العوالم ١، ٢، ٣
(١٠) التفاعل؛ العوالم ١، ٢، ٣
ألم الأسنان مثال جيد لحالة هي عقلية وجسمية معًا. إذا ما اعتراك ألم شديد بالأسنان، فقد يصبح ذلك سببًا قويًّا لزيارة طبيب الأسنان الخاص بك؛ الأمر الذي يقتضيك عددًا من الأفعال والحركات المادية لجسمك. هكذا سيُفضِي التسوس في سنك — وهو عملية فيزيائية-كيميائية مادية — إلى معلولات (نتائج) فيزيائية، ولكنه يفعل ذلك عن طريق إحساساتك المؤلمة ومعرفتك بوجود مؤسسات، مثل طب الأسنان (ما دمتَ لا تشعر بأي ألم فقد لا تدري بالتسوس ولا تزور طبيبك، وقد يساورك الشك لأسباب أخرى فتزور طبيبك دون انتظار للألم، وفي كلتا الحالتين فإن تدخُّل بعض الحالات العقلية، شيء من قبيل الحدس، من قبيل المعرفة، هو ما يفسر فعلك، وحركات جسمك).
هناك أصناف أخرى من الحالات العقلية التي تفسر الأفعال البشرية. قد يستمر متسلقُ جبالٍ في تسلقه مرغِمًا جسمَه على مواصلة الصعود وإن يكن جسمُه منهكًا، نحن نتحدث عن طموحه، عن بلوغ القمة، عن عزيمته، بوصفها حالات عقلية قد تكون وراء مواصلته التسلق. وقد يضغط سائقُ سيارة بقدمه على الكابح لأنه يرى أضواء المرور تحولت إلى الأحمر، إن معرفته بقوانين الطريق هي ما يحمله على أن يفعل ذلك.
كل هذا واضح تمامًا، بل من نوافل القول. ومع ذلك فمن الفلاسفة مَن أنكر واقعية الحالات العقلية؛ ومنهم من يسلِّم بواقعية الحالات العقلية ولكنه ينكر أنها تتفاعل مع عالم الحالات الفيزيائية، وهو عندي رأي بعيد عن القبول بُعدَ الرأي الرافض لواقعية الحالات العقلية.
يمكننا القول إن تبني مذهب التفاعل يمثل حلًا لمشكلة الدماغ-العقل. ومثل هذا الحل ينبغي أن يدعمه تناول نقدي للآراء الأخرى ولمختلف الاعتراضات على مذهب التفاعل. يمكن أن نصف مذهب التفاعل على أنه نوع من برامج البحث؛ فهو يفتح الكثير من الأسئلة المفصَّلة، وسيتطلب الرد عليها الكثير من النظريات المفصلة.
يقال أحيانًا إن حل مشكلة الدماغ-العقل يقتضي أن يجعل التفاعلَ بين أشياء متباينة، كالحالات والأحداث الجسمية … والحالات والأحداث العقلية، أمرًا مفهومًا.
وبينا أوافق على أن المهمة الرئيسية للعلم هي أن يعزز فهمنا للأشياء، فإنني أعتقد أيضًا أن الوصول إلى الفهم الكامل، شأنه بالضبط شأن الوصول إلى المعرفة الكاملة، هو أمر يبقى إلى الأبد بعيدَ الاحتمال. وفضلًا عن ذلك فإن الفهم قد يكون خادعًا: لقد وقر في عقلنا قرونًا ما بدا لنا فهمًا كاملًا لآليات عمل الساعة حيث أسنان التروس يدفع بعضها بعضًا إلى الأمام. ثم تَبَيَّن أن هذا فهم شديد السطحية، وأن دفع جسم مادي لجسم آخر إنما يُفسَّر بواسطة التنافر فيما بين أغلفة الإلكترونات السالبة الشحنة الخاصة بذرات هذين الجسمين. على أن هذا التفسير وهذا الفهم هو أيضًا سطحي، كما تُبَيِّن واقعتا الالتصاق والتماسك. هكذا يتبين أن الفهم النهائي ليس بالأمر اليسير حتى فيما يبدو أنه الجزء الأكثر بداءة من العلم الفيزيائي. وحين ننتقل إلى التفاعل بين الضوء والمادة فنحن ندخل في منطقة من المعرفة تركت واحدًا من أعظم الرواد في هذا المجال، نيلز بور، في حيرة شديدة لدرجة أنه قال إنه في نظرية الكوانتم علينا أن نتخلى عن الأمل في فهم موضوعنا. ولكن رغم أنه يبدو أن علينا التخلي عن مثال الفهم الكامل، فإن وصفًا تفصيليًّا قد يفضي بنا إلى فهمٍ جزئيٍّ ما.
هكذا فإن فهمًا من قبيل ما توهمنا يومًا أننا نحوزه في أمر الدفع الميكانيكي هو غير متوافر حتى في الفيزياء، وما يكون لنا أن نتوقعه في أمر تفاعل الدماغ-العقل، وإن كان مزيد من المعرفة المدققة عن عمل الدماغ قد يمنحنا ذلك الفهم الجزئي الذي يبدو أنه يمكن تحقيقه في العلم.
(١١) واقعية العالم ٣
أعتقد أننا يمكن أن نزيد فهمنا بعض الشيء بدراسة الدور الذي يضطلع به العالم ٣.
أعني بالعالم ٣ عالم منتجات العقل البشري، مثل الحكايات، والأساطير الشارحة، والأدوات، والنظريات العلمية (سواءٌ الصادقة والكاذبة)، والمشكلات العلمية، والمؤسسات الاجتماعية، والأعمال الفنية. موضوعات العالم ٣ هي من صُنعنا نحن، وإن لم تنجم دائمًا عن إنتاجٍ مخطَّط من جانب أفرادٍ من البشر.
الكثير من موضوعات العالم ٣ توجد في هيئة أجسام مادية، وتنتمي بمعنًى ما إلى كل من العالم ١ والعالم ٣. من أمثلة ذلك المنحوتات، واللوحات، والكتب سواء المختصة بموضوع علمي أو بالأدب؛ فالكتاب شيء مادي ومن ثَم ينتمي إلى العالم ١، غير أن ما يجعله منتَجًا مهمًّا من منتجات العقل الإنساني هو «محتواه»: ذلك الذي يبقى ثابتًا في مختلف النسخ والطبعات. هذا المحتوى ينتمي إلى العالم ٣.
إحدى أطروحاتي الرئيسية هي أن أشياء العالم ٣ أشياء واقعية، بالمعنى الذي قدمتُه في قسم ٤ سابقًا: ليس فقط في تجسُّداتها المادية الخاصة بالعالم ١، بل أيضًا في جوانبها الخاصة بالعالم ٣؛ فهي بوصفها أشياء العالم ٣ قد تدفع الناس إلى أن ينتجوا موضوعات أخرى للعالم ٣، ويمارسوا بذلك تأثيرًا على العالم ١؛ والتفاعل مع العالم ١، حتى التفاعل غير المباشر، أعتبره حجةً حاسمة لتسمية الشيء واقعيًّا.
هكذا قد يشجِّع أحدُ المَثَّالين بإنتاج عملٍ فني مَثَّالين آخرين أن ينسخوه، أو أن ينتجوا منحوتات مماثلة له. إن عمله قد يؤثر فيهم، لا من خلال جوانبه المادية بل من خلال الشكل الجديد الذي أبدعه؛ يؤثر فيهم عن طريق خبراتهم المنتمية للعالم ٢، وبشكل غير مباشر من خلال الشيء الجديد المنتمي للعالم ١.
قد يرُد أحدُ المعترضين على الرأي القائل بأن أشياء العالم ٣ واقعية، قد يرُد على هذا التحليل بأن يؤكد أن كل ما هو متضمَّن هنا هو موضوعات العالم ١: ثمة إنسانٌ يشكِّل مثل هذا الشيء وبذلك يدفع غيره إلى أن يقلده: وليس في الأمر أكثر من ذلك.
سأحاول الرد على هذا بتقديم مثال آخر لعله أكثر إقناعًا: إنتاج نظرية علمية؛ مناقشتها النقدية، وقبولها المبدئي، وتطبيقها الذي قد يغير وجه الأرض، ومن ثم وجه العالم ١.
كقاعدة عامة يبدأ العالِم المنتِج من «مشكلة». سيحاول أن يفهم المشكلة. وهذه عادةً مهمة فكرية طويلة، محاولة للعالَم ٢ أن يفهم موضوعًا للعالم ٣. صحيح أنه في فعله هذا قد يستخدم كتبًا (أو أدوات علمية أخرى في تجسداتها الخاصة بالعالم ١). ولكن «مشكلته» قد لا تكون مذكورة في هذه الكتب؛ بل قد يكتشف صعوبة غير مذكورة في «النظريات» المذكورة. قد يشتمل هذا على جهدٍ خلاق: محاولة فهم الموقف المُشكِل المجرد، إذا أمكن ذلك على الإطلاق، على نحو أفضل مما تم سابقًا. عندئذٍ قد يُنتج حَلَّه الخاص، نظريتَه الجديدة. من الممكن أن يُصاغ هذا الحل لغويًّا بطرقٍ لا حصر لها؛ فيختار العالِمُ إحدى هذه الطرق ثم يشرع في التناول النقدي لنظريته، وقد يعدِّلها تعديلًا كبيرًا كنتيجة لهذا التناول. عندئذٍ تُنشَر النظرية ويناقشها آخرون، على أسس منطقية وربما على أساس تجارب جديدة تُجرَى لاختبارها؛ وقد تُرفَض النظرية إذا فشلت في الاختبار. وليس قبل بذل كل هذه الجهود الفكرية والتفاعلات مع العالم ١ يمكن لشخصٍ ما أن يكتشف تطبيقًا ما بعيد الأثر (إلكترونيات!) من شأنه أن يغير العالم ١.
قد يُعتَرَض، بعدُ، على هذا بأنني لم أصف أكثر من سلوك الناس، بما فيه استخدامهم للكتب … إلخ، وسلوكهم الاجتماعي والمهني أيضًا، بما فيه اعتيادهم كتابة أوراق بحثية. قد يَدَّعي أحد السلوكيين أنني لم أقدم أي مبررات لقبول وجود النظريات بذاتها وجودًا مستقلًّا، بمعزل عن الأشخاص الذين قد يكون سلوكُهم اللغوي مهمًّا بلا شك.
غير أن أطروحتي هي أننا إذا لم نسلِّم بأن المشكلات والنظريات هي موضوعات الدراسة والنقد، فلن نفهم أبدًا سلوك العلماء.
ومثالي القياسي هنا مستفاد من علم الحساب. قد يقال عن نسقٍ عددي ما إنه من تشييد أو اختراع الناس لا من اكتشافهم. ولكن الفرق بين الأعداد الزوجية والفردية، أو بين الأعداد الصماء والأعداد القابلة للقسمة هو اكتشاف: هذه المجموعات المحددة من الأعداد موجودة هناك، موضوعيًّا، بمجرد أن يوجد النسق العددي، كمترتبات (غير متعمَّدة) لتشييد النسق؛ وقد تُكتشَف خصائصها اكتشافًا.
(إنه لخطأ قاتل أن نعتقد أن من الممكن أن تكون هناك نظرية وافية — سيكولوجية، أو سلوكية، أو اجتماعية، أو تاريخية — عن سلوك العلماء لا تأخذ بكل الاعتبار الوضع العلمي للعالم ٣. هذه نقطة مهمة لا يدري بها كثير من الناس.)
هذه الاعتبارات تبدو لي حاسمة. إنها تؤسس موضوعية العالم ٣، واستقلاله (الجزئي). وبما أن تأثير النظريات العلمية واضح على العالم ١، فإنها تؤسس واقعية أشياء العالم ٣.
(١٢) موضوعات العالم ٣ غير المتجسدة
كثير من أشياء العالم ٣، كالكتب أو الأدوية التخليقية الجديدة أو الحواسيب أو الطائرات، متجسدة في أشياء العالم ١: هي منتجات مادية، وهي تنتمي لكل من العالم ٣ والعالم ١. معظم الأعمال الفنية هي من هذا القبيل. بعض موضوعات العالم ٣ لا توجد إلا في شكلٍ مشفَّر، مثل المقطوعات الموسيقية (ربما لم تُعزَف قَط)، أو مثل تسجيلات الجرامافون. وبعضها الآخر — كالقصائد، ربما، والنظريات — قد توجد كموضوعات للعالم ٢، كذكريات، يُفترَض أيضًا أنها مشفرة كآثار ذاكرة في أدمغة بشرية معينة (العالم ١) وتفنى بفنائها.
من الواضح أن هيلبرت يُظاهِر هنا ليس فقط الوجود الموضوعي للمشكلات الرياضية، بل أيضًا وجود حلول، بطريقة أو بأخرى، قائمة قبل اكتشافها. ورغم أن دعواه بأن جميع الرياضيين يشاركونه اقتناعه قد لا تخلو من الغلو والشطط (فقد عرفت رياضيين لا يرون هذا الرأي) فإنه حتى أولئك الذين يعتقدون بأن الرياضيات نفسها غير مكتملة (وليس فقط صياغاتها الصورية) يفكرون في الأمر من حيث هو مشكلات وحلول مكتشَفة، وبالتالي موجودة مسبقًا، ومشكلات وحلول غير مكتشفة أيضًا، أي مشكلات وحلول تنتظر الكشف عنها والعثور عليها.
والسبب الرئيسي الذي يجعلني أعتبر وجود موضوعات لعالم ٣ غير متجسدة أمرًا بالغ الأهمية هو هذا: إذا كانت هذه الموضوعات موجودة فلا يمكن أن يكون مذهبًا حقًّا أن فهمنا لموضوع من العالم ٣ يعتمد دائمًا على اتصالنا الحسي بتجسده المادي (على قراءتنا مثلًا لمنطوق نظرية ما في كتاب). إنني أرى، على خلاف هذا المذهب، أن الطريقة الأشد تمييزًا لفهم أشياء العالم ٣ هي طريقة أقل ما تكون اعتمادًا على تجسداتها أو على استخدام حواسنا. ما أذهب إليه هو أن العقل البشري يفهم أشياء العالم ٣، إلا يكن دائمًا بطريقة مباشرة فبطريقة غير مباشرة (والتي سوف أناقشها)، طريقة لا تعتمد على تجسداتها، طريقة تضرب صفحًا — في حالة تلك الأشياء من العالم ٣ (كالكتب) التي تنتمي أيضًا للعالم ١ — عن حقيقة أنها مجسَّدة.
(١٣) فهم أحد موضوعات العالم ٣
كيف نفهم شيئًا فكريًّا من أشياء العالم ٣، مثل: مشكلة، أو نظرية، أو حجة؟ تلك مشكلة قديمة، ولا بد لي هنا من أن أعود إلى أفلاطون.
يبدو أن أفلاطون كان أول من تفكَّر في شيء مماثل لعوالمنا الثلاثة ١، ٢، ٣. فهو يميز تمييزًا جليًّا بين عالم «الأشياء المرئية» (عالم الأشياء المادية، الذي يناظر على نحو دقيق، وإن لم يكن تامًّا، العالم ١ عندنا) وبين عالمٍ من «الأشياء المعقولة» (يناظر على نحو غامض العالم ٣ عندنا)، ثم إنه يتحدث عن «وجدانات الروح» أو «حالات الروح»، المناظِرة للعالم ٢ عندنا.
لقد وصف أفلاطون عملية فهم الصور أو الأفكار على أنها نوع من الرؤية: إن عَيْننا العقلية (النوس، العقل)، «عين الروح»، قد وُهِبَت حدسًا فكريًّا وبوسعها أن «ترى» الفكرة أو الماهية أو الشيء الذي ينتمي إلى عالم المعقولات. وما إن نتمكن من أن نراه، أن نفهمه، فإننا نعرف هذه الماهية: نستطيع أن نراها «في ضياء الحقيقة». هذا الحدس الفكري، متى يتم الوصول إليه؛ فهو معصوم من الخطأ.
هذه وجهة من الرأي كان لها تأثير عظيم بين أولئك الذين يقبلون مشكلة «كيف يمكننا أن نفهم أو نستوعب نظريةً ما؟» وأنا واحد منهم. ولكن على حين أني أقبل المشكلة فأنا لا أقبل حل أفلاطون، أو لا أقبله إلا في صورة معدَّلة تعديلًا كبيرًا.
- أولًا: أنا أسلِّم بأن هناك شيئًا من قبيل الحدس الفكري، ولكني أؤكد أنه بعيد عن المعصومية، وأنه يخطئ أكثر مما يصيب.
- ثانيًا: أنا أذهب إلى أن فهم كيف نصنع أشياء العالم ٣ هو أسهل من فهم كيف نفهمها أو نستوعبها أو «نراها». وسأحاول في الحقيقة أن أفسر عملية فهم أشياء العالم ٣ من خلال عملية صنعها وإعادة صنعها.
- ثالثًا: أرى أننا لا نملك أي شيء من قبيل عضو الإحساس الفكري، رغم أننا قد اكتسبنا مَلَكةً — شيئًا ما أشبه بعضو — للجدل أو الاستدلال.
ومن وجهة نظري يمكن أن نفهم عملية فهم موضوع من العالم ٣ على أنه عملية نشطة. إن علينا تفسيرها على أنها عملية صنع، إعادة خلق، هذا الموضوع. فلكي نفهم جملة لاتينية صعبة فإن علينا أن نعربها: أن نرى كيف صُنِعت، وأن نعيد بناءها، نعيد صنعها. ولكي نفهم «مشكلة» ما فإن علينا أن نجرب على الأقل بعض الحلول الأكثر وضوحًا، وأن نكتشف أنها تفشل؛ بذلك نعيد اكتشاف أن هناك صعوبة؛ مشكلة. ولكي نفهم «نظرية» ما فإن علينا أولًا أن نفهم المشكلة التي صُمِّمت النظرية لكي تحلها، ونرى ما إذا كانت النظرية أكثر جدوى من أيٍّ من الحلول الأكثر وضوحًا. فلكي نفهم حجةً صعبةً نوعًا ما مثل برهان إقليدس لنظرية فيثاغوراس (ثمة براهين أبسط لهذه النظرية)، فإن علينا أن نقوم بالعمل بأنفسنا فنُلِمَّ بكل ما هو مفترَض دون برهان. في جميع هذه الحالات فإن الفهم يصبح «حدسيًّا» عندما يتم لنا اكتساب الشعور بأننا نستطيع أن نقوم بمهمة إعادة البناء متى شئنا، في أي وقت.
هذه الوجهة من الرأي في الفهم لا تفترض شيئًا من قبيل «عين العقل»، أو العضو العقلي للإدراك؛ بل تفترض فحسب قدرتنا على إنتاج موضوعات معينة للعالم ٣، وبخاصة منها اللغوية. هذه القدرة بدورها هي بلا شك نتاج الممارسة، فالطفل الرضيع يبدأ بصنع ضوضاء بسيطة جدًّا. لقد وُلِدَ ولديه رغبة في أن ينسخ، في أن يعيد صنع المنطوقات اللغوية الصعبة. الشيء الحاسم هو أننا نتعلم فعل الأشياء بأن نفعل الأشياء، في المواقف الملائمة، بما فيها المواقف الثقافية: نحن نتعلم كيف نقرأ، كيف نجادل.
على أن تَعَلُّم الإدراك من خلال الفعل هو عملية طبيعية إلى حد كبير. نحن نتعلم أن نفك رموز الإشارات المرمَّزة التي تصل إلينا: نحن نفك رموزها على نحو لا شعوري شبه تام، تلقائيًّا، بلغة الأشياء الواقعية. نحن «نتعلم» أن نسلك، وأن نَخبُر، كما لو أننا «واقعيون مباشرون»؛ وبعبارة أخرى نحن نتعلم أن نَخبر الأشياء مباشرة، كما لو لم تكن ثمة حاجة لأي فك للرموز (وأنا أحدس بأن هذا ينطبق على جميع أعضاء الحس وأن الخفاش، الذي يعتمد على رادار صوتي، «يرى» الموانع المادية المسموعة بنفس المباشرة التي «تراها» بها بعض الثدييات الأخرى رؤية بصرية).
الأمر شبيه بذلك بالنسبة لموضوعات العالم ٣، وإن تكن عملية التعلُّم هنا ليست طبيعية بل ثقافية واجتماعية. ويسري هذا على العملية الأكثر جوهرية وأساسية بين عمليات تعلم العالم ٣، وهي عملية تعلم لغة. يصبح فك الرموز أمرًا لا شعوريًّا إلى حد كبير بالنسبة لمستخدمي اللغة وقارئي الكتب؛ غير أن هناك فروقًا. فقد تُصادفنا أحيانًا جُمَل معقدة وإن تكن صحيحة ونجد لزامًا علينا أن نقرأها مرتين أو ثلاثًا قبل أن نفهمها، لا يحدث ذلك إلا نادرًا في حالة الإدراك البصري ولكنه يحدث على الدوام في حالة الخدع البصرية المبتكرة خصوصًا (لا يمكننا، كقاعدة عامة، أن نفك شفرة هذه الخدع على نحو صحيح؛ والحق أن بوسع المرء أن يقول بأنه لا يوجد هناك فك «صحيح» للرموز).
إن لدينا حب استطلاع فطريًا قائمًا على أساس جيني، وغريزة استكشاف تجعلنا نَشِطين في استكشاف بيئتنا الفيزيائية وبيئتنا الاجتماعية. في كلا المجالين نحن حَلَّالون نَشِطون للمشكلات. في مجال الإدراك الحسي يفضي هذا، تحت الظروف العادية، إلى فك رموزٍ لا شعوري لا يخطئ تقريبًا. وفي المجال الثقافي يؤدي بنا أولًا وقبل كل شيء إلى أن نتعلم الكلام، وفيما بعد إلى أن نتعلم أن نقرأ ونتفهم العلم والفن. وبالنسبة للرسائل البسيطة تغدو اللغة والقراءة عملية فك رموز تماثل في لاشعوريتها عملية الإدراك البصري. إن القدرة على تعلُّم لغة وصفية وجدلية هي قدرة مؤسسة جينيًّا، وخاصة بالإنسان وحده. وبوسعنا أن نقول عن الأساس الجيني المادي إنه هنا يتجاوز نفسه: يصبح هو أساس التعلم الثقافي، أساس الإسهام في حضارة، والإسهام في تقاليد العالم ٣.
(١٤) واقعية موضوعات العالم ٣ غير المتجسدة
هكذا فنحن نتعلم، لا بالرؤية أو التأمل المباشر بل بالممارسة؛ بالإسهام النشط، نتعلم كيف نصنع موضوعات العالم ٣، وكيف نفهمها، وكيف «نراها». وهذا يشمل «الإحساس» بالمشكلات التي لم يتم حلها، وحتى المشكلات التي لم تتم صياغتها. قد يدفعنا هذا إلى التفكير، إلى فحص النظريات الموجودة، وإلى اكتشاف مشكلة نحس بوجودها إحساسًا غامضًا، وإلى إنتاج نظريات نأمل فيها حلًّا للمشكلة. في هذه العملية قد تلعب النظريات المنشورة — النظريات المتجسدة — دورًا. ولكن العلاقات المنطقية غير المستكشفة بعدُ بين النظريات الموجودة قد تلعب دورًا أيضًا. تُعَد كل من هذه النظريات وعلاقاتها المنطقية موضوعات من العالم ٣، ولا يضير طبيعتها كموضوعات للعالم ٣ ولا فهمنا لها المنتمي للعالم ٢ أن تكون هذه الموضوعات متجسدة أو غير متجسدة. هكذا فإن موقفًا منطقيًّا مشكِلًا غير مستكشَف بعد وغير متجسد بعد قد يثبت أنه حاسم لعملياتنا الفكرية، وقد يؤدي إلى أفعال لها تأثيراتها في العالم ١ الفيزيائي، إلى نشر «علمي» على سبيل المثال (لعل من أمثلة ذلك عملية البحث عن، واكتشاف، برهان جديد نشتبه بوجوده لنظرية رياضية).
بهذه الطريقة يمكن لموضوعات العالم ٣، متضمنة الاحتمالات المنطقية التي لم تُستكشَف تمامًا حتى الآن، أن تؤثر على العالم ٢، أي على عقولنا، علينا. ونحن بدورنا يمكن أن نؤثر على العالم ١.
هكذا يمكن حتى لموضوعات العالم ٣ غير المتجسدة أن تُعَد واقعية، وليس فقط الأوراق والكتب التي تُنشَر فيها نظرياتنا الفيزيائية، أو الأدوات المادية القائمة على هذه المنشورات.
(١٥) العالم ٣ ومشكلة العقل-الجسم
إنه لمن الحدوس الافتراضية المركزية التي أقترحها في هذا الكتاب أن الالتفات إلى العالم ٣ وأخذه بعين الاعتبار يمكن أن يُلقي بعض الضوء على مشكلة العقل-الجسم. وسأعرض باختصار لثلاث حجج.
الحجة الأولى هي كما يلي:
-
(١)
موضوعات العالم ٣ مجردة (أكثر تجريدًا حتى من القُوى الفيزيائية)، ورغم هذا فهي واقعية؛ ذلك لأنها أدوات فعالة لتغيير العالم ١ (لا أود أن أُضَمِّن أن هذا هو السبب الوحيد لتسميتها واقعية، أو أنها ليست غير أدوات).
-
(٢)
لا تمارس موضوعات العالم ٣ تأثيرًا على العالم ١ إلا من خلال التدخل الإنساني، أي تدخُّل صانعيها، وعلى الأخص من خلال فهمها الذي هو عملية تنتمي إلى العالم ٢، أو بتعبير أدق هو عملية يتفاعل فيها العالم ٢ والعالم ٣.
-
(٣)
علينا إذن أن نسلِّم بأن كلا العالمين موضوعي: موضوعات العالم ٣ وعمليات العالم ٢، وإن يكن اعترافنا بذلك صعبًا، ربما لأننا نقدِّر التراث العظيم للمادية ونُجِلُّه.
أعتقد أن هذه حجة مقبولة، وإن يكن من الجائز أن ينكر شخصٌ ما أي واحدة من فرضياتها. فقد ينكر أن النظريات مجردة، أو ينكر أن لها أثرًا على العالم ١، أو يدعي أن النظريات المجردة يمكن أن تؤثر على العالم الفيزيائي تأثيرًا مباشرًا (وأعتقد بالطبع أنه سيجد عسرًا شديدًا في دفاعه عن أيٍّ من هذه الآراء).
فلقد رأينا أن ضربًا من التفاعل بين العالمين ٢، ٣ («الفهم») يمكن تأويله على أنه صنع لموضوعات العالم ٣ وعلى أنه مقارنة بينها بواسطة الانتخاب النقدي؛ وإن شيئًا شبيهًا بذلك يبدو أنه الحاصل في عملية الإدراك البصري لأشياء العالم ١. يومئ هذا إلى أن علينا أن ننظر إلى العالم ٢ على أنه نَشِط، منتِج ونقدي (صنع ومقارنة). ولكن لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن بعض العمليات النيوروفسيولوجية اللاشعورية تحقق هذا بالضبط. ولعل هذا يسهِّل علينا بعض الشيء أن «نفهم» أن العمليات الشعورية (الواعية) قد تجري على مسارات مثيلة: إن «من الممكن فهمه» إلى حد ما أن العمليات الواعية تؤدي مهامَّ مثيلة لتلك التي تؤديها العمليات العصبية.
يبدو أن القدرة على تعلُّم لغة — وحتى الحاجة الشديدة لتعلُّم لغة — هي جزء من البنية الجينية للإنسان. وعلى العكس، فإن التعلُّم الفعلي للغة معينة، وإن يكن متأثرًا بالحاجات والدوافع المفطورة اللاشعورية، ليس عملية تنظمها الجينات؛ وهي من ثَم ليست عملية طبيعية بل عملية ثقافية، عملية ينظمها العالم ٣. وهكذا فإن تعلم اللغة هو عملية تتداخل فيها، نوعًا ما، ميول مؤسسة جينيًّا طوَّرها الانتخاب الطبيعي وتتفاعل مع عملية واعية من الاستكشاف والتعلُّم قائمة على التطور الثقافي. وهذا يدعم فكرة وجود تفاعل بين العالم ٣ والعالم ١؛ ويدعم، بالنظر إلى حججنا السابقة، وجود العالم ٢.
لقد تناول العديدُ من علماء البيولوجيا البارزين (هكسلي، ١٩٤٢م؛ ميداوار، ١٩٦٠م؛ دوبزانسكي، ١٩٦٢م) مسألة العلاقة بين التطور الجيني والتطور الثقافي. ويمكننا القول بأن التطور الثقافي يواصل ويستأنِف التطورَ الجيني بواسطة أخرى: بواسطة موضوعات العالم ٣.
كثيرًا ما يجري التوكيد على أن الإنسان حيوانٌ صانعٌ للأدوات؛ وإنه لكذلك. على أننا إذا كنا نعني بالأدوات أجسامًا فيزيائية مادية فمن الأهمية بمكان أن نلاحظ أنه لا شيء من الأدوات البشرية محددٌ جينيًّا، ولا حتى العصا. والأداة الوحيدة التي يبدو أن لها أساسًا جينيًّا هي اللغة. إن اللغة غير مادية، وتظهر في أشكالٍ فيزيائية شديدة التنوع — أي في شكل أنساقٍ شديدة الاختلاف من الأصوات الفيزيائية.
ومن السلوكيين مَن يستنكف الحديثَ عن «اللغة»، ولا يتحدث إلا عن «المتكلمين» بلغة معينة أو بأخرى. غير أن الأمر أبعد من ذلك. جميع البشر الأسوياء يتكلمون، والكلام بالنسبة لهم ذو أهمية قصوى؛ حتى أن فتاةً صماء بكماء عمياء مثل هيلين كيلر قد اكتسبت، بحماسة وسرعة، بديلًا للكلام بلغت من خلاله تمكُّنًا حقيقيًّا من اللغة الإنجليزية ومن الأدب. إن لغتها من الوجهة الفيزيائية مختلفة اختلافًا شاسعًا عن الإنجليزية المنطوقة، ولكنها تُناظِر الإنجليزيةَ المكتوبة أو المطبوعة تَناظُرَ واحدٍ لواحد. ولا مجال للشك بأنها كانت قمينةً أن تكتسب أي لغة أخرى بدلًا من الإنجليزية. إن حاجتها المُلِحَّة (وإن تكن لا شعورية) كانت إلى اللغة؛ اللغة في المجرَّد.
واللغات المتعددة، كما يتبين من أعدادها واختلافاتها، هي من صنع الإنسان: إنها موضوعات من العالم ٣، وإن مكنت لها قدرات وحاجات وأهداف أصبحت مترسِّخة جينيًّا. يكتسب كل طفلٍ سَوِيٍّ لغةً من خلال فعلٍ نَشِطٍ جدًّا، ممتع وربما أيضًا مؤلم. والإنجاز الفكري الذي يرافقُه هو إنجاز هائل. لهذا الجهد بطبيعة الحال أثر قوي، بالتغذية الراجعة، على شخصية الطفل، وعلى علاقاته بالأشخاص الآخرين، وعلى علاقاته ببيئته المادية.
هكذا يمكننا القول بأن الطفل هو، جزئيًّا، نتاجُ إنجازِه (الشخصي). إنه، هو نفسه، منتَج للعالم ٣ إلى حد ما. وبالضبط مثلما أن تمكن الطفل من بيئته المادية ووعيه بها موصول بقدرته المكتسبة حديثًا على الكلام، كذلك أيضًا وعيه بذاته. الذات، الشخصية، تنبثق في التفاعل مع الذوات الأخرى ومع منتجات بيئته وموضوعاتها الأخرى. ويتأثر كل هذا تأثرًا عميقًا باكتساب الكلام؛ وبخاصة عندما يصبح الطفل واعيًا باسمه، وعندما يتعلم أن يسمِّي مختلف أجزاء جسمه، وبالأخص عندما يتعلم استخدام الضمائر الشخصية.
تتصف حالة الثبات بالأنظمة المفتوحة بما يسمى ﺑ equifinality (تكافؤ غائي): إنها، بعكس التوازنات في الأنظمة المغلقة والتي تحددها حالاتُها البدئية، قد تبلغ حالة لا تتوقف على حالاتها البدئية ولا تتوقف على الزمن ولا تحددها إلا أحكام النظام نفسه. تُظهِر الأنظمةُ المفتوحة، كما أسلفنا، خصائصَ ديناميكية حرارية تبدو مفارِقة، يقتضي القانون الثاني للديناميكا الحرارية أن مآل الأحداث الفيزيائية (أي الأنظمة المغلقة) موجَّهٌ إلى زيادة الإنتروبي وطمس الفروق وحالات الاضطراب القصوى. أما في الأنظمة المفتوحة فإن بالإمكان جلب» الإنتروبي السالب «مع انتقال المادة، ومن ثَم تستطيع هذه الأنظمة أن تحفظ نفسَها في الظروف الحرجة وتبقى على مستوًى عالٍ من التنظيم والتعقيد، بل إن بإمكانها أن تتقدم نحو مزيدٍ من التنسيق والتمايز، كما هو الحال في عملية النمو والتطور» (Ludwig von Bertalanffy, General System Theory and Psychiatry, in Silvano Arieti (ed.), American Handbook of Psychiatry, vol. 1, Second Edition, Basic Books, Inc., publishers, New York, 1974, pp. 1100-1101). (المترجم)