأيٍ لا مَحيدَ لنا عنه فيما أعتقد: وهو الرأي القائل بأن البشر غايات في ذاتها وليسوا «مجرد» آلات.
نستطيع أن نقسِّم أولئك الذين يذهبون إلى أن البشر آلات، أو يذهبون مذهبًا شبيهًا بذلك، إلى فئتين:
أولئك الذين ينكرون وجود أحداث عقلية، أو خبرات شخصية، أو وعي، أو ربما يقولون إن السؤال عما إذا كانت مثل هذه الخبرات موجودة هو سؤال قليل الأهمية، ولا ضير من أن يُترَك دون حسم.
بذلك أعتبر المذهب القائل بأن البشر آلات ليس مغلوطًا فحسب بل خليقًا أيضًا بتقويض أي علم أخلاق إنساني. غير أن هذا السبب نفسه يُلزِمني بشدة أن أؤكد أن المناصرين العظام لهذا المذهب — أي الفلاسفة الماديين الكبار — كانوا كلُّهم تقريبًا دعاةَ أخلاق إنسانية. فمن ديمقريطس ولوكريتس إلى هربرت فايجل وأنتوني كوينتون، كان الفلاسفة الماديون دائمًا إنسانيين ومنافحين عن الحرية والتنوير. ومن المؤسف أن نقول إن خصومهم كانوا على النقيض من ذلك في بعض الأحيان. هكذا، وبالضبط لأني أعتبر المذهب المادي مغلوطًا، وبالضبط لأني لا أعتقد أن البشر آلات أو روبوتات، أود أن أؤكد على الدور العظيم والحيوي حقًّا الذي لعبته الفلسفة المادية في تطور الفكر الإنساني والأخلاق الإنسانية.
(٣) المادية تتجاوز ذاتَها٥
أحد أهم الأحداث في تاريخ تجاوز المادية لذاتها كان هو اكتشاف طمسون للإلكترون، والذي شخَّصه طمسون (هو وﻫ. أ. لورنتز) على أنه شظية دقيقة من الذرة. هكذا أمكن للذرة أن تنقسم وهي غير القابلة للانقسام بحكم التعريف. كان هذا مقلقًا، ولكن كان بوسع المرء أن يكيِّف نفسه معه بأن يعتبر الذرات كمنظومات من جسيمات مادية مشحونة أصغر، الإلكترونات والبروتونات، والتي يمكن اعتبارها دقائق من المادة المشحونة بالغة الصغر.
أمكن النظرية الجديدة أن تفسر الدفع بين أجزاء المادة (عدم قابلية المادة للاختراق) بواسطة التنافُر الكهربي بين الجسيمات المتساوية الشحنة (القشرة الإلكترونية للذرات). كان هذا شيئًا مقْنِعًا، غير أنه دمر فكرة أن الدفع هو شيء «جوهري»، استنادًا إلى خاصية ملء المكان كخاصية جوهرية للمادة، ودمر فكرة أن الدفع هو نموذج لكل فعل عِلِّي فيزيائي. وقد عُرِفت الآن جسيمات أولية أخرى لا يمكن تفسيرها كأجزاء مشحونة (أو غير مشحونة) للمادة — المادة بالمعنى الذي يفيده المذهب المادي — ذلك لأنها غير ثابتة: إنها تنحل. وفضلًا عن ذلك فحتى الجسيمات الثابتة كالإلكترونات يمكن أن تَفنَى أزواجًا فتنتج الفوتونات (كَمَّات الضوء)، ويمكن أن تُخلَق من فوتون (شعاع جاما). ولكن الضوء ليس مادة، وإن جاز لنا القول بأن الضوء والمادة هما شكلان من الطاقة.
بذلك تجاوزت الماديةُ نفسَها؛ فالرأي القائل بأن الحيوانات والبشر آلات بالمعنى الميكانيكي، وهو الرأي الذي استلهم في الأصل عنوان كتاب لامتري «الإنسان كآلة» (انظر قسم ٥٦ لاحقًا) قد استُبدِل به تصور الحيوانات والبشر كآلات كهروكيميائية.
إنه تغيُّر مهم. إلا أنه لأسبابٍ ذكرتُها في بداية الفصل فإن هذه الصيغة الحديثة من نظرية أن البشر آلات لا تبدو لي (وإن تكن، ربما، أقرب بخطوة إلى الحقيقة) أكثر قبولًا من الصيغة الميكانيكية القديمة للمذهب المادي.
الاصطلاح بالطبع خارج تمامًا عن الموضوع، ولكن ينبغي ألا نغفل شيئًا: أن نقد المادية القديمة، حتى لو كان حاسمًا، لا ينسحب بالضرورة على الصيغة الفيزيائية السائدة الآن للمذهب المادي.
(٤) ملاحظات على مصطلح «واقعي»١٢
وأنا أفترض أن أهم استخدامات مصطلح «واقعي» هو استخدامه لتحديد الأشياء المادية ذات الحجم العادي؛ أشياء يمكن للرضيع أن يتناولها ويميل إلى أن يضعها في فمه. ومن هذا يمتد استخدام لفظ «واقعي» ليشمل أشياء أكبر؛ أشياء أكبر من أن نتناولها، مثل قطارات السكة الحديدية، المنازل، الجبال، الأرض والنجوم، ويمتد أيضًا ليشمل أشياء أصغر؛ أشياء مثل ذرات التراب أو السوس. ويمتد أيضًا، بالطبع، إلى السوائل ثم إلى الهواء أيضًا، إلى الغازات وإلى الجزيئات والذرات.
ومع ذلك فإنه يبقى السؤال اللاحق: هل هذه الكيانات التي نحدِس بأنها واقعية موجودة حقًّا أم غير موجودة؟
كثير من الأشخاص كان كارهًا قبول أن الذرات موجودة، إلا أن الذرات قد اعتُرِفَ بوجودها على نطاقٍ عريض بعد مَجِيء نظرية أينشتين عن الحركة البراونية. اقترح أينشتين النظرية القابلة تمامًا للاختبار والقائلة بأن الجسيمات الصغيرة العالقة في سائل (والتي نجد حركاتها مرئية خلال الميكروسكوب، وهي من ثَم «واقعية») تتحرك نتيجة للتصادمات العشوائية لجزيئات السائل المتحركة. وقد حَدَسَ بأن الجزيئات غير المرئية لفرط صغرِها تمارس تأثيرات عِلِّية على تلك الأشياء الصغيرة جدًّا وإن تكن واقعية «عادية». لقد قدم هذا تبريرات عقلية وجيهة لواقعية الجزيئات، ومن ثَم لواقعية الذرات أيضًا.
ومع ذلك فإن مسألة قبول مثل هذا الدليل ليست واضحة تمامًا. فبينما لا يمكن لدليل أن يكون نهائيًّا فإننا فيما يبدو نميل إلى أن نقبل شيئًا ما (والذي وقع لنا حدسٌ بوجوده) على أنه موجود حقًّا إذا كان وجوده يعززه، مثلًا، اكتشاف تأثيرات نحن نتوقع أن نجدها إذا كان هذا الشيء موجودًا فعلًا.
تتصل القُوى وحقول القُوى بالأشياء المادية، وبالذرات، وبالجسيمات. إن لها طبيعةً نزوعية؛ إنها ميول (استعدادات) إلى التفاعل. ومن ثَم فهي تُوصَف على أنها كيانات نظرية عالية التجريد، ولكنها إذ تتفاعل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع أشياء مادية عادية، فنحن نقبلها على أنها واقعية.
وباختصار فأنا أشارك أصحابَ المذهب المادي القديم الرأيَ بأن الأشياء المادية واقعية، وحتى الرأي بأن الأجسام المادية الصلبة هي عندنا النماذج الإرشادية للواقعية. كما أشارك الماديين الجدد أو أصحاب المذهب الفيزيائي الرأيَ بأن القُوى وحقول القُوى والشحنات … إلخ — أي الكيانات الفيزيائية النظرية التي ليست مادة — هي أيضًا واقعية.
(٥) المادية، والبيولوجيا، والعقل
المادية حركة عظيمة وتقليد عظيم، ليس في الفيزياء فحسب، بل أيضًا في البيولوجيا. ورغم أننا لا نعرف كثيرًا عن أصل الحياة على الأرض، فإنه يبدو محتملًا جدًّا أنها نشأت مع الاتحاد الكيميائي لجزيئات عملاقة ذاتية التكاثر، وأنها تطورت من خلال الانتخاب الطبيعي كما اعتاد الماديون أن يقولوا، مقتفين في ذلك أثر دارون.
هكذا يبدو أنه في عالم مادي فإن بوسع شيء ما جديد أن يظهر. ويبدو أن للمادة الميتة إمكانات أكبر من مجرد إنتاج مادة ميتة. لقد أنتجت، بصفة خاصة، العقول — في مراحل بطيئة بغير شك — وفي النهاية أنتجت الدماغ البشري والعقل البشري، والوعي البشري بالذات، والدراية البشرية بالعالم.
بذلك فأنا أشارك الماديين أو أصحاب المذهب الفيزيائي لا في التوكيد فحسب على الأشياء المادية كنماذج للواقع، بل وأشاركهم أيضًا في الفرضية التطورية. غير أن طريقَينا يفترقان، فيما يبدو، عندما يُنتِج التطورُ العقول، وينتج اللغةَ البشرية، ويفترقان حتى افتراقًا أوسع عندما تُنتِج العقولُ القصصَ، والأساطير الشارحة، والأدوات والأعمال الفنية والعلمية.
كل هذا، كما يبدو، قد تطور دون أي انتهاك لقوانين الفيزياء، وإنما مع الحياة، حتى في صورها الدنيا، يدخل حل المشكلات إلى العالم، وفي صورها العليا تدخل الأغراض والأهداف منشودةً بوعي.
ولا يسعنا إلا الدهَشُ من قدرة المادة هكذا على تجاوز ذاتها، بإنتاج العقل، والغرض، وعالم منتجات العقل البشري.
أحد المنتجات الأولى للعقل البشري هو اللغة البشرية. والحق أني أحدِس بأنها كانت أول هذه المنتجات جميعًا، وأن الدماغ والعقل البشريَّين قد تطورا بالتفاعل مع اللغة.
(٦) التطور العضوي
لكي نفهم هذا التفاعل على نحو أفضل ينبغي أن ننظر إلى جانب من جوانب نظرية الانتخاب الطبيعي يتم إغفالُه في بعض الأحيان.
بل إن بوسع المرء، إلى حد ما، أن يقول إن الرغبات حاسمة التأثير في كثير من الأحيان. إنه لَأكثر احتمالًا بكثير أن تؤدي عادة غذائية جديدة بالانتخاب الطبيعي (وعن طريق الطفرات العارضة)، إلى تكيفات تشريحية جديدة من أن تدعم التغيراتُ التشريحية العارضةُ عاداتٍ غذائيةً جديدة؛ فالتغيرات التي لا تساير عادات الكائن العضوي قلَّما تُجْدِيه نفعًا في صراعه من أجل الحياة.
أعتقد أن لهذه النقاط بعض الأهمية بالنسبة لمشكلة العقل-الجسم. فمثلما أشرنا سابقًا في القسم ٤ فإننا لا نحدس فحسب بوجود شيء ما كشيء واقعي إذا أمكنه أن يؤثر على الأشياء المادية بل إننا لَنَميل إلى أن نسلم بأنه موجود إذا تم تعزيز هذه التأثيرات. تومئ النقاط التي تناولناها في هذا القسم — كيف تؤدي اختياراتنا وأفكارنا وخططنا وأفعالنا إلى موقفٍ يمارس بدوره تأثيرات علينا تتضمن تطور الدماغ البشري — تومئ إلى أن في تطور الحيوانات العليا وسلوكها، وبخاصة الإنسان، بعض الأدلة على وجود الخبرة الواعية. تشكل هذه النقاط مشكلةً لأولئك الذين ينكرون أن الوعي موجود، وحتى لأولئك الذين يُسلمون بأن الوعي موجود ولكنهم يَدَّعون أن العالم الفيزيائي مكْتَفٍ بذاته عِلِّيًّا (انظر الفصل الثالث).
(٧) لا جديد تحت الشمس: الردِّية و«العِلِّيَّة الهابطة»١٩
من أقدم العقائد الفلسفية تلك العقيدة التي يلخصها القول المأثور (للكنسيِّين) «لا جديد تحت الشمس». وهذه العقيدة متضمَّنة أيضًا في المذهب المادي بطريقة ما، وبخاصة في الصور الأقدم للمذهب الذري، وحتى في المذهب الفيزيائي. يعتقد الماديون — أو كانوا يعتقدون — أن المادة أزلية وأن كل تغير هو عبارة عن حركة أجزاء من المادة والتغيرات الناجمة عن تنظيماتها. ويعتقد أصحاب المذهب الفيزيائي، كمبدأ عام، بأن القوانين الفيزيائية أزلية. (هناك استثناءات لهذا المبدأ العام، كما في حالة بول ديراك وجون أرشيبالد هويلر من أصحاب المذهب الفيزيائي؛ انظر هويلر ١٩٧٣م). والحق أنه من الصعب أن يرى المرء غير هذا الرأي؛ إذ إن ما نسميه قوانين الفيزياء هي نتائج بحثنا عن الثوابت. وهكذا فحتى إذا تَكشَّف لنا أن قانونًا طبيعيًّا مفترَضًا هو قانون متغير، كأن يتبين لنا أن واحدًا مما أخذناه مأخذ الثوابت الفيزيائية الأساسية يتغير عبر الزمن، فإن علينا أن نحاول أن نستبدل به قانونًا ثابتًا جديدًا يحدد معدل التغير.
الدافع وراء هذه الآراء، سواء المادية أو الشمولية النفسية، فيما أعتقد، هو «لا جديد تحت الشمس» أو «لا شيء يأتي من لا شيء». كان الفيلسوف العظيم بارمنيدس يعلِّم ذلك منذ ٢٥٠٠ عامٍ، واستنبط منه أن التغير مستحيل، ولا بد من ثَم أن يكون وهمًا. وقد اقتفى أثرَه مؤسِّسا النظرية الذرية ليوسيبوس وديمقريطس إذ كانا يعلِّمان أنه لا يوجد إلا ذرات لا تتغير، وأنها تتحرك في الخلاء، في فضاء فارغ. وعلى ذلك فإن التغيُّرات الممكنة الوحيدة هي حركات الذرات واصطداماتها وإعادة اتحادها، بما فيها الذرات البالغة الدقة التي تكوِّن أرواحنا. ويعلِّم بعضٌ من أهم الفلاسفة الأحياء (مثل كواين) أنه لا يمكن أن توجد إلا كيانات مادية، وأنْ ليس هناك أحداث أو خبرات عقلية (والبعض الآخر يقفون موقفًا وسطًا ويسلِّمون بوجود خبرات عقلية ولكنهم يقولون إن هذه أحداثٌ جسمية بمعنًى ما أو «في هوية مع» أحداث جسمية).
وعلى النقيض من كل هذه الآراء فأنا أذهب إلى أن العالم، أو تطور العالم، خالقٌ، وأن تطور الحيوانات الحاسَّة ذات الخبرات الواعية قد أتى بشيء ما جديد. كانت هذه الخبرات في البدء من صنف أكثر بدائية ثم صارت لاحقًا من صنف أعلى، وفي النهاية ظهر ذلك الصنف من الوعي بالذات وذلك الصنف من الإبداعية الذي نجده في الإنسان.
فمع ظهور الإنسان تجلت، في اعتقادي، إبداعيةُ العالم؛ لأن الإنسان أبدعَ عالمًا موضوعيًّا جديدًا: ذلك هو عالم منتجات العقل البشري، عالم الأساطير وحكايا الأشباح والنظريات العلمية والشعر والفن والموسيقى (سأطلق على هذا اسم «العالم ٣» لأميز بينه وبين «العالم ١» المادي و«العالم ٢» الذاتي أو النفسي؛ انظر القسم ١٠ لاحقًا). إن وجود الأعمال الفنية والعلمية العظيمة والمبدعة بدون شك لَتُثبت إبداعية الإنسان، ومعها إبداعية العالم الذي خَلَق الإنسان.
والذي أعنيه هنا بكلمة «خالق» هو ما يعنيه جاك مونود (١٩٧٠، ١٩٧٥م) حين يتحدث عن تعذُّر التنبؤ بانبثاق الحياة على الأرض، وتعذر التنبؤ بالأجناس المختلفة، وبخاصة جنسنا نحن البشري. يقول جاك مونود: «… لقد كنا غير قابلين للتنبؤ بنا قبل ظهورنا.» (١٩٧٥م، ص٢٣.)
-
(١)
إنتاج العناصر الأثقل (شاملة النظائر المشعة) وظهور السوائل والبلورات.
-
(٢)
ظهور الحياة.
-
(٣)
ظهور الوظيفة الحسية.
-
(٤)
ظهور الوعي بالذات والوعي بالموت (متصاحبًا مع اللغة البشرية) أو حتى ظهور اللحاء المخي البشري.
-
(٥)
ظهور اللغة البشرية ونظريات النفس والموت.
-
(٦)
ظهور منتجات العقل البشري كالأساطير المفسِّرة، أو النظريات العلمية أو الأعمال الفنية.
ولعل من المفيد، لأسباب عديدة (وبخاصة للمقارنة بمخطط ٢: انظر لاحقًا) أن ندرج بعض هذه المراحل التطورية الكونية في المخطط ١ التالي.
العالم ٣ | (٦) الأعمال الفنية والعلمية (شاملة التكنولوجيا) |
(منتجات العقل الإنساني) | (٥) اللغة البشرية. نظريات النفس والموت |
العالم ٢ | (٤) الوعي بالذات وبالموت |
(عالم الخبرات الذاتية) | (٣) الإحساس (الوعي الحيواني) |
(العالم ١) | (٢) الكائنات العضوية الحية |
(عالم الأشياء الفيزيائية) | (١) العناصر الأثقل؛ السوائل والبلورات |
(صفر) الهيدروجين والهيليوم |
من الواضح أن الكثير قد تم إغفاله في هذا المخطط، وأنه مخطط مفرِط جدًّا في التبسيط. غير أنه يتميز بأنه يلخِّص تلخيصًا شديدًا بعض الأحداث الكبرى في التطور الخالق أو التطور الانبثاقي.
ثمة حدسٌ سبقي قوي يقف ضد قبول فكرة التطور الانبثاقي، فإذا كان العالم يتكون من ذرات أو جسيمات أولية، بحيث إن جميع الأشياء هي مركبات من هذه الجسيمات، إذن فكل حدث في العالم ينبغي أن يكون قابلًا للتفسير، وقابلًا للتنبؤ من حيث المبدأ، في حدود التركيب الجسيمي والتفاعل الجسيمي.
(١٢) مستوى الأنساق الإيكولوجية (البيئية). |
(١١) مستوى مجتمعات الميتازوَّا والنباتات. |
(١٠) مستوى الميتازوا (الحيوانات المتعددة الخلايا) والنباتات المتعددة الخلايا. |
(٩) مستوى الأنسجة والأعضاء (وربما الإسفنج). |
(٨) مستوى مجتمعات المتعضيات الوحيدة الخلية. |
(٧) مستوى الخلايا والمتعضيات الوحيدة الخلية. |
(٦) مستوى العضيوات (أعضاء الخلية) وربما الفيروسات. |
(٥) مستوى السوائل والأجسام الصلبة (البلورات). |
(٤) مستوى الجزيئات. |
(٣) مستوى الذرات. |
(٢) مستوى الجسيمات الأولية. |
(١) مستوى الجسيمات تحت الأولية. |
(صفر) مجهول (جسيمات تحت تحت أولية). |
تفيد الفكرة الردِّية (الاختزالية) وراء هذا المخطط أن الأحداث أو الأشياء في كل مستوى يجب أن تفسَّر في حدود المستويات الأدنى.
عليَّ أولًا أن أشير في نقد هذا المخطط ٢ إلى أنه ينبغي أن يكون أكثر تعقيدًا من هذا بكثير: ينبغي أن يُظهِر على الأقل بعض التفرعات كالشجرة. هكذا يتضح أن المستوى (٦) والمستوى (٧) بعيدَين عن التجانس. كما أن الكيانات في المستوى (٨) ليست أجزاءً من الكيانات القائمة في المستوى (٩) بأي معنًى من المعاني.
على أن ما يحدث في المستوى (٩) — ما يحدث مثلًا لرئتَي حيوان أو إنسان يعاني من السُّل — قد يُفسَّر حقًّا بعضَ التفسير في حدود المستوى (٨)؛ وفضلًا عن ذلك فإن المستوى (١٠) قد يكون نسقًا إيكولوجيًّا (بيئة) للمستوى (٨). كل هذا يكشف اضطرابًا معينًا في مخططنا (لعل من السهل تشييد مخطط تكون فيه هذه المصاعب أقل وضوحًا مما هي عليه في مخطط ٢، غير أنها ستظل قائمة كما هي: إن النسق الحيوي ليس في صميمه منتظمًا في تراتبٍ هرمي دقيق).
ولكن لنضربْ صفحًا عن هذه الصعوبات وننصرف إلى تفحصٍ للفكرة الحدسية القائلة بأن الأحداث والأشياء في أي مستوى أعلى يمكن أن يفسَّر في ضوء ما يحدث في المستوى الأدنى، وبتحديدٍ أكثر، أن ما يحدث للكل يمكن تفسيره عن طريق بِنية (تنظيم) أجزائِه والتفاعل بين هذه الأجزاء.
هذه الفكرة الردِّية هي فكرة شائقة وهامة؛ فحيثما أمكننا أن نفسر كيانات وأحداثًا على مستوًى أعلى بتلك التي على مستوًى أدنى أمكننا أن نقول إننا أحرزنا تقدمًا علميًّا كبيرًا، وأمكننا أن نقول إننا أضفنا الكثير إلى فهمنا للمستوى الأعلى. الردِّية، كبرنامج علمي، ليست مهمة فحسب بل هي جزء من البرنامج العلمي الذي يهدف إلى التفسير والفهم.
والعِلِّية الهابطة مهمة بطبيعة الحال في جميع الأدوات والآلات المصمَّمة لغرض معين. فعندما نستعمل إسفينًا مثلًا فنحن لا نرمي إلى مفعول جسيماته الأولية، بل نحن نستخدم بِنية، معتمدين عليها لكي توجه فعل جسيماتها الأولية المكوِّنة حتى تعمل، في توافق، بحيث تحقق النتيجة المطلوبة.
أعتقد أن هذه الأمثلة تُظهِر بوضوح وجودَ العِلِّية الهابطة، وتجعل النجاح الكامل لأي برنامج ردي أمرًا صعبًا على أقل تقدير.
يقدم بيتر ميداوار (في كتابه (١٩٧٤م)؛ قارن أيضًا كتابه (١٩٦٩م)، ص١٥-١٩) عرضًا نقديًّا للرد مستخدمًا المخطط ٣ التالي:
(٤) الإيكولوجيا (البيئة)/علم الاجتماع |
(٣) البيولوجيا |
(٢) الكيمياء |
(١) الفيزياء |
يومئ ميداوار إلى أن العلاقة الحقيقية للأعلى بالأدنى من هذه الموضوعات ليست، ببساطة، علاقة رد منطقي، بل هي علاقة مثيلة للعلاقة بين الموضوعات المدْرَجَة في مخط ٤:
(٤) الهندسة القياسية (الإقليدية) |
(٣) الهندسة الأفينية* |
(٢) الهندسة الإسقاطية |
(١) الطوبولوجيا (الهندسة اللاكمية أو اللامقدارية) |
ليس من السهل تمامًا وصف العلاقة الأساسية بين المباحث الهندسية الأعلى في المخطط ٤ والمباحث الأدنى، غير أنها بالتأكيد ليست علاقة رد. مثلًا، الهندسة القياسية، وبخاصة في صورة الهندسة الإقليدية، لا يمكن ردها إلى الهندسة الإسقاطية إلا بشكل جزئي جدًّا، وإن تكن نتائج الهندسة الإسقاطية جميعًا صحيحة في هندسة قياسية مدمَجة في لغة ثرية بحيث تستخدم مفاهيم الهندسة الإسقاطية. وهكذا يجوز لنا أن نعتبر الهندسة القياسية إثراءً للهندسة الإسقاطية. وتسري علاقات مثيلة بذلك بين المستويات الأخرى للمخطط ٤. إن الإثراء يتعلق بالمفاهيم جزئيًّا ولكنه بالأساس إثراء نظريات (مبرهَنات).
يشير ميداوار إلى أن العلاقات بين المستويات المتتالية للمخطط ٣ قد تكون مماثلة لمستويات المخطط ٤. بذلك يمكن اعتبار الكيمياء بمثابة إثراء للفيزياء، وهو ما يفسر لماذا تقبل الرد جزئيًّا، وإن لم يكن كليًّا، للفيزياء؛ وكذلك الأمر بالنسبة للمستويات العليا للمخطط ٣.
هكذا يتضح أن الموضوعات المُدرَجة في المخطط ٤ ليست قابلة للرد إلى موضوعات المستويات الأدنى، وإن بقيت المستويات الأدنى، بمعنًى شديد الوضوح، صائبة داخل المستويات الأعلى، وكانت محتواة بشكل ما في المستويات الأعلى. وفضلًا عن ذلك فإن بعض القضايا على المستويات الأعلى قابلة للرد إلى المستويات الأدنى.
وعندي أن ملاحظات ميداوار وجيهة جدًّا. وهي بالطبع لا يمكن قبولها إلا إذا تخلينا عن فكرة أن عالمنا الفيزيائي حتمي، فكرة أن النظرية الفيزيائية مضافًا إليها الحالات الأصلية القائمة في أية لحظة معطاة، تحدد «تحديدًا تامًّا» حالة العالم الفيزيائي في أية لحظة أخرى (انظر مناقشة لابلاس في القسم التالي). إذا نحن أخذنا بهذه الحتمية الفيزيائية فلن يمكننا إذن اعتبار المخطط ٤ مماثلًا للمخطط ٣. وإذا رفضناها سيكون بإمكاننا أن نستخدم المخطط ٤ كمفتاح للمخطط ٣، وللمخطط ١ أيضًا.
(٨) الانبثاق ومنتقدوه
غير أن منتقدي الانبثاق قد شككوا في فكرة استحالة التنبؤ هذه. وقد أتى الهجوم على هذه الفكرة من ثلاثة أطراف رئيسية: من أصحاب مذهب الحتمية، ومن أصحاب المذهب الذري التقليدي، ومن أنصار نظرية القدرات أو الإمكانات.
-
(١)
وتُعزَى الصياغةُ الأشهَر لوجهة النظر الحتمية إلى لابلاس Laplace (١٨١٩؛ ١٩٥١م، ص٤-٥): «ينبغي أن نعتبر الحالة الحاضرة للعالم كمعلولٍ لحالته السابقة، وكعِلَّة لحالته الآتية. إذا افترضنا ذهنًا أمكنه معرفة جميع القُوى التي تسَيِّر الطبيعة، وحالة جميع الأشياء المكوِّنة لها في لحظة معينة، فبالنسبة لهذا الذهن لن يكون هناك أي شيء غير معلوم علم اليقين، وسيكون المستقبل، كالماضي، حاضرًا أمام عينيه …»
هذه الفقرة المقتبسة من لابلاس هي من كتابه «مقالات فلسفية في الاحتمال». وقد أريدَ بها في هذا الكتاب أن توضح تمام الوضوح أن نظرية الاحتمال — كما يراها لابلاس — تنصب على الأحداث التي لدينا بها معرفة ناقصة، نقصًا «ذاتيًّا»، وليس على أحداث هي «موضوعيًّا» غير محتومة أو تشبه المصادفة، فهذه الأخيرة لا وجود لها (لاحظ أن حتمية لابلاس لا تسمح بأي استثناء؛ فالإقرار بوجود أية أحداث شبيهة بالمصادفة موضوعيًّا هو مساوٍ للاحتمية، حتى إذا كانت هذه الأحداث الشبيهة بالمصادفة هي استثناءات نادرة).
والدعوى الحتمية مقنِعة حدسيًّا إلى حد كبير — إذا ضربنا صفحًا عن حركاتنا الإرادية نحن أنفسنا — ما بَقِيَت الذراتُ يُنظَر إليها على أنها أجسام جامدة غير قابلة للانقسام (وإن كان أبيقور قد أدخل مذهبًا ذريًّا غيرَ حتمي). غير أن إدخال ذرات مركبة، وجسيمات تحت-ذرية كالإلكترونات، طرح احتمالًا آخر: وهو فكرة أن تصادمات الذرات والجزيئات قد لا تكون ذات طبيعة حتمية. يبدو أن أول من تطرَّق إلى هذا في زمننا هو شارلس ساندر بيرس، الذي أكد أن علينا أن نفترض وجود مصادفة موضوعية لكي نفهم التنوع القائم في العالم، وفرانز إكسنر.٢٨ والرد على لابلاس هو، باختصار، أن الفيزياء الحديثة تفترض أن هناك أحداثًا تصادفية موضوعيًّا، واحتمالات أو استعدادات موضوعية. -
(٢)
يرى صاحب المذهب الذري أن جميع الأجسام المادية وجميع الكائنات العضوية ما هي إلا بناءات من الذرات (انظر المخطط ٢ في القسم السابق ٧). وهكذا لا يمكن أن تكون هناك جِدة إلا جدة التنظيم. فإذا أُعطِينا التنظيم الدقيق للذرات، هكذا تمضي الحجة، ينبغي أن يكون ممكنًا من حيث المبدأ اشتقاقُ، أو التنبؤ ﺑ، جميع خصائص أي تنظيم جديد، من خلال معرفة الخصائص «الباطنية» intrinsic للذرات. صحيح أن معرفتنا البشرية بخصائص الذرات وتنظيمها الدقيق ستكون بصفة عامة غير كافية لمثل هذا التنبؤ، غير أن هذه المعرفة، من حيث المبدأ، يمكن أن تتحسن، ومن ثَم ينبغي علينا أن نسلِّم بأن التنظيم الجديد ونتائجه قابلان للتنبؤ من حيث المبدأ.وقد قدمنا ردًّا جزئيًّا على صاحب المذهب الذري في القسم السابق ٧. والنقطة الرئيسية في الرد هي أن التنظيمات الذرية الجديدة قد تؤدي إلى خواص فيزيائية وكيميائية ليست مشتقة من عبارة تصف تنظيم الذرات متضامة مع عبارة من عبارات النظرية الذرية. ومع الاعتراف بأن بعض هذه الخواص قد تم اشتقاقه بنجاح من النظرية الفيزيائية وبأن هذه الاشتقاقات مثيرة للإعجاب جدًّا، إلا أنه يبدو أن لا نهاية لعدد، وتعقيد، الجزيئات المختلفة وخواصها، وأنها قد تتجاوز بكثير احتمالات التفسير الاستنباطي. فبعض الخواص الهامة، وعلى رأسها بعض خواص الدنا (DNA) مفهومة جيدًا على أساس البنية الذرية، إلا أننا، رغم التقدم الباهر الذي أحرزناه، بعيدون بُعدًا كبيرًا، البعض يراه لا نهائيًّا، عن اشتقاق أو التنبؤ حتى بأغلب خواص الجزيئات الكبيرة اللانهائية التنوع، من المبادئ الأولى.
-
(٣)
الحجة الثالثة (التي يمكن وصفها على أنها صورة ضعيفة من «مذهب التكون المسبَق» preformationism) ربما تكون أقل وضوحًا، إلا أنها جذابة حدسيًّا. وهي متصلة اتصالًا وثيقًا بالحجتين السابقتين. ويمكن عرضها كما يلي: إذا ما بدا أن شيئًا ما ينبثق في مسار تطور العالم عنصرًا كيميائيًّا جديدًا (أيْ بنية جديدة من الأنوية الذرية) أو جزيئًا مركبًا جديدًا أو كائنًا عضويًّا حيًّا أو كلامًا بشريًّا أو خبرة واعية … إذن فلا بد أن الجسيمات أو البنيات المادية التي يتضمنها ذلك الشيء كانت تمتلك مسبقًا ما يمكن أن نسميه «استعدادًا» أو «إمكانية» أو «قوة» أو «قدرة» على إنتاج الخواص الجديدة، تحت الظروف الملائمة. وبعبارة أخرى: إن إمكانية أو قوة الدخول في التضام أو التركيب الجديد، ومن ثَم إمكانية أو قوة إنتاج الخاصية الجديدة الانبثاقية أو غير المتوقعة، لا بد أنها كانت هناك من قبل الحدث، وأن المعرفة الكافية بهذه الإمكانية أو القوة الباطنة أو الخفية كانت كفيلة بأن تتيح لنا، من حيث المبدأ، التنبؤ بالخطوة التطورية الجديدة، وبالخاصية الجديدة. التطور إذن لا يمكن أن يكون خالقًا أو انبثاقيًّا.
إذا ما أخذنا بالاعتبار التغير من الفيزياء الكلاسيكية (النيوتونية) إلى الفيزياء الذرية الحديثة باحتمالاتها (أو نزوعاتها) الموضوعية، فلسوف نجد بحوزتنا دفاعًا كاملًا عن فكرة التطور الانبثاقي ضد انتقادات مثل انتقادات كولر من ١–٣. بإمكاننا أن نُسَلم بأن العالم لا يتغير ما بقيت قوانين عامة معينة ثابتة لا تتبدل؛ غير أن هناك جوانب أخرى شبه قانونية مهمة ومثيرة — وبخاصة النزوعات الاحتمالية — تتغير بالتأكيد، وفقًا لتغير الموقف. هكذا يكون ردي على كولر بسيطًا: من الممكن أن تكون هناك قوانينُ ثابتة وانبثاق (في آنٍ معًا)؛ لأن منظومة القوانين الثابتة ليست من التمام والتقييد بحيث تمنع انبثاق خواصَّ جديدة شبه قانونية.
لقد اكتسب الاحتمال أهميةً في النظرية الفيزيائية بظهور النظرية الجزيئية في الحرارة والغازات بصفة رئيسية، وفي القرن العشرين بظهور النظرية الذرية.
وكنتيجة لذلك يمكننا القول بأن عبارةً نزوعيةً نموذجيةً، مثل العبارة القائلة بنزوع نواة معينة غير ثابتة إلى الانحلال، لا يمكن أن تستمَد من قانون عام (من صنفٍ عِلِّي) مضافًا إليه الحالات المبدئية. ومن ناحية أخرى فإن «الموقف» الذي يحدث فيه حدث ما قد يؤثر على النزوع تأثيرًا عظيمًا، مثال ذلك أن وصول نيوترون بطيء إلى الجوار المباشر لإحدى الأنوية قد يؤثر في نزوع النواة إلى الإمساك بالنيوترون ومن ثم إلى الانحلال.
أرى أن هذه الفكرة عن اعتماد احتمالية (أو نزوع) حدثٍ مثير على الموقف يمكن أن تُلقِي بعضَ الضوء على مشكلتي التطور والانبثاق.
- (أ)
ظهور العناصر الثقيلة (خلافًا للهيدروجين والهيليوم اللذين يُفترَض أنهما كانا موجودَين منذ الانفجار العظيم الأول).
- (ب)
بداية الحياة على الأرض (وربما في مكان آخر).
- (جـ)
انبثاق الوعي.
- (د)
انبثاق اللغة البشرية، والدماغ البشري.
أما بالنسبة ﻟ (ب)، أي نشأة الحياة، فقد قلتُ للتو إن احتمالية، أو نزوع، أي ذرة، مأخوذةً عشوائيًّا في العالم، إلى أن تصبح (خلال وحدة مختارة من الزمن) جزءًا من كائن عضوي حي، كانت دائمًا وما زالت لا تفترق عن الصفر. لقد كانت صفرًا بالتأكيد قبل ظهور الحياة؛ وحتى بافتراض وجود كواكب كثيرة يمكن أن تقوم عليها الحياة، فلا بد أن يبقى الاحتمال المذكور ضئيلًا إلى غير حد.
إن كم المعرفة المحصَّلة حديثًا عن الجينات والإنزيمات وما يبدو شروطًا دنيا للحياة هو كم مذهل. ومع ذلك فإن هذه المعرفة المفصلة ذاتها هي ما يشير إلى أن الصعوبات التي تقف في طريق تفسيرٍ لمنشأ الحياة هي صعوبات قد لا يمكن تذليلها؛ فرغم أن لدينا فكرة ما عن الشروط الضرورية لحدوث هذا الحدث، فإن ثمة مؤشرات كثيرة ترجح الرأي القائل بأن هذا الحدث كان حدثًا فريدًا.
تحت هذه الظروف فإن كثيرًا من خواص الكائنات العضوية قد يكون غير قابل للتنبؤ، أي قد يكون انبثاقيًّا. (من بينها خواص نمو هذه الكائنات الحية). وكذلك خواص الأنواع الجديدة التي تظهر في مسيرة التطور.
ولعل الرأي الأكثر قبولًا هو أن الوعي خاصية انبثاقية للحيوانات تظهر تحت ضغط الانتخاب الطبيعي (ومن ثَم لا يكون إلا بعد تطور آلية للتكاثر). متى تظهر سوابقه الأولى، وهل هناك حالات شبيهة نوعًا ما في النباتات، يبدو لي هذان السؤالان، وإن كانا شائقَين، غير قابلَين للإجابة ربما إلى الأبد. ولكن لعله جدير بالذكر أن عالم البيولوجيا العظيم ﻫ. س. جينينجس (١٩٠٦م) قد روى أن ملاحظة سلوك الأميبا كان يخلق فيه انطباعًا قويًّا بأنها واعية. لقد رأى في سلوكها دلائل النشاط والمبادأة. والحق أنه إذا كان على حيوان حر الحركة أن يستعمل هذه الحرية فإن عليه أن يكون مستكشِفًا نشِطًا لبيئته. إن حواسه ليست مجرد مستقبِلات سلبية للمعلومات، بل هو يستخدمها إيجابيًّا ﻛ «أجهزة إدراكية»، «لالتقاط المعلومات»، كما يؤكد ج. ج. جيبسون (١٩٦٦م). غير أن الأجهزة الإدراكية لا تكفي: ثمة مركز للنشاط، لحب الاستطلاع، للاستكشاف، للتخطيط؛ ثمة مستكشِف، هو عقل الحيوان.
أعتقد أنني قد رددتُ على حجتين من الحجج الثلاث ضد الانبثاق المذكورة في بداية هذا القسم، هما الحجة المستمدة من الحتمية، والحجة المستمدة من المذهب الذري. ولكن يبقى أن نرد على الحجة الثالثة؛ الحجة القائلة بأن الأجزاء المادية المكوِّنة لِبنية جديدة (لِكائنٍ عضوي مثلًا) لا بد أن تمتلك مسبقًا الإمكانية أو القوة أو القدرة على إنتاج البنية الجديدة المذكورة؛ ومن ثَم فإن معرفتنا الكاملة بالإمكانات أو القُوى المسبقة كانت كفيلة بأن تمكننا من التنبؤ بخواص البنية الجديدة التي هي إذن، قابلة للتنبؤ بالضرورة وليست انبثاقية.
(٩) اللاحتمية؛ التفاعل (المتبادل) بين مستويات الانبثاق
ظلت النظرة السائدة للعلم حتى وقتنا هذا نظرة حتمية ذات طبيعة ميكانيكية تقريبًا. من الأسماء الكبيرة التي أخذت بهذا الرأي في أزمنتنا الحديثة هوبز، وبرسلي، ولابلاس، وحتى أينشتين (كان نيوتن استثناءً). ولم تصبح الفيزياء لا حتمية إلا مع ميكانيكا الكوانتم، ومع تفسير أينشتين الاحتمالي لسعة الموجات الضوئية، ومع تفسير هيزنبرج لصِيَغه اللاحتمية، وبخاصة مع تفسير ماكس بورن الاحتمالي لسعة موجات شرودنجر.
يمكننا إذ نأخذ السحب والساعات كنموذجين نبدأ بهما للأنظمة اللاحتمية والحتمية، أن نصوغ وجهة نظر مفكر حتمي، مثل ديمقريطس، كما يلي:
جميع الأنظمة الفيزيائية هي، في الحقيقة، ساعات.
إذن العالم بأسره هو آلية ساعة مكونة من ذرات يدفع بعضها بعضًا مثل أسنان الترس. حتى السُّحب هي أجزاء من الساعة الكونية، رغم أنها، بسبب تعقد الحركات الجزيئية فيها وتعذر التنبؤ بها عمليًّا، قد تخلق فينا التوهم بأنها ليست ساعات بل سُحبًا غير محدَّدة.
ولدى ميكانيكا الكوانتم، وبخاصة في صيغة شرودنجر، أشياء مهمة يمكن أن تقولها في هذه المسألة. إنها حقًّا تقول إن الإلكترونات تكوِّن سحابةً حول نواة الذرة، وإن مواضع وسرعات الإلكترونات المختلفة داخل السحابة هي غير محددة ومن ثَم غير قابلة للتحديد. وفي زمن أحدث شُخِّصَت الجسيمات تحت الذرية كبناءات معقدة. وقد ناقش ديفيد بوم (١٩٥٧م) احتمال وجود ما لا نهاية له من مثل هذه الطبقات التراتبية (المستوى صفر في المخطط ٢ في قسم ٧ قد يكون مؤسسًا على مستويات سالبة). إذا صح هذا فسوف يجعل فكرة كون حتمي تمامًا وقائم على ساعات ذرية فكرة مستحيلة.
وأيا ما كان هذا الأمر فإن تفسير النواة الذرية كمنظومة من الجسيمات في حركة سريعة، والإلكترونات المحيطة بها كسحابة إلكترونية هو تفسير كفيل بأن يقضي على حدس النظرية الذرية القديمة بوجود حتمية ميكانيكية. إن للتفاعل بين الذرات أو بين الجزيئات جانبًا عشوائيًّا، جانبًا اتفاقيًّا، «مصادفةً» ليس فقط بالمعنى الأرسطي الذي يضعها كنقيض ﻟ «الغرض»، بل مصادفة بالمعنى الذي يجعلها خاضعة للنظرية الاحتمالية الموضوعية للأحداث العشوائية، لا لأي شيء من قبيل القوانين الميكانيكية المحددة.
هكذا فإن الدعوى القائلة بأن جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها السحب، هي في الحقيقة ساعات، قد تبين أنها دعوى خاطئة. وبحسب ميكانيكا الكوانتم فإن علينا أن نستبدل بها الدعوى المقابلة كما يلي:
جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها الساعات، هي في الحقيقة سحب.
يتبين أن المذهب الميكانيكي القديم هو وهم، خلقته واقعة أن الأنظمة الثقيلة ثقلًا كافيًا (الأنظمة المكونة من بضعة ألوف من الذرات، مثل الجزيئات العضوية الكبيرة، والأنظمة الأثقل) تتفاعل «تقريبًا» وفقًا لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية الخاصة بالساعة، شريطةَ ألا تتفاعل مع بعضها كيميائيًّا. فأنظمة البلورات، وهي الأجسام الفيزيائية الصلبة التي نتناولها في أدواتنا المألوفة مثل ساعات يدنا ومنبهاتنا، والتي تكوِّن الأثاثَ الرئيسي لبيئتنا، تسلك بالفعل مثل الأنظمة الميكانيكية تقريبًا (ولكنْ تقريبًا فقط). الحق أن هذه الواقعة هي مصدر أوهامنا الحتمية والميكانيكية.
إن كل ترس من تروس ساعات يدنا هو بناء من البلورات، شبيكة من الجزيئات معلقة معًا، مثل الذرات في الجزيئات، بواسطة قوى كهربية. هذا غريب؛ ولكنه أمر واقع أن الكهرباء هي ما يتبطن قوانين الميكانيكا. وفضلًا عن ذلك فإن كل ذرة تتذبذب وكل جزيء يتذبذب، ذبذبات تعتمد سعة اهتزازها على درجة الحرارة (والعكس صحيح)؛ وإذا سخن الترس فسوف يتوقف عمل الساعة لأن أسنانه تتمدد (وإذا أمعن في السخونة فسوف ينصهر).
والتفاعل المتبادل بين الحرارة وساعة اليد هو أمر شائق للغاية. فمن ناحية يمكننا أن ننظر إلى درجة حرارة الساعة كشيء يحدده معدل سرعة ذراته وجزيئاته المتذبذبة. ومن ناحية أخرى يمكننا أن نسخِّن الساعة أو نبردها بأن نضعها في وسطٍ ساخن أو بارد. وبحسب النظرية الحالية تُعزَى الحرارة إلى حركة الذرات الفردة، وهي في الوقت نفسه شيء يقع على مستوًى مختلف عن مستوى الذرات الفردة المتحركة — مستوًى كلي أو انبثاقي — ما دام يحدده «معدل» سرعة ذراته «جميعًا».
يمكن للمستويات أن تتفاعل فيما بينها. (هذه فكرة مهمة لمذهب التفاعل بين العقل والدماغ). فعلى سبيل المثال: لا تؤثر حركة كل ذرة فردة على حركات الذرات المجاورة فحسب، بل إن «معدل» سرعة «مجموعة» من الذرات لَيؤثِّر على «معدل» سرعة «المجموعات» المجاورة من الذرات. وهي بذلك تؤثر (وهنا يقع تفاعل المستويات، بما فيه «العِلِّية الهابطة») على سرعات كثير من الذرات الفردة في المجموعة. أية ذرات فردة؟ ذلك شيء لا يمكننا الإجابة عنه دون أن نتفحص تفاصيل المستوى الأدنى.
هكذا سوف يؤثر أي تغير في المستوى الأعلى (درجة الحرارة) على المستوى الأدنى (حركة الذرات الفردة). والعكس أيضًا صحيح. على أنه بطبيعة الحال يمكن لذرة فردة، أو حتى لذرات فردة كثيرة، أن تزيد سرعاتِها دون أن ترفع درجة الحرارة، لأن بعض الذرات الفردة الأخرى المجاورة قد تخفض سرعاتها في الوقت نفسه. يحدث مثل هذا طوال الوقت في الدرجة الثابتة من الحرارة. ها هو ذا مثال يستوِي لدينا على «العِلِّية الهابطة»، أي المستوى الأعلى إذ يؤثر على المستوى الأدنى (انظر أيضًا قسم ٧).
يبدو هذا مثالًا مهمًّا آخر للمبدأ العام القائل بأن المستوى الأعلى قد يمارس تأثيرًا مسيطرًا على المستوى الأدنى.
تعود السيطرة الأحادية الجانب، في هذه الحالة على الأقل، إلى الطبيعة العشوائية للحركة الحرارية للذرات، وبالتالي، في ظني، إلى الطبيعة السحابية للبلورة. فيبدو أنه إذا افترضنا جدلًا أن العالم ساعة حتمية كاملة فلن يكون ثمة إنتاج حراري ولا طبقات، وبالتالي لن يحدث مثل هذا التأثير المسيطِر.
يشير هذا إلى أن انبثاق المستويات أو الطبقات التراتبية، والتفاعل المتبادل بينها، يعتمد على لاحتمية أساسية للعالم الفيزيائي. فكل مستوًى هو مفتوح للتأثيرات العِلية الآتية من المستويات الأدنى ومن المستويات الأعلى.
يتصل هذا بالطبع اتصالًا وثيقًا بمشكلة العقل-الجسم، بالتفاعل المتبادل بين العالم ١ الفيزيائي والعالم ٢ العقلي.
هناك فقرتان في الكتاب ١٨ من الإلياذة يوصف فيهما «هيفايستوس» الحِرفي الشهير بأنه مبتكر آلات شبيهة بالروبوت (كاريل كابِك هو من أدخل مصطلح «روبوت»). في الفقرة الأولى من هاتين الفقرتين نجد هيفايستوس مُكِبًّا على تشييد شيء مثل النُّدُل (waiters) الأوتوماتيكية (أو عربات الشاي). وفي الفقرة الثانية نجده يتلقى المساعدة في عمله من فتيات ماهرات صاغهن من الذهب، ذلك المعدن الذي يمتلك قوى خاصة. تمكن ترجمة الفقرة الأولى (٣٧٣–٣٧٧) كالتالي:
• فهو مناهض ﻟ «مذهب الماهية» essentialism، وسوف يعرض لذلك في غير موضع من الكتاب.
• كما أن به نفورًا، منذ نشأته الفلسفية، من ميل الفلسفة السائدة في عصره (الفلسفة التحليلية) إلى الخوض في الأحاجي الفلسفية، وإلى إنكار المشكلات الفلسفية وتبديدها، بواسطة التحليل اللغوي، على أنها «أشباه مشكلات» pseudoproblems. (المترجم)
ينطلق العلم، وفقًا لتراث يرتد في الزمن إلى فرنسيس بيكون، من تراكم الملاحظات المستنيرة. فبعد أن يجمع العالِم ما يكفي من البيانات فإنه سيلاحظ أن «نمطًا» معينًا قد بدأ يبزغ. وسيفترض أن هذا النمط يومئ إلى قانون علمي ما. عندئذٍ يحاول أن يؤيد هذا القانون بإيجاد مزيد من الأدلة التي تدعمه. فإذا نجح في ذلك يكون قد «حقق» verified فرضيته؛ يكون قد اكتشف قانونًا جديدًا من قوانين الطبيعة.
يرفض بوبر هذه النظرة ويبدأ من النقطة المنطقية البسيطة التي تفيد بأن العبارة الكلية من مثل «كل البجع أبيض» لا تمكن البرهنة عليها بملاحظة أي عدد كان من البجع الأبيض (فلعلنا فشلنا في اكتشاف بجعة سوداء في مكان ما)، ولكن من الممكن أن تُكَذَّب حالما رأينا بجعةً سوداء واحدة مفردة. يتبين من ذلك أن القوانين العلمية ذات الصياغة الكلية لا يمكن «تحقيقها» على نحو حاسم في حين يمكن دحضها. ولذا فمن الخطأ أن نبدأ بتكديس ملاحظات، ومن الخطأ أن نبحث عن شواهد مؤيِّدة للنظرية، بل ينبغي أن ننطلق من حدوس افتراضية جريئة ثم نحاول تفنيدها. ومن بين أي نظريتين متنافستين نعتبر النظرية التي تعرضت لخطر أكبر من التكذيب ولكن لم يتم تكذيبها هي النظرية الأكثر «تعزيزًا». وليس يعني ذلك أنها صادقة (فقد تُكَذَّب في المستقبل) بل يعني أنها «أقرب إلى الصدق» من منافِستها (أي تتمتع بدرجة أكبر من «مظهر الصدق»). فمن الممتنع في العلم أن نعرف أننا اكتشفنا الحقيقة رغم وجود مثل هذه الحقيقة. إنها «فكرة مرشِدة» أننا نحاول الاقتراب ولكن لا نستطيع التيقُّن من الوصول. (Karl Popper, By Stephen Thornton, in Stanford Encyclopedia of Philosophy, 1997) (المترجم)
وأنجح رد (بالمقارنة بغيره) أعرفه هو رد بصريات ينج-فريسنيل إلى نظرية مكسويل. ومع ذلك (١) فهذه النظرية نشأت بعد نظرية بصريات ينج-فرينسيل. (٢) لا النظرية «المردودة» ولا النظرية «الرادَّة» كانت كاملة، كانت نظريتا الانبعاث والامتصاص ميكانيكا الكوانتم وكهروديناميكا الكوانتم بعدُ (ولا تزالان جزئيًّا) غائبتَين. ومثال ثانٍ مهم للرد غير الكامل هو الميكانيكا الإحصائية. انظر بحثي 1974(Z2) لِعَرضٍ أكثر إحاطة لموضوع الرد.
ويقول د. ليون إيزنبرج: «الخبرة تشكل الدماغ في عملية تستمر طوال الحياة. إن تمثيل أصابع اليد في اللحاء المخي هو أكبر على الناحية اليمنى (التي تمثل الجانب الأيسر للجسم) لدى عازفي الكمان المحترفين حيث هو أكبر مما هو لدى بقية الناس (إلبرت وآخرون، ١٩٩٥م)، وهو أيضًا يتضخم لدى القارئين بطريقة بريل (ستير وآخرون، ١٩٩٨م)، وهو ينكمش بعد فص التعصب الوارد (موجيلنر وآخرون، ١٩٩٣م). إن الوظيفة والتركيب البنائي للدماغ هما في جريان دائم.» (Leon Eisenberg: Is psychiatry more mindful or brainier than it was a decade ago?, The British Journal of Psychiatry 2000, 176: p. 2). (المترجم)
كما يبين مثال الأنوية المشعة قد تكون النزوعات غير عكوسة irreversible: قد تحدد النزوعات اتجاهًا للزمن («سهم الزمن»). على أن بعض النزوعات قد تكون أيضًا عكوسة: معادلة شرودنجر (وبالتالي ميكانيكا الكوانتم) عكوسة من ناحية الزمن، ونزوع الذرة في حالة معينة s1 لأن تقوم بنقلة إلى حالة s2 بواسطة امتصاص فوتون سيكون بصفة عامة مساويًا للنزوع لعمل نقلة عكسية بواسطة إطلاق فوتون.
وقد اقترحتُ شيئًا شبيهًا بهذا منذ سنوات عديدة، في محاولة لتفسير رؤية العالم الخاصة بالتفسير النزوعي للاحتمال، في تذييلي (Postscript) الذي لم يُنشَر حتى الآن. إن اللاتناهي من الممكنات أو النزوعات المتأصلة هو من الأهمية بمكان؛ لأن أي مذهب احتمالي للتكون المسبق لا يختلف عدا ذلك اختلافًا يُذكَر عن أي مذهب حتمي للتكون المسبق.