نقد المذهب المادي
(١٦) أربعة مواقف مادية أو فيزيائية١
وأنا أسمي هذا بمبدأ المذهب الفيزيائي في انغلاق العالم ١ الفيزيائي. إنه مبدأ حاسم الأهمية، وأنا أعتبره المبدأ المميز للمذهب الفيزيائي أو المادي.
في هذا القسم التمهيدي سأميز المواقف المادية أو الفيزيائية الأربعة التالية:
-
(١)
المادية الجذرية أو المذهب الفيزيائي الجذري، أو السلوكية الجذرية: وهي تلك الوجهة من الرأي القائلة بأن العمليات الواعية أو العمليات العقلية لا وجود لها؛ أن وجودها يمكن أن يُنكَر (يُجحَد) (على حد تعبير كواين W. V. Quine).لا أظن أن كثيرًا من الماديين قد اتخذوا هذا الرأي في الماضي (انظر قسم ٥٦ لاحقًا)، لأنه يقف في تناقض صارخ مع ما يبدو لمعظمنا كوقائع لا يمكن إنكارها، مثل الألم والمعاناة (الذاتيين)، ويحاول في النهاية أن يثبت عدم وجود هذه الوقائع؛ فالمذاهب الكلاسيكية الكبرى للمادية، من الماديين اليونانيين الأوائل إلى هوبز ولامتري ليست «جذرية» بمعنى إنكار وجود الوعي أو العمليات العقلية. ولا «المادية الديالكتيكية» الخاصة بماركس ولينين «جذرية» بهذا المعنى. ولا المذهب السلوكي لمعظم علماء النفس السلوكيين.٢ورغم ذلك فإن ما أسميه بالمادية الجذرية (أو المذهب الفيزيائي الجذري أو السلوكية الجذرية) هو موقف مهم لا ينبغي تجاهله. أولًا لأنه متسق في ذاته. وثانيًا لأنه يقدم حلًا بسيطًا جدًّا لمشكلة العقل-الجسم: فمن الواضح أن المشكلة تتبدد إذا لم يكن ثمة عقل، بل جسم فحسب٣ (تتبدد المشكلة أيضًا، بطبيعة الحال، إذا تبنينا مذهبًا روحيًّا أو مثاليًّا جذريًّا، مثل «ظاهرية» phenomenalism باركلي أو ماخ، التي تنكر وجود المادة). ثالثًا لأنه في ضوء نظرية التطور فإن المادة، وبخاصة العمليات الكيميائية، وُجِدت قبل أن توجد العمليات العقلية. تشير النظريات الراهنة إلى أن تطور الجسم ونموه يأتيان قبل تطور العقل ونموه، وأنهما هما أساس تطور العقل ونموه. وما دام ذلك كذلك فمن المفهوم أننا تحت تأثير العلم المعاصر، عُرضة لأن نصبح من أصحاب المذهب الفيزيائي الجذري إذا كنا شديدي الميل إلى الواحدية والبساطة، ولا نرغب في قبول نظرة ثنائية أو تعددية إلى الأشياء.
وإنما لأسباب مثل هذه يجد المذهب الفيزيائي الجذري أو السلوكية الجذرية قبولًا من جانب بعض الفلاسفة البارزين من أمثال كواين (١٩٦٠م، ص٢٦٤؛ ١٩٧٥م، ص٩٣ وما بعدها)؛ وكثيرًا ما يبشِّر آخرون بأن شيئًا شبيهًا جدًّا بالمذهب الفيزيائي الجذري أو السلوكية الجذرية سوف يفرض نفسه في النهاية، ربما بسبب نتائج العلم أو نتائج التحليل الفلسفي. وإن إشارات من هذا القبيل، وإن لم تسلم دائمًا من الغموض، ليمكن العثور عليها مثلًا في أعمال رايل (١٩٤٩، ١٩٥٠م) أو فتجنشتين (١٩٥٣م)؛ أو هيلاري بتنام (١٩٦٠م) أو سمارت (١٩٦٣م). والحق أن بوسع المرء أن يقول إنه في زمن كتابة (هذا العمل) فإن المادية الجذرية أو السلوكية الجذرية يبدو أنها الرأي الأكثر رواجًا فيما يتعلق بمشكلة العقل-الجسم بين الجيل الأصغر من طلاب الفلسفة. وهكذا ينبغي أن تناقَش.
سيتخذ نقدي للمادية الجذرية أو السلوكية الجذرية ثلاثة خطوط: أولًا سأحاجُّ بأنه بإنكار وجود الوعي فإن هذه النظرة إلى العالم تبسِّط الكوزمولوجيا، غير أنها تفعل ذلك بتغافل، وليس بحل، أعظم ألغازها وأكثرها إثارة. سأحاج فضلًا عن ذلك بأن المبدأ الذي يتبناه الكثيرون على أنه «علمي»، والذي يحبذ السلوكية الجذرية، إنما ينجم عن سوء فهمٍ لمنهج العلوم الطبيعية. وأخيرًا سأحاج بأن هذه النظرة زائفة، وأنها مفنَّدة بالتجربة (وإنْ يكن من الممكن بالطبع تجنب التفنيد بصفة دائمة)٤،٥. -
(٢)
جميع الآراء الأخرى التي أصنفها هنا على أنها مادية تسلِّم بوجود العمليات العقلية وبخاصة العمليات الواعية: أي تسلِّم بما أسميه العالم ٢. غير أنها تقبل المبدأ الأساسي للمذهب الفيزيائي، أي انغلاق العالم ١.
يعود الرأي الأقدم بين هذه الآراء، مذهب شمول النفس، إلى الفلاسفة الأوائل قبل السقراطيين Presocratics وإلى كمبانيللا Campanella. وقد تم عرضه بتوسع في كتاب «الأخلاق» لسبينوزا، وكتاب «المونادولوجيا» لليبنتز.ومذهب شمول النفس هو الرأي القائل بأن لكل مادة جانبًا داخليًّا هو «كيفية» شبيهة بالروح أو شبيهة بالوعي. وعليه فإن المادة والعقل، وفقًا لمذهب شمول النفس، يمضيان «متوازيَين» مثل الوجهين الخارجي والداخلي لقشرة بيضة (مذهب التوازي الاسبينوزي). ففي المادة غير الحية قد لا يكون الوجه الداخلي واعيًا: قد يوصف السلف شبه الروحي للوعي بأنه «قبْل-نفسي» pre-psychical أو proto-psychical. ومع اندماج الذرات في جزيئات عملاقة ومادة حية تنبثق نواتج شبيهة بالذاكرة؛ ومع الحيوانات العليا ينبثق الوعي.كان لمذهب شمول النفس أنصار في بريطانيا، ونخص بالذكر الرياضي والفيلسوف وليم كينجدون كليفورد (١٨٧٩، ١٨٨٦م). يذهب كليفورد (غيرَ بعيد عن مذهب التوازي عند ليبنتز) إلى أن الأشياء في ذاتها هي خامة عقلية (قبل-نفسية أو حتى نفسية)، وإن بدت مادية إذ تُلاحَظ من خارج.٦وشمول النفس يشارك الماديةَ الجذرية بساطةً معينة في وجهة النظر. فالعالم في كلتا الحالتين متجانس وواحدي. ويمكن تمامًا أن يتخذ كلاهما شعار «لا جديد، في الحقيقة، تحت الشمس»، الذي يعبر عن أسلوب حياة مريح وإن يكن غيرَ مثير من الوجهة الفكرية. على أن كل شيء في العالم سيبدو في غاية الانسجام فور تبني وجهة النظر المادية الجذرية أو وجهة النظر الشمولية النفسية.
-
(٣)
يمكن تفسير مذهب الظاهرة المصاحبة (الثانوية) epiphenomenalism على أنه تعديل لمذهب شمول النفس، حيث يُحذَف عنصر الشمول (pan) ويُقصر «مذهب النفس» على تلك الأشياء الحية التي يبدو أن لها عقلًا. وهو، شأنه شأن مذهب شمول النفس، لون من مذهب التوازي، أي القول بأن العمليات العقلية تجري موازية لعمليات جسمية معينة؛ لأنهما الوجهان الداخلي والخارجي لكيان ثالث ما (غير معلوم).
ورغم ذلك فقد تكون هناك أشكال من مذهب الظاهرة المصاحبة ليست من مذهب التوازي في شيء: إن ما أعده جوهريًّا في مذهب الظاهرة المصاحبة هو الدعوى بأن العمليات الجسمية وحدها هي ذات الصلة عِلِّيًّا بالعمليات الجسمية اللاحقة، في حين أن العمليات العقلية، وإن تكن موجودة، غيرُ ذات صلة عِلِّيًّا على الإطلاق.
-
(٤)
تُعَد نظرية الهوية identity theory، أو نظرية الحالة المركزية، في الوقت الحالي هي الأوسع نفوذًا بين النظريات التي نشأت استجابةً لمشكلة العقل-الجسم. ويمكن أن نعدها تحويرًا لكلٍّ من نظرية شمول النفس ونظرية الظاهرة المصاحبة. ويمكن النظر إليها، شأنها في ذلك شأن نظرية الظاهرة المصاحبة، على أنها مذهب شمول النفس بدون عنصر الشمول (pan). غير أنها بخلاف مذهب الظاهرة المصاحبة تُولِي الوقائعَ العقليةَ أهميةً وتعزو إليها تأثيرًا عِلِّيًّا. تذهب هذه النظرية إلى أن هناك ضربًا ما من «الهوية» بين العمليات العقلية وبين عملياتٍ دماغية معينة: ليست هوية بالمعنى المنطقي ولكنها تبقى هوية من قبيل تلك الهوية التي بين «نجم المساء» و«نجم الصباح» اللذين هما اسمان بديلان لنفس الكوكب الواحد: «الزُّهَرة»؛ وإن كانا أيضًا يشيران إلى تجليين مختلفين لكوكب الزهرة. وفقًا لأحد أشكال مذهب الهوية، ويُعزَى لشليك وفايجل، تُعتبر العمليات العقلية (مثلما اعتبرها ليبنتز) هي الأشياء في ذاتها، والتي تُعرَف بالاتصال المباشر، من الداخل، على حين أن نظرياتنا عن العمليات الدماغية — تلك العمليات التي لا نعرفها إلا بالوصف النظري — يتفق أن تصف نفس الأشياء من الخارج. وعلى خلاف صاحب نظرية الظاهرة المصاحبة فإن بوسع صاحب مذهب الهوية أن يقول بأن العمليات العقلية تتفاعل مع العمليات الجسمية، لأن العمليات العقلية هي، ببساطة، عمليات جسمية، أو، بدقة أكثر، أنواع معينة من العمليات الدماغية.
وقد شرحتُ باختصار، في قسم ١٠ سابقًا، المثال الخاص بزيارة لطبيب الأسنان، لكي أوضح الطريقة التي تشارك بها الحالات الجسمية (العالم ١)، ودرايتنا الواعية (العالم ٢)، والخطط والمؤسسات (العالم ٣)، تشارك جميعًا في مثل هذه الأفعال. وقد تتضح سمة نظرياتنا المادية الأربع من خلال الطريقة التي تفسر بها مثل هذا الحدث. تشتمل هذه الحالة على تضرر ضرس لنا، وإصابتنا بألم الأسنان، واتصالنا بطبيب الأسنان لحجز موعد، وزيارتنا من ثم له لتلقي العلاج.
-
(١)
تفسير المادية الجذرية:٧ ثمة عمليات في سِني تؤدي إلى عمليات في جهازي العصبي. كل ما يجري يتكون من عمليات جسمية محصورة في العالم ١ (بما فيها سلوكي اللفظي، أي نطقي بكلمات على الهاتف).
-
(٢)
تفسير مذهب شمول النفس: هناك نفس العمليات الجسمية كما في (١)، غير أن هناك أيضًا وجهًا آخر للقصة. ثمة رواية «موازية» (قد يفسرها مختلف الأشخاص من أنصار المذهب على أنحاء مختلفة) تقدم القصة كما نَخبُرُها. تنبِئنا نظريةُ شمول النفس ليس فقط أن خبرتنا «تناظر» بشكلٍ ما التفسير الجسمي المقدم في (١)، بل أن الأشياء المتضمَّنة التي تبدو جسمية خالصة (مثل التليفون) لها أيضًا «وجه داخلي» مماثل بدرجة أو بأخرى لوعينا الداخلي نفسه.
-
(٣)
تفسير مذهب الظاهرة المصاحبة (الثانوية): هناك نفس العمليات الجسمية كما في (١)، وبقية القصة غير بعيدة عن (٢) ولكنها تختلف عن (٢) فيما يلي: (أ) الأشياء «الحية» فقط هي ما يملك خبرات «داخلية» أو ذاتية. (ب) في حين تشير (٢) أن لدينا روايتين مختلفتين ولكنهما صحيحتان بنفس القدر، فإن نصير مذهب الظاهرة المصاحبة لا يعطي فقط أولوية للرواية الجسمية بل يؤكد أن الخبرات الذاتية فائضة عِلِّيًّا: فإحساسي بالألم لا يلعب أي دور عِلِّي في القصة على الإطلاق؛ إنه لا يحرك فِعلي الذي أقوم به.
-
(٤)
نظرية الهوية: نفس ما في (١) ولكن هذه المرة نحن نميز بين تلك العمليات الخاصة بالعالم ١ التي ليست متماهية مع الخبرات الواعية (العالم ١ج: حيث الرمز الدليلي السفلي يرمز إلى «الجسمي البحت») وبين تلك العمليات الجسمية المتماهية مع العمليات المختبَرة أو الواعية (العالم ١ع: حيث الرمز الدليلي السفلي ع يرمز إلى «العقلي»). يمكن لِشَطرَي العالم ١ (أي العالمين الفرعيين ١ج، ١ع) بطبيعة الحال أن يتفاعلا. وعليه فإن ألمي (العالم ١ع) يفعل في مخزون ذاكرتي، وهذا يجعلني أبحث عن رقم الهاتف. كل شيء يحدث كما في التحليل التفاعلي (وهذا فيما أعتقد هو ما يجعل هذا الرأي جذابًا)؛ فقط عالمي ٢ (متضمنًا معرفتي الذاتية) هو ما يتماهى مع العالم ١ع، أي مع جزء من العالم ١، بينما يتماهى العالم ٣ مع أجزاء أخرى للعالم ١: مع الأجهزة والأدوات من مثل دليل التليفونات أو التليفون (أو ربما بعمليات دماغية: إذ إن المضامين المعرفية المجردة، التي هي لُبُّ لُبابِ العالم ٣ عندي، لا وجود لها عند صاحب نظرية الهوية).
(١٧) المادية والعالم ٣ المستقل
كيف يبدو العالم ٣ من وجهة نظرٍ مادية؟ من الواضح أن الوجود الظاهر للطائرات والمطارات والدراجات والكتب والمباني والسيارات والحواسيب والجرامافونات والمحاضرات والمخطوطات واللوحات والمنحوتات والتليفونات؛ لا يمثل مشكلة بالنسبة لأي شكل من أشكال المذهب الفيزيائي أو المادي. فإذا كانت هذه الأشياء عند صاحب مذهب الكثرة هي المثولات المادية، أو التجسدات، لأشياء العالم ٣ فإنها عند المادي هي، ببساطة، أجزاء العالم ١.
ومع ذلك فلا العقلي ولا المادي يمكن بهذه الطريقة أن يكون منصفًا لموضوعات العالم ٣، وبخاصة لمضامين النظريات وعلاقاتها المنطقية الموضوعية.
جملة القول أن موضوعات العالم ٣ وخواصها وعلاقاتها لا يمكن أن تُرَد (تُختزَل) إلى موضوعات العالم ٢؛ ولا هو من الممكن أن تُرد إلى حالات الدماغ أو ميوله؛ لا يمكن ذلك حتى لو حُمِلنا على أن نسلِّم بأن جميع الحالات والعمليات العقلية يمكن ردها إلى حالات وعمليات دماغية. هكذا الأمر رغم واقعة أن بوسعنا أن نعتبر العالم ٣ هو نتاج العقول البشرية.
تلك بعض الأسباب التي تفسر لماذا أعتقد أن العالم ١ ليس مغلقًا عِلِّيًّا، ولماذا أقرر أن هناك تفاعلًا (وإن يكن غير مباشر) بين العالم ١ والعالم ٣. إنه لَيبدو لي واضحًا أن هذا التفاعل تتوسطه أحداث العالم ٢ العقلية، بل الواعية جزئيًّا.
لا يَسَع صاحبَ المذهب الفيزيائي بالطبع أن يسلِّم بأيٍّ من ذلك.
أعتقد أن صاحب المذهب الفيزيائي يمتنع عليه أيضًا حل مشكلة أخرى: فليس بإمكانه أن يقدر الوظائف العليا للغة حق قدرها.
ولكي نرى نقطة الخلاف فإن من الضروري أن نعرض باختصار لنظرية وظائف اللغة.
قد تثار التعليقات التالية على هذا المخطط:
-
(١)
الوظيفة التعبيرية عبارة عن تعبير خارجي عن حالة داخلية، فحتى الأجهزة البسيطة من قبيل الترمومتر أو ضوء المرور «تعبر» عن حالاتها بهذا المعنى. ومع ذلك فليست الأدوات فقط بل الحيوانات أيضًا (وأحيانًا النباتات) تعبر عن حالتها الداخلية في سلوكها. وكذلك يفعل الإنسان بطبيعة الحال. الحق أن أي فعل نقوم به، وليس فقط استخدام اللغة، هو شكل من التعبير الذاتي.
-
(٢)
الوظيفة الإشارية١٢ (يسميها بولر أيضًا «وظيفة النشر») تفترض مسبقًا الوظيفة التعبيرية، وهي إذن على مستوى أعلى. قد يخطِرنا الترمومتر أن الطقس بارد جدًّا. وضوء المرور جهاز إشاري (رغم أنه قد يمضي في العمل خلال أوقات قد لا توجد بها دائمًا سيارات بمقربة). والحيوانات، وبخاصة الطيور، تعطي إشارات خطر؛ وحتى النباتات تشير (للحشرات مثلًا)؛ وعندما يؤدي تعبيرنا الذاتي (سواء اللغوي أو غيره) إلى رد فعل، في حيوانٍ أو في إنسان، يمكننا أن نقول إنه أُخِذ مأخذ الإشارة.
-
(٣)
الوظيفة الوصفية للغة تفترض مسبقًا الوظيفتين الأدنى. غير أن ما يميزها هو أنها، علاوة على التعبير والتواصل (اللذيْن قد يصبحان جانبين للموقف غير مهمين على الإطلاق)، تصنع عبارات يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة: تُدخَل معايير الصدق والكذب (يمكن أن نميز شطرًا أدنى للوظيفة الوصفية حيث الأوصاف الكاذبة خارجة عن قدرة الحيوان (النحل؟) على التجريد. وقد ينضوي المِرسام الحراري (الثرموجراف) هنا؛ لأنه يقول الحقيقة ما لم يتعطَّل).
-
(٤)
الوظيفة الجدلية تضيف الحجة إلى الوظائف الثلاث الأدنى، مع قيمتَيها: الصواب والخطأ.
وبعد، فإن الوظيفتين (١) و(٢) موجودتان في اللغة البشرية دائمًا تقريبًا؛ ولكنهما، كقاعدة، غير مهمتين، على الأقل عندما تقارنان بالوظيفتين الوصفية والجدلية.
وقد نذكر أيضًا أن الانفتاح المميز للغة البشرية، أي القدرة على تنوع لا نهايةَ له من الاستجابات لأي موقفٍ معطًى، تلك القدرة التي لفت انتباهنا إليها بقوة نوام تشومسكي بصفة خاصة، يتعلق بالوظيفة الوصفية للغة. أما صورة اللغة — واكتساب اللغة — كما يقدمها فلاسفة ذوو ميول سلوكية مثل كواين فتبدو في الحقيقة صورة الوظيفة الإشارية للغة. ويتوقف هذا بطبعه على الموقف السائد. وكما بَيَّنَ تشومسكي (١٩٦٩م) فإن الوصف الذي يقدمه السلوكي لا ينظر بعين الاعتبار لحقيقة أن العبارة الوصفية قد تكون مستقلة كثيرًا عن الموقف الذي تُستخدَم فيه.
(١٨) المادية الجذرية والسلوكية الجذرية
من المؤكد أن المادية الجذرية أو المذهب الفيزيائي الجذري هو موقف متسق ذاتيًّا. فهو وجهة نظرٍ إلى العالَم كانت، على حد علمنا، وافيةً يومًا ما، أعني قبل ظهور الحياة والوعي.
ولكن هذا المبدأ الهام لا يشير إلا إلى «عبارات الاختبار» الخاصة بعلمٍ من العلوم. ومثلما في الفيزياء نُدخِل الكيانات النظرية — الإلكترونات والجسيمات الأخرى، وحقول القُوى … إلخ — من أجل أن نفسر عبارات ملاحظتنا (عن صور الأحداث في حجرات الفقاقيع على سبيل المثال)، فإن بوسعنا في علم النفس أن نُدخِل الأحداث والعمليات العقلية الشعورية واللاشعورية إذا كانت هذه تعيننا في تفسير السلوك البشري، كالسلوك اللفظي مثلًا. في هذه الحالة فإن افتراض وجود عقلٍ وخبرات واعية ذاتية في كل فرد بشري سويٍّ هو نظرية سيكولوجية تفسيرية تُضارع تقريبًا افتراض وجود أجسامٍ مادية ثابتة نسبيًّا في الفيزياء. في كلتا الحالتين فإن الكيانات النظرية لا تُدخَل كشيءٍ نهائي؛ كالجواهر بالمعنى التقليدي، كلتاهما تخلق أقاليم شاسعة من المشكلات غير المحلولة، وكذلك يفعل تفاعلهما. غير أنه في كلتا الحالتين فإن نظرياتنا قابلة للاختبار على نحو جيد: في الفيزياء بواسطة تجارب الميكانيكا؛ وفي علم النفس بواسطة تجارب معينة تُفضِي إلى تقارير لفظية قابلة للتكرار (وبالتالي إلى «سلوك لفظي» قابل للتكرار). وحيث إن كل المجَرَّب عليهم (أو كلهم تقريبًا) يستجيبون في هذه التجارب بنفس التقارير بشكلٍ ملحوظ — تقارير عما يَخْبرونه ذاتيًّا في الموقف التجريبي — فإن نظرية امتلاكهم هذه الخبرات الذاتية تعد مختبَرة جيدًا.
سأصف هنا تجربةً بسيطةً يمكن لكل قارئ أن يُجريها بنفسه، ويجريها مع أيٍّ من أصدقائه. وهي مأخوذة من عمل السيكولوجي التجريبي الدنمركي العظيم إدجار روبين (١٩٥٠م، ص٣٦٦ وما بعدها). وأستخدم الخدع البصرية لأن ها هنا يصبح طابع الخبرات الذاتية واضحًا جدًّا.
الشكلان التاليان مأخوذان من روبين مع تغييرات طفيفة جدًّا.
والآن نوجه إليه السؤالين الآتيين:
يعرض الشكل بطريقة ملتبسة الصورة الجانبية لهندي أمريكي ومنظر، من الخلف، لواحدٍ من الإسكيمو. ما أود أن ألفت إليه هو أن بإمكاننا إراديًّا أن نتحول من أحد التأويلين إلى الآخر، وإن لم يكن، ربما، على نحو سهل. يبدو أن أغلب الناس يمكنهم بسهولة رؤية الهندي الأمريكي ويجدون مصاعب في التحول إلى الإسكيمو (على أن بعض الناس يرون العكس).
تبقى كلمة تقال عن الطبيعة غير العادية أو النقيضية لكلا النوعين من التجربة المذكورين هنا؛ الخداع البصري وإثارة بنفيلد للحاء المخ. إن آلية الإدراك الحسي ليست، في الحالة العادية، موجَّهة انعكاسيًّا إلى ذاتها، بل موجَّهة إلى العالم الخارجي. هكذا يمكننا أن ننسى أنفسنا في حالة الإدراك الحسي العادي. ولكي نصبح واضحين تمامًا مع خبرتنا الذاتية من المفيد إذن أن نختار تجارب فيها شيء ما خارج عن المعتاد ويصطدم مع الآلية العادية للإدراك الحسي.
(١٩) مذهب شمول النفس
يُعَلِّم كانْت على خلاف ذلك أن الأشياء في ذاتها ممتنعة على المعرفة. غير أن هناك إشارة قوية بأننا نحن أنفسنا، بوصفنا طبائع أخلاقية، أشياء في ذاتها، وإن تكن هناك أيضًا إشارة بأن بقية الأشياء في ذاتها (تلك التي ليست بشرية) ليست ذات طبيعة عقلية أو روحية؛ فكانت ليس على مذهب شمول النفس.
سأقدم هنا ثلاث حجج ضد مذهب شمول النفس:
-
(١)
نقدي الأول لمذهب شمول النفس هو أن فرضية أنه يجب أن يكون هناك أصلٌ قبل نفسي للعمليات النفسية هو إما قولٌ نافلٌ ولفظي تمامًا، وإما قول مضلِّل؛ فالقول بأن هناك شيئًا ما في التاريخ التطوري قد سبق، بمعنًى ما، العمليات العقلية، هو قول تافه وغامض أيضًا. ولكن الإصرار على أن هذا الشيء يجب أن يكون شبيهًا بالعقل، وأنه يمكن أن يُنسَب حتى للذرات، هو طريقة مضللة في الجدل، فنحن نعرف أن البلورات والمواد الصلبة الأخرى لديها خاصة الصلابة دون أن تكون الصلابة (أو قبل الصلابة) موجودة في السائل قبل التبلر (وإن كان وجود بلورة أو شيء صلب آخر في السائل قد يساعد في عملية التبلر).
بذلك فنحن نعرف عن عمليات في الطبيعة هي «انبثاقية» emergent بمعنى أنها تؤدي، لا بالتدريج بل بشيء أشبه بالقفزة،٣٠ إلى خاصة لم تكن موجودة من قبل. ورغم أن عقل الطفل الرضيع ينمو بالتدريج من حالة قبل-عقلية إلى وعي كامل بالذات، فليس ما يوجب علينا التسليم بأن الطعام الذي يأكله الرضيع (والذي قد يكوِّن دماغَه في النهاية) به خصائص يمكن، لو أسعفتنا المعرفة، أن نصفها بأنها قبل-عقلية أو شبيهة بالعقل ولو شبهًا بعيدًا. بذلك يبدو عنصر الشمول (pan) في مذهب (شمول) النفس عنصرًا مجانيًّا وخياليًّا أيضًا (ولكن ليس بمعنى أن الفكرة تنم عن قدر كبير من التخيل). -
(٢)
يسلِّم مذهبُ شمول النفس، بالطبع، بأن ما نسميه عادةً مادةً غير حية أو مادة عضوية له حياة عقلية أفقر بكثير جدًّا من أي كائن عضوي. وبذلك فإن الخطوة الكبرى من مادة غير حية إلى مادة حية ستناظرها خطوة كبرى من عمليات قبل-نفسية إلى عمليات نفسية. ومن ثَم فليس من الواضح كم يستفيد مذهب شمول النفس، من أجل فهمٍ أفضل لتطور العقل، من افتراض وجود حالات أو عمليات قبل نفسية: فحتى في وصف مذهب شمول النفس فإن شيئًا ما جديدًا تمامًا يدخل إلى العالم مع ظهور الحياة والوراثة، وإن يكن دخوله لا يتم إلا على خطوات عديدة. ولكن الدافع الرئيسي لمذهب شمول النفس بعد الدارويني كان هو تحاشي الاعتراف بانبثاق شيءٍ ما جديدٍ تمامًا.
أن نقول هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن ننكر واقعة أنه يوجد ليس فقط حالات عقلية لا واعية بل أيضًا درجات مختلفة كثيرة من الوعي. فليس ثمة مجال للشك في أن فعل الحلم واعٍ وإنْ على مستوى منخفض من الوعي: إنه لبَونٌ شاسع في الوعي ما بين حلمٍ من الأحلام وبين تقييم ومراجعة نقدية لحجة صعبة. وبالمثل فإن من الواضح أن للطفل الرضيع مستوى منخفضًا من الوعي. وقد يقتضي الأمرُ سنواتٍ، ويقتضي اكتسابَ اللغة، وربما حتى التفكيرَ النقدي، قبل أن يتحقق الوعي الكامل بالذات.
-
(٣)
رغم وجود شيءٍ، بلا شك، يمكن وصفه بالذاكرة اللاشعورية — ذاكرة لَسنا على دراية بها — فإنني أزعم أنه لا يمكن أن يكون هناك وعي أو دراية بدون ذاكرة.
يمكن تبيان ذلك بمساعدة تجربة فكرية:
من المعروف جيدًا أن المرء عقب إصابة أو صدمة كهربية أو تناول عَقَّار — قد يفقد الوعي (وأن فترة من الزمن سابقة على الحدث قد تُمحَى من ذاكرته).
ولنفترض الآن أننا، بتناول عقارٍ أو بعلاجٍ ما آخر، قد نمحو تسجيل الذاكرة لدقائق أو ثوان عديدة.
ولنفترض كذلك بأننا نعالَج بهذه الطريقة على نحو متكرر — وليكن بعد كل «ق» من الثواني — وكل مرة من ذلك تمحو من ذاكرتنا أمدًا من الزمان هو «ك» من الثواني (ولنفرض أن ق > ك).
-
(أ)
من البيِّن لنا على الفور أنه إذا جعلنا الفترات «ق» مساوية للفترات الممحوَّة «ك» فلن تترك أي ذاكرة مسجلة طوال مدة التجربة.
-
(ب)
بما أن الفترات «ق» أطول بعض الشيء من الفترات «ك»، فسوف تترَك لدينا سلسلة من التسجيلات طول كل منها ق-ك.
-
(جـ)
والآن لنفترض (ب) على أن تصبح ق-ك قصيرة جدًّا. أرى أنه في هذه الحالة لا بد أننا نفقد الوعي بفترة التجربة كلها. ذلك أنه بعد كل فقدان ذاكرة (حتى لدى اليقظة من نومٍ عميق) فإننا نستغرق زمنًا قصيرًا ما قبل أن يمكننا أن نستجمع أنفسنا مرةً ثانية ونصبح على وعيٍ كامل. إذا كان هذا الزمن اللازم لأن نصبح على وعيٍ كامل (وليكن نصف ثانية) يتجاوز ق-ك إذن فلن تكون هناك، فيما أرى، أي فترات وجيزة من الوعي أو الدراية لها ذكرى قد مُحِيَت.
ولكي أصوغ أطروحتى هذه بطريقة أخرى فإن حدًّا أدنى معينًا من استمرارية الذاكرة لا بد من توافره لكي يظهر الوعي أو الدراية. ومن ثم فإن التقسيم الذري للذاكرة لا بد أن يدمر الخبرة الواعية، ويدمر في الحقيقة أي شكل من الدراية الواعية.
إن الوعي، وكل صنف من الدراية، ليربط بعضًا من مكوناته بمكوناتٍ أسبَق، وبذلك لا يمكن تصوره على أنه يتكون من أحداث قصيرة بشكلٍ عشوائي. لا يوجد وعيٌ بدون ذاكرة تربط «أفعال الدراية» المكوِّنة له، وهذه بدورها لا يمكن أن توجد ما لم تكن موصولةً بكثيرٍ غيرِها من مثل هذه الأفعال.
ثمة حالات شبيهة بالذاكرة تحدث بالفعل في المادة غير الحية، كما في حالة البلور على سبيل المثال. الفولاذ «يتذكر» أنه قد تمغنط. والبلورة النامية «تتذكر» خطًّا في بنيتها. غير أن هذا شيء مستجد، شيء انبثاقي: أما الذرات والجسيمات الأولية فلا «تتذكر»، إذا كانت النظرية الفيزيائية الراهنة صحيحة.
وعليه فينبغي ألا ننسب حالاتٍ داخلية، أو حالات عقلية، أو حالات واعية، للذرات: فانبثاق الوعي هو مشكلة لا يمكن تجنبها أو تخفيفها بواسطة نظرية شمول النفس. إن مذهب شمول النفس لا أساس له، ومونادولوجيا ليبنتز ينبغي رفضها.
وقد ينبغي أن نضيف أنه يبدو لنا اليوم أن بداية الذاكرة البشرية أو الحيوانية يجب أن تُلتمَس في الآلية الجينية؛ أن الذاكرة بالمعنى الشعوري الواعي هي نتاجٌ متأخر للذاكرة الجينية. إن الأساس الفيزيائي للذاكرة الجينية يبدو في متناوَل العلم، والتفسيرات التي لدينا عنها تجعلها غير ذات صلة على الإطلاق بأي أثر شمولٍ نفسي. بمعنى أنه بخلاف التقدم المستقيم من الذرات المفتقرة لذاكرة إلى ذاكرة الحديد الممغنط ثم إلى ذاكرة النباتات وإلى الذاكرة الواعية، على خلاف ذلك يبدو أن هناك التفافًا هائلًا عبر الذاكرة الجينية. وبذلك تكون نتائج علم الوراثة الحديث مناهِضة بشدة للقول بأن هناك أية قيمة في مذهب شمول النفس؛ أي مناهضة للقول بقدرتها التفسيرية أو باحتمالات نجاحاتها التفسيرية، رغم أن مذهب شمول النفس بحد ذاته بلغ من الميتافيزيقية (بالمعنى السيء) ومن ضآلة المحتوى بحيث لا يمكننا الحديث عن قيمته التفسيرية.
(٢٠) مذهب الظاهرة المصاحبة (الثانوية) Epiphenomenalism
كان و. ك. كليفورد من أنصار مذهب شمول النفس. وكان صديقه توماس هكسلي من أنصار مذهب الظاهرة المصاحبة. وكلاهما متفقان في تبني مبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم الفيزيائي (العالم ١). وبنص قول كليفورد (١٨٨٦م، ص٢٦٠): «كل الأدلة التي لدينا تفضي إلى أن العالم الفيزيائي يسلك من تلقاء نفسه على نحو تام …»
والفرق الرئيسي بين مذهبي الظاهرة المصاحبة (الثانوية) وشمول النفس هو الآتي:
-
(١)
لا يُقِر مذهب الظاهرة المصاحبة بأن «جميع» العمليات المادية لها وجه نفسي.
-
(٢)
مذهب الظاهرة المصاحبة هو أبعد ما يكون عن اعتبار الحالات أو العمليات الواعية هي الأشياء في ذاتها، مثلما يفعل البعض، على الأقل، من أنصار شمول النفس اللاحقين على ليبنتز واللاحقين على كانْت.
-
(٣)
قد يُوصَل مذهب الظاهرة المصاحبة بنوعٍ من نظرية التوازي (كأنه مذهب شمول نفس جزئي) وقد يسمح بفعلٍ عِلِّي أحادي الجانب من الجسم على العقل، وهذه النظرة الثانية عُرضة للاصطدام بالقانون الثالث لنيوتن: تساوي الفعل ورد الفعل.٣٢ وسأتناول هنا بالنقد إحدى صور مذهب الظاهرة المصاحبة الملحق بنظرية التوازي، ولكن لا شيء في نقدي يعتمد على هذا الاختيار. يصوغ هكسلي مذهب الظاهرة المصاحبة الخاص به صياغة جيدة جدًّا (هكسلي ١٨٩٨م، ص٢٤٠؛ قارن ص٢٤٣ وما بعدها): «يبدو الوعي متعلقًا بآلية الجسم، ببساطة كنتاجٍ ثانوي لعملها، ولا قدرة له البتة على تعديل هذا العمل، مثلما أن صوت الصافرة البخارية التي تصاحب عمل القاطرة لا تأثير له على آليتها.»
كان توماس هكسلي داروينيًّا (بل أول الداروينيين جميعًا في حقيقة الأمر) غير أني أعتقد أن مذهبه الظاهري المصاحبي يصطدم بوجهة النظر الداروينية؛ فنحن من وجهة نظرٍ داروينية مدفوعون إلى أن نتأمل في قيمة البقاء التي تتمتع بها العمليات العقلية. مثال ذلك أن الألم قد نعده إشارةَ تحذير. وبصفة أعم فإن الداروينيين ينبغي أن يعتبروا «العقل»، بمعنى العمليات العقلية والميول نحو الأفعال وردود الأفعال العقلية، كشيء مماثل لعضوٍ جسمي (متصل اتصالًا وثيقًا بالدماغ، ربما) والذي تطور تحت ضغط الانتخاب الطبيعي. وهو يؤدي وظيفته بأن يساعد الكائن على التكيف (قارن عرضنا للتطور العضوي في قسم ٦ سابقًا). إن النظرة الداروينية يجب أن تكون هذه: يجب أن نعتبر الوعي، والعمليات العقلية بعامة (وأن يُفسَّر إذا أمكن)، على أنه نتاج التطور الحادث بالانتخاب الطبيعي.
ونحن نحتاج إلى النظرة الداروينية بصفة خاصة لفهم العمليات العقلية الفكرية؛ فالأفعال الذكية هي أفعال مكيَّفة للأحداث القابلة للتنبؤ. وهي قائمة على البصيرة، على التوقع؛ وكقاعدة عامة على التوقع القريب والبعيد وعلى مقارنة النتائج المتوقعة من عدة نقلات ممكنة ونقلات مضادة. وهنا يدخل عنصر التفضيل، ومعه صنع القرارات، التي يقوم كثير منها على أساس غريزي. قد تكون هذه هي الطريقة التي تدخل بها الانفعالات إلى العالم ٢ الخاص بالعمليات والخبرات العقلية؛ والسبب الذي يجعلها تصبح واعية أحيانًا وأحيانًا لا.
وتفسر النظرة الداروينية أيضًا، بشكل جزئي على الأقل، الانبثاق الأول لعالم ٣ الخاص بمنتجات العقل البشري: عالم الأدوات، والأجهزة، واللغات، والأساطير، والنظريات (قد يكون في هذا الحشد، بطبيعة الحال، مَقنَع أيضًا لأولئك الذين يكرهون أو يترددون في أن يعزوا «واقعًا» لكياناتٍ من مثل المشكلات والنظريات، وأيضًا لأولئك الذين يعتبرون العالم ٣ جزءًا من العالم ١ و/أو العالم ٢). إن وجود عالم ٣ الثقافي ووجود التطور الثقافي قد لفت انتباهنا إلى حقيقة أن هناك قدرًا عظيمًا من الترابط المنظم داخل كلا العالمين ٢ و٣؛ وأن بالإمكان تفسير ذلك، جزئيًّا، كنتاج منظم للضغوط الانتخابية. مثال ذلك أن تطور اللغة لا يمكن تفسيره، فيما يبدو، إلا إذا افترضنا أنه حتى اللغة البدائية يمكن أن تكون مُعِينًا في الصراع من أجل الحياة، وأن ظهور اللغة له تأثير تغذية راجعة؛ فالقدرات اللغوية في صراع؛ ويتم اختيارها من أجل تأثيراتها البيولوجية؛ الأمر الذي يفضي إلى مستويات أعلى في التطور اللغوي.
يمكننا أن نلخص هذا في هيئة المبادئ الأربعة التالية التي يبدو لي أن الاثنين الأولين منها يتعين قبولهما وبخاصة من أولئك الذين يميلون إلى المذهب الفيزيائي أو المادي:
-
(١)
نظرية الانتخاب الطبيعي هي النظرية الوحيدة المعروفة حاليًّا التي يمكنها أن تفسر انبثاق العمليات الغرضية في العالم، ويمكنها بخاصة أن تفسر تطور الأشكال العليا للحياة.
-
(٢)
الانتخاب الطبيعي متعلق ﺑ «البقاء الجسمي» (بالتوزُّع التكراري٣٣ لجيناتٍ متنافسة في مجموعة سكانية ما) وهو لذلك متعلق أساسًا بتفسير تأثيرات العالم ١.
-
(٣)
إذا تعين على الانتخاب الطبيعي أن يفسر انبثاق العالم ٢ (عالم الخبرات الذاتية أو العقلية)، فينبغي على هذه النظرية أن تفسر الطريقة التي يزودنا بها تطور العالم ٢ (والعالم ٣) على نحو منظم بالأدوات المعِينة على البقاء.
-
(٤)
أي تفسير بلغة الانتخاب الطبيعي هو تفسير جزئي وغير كامل؛ لأنه يجب أن يفترض دائمًا وجود كثير من الطفرات المتنافسة (المجهولة جزئيًّا)، ووجود تنوع (مجهول نسبيًّا) من الضغوط الانتخابية.
هذه المبادئ الأربعة يمكن أن نشير إليها باختصار على أنها وجهة النظر الداروينية. وسأحاول أن أبين هنا أن وجهة النظر الداروينية تتعارض مع المذهب الذي يطلَق عليه عادةً مذهب الظاهرة المصاحبة.
يُسَلِّم مذهب الظاهرة المصاحبة بوجود الأحداث أو الخبرات العقلية — أي وجود عالم ٢ — غير أنه يذهب إلى أن هذه الخبرات العقلية أو الذاتية هي نواتج ثانوية، غير مؤثرة عِلِّيًّا، للعمليات الفسيولوجية التي هي وحدها المؤثرة عِلِّيًّا، بهذه الطريقة يكون بوسع مذهب الظاهرة المصاحبة أن يتقبل مبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم ١ ويتقبل وجود عالم ٢ معًا في آن. إذن يتعين على نصير الظاهرة المصاحبة أن يتمسك بأن العالم ٢ غير ذي صلة حقًّا، وأن العبرة بالعمليات الجسمية وحدها: حين يقرأ شخصٌ كتابًا مثلًا فإن الشيء الفاصل ليس أن الكتاب يؤثر في آرائه ويزوده بمعلومات؛ فكل هذه ظواهر ثانوية غير ذات صلة. ما يهم هو فقط التغير الذي يجري في بِنية دماغه والذي يؤثر في ميله إلى الفعل. هذه الميول، في رأي صاحب الظاهرة المصاحبة، هي حقًّا الأمر الأهم للبقاء، ها هنا فقط تدخل الداروينية؛ فالخبرات الذاتية للقراءة والتفكير موجودة، ولكنها لا تلعب الدور الذي ننسبه لها عادةً. إنما هذه النسبة الخاطئة هي نتيجة عجزنا عن التفرقة بين خبراتنا وبين التأثير الحاسم لقراءتنا على الخواص النزوعية لِبِنية الدماغ. لا أهمية للجوانب الخبروية الذاتية لمدركاتنا الحسية أثناء قراءتنا، ولا للجوانب الانفعالية. فكل هذه زوائد اتفاقية، تصادفية لا عِلِّيَّة.
من الواضح أن هذه النظرة الظاهرية المصاحبية غير شافية؛ فهي تسلِّم بوجود عالم ٢، ولكنها تسلبه أي وظيفة بيولوجية، ولذلك فهي لا يمكن أن تفسر، بحدودٍ داروينية، تطور العالم ٢. وهي مضطرة إلى أن تنكر ما هو حقيقة بالغة الأهمية على نحو جلي، ذلك التأثير الهائل لهذا التطور (ولتطور العالم ٣) على العالم ١.
أعتقد أن هذه الحجة قاطعة.
ولكي نضع المسألة بلغة بيولوجية فإن هناك منظومات تحكُّم عديدة ووثيقة الارتباط في الكائنات العضوية العليا، جهاز المناعة، جهاز الغدد الصماء، الجهاز العصبي المركزي، وما قد نسميه «الجهاز العقلي». لا شك أن الجهازَين الأخيرَين من هذه الأجهزة متصلان اتصالًا وثيقًا. ولكن الأجهزة الأخرى أيضًا متصلة وإن يكن، ربما، اتصالًا أقل وثوقًا. من الواضح أن الجهاز العقلي له تاريخه التطوري والوظيفي، وأن وظائفه قد زادت مع التطور من الكائنات الأدنى إلى الأعلى. ومن ثم يتعين أن نربطها بوجهة النظر الداروينية. غير أن مذهب الظاهرة المصاحبة لا يمكنه أن يفعل ذلك.
ثمة نقد آخر مهم وإن يكن منفصلًا عما سبق، حين تُطبَّق النظرة الظاهرية المصاحبية على الحجج، وعلى تقديرنا لثقل الأسباب العقلية، يتبين أنها نظرة انتحارية، فصاحِب مذهب الظاهرة المصاحبة ملتزم بالمحاجة بأن الحجج أو المبررات العقلية لا تهم حقًّا؛ فهي لا يمكن أن تؤثِّر بحق على ميولنا إلى الفعل — إلى أن نتكلم مثلًا أو نكتب — ولا على الأفعال ذاتها، فهذه كلها ناجمة عن مؤثرات ميكانيكية، وفيزيوكيميائية، وصوتية، وبصرية، وكهربية.
هكذا تؤدي الحجة الظاهرية المصاحبية إلى تَبَيُّن خروجها هي نفسها عن الموضوع. هذا لا يفند مذهب الظاهرة المصاحبة، إنما يعني فحسب أنه إذا كان مذهب الظاهرة المصاحبة حقًّا فإنه لا يمكننا أن نأخذه مأخذ الجد كمبرر عقلي أو حجة مهما قيل في تأييده.
(٢١) صيغة منقَّحة لتفنيد هالدن للمادية
لا يمكن لحجة هالدن (أو بتعبير أدق الجملة الثانية من الجملتَين المقتبستَين أعلاه) أن تؤيَّد في صيغتها المذكورة هنا؛ فالآلة الحاسبة قد يُقال إنها محدَّدة في عملها بقوانين الفيزياء؛ إلا أنها قد تعمل في وفاق تام مع قوانين المنطق، هذه الواقعة البسيطة تُبطِل (كما بينتُ في قسم ٨٥ من مخطوطتي الملحقة غير المنشورة) الجملة الثانية من حجة هالدن كما هي مكتوبة.
ورغم ذلك فأنا أعتقد أن حجة هالدن (كما سأسميها برغم قدمها) يمكن أن تنقَّح بحيث تصير فوق النقد. فرغم أنها لا تثبِت أن المادية متناقضة ذاتيًّا (أو أنها تدمر نفسها) ففي اعتقادي أنها تثبت أن المادية تهزم ذاتها؛ فهي لا يمكن أن تزعم زعمًا جادًا أنها مدعَّمة بالحجة العقلية. إن بالإمكان أن نصوغ حجة هالدن المنقَّحة على نحو أكثر إيجازًا، ولكني أعتقد أنها تكون أوضح إذا بَسَطناها بتفصيلٍ تام.
هذه الميول الموروثة أو المتعلَّمة هي ما اعتاد البعض تسميته «حدوسنا المنطقية». وأنا أسلِّم بوجودها (بخلاف موضوعات عالم ٣ المجردة). وأسلِّم أيضًا بأنها ليست دائمًا محل الثقة: توجد أخطاء منطقية. ولكن هذه الاستدلالات الخاطئة يمكن أن تخضع للنقد والإقصاء (الاستبعاد/الحذف).٣٨
ولكن دعنا ننظر إلى المسألة من زاوية أخرى. إن الخاصية التي لآلية الدماغ أو آلية الحاسوب والتي تجعله يعمل وفق معايير المنطق ليست خاصية فيزيائية محضة، وإن كنت مستعدًّا تمامًا لأن أسلِّم بأنها بمعنًى ما متصلة بخصائص فيزيائية أو قائمة عليها. ذلك أن حاسوبَين قد يختلفان فيزيائيًّا قدر ما تشاء من الاختلاف، ومع ذلك فقد يعم1ل كلاهما وفق نفس المعايير المنطقية. والعكس أيضًا: قد لا يختلفان فيزيائيًّا إلا اختلافًا ضئيلًا فإذا بهذا الاختلاف يتضخم بحيث يعمل أحدهما وفق معايير المنطق ولا يعمل الآخر وفقها. وهذا يثبت، فيما يبدو، أن معايير المنطق ليست خواص فيزيائية (يسرِي هذا بالمناسبة على جميع الخواص ذات الصلة، عمليًّا، للحاسوب بما هو حاسوب). إلا أن معايير المنطق، عندك وعندي، هي ذات نفع من أجل البقاء.
الاستدلال الصائب ينقل الصدق دائمًا من المقدمات إلى النتيجة، ويرد الكذب من النتيجة إلى إحدى المقدمات على الأقل. فهل يُعَد هذا كافيًا لإثبات قيمته الأداتية؟ لا؛ فقد تكون المقدمات صادقة ونافعة ولكن النتيجة صادقة غير نافعة كما بينت للتو. السر هو أن المحتوى المعلوماتي لنتيجة مستمَدة من صدق لا يمكن البتة أن يزيد على المحتوى المعلوماتي للمقدمات (وإذا حدث ذلك فمن الممكن العثور على مثال مضاد). ولكن المحتوى المعلوماتي يمكن أن يتدنَّى في استدلال صائب. وقد يكون، في الحقيقة، صفرًا. مثال ذلك أن نتيجة صائبة (صحيحة) مستمَدة من نظرية ما وافرة المحتوى المعلوماتي والنفع قد تكون مجرد تحصيل حاصل مثل «١ = ١»، والذي هو غير ذي محتوى معلوماتي، ومن ثَم لا تعود نافعة.
هكذا فالاستدلال الصائب (الصحيح) ينقل الصدق دائمًا، ولكن لا ينقل دائمًا النفع. ومن ثم فلا يمكن إثبات أن كل استدلال صائب هو أداة نافعة، أو أن وتيرة عقد استدلالات صائبة، بما هي كذلك، هي دائمًا نافعة.
ولعلك تتساءل لماذا لا تستطيع أنت، بوصفك فيزيائي المذهب، أن تقول بأنه ليس كل استدلالٍ صائب معين هو نافع بل النسق الكلي للاستدلالات الصائبة، أي المنطق كمنطق. والآن، فمن الحق الصراح أن النافع إنما هو النسق، المنطق. ولكن المشكلة بالنسبة لصاحب المذهب الفيزيائي أن هذا بالضبط هو ما لا يسعه التسليم به؛ ذلك أن نقطة الخلاف بينه وبين صاحب مذهب التفاعل هي بالضبط هل توجد أشياء من قبيل المنطق (الذي هو نسق مجرد)، وجودًا يعلو على الطرائق الخاصة بالسلوك اللغوي. إن التفاعل هنا يأخذ برأي الحس المشترك بأن الاستدلال الصحيح نافع، وهذا، حقًّا، سببٌ من أسباب تسليمه بواقعيته (واقعية الاستدلال). أما صاحب المذهب الفيزيائي فلا يحق له قبول هذا الموقف.
انتهى الحوار. وقد حاولتُ فيه باختصار أن أعرض بعض الأسباب التي تفسر لماذا تفشل أي نظرية مادية للمنطق، وللعالم ٣ معه.
إن المنطق، أيْ نظرية الاستدلال الصائب، هو حقًّا أداة ذات قيمة. غير أن هذا لا يمكن تبيانه بتفسيرٍ أداتي للاستدلال الصائب؛ ولا هو ممكن، في اعتقادي، تبيان أفكارٍ مثل فكرة «المحتوى المعلوماتي لنظرية» (وهي فكرة تعتمد على فكرة إمكانية الاستنباط أو فكرة الاستدلال الصائب) ما دمنا لا نتجاوز وجهة النظر المادية؛ وجهة النظر التي لا تقبل إلا الجوانب الفيزيائية للعالم ٣.
لستُ أدَّعي أني قد فندت المذهب المادي. ولكني أعتقد أني قد بينتُ أن المادية لا يحق لها أن تدعي أن لها سندًا من الحجة العقلانية؛ الحجة التي تستمد معقوليتها من المبادئ المنطقية. قد تكون المادية صادقة، ولكنها غير متوافقة مع المذهب العقلي، أي مع تقبل معايير الحجة النقدية؛ لأن هذه المعايير تبدو من وجهة النظر المادية وهمًا، أو أيديولوجية على أقل تقدير.
أعتقد أن الحجة المذكورة في هذا القسم يمكن أن تُعمَّم.
(٢٢) ما يسمى نظرية الهوية identity theory
ينطبق هذا على نظرية الهوية (كثيرًا ما ترد نظرية الهوية مرتبطة بمذهب شمول النفس، على سبيل المثال عند مؤسسها سبينوزا، أو في زمننا نحن في أعمال رينش. ورغم ذلك ينبغي أن نميزها بوضوح عن مذهب شمول النفس كنظرية). وأنا أشك كثيرًا جدًّا فيما إذا كانت صياغة مثل «العمليات العقلية هي في هوية مع (متماهية مع) نوع معين من العمليات الدماغية (الفيزيائية-الكيميائية)» يمكن أن تؤخذ بقيمتها الظاهرة، بالنظر إلى حقيقة أننا نفهم، منذ ليبنتز، «أ في هوية مع ب» على أنها تتضمن أن أي خاصة للشيء أ هي أيضًا خاصة للشيء «ب». يبدو بعض أصحاب نظرية الهوية بالتأكيد قائلين بالهوية بهذا المعنى؛ ولكني أشك كثيرًا في أنهم يعنون ذلك حقًّا (تجد نقدين قويين للغاية، وإن كانا مختلفين جدًّا، لدعوى الهوية بهذا المعنى، عند جوديث جارفيز طومسون (١٩٦٩م) وشاول كريبكي (١٩٧١م)، كلاهما يبدو لي حاسمًا إلى حد بعيد). وبالنظر إلى هذا الموقف سوف أتبنى السياسة التالية: سأنقد نظرية الهوية بنقد نتيجة أضعف منطقيًّا مترتبة عليها، وهي النظرية السبينوزية القائلة بأن العمليات العقلية هي عمليات فيزيائية (جسمية) تُخبَر «من الداخل»، أي أنني سأنتقد شكلًا من أشكال مذهب التوازي (نظرية التوازي أضعف من نظرية الهوية؛ لأن هوية خطين أو سطحين هو حالة حَدِّية لتوازيهما: فهما متوازيان على بعدٍ يساوي صفرًا). بهذه الطريقة يمكنني أن أتجنب نقد دعوى الهوية وأظل ناقدًا نظرية الهوية وبعض النظريات الأضعف في الوقت نفسه. وفضلًا عن ذلك فإن تبني هذه السياسة لا يحول بيني وبين عرض نظرية الهوية في أقصى درجة أستطيعها من المعقولية والإقناع.
وإنه لَمِن الشائق أن نظرية الوجهين لسبينوزا كثيرًا ما توصَف على أنها نظرية هوية. هكذا كان عالِم أعصاب القرن ١٩ العظيم جون هوجلينج جاكسون (١٨٨٧ = ١٩٣١م، المجلد ٢، ص٨٤) يميز المذاهب الثلاثة التالية للعلاقة بين الوعي و«المراكز العصبية العليا» للجهاز العصبي (الملاحظات التي بين الأقواس هي إضافة مني).
-
(١)
«العقل يعمل من خلال الجهاز العصبي» (مذهب التفاعل)
-
(٢)
«نشاطات المراكز العليا والحالات العقلية هي شيءٌ واحد ونفس الشيء، أو هي جانبان مختلفان لشيء واحد ونفس الشيء» (نظرية الهوية؛ ومذهب سبينوزا).
-
(٣)
الشيئان وإن كانا «مختلفين تماما»، «يحدثان معًا … في تَوازٍ»، وليس ثمة «تدخل لأحدهما في الآخر» (مذهب التوازي).
من الواضح أن (٢) تتضمن نظرية الهوية ومذهب سبينوزا، بينما (٣) تميز مذهب توازٍ غير سبينوزي (ليبنتزي؟) من (٢). (جاكسون نفسه اختار ٣). وأنا أيضًا سأعتبر هنا نظرية الهوية كشكلٍ أكثر جذرية لنظرية التوازي السبينوزية.
يمكن أن تصاغ نظرية الهوية (أو «نظرية الحالة المركزية») هكذا: ولنطلق اسم «عالم ١» على فئة العمليات في العالم الفيزيقي (الجسمي). ثم لنقسِّم العالم ١ (أو فئة الأشياء المنتمية إليه)، كما في قسم ١٦، إلى عالمين فرعيين أو فئتين تحتيتين حصريتين، بحيث إن العالم ١ع (ع للعقلي) يتكون من «وصف» في حدود فيزيقية (جسمية) لفئة جميع العمليات العقلية أو السيكولوجية التي ستُعرَف دومًا بالاتصال المباشر، بينما الفئة الأعرض كثيرًا، العالم ١ج (ج للجسمي المحض) تتكون من جميع تلك العمليات الجسمية (الفيزيقية) (موصوفةً في حدودٍ فيزيقية) التي ليست أيضًا عمليات عقلية.
بتعبيرٍ آخر فإن لدينا:
-
(٤)
العالم ١ = العالم ١ج + العالم ١ع.
-
(٥)
العالم ١ج. العالم ١ع = صفر (أي أن الفئتين تُقصِي إحداهما الأخرى).
-
(٦)
العالم ١ع = العالم ٢.
تؤكد نظرية الهوية على النقاط التالية:
-
(٧)
بما أن العالم ١ج والعالم ١ع هما شطرَا نفس العالم ١، فليس ثَمة مشكلة يطرحها التفاعل بينهما؛ فمن الواضح أنهما يمكن أن يتفاعلا وفقًا لقوانين الفيزياء.
-
(٨)
بما أن العالم ١ع = العالم ٢، فالعمليات العقلية واقعية، وهي تتفاعل مع عمليات العالم ١ج، بالضبط كما يقضي مذهب التفاعل. ومن ثَم فإن هناك مذهب تفاعل (بلا دموع).
-
(٩)
وعلى ذلك فإن العالم ٢ ليس بالظاهرة الثانوية (المصاحبة) بل هو واقعي (أيضًا بالمعنى المشار إليه في قسم ٤ سابقًا). إذن التضارب بين وجهة النظر الداروينية والنظرة الظاهرية المصاحبية لعالم ٢ الموصوفة في قسم ٢٠ لا يحدث (أو هكذا يبدو الأمر، ولكن انظر القسم القادم).
-
(١٠)
إن «هوية» العالم ١ع والعالم ٢ يمكن أن نجعله مقبولًا حدسيًّا بالتمعن في سحابة: إنها من الوجهة الفيزيائية تتكون من ركام من بخار الماء، أي منطقة من المكان الفيزيائي تنتشر فيها قطرات ماء ذات معدل حجمي معين وبكثافة معينة. هذا بناء فيزيائي يبدو من الخارج أشبه بسطح عاكس أبيض، وتُخبَر من الداخل كضبابة باهتة غير شفافة إلا قليلًا. فهذا الشيء كما يُخبَر هو، في الوصف النظري أو الفيزيائي، متماهٍ مع بنية قطرات الماء.
بوسعنا، وفقًا لبليس U. T. Place، أن نضاهي «الوجهين الداخلي والخارجي للسحابة» ﺑ «الخبرة الداخلية أو الذاتية لعملية دماغية والملاحظة الخارجية للدماغ». وكذلك يمكن أن نضاهي الوصف النظري في حدود بخار الماء أو بنية قطرات الماء بالوصف الفيزيائي النظري (غير المكتمل المعرفة بعد) للعمليات الدماغية الفيزيائية الكيميائية المتضمَّنة في هذا الأمر. -
(١١)
عندما نقول إن الضباب تسبب في حادث سيارة، فإن هذا يمكن تحليله، في حدودٍ فيزيائية، بأن نبيِّن كيف امتصت قطراتُ الماء الضوءَ، بحيث إن كَمَّات الضوء التي كان يُفترَض أن تنبه شبكية السائق لم تصل قَط إلى الشبكية.
-
(١٢)
يشير مؤيدو نظرية الحالة المركزية أو نظرية الهوية إلى أن مصير النظرية سوف يعتمد على التعزيز التجريبي الذي يمكن توقع مجيئه مع تقدم أبحاث الدماغ.
أما وقد قدمتُ ما أعتبره النقاط الجوهرية للنظرية، فإني أعتبر النقاط التالية غير جوهرية.
-
(أ)
اقتراح هربرت فايجل (١٩٦٧م، ص٢٢) بأن النظرية لا تفترض فرضية التطور الانبثاقي (يعتبر سمارت هذه الفرضية نقطة هامة بل حاسمة). وأعتقد أن النظرية تفترضها بالتأكيد؛ إذ لم يكن ثمة عالم ١ع قبل أن ينبثق من عالم ١ج، ولا كان يمكن التنبؤ بخواصه العقلية المميزة. غير أني أعتبر هذه الطبيعة الانبثاقية لعالم ١ع كشيء مناسب تمامًا، وليس كنقطة ضعف للنظرية.٤٥
-
(ب)
جدير بالذكر أنني في عرضي للنظرية قد حاولت أن أتجنب أي حجة لفظية محضة فيما يتصل بمصطلح «متماهٍ» identical، أو بالسؤال عما يمكن أن يعنيه قولنا إن العمليات الخبروية أو العقلية (العالم ٢ = العالم ١ع) «متماهية» مع موضوعات أوصافنا الفيزيقية. هذه «الهوية» لها مصاعبها بالتأكيد. إلا أنه، من وجهة نظري، ليس ثَم ما يدعو إلى أن نعتبرها حاسمة للنظرية أو لصيغة معينة لها، تمامًا مثلما أنه غير جوهري لاستعارة السحابة أن نقرر بأي معنًى تكون الجوانب الثلاثة — المنظر الخارجي والمنظر الداخلي والوصف في حدودٍ فيزيائية — تكون جميعًا أوجهًا لشيءٍ واحدٍ ولنفس الشيء. ما أَعُده حاسمًا هو أن نظرية الهوية تلتزم بمبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم ١. ومن ثَم فإنه من وجهة نظري، ستكون أي نظرية تتخلى عن مصطلح «هوية» وتستبدل به «ارتباطًا وثيقًا جدًّا»، ستكون مغلوطة بنفس الدرجة إذا تمسكت بهذا المبدأ الفيزيائي.
-
(جـ)
يؤكد فايجل عن حق «واقعية» العمليات العقلية. وهذه النقطة تبدو لي جوهرية. ولكنه يؤكد أيضًا طبيعة العمليات العقلية على أنها أشياء في ذاتها. وهذا يجعله، فيما يبدو لي، روحيَّ المذهب لا فيزيائي المذهب، غير أن هذا يجر مناقشات من السهل أن تصبح مناقشات لفظية تمامًا. ولنرجع مرةً ثانيةً إلى استعارة السحابة. يبدو لي (وإن كرهت بالضرورة أن أحاجَّ في ذلك) أن الوصف الفيزيائي — وصف السحابة كمكانٍ تنتشر فيه قطرات ماء من نوع معين — يأتي بطريقة ربما أقرب إلى وصف الشيء في ذاته منه إما إلى الوصف الخارجي كسحابة أو كسطح جَسيمٍ يعكس الضوء، وإما إلى الخبرة الداخلية كضبابة. ولكن هل هذا يهم؟ ما يهم حقًّا هو أن جميع الأوصاف هي أوصاف نفس الشيء الواقعي؛ شيء يمكن أن يتفاعل مع جسمٍ فيزيائي (مثلًا بالتكثُّف عليه ومن ثَم جعله مبتلًا).
-
(أ)
أعتقد أننا قد نفترض أن لا مشكلة هنا؛ فما زال بإمكاننا أن ننقد النظرية على أسسٍ غير لفظية. في القسم التالي سأتناول بالنقد نظرية الهوية بوصفها مذهبًا فيزيائيًّا. وفي قسمٍ لاحق (قسم ٥٤) سوف أبين أنها كنظرية ذاتِ نزعة روحية، تتاخم مذهب شمول النفس، فإنها لا تنسجم مع الكوزمولوجيا الحديثة.
(٢٣) هل تنجو نظرية الهوية من مصير مذهب الظاهرة المصاحبة؟
قبل أن أشرع في نقد نظرية الهوية، ليكن واضحًا تمام الوضوح أني أعدها نظريةً في علاقة العقل بالجسم متسقةً تمام الاتساق. وفي رأيي أن النظرية «قد» تكون من أجل ذلك صادقة.
ما أعدها غير متسقة هي نظرية أوسع انتشارًا وأقوى: النظرة المادية إلى العالم، التي تشمل الداروينية، والتي تؤدي مع نظرية الهوية إلى تناقض، كما هو الحال في مذهب الظاهرة المصاحبة. وأطروحتي هي أن نظرية الهوية المتحدة بالداروينية تواجه نفس المصاعب التي يواجهها مذهب الظاهرة المصاحبة.
ذلك لأننا بالنظر إلى
(٣) العالم ١ع = العالم ٢
ولدينا من (٤) أن العالم ١ يتفاعل مع العالم ٢. كما أن التوكيدَ على واقعية العالم ١ع (= العالم ٢) وفعاليته قَوِيٌّ لا مزيد عليه. كل هذا يأخذ العالم ١ع (العالم ٢) بعيدًا عن مذهب الظاهرة المصاحبة.
وفضلًا عن ذلك فإن لنظرية الهوية مزية عظيمة فوق مذهب الظاهرة المصاحبة، هي أنها تقدم نوعًا من التفسير — وتفسيرًا مُرْضيًا من الجهة الحدسية — لطبيعة الصلة بين العالم ١ع والعالم ٢. أما في مذهب التوازي الظاهري المصاحبي فإن هذه الصلة تبقَى غير متبيَّنة وتتطلب التسليم بها كواحدة من الوقائع النهائية للعالم غير القابلة للتفسير، كانسجامٍ مقدَّرٍ ليبنتزي. أما في نظرية الهوية (سواء أخذنا مصطلح «هوية» مأخذ الجد أم لا) فإن الصلة مقنِعة (على الأقل بنفس درجة إقناع الصلة بين الوجه الداخلي والوجه الخارجي في مذهب سبينوزا).
كل هذا يبدو أنه يميز نظرية الهوية تمييزًا حادًّا عن مذهب الظاهرة المصاحبة. ورغم ذلك فإن نظرية الهوية غير مُرضِية من زاوية داروينية بنفس درجة الظاهرة المصاحبة. غير أننا (ولا سيما الماديين منا) بحاجة إلى الداروينية بوصفها التفسير الوحيد المعروف لانبثاق السلوك الغرضي في عالم مادي، أو فيزيائي، محض، أو حتى في عالمٍ كان في مرحلة ما من تطوره مقصورًا على العالم ١ج (بحيث كان في هذه المرحلة العالم ١ع = العالم ٢ = صفر).
هكذا تكون أطروحتي هي أن ملاحظاتي النقدية عن مذهب الظاهرة المصاحبة تنطبق هنا أيضًا، بعد إجراء جميع التغييرات الضرورية، وإن سلمتُ بأن ذلك يحدث بقوة حدسية أقل.
ذلك أن نظرية الهوية هي في مقصدها ومغزاها نظرية فيزيائية خالصة. ويظل مبدؤها الأساسي هو مبدأ انغلاق العالم ١، الذي يُفضي إلى القضية المساعدة القائلة بأن التفسير «العِلِّي»، ما دام هو معرفة بالوصف، يجب أن يكون في حدودِ نظرية فيزيائية صارمة. قد يسمح لنا هذا بقبول انبثاق عالم ١ع جديد، غير أنه لا يسمح لنا بالقول بأن السمة المميزة لهذا العالم ١ع هي أنه يتكون من عمليات عقلية، أو أنه متصل صلة وثيقة بعمليات عقلية.
ومن جهة أخرى فإن علينا أن نشترط أن تكون كل المستجدات الكبرى المنبثقة تحت ضغط الانتخاب الطبيعي مفسَّرة تمامًا داخل العالم ١.
وبتعبير آخر فإن العالم ٢ في نظرية الهوية يبقَى من الوجهة الداروينية في نفس الموقف المنطقي لعالم ٢ في مذهب الظاهرة المصاحبة. فعلى الرغم من أنه مؤثر عِلِّيًا فإن هذه الحقيقة غير ذات صلة إذا كنا بصدد تفسير أي فعلٍ عِلِّي لعالم ٢ على العالم ١، فذاك أمرٌ يجب أن يتم كليًّا في حدود عالم ١ المغلق.
فالشيء الحقيقي، الشيء في ذاته، والعِلِّية التي تُعرَف بالاتصال المباشر، كل هذا يبقى، من وجهة نظر المبدأ الفيزيائي والمعرفة بالوصف، خارج التفسير الفيزيائي، وخارج ما يقبل التفسير الفيزيائي في حقيقة الأمر.
هكذا يتبين أن نظرية الهوية، على العكس من طابعها الحدسي، هي، من الوجهة المنطقية، في نفس القارب الذي فيه نظرية توازٍ تستخدم مبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم ١.
(٢٤) ملاحظة نقدية عن مذهب التوازي
في هذا القسم سأناقش ما قد يصفه المرءُ بأنه الخلفية التجريبية لمذهب التوازي السيكوفيزيقي. وعن طريق فكرة بعدية سأقترح أن أيَّما شيء يبدو جزءًا من دليل داعم في مصلحة نظرية الهوية هو أيضًا أحد الحالات التي تبدو مدعمة لمذهب التوازي؛ وهذا سبب إضافي لتفسير نظرية الهوية كحالة خاصة (حالة متنكِّسة) لمذهب التوازي.
سأبدأ من علاقة الإدراك الحسي بالمكونات الأخرى لوعينا، وسأحاول أن ألقِي بعضَ الضوء على خصائص معينة للإدراكات الحسية من خلال مناقشة الوظيفة البيولوجية للإدراك الحسي.
تحت تأثير ديكارت، وتأثير التجريبية الإنجليزية أيضًا، فإن ضربًا من النظرية الذرية للأحداث أو العمليات العقلية أصبح قائمًا على نطاق عريض. هذه النظرية، في أبسط صورها، فسرت الوعي ﻛ «تعاقبٍ لأفكارٍ أولية». ولا يهم في أغراضنا ما إذا كانت الأفكار تعتبر كذرات غير قابلة للتحليل أو كجزيئات (تتكون مثلًا من إحساسات ذرية أو من معطيات حسية أو غير ذلك)، ما يهمنا هو المذهب القائل بأن هناك أحداثًا عقلية أولية (أفكارًا) وأن تيار الوعي يتكون من تتابع منتظم من هذه الأحداث.
ثم افترَضَ بعضُ الديكارتيين أن كل حدثٍ عقلي أوَّلِي يناظره حدثٌ دماغي محدد. وافترَضوا أن هذا التناظر هو من صنف تناظر واحد لواحد. والنتيجة هي مذهب توازي العقل-الجسم، أو مذهب التوازي السيكوفيزيقي.
من المفهوم إذن لماذا يبدو مذهب التوازي السيكوفيزيقي مقنِعًا جدًّا، بل واضحًا حقًّا، للكثيرين. غير أني سأحاول هنا أن أناهضه. وسيكون اعتراضي الأساسي هو أن أمثلة الإدراكات الحسية المتكررة قد أسيء تفسيرها، وأن حالات وعينا يجب أن نتصورها كتعاقباتٍ من العناصر الأولية، لا من الذرات ولا من الجزيئات.
حقًّا: لقد نظرتُ مرتين، بانتباه، إلى الشيء نفسه؛ وحيث إن عقلي قد تعلَّم كيف يحيطني علمًا عن بيئتي، فقد أعلمني بهذه الواقعة. وقد فعل ذلك بأن أنتج الفرضية، أو الحدس الافتراضي: «هذه هي الزهرة نفسها كما سبق (ونفس الجانب منها، إذ لم تتحرك الزهرةُ ولا أنا تحركْتُ)».
قد يحاول صاحب نظرية التوازي أن يتجنب هذه النتيجة، ويصر على أن إدراكاتنا الحسية (والأحداث الدماغية المناظرة لها) ليست ذرية بل جزيئية، في هذه الحالة فإن الذرات الخبروية (المفترضة) وعناصر الأحداث الدماغية الموضوعية قد تظل في تناظر واحد لواحد، رغم أنه قد لا يكون هناك في الحقيقة خبرتان جزيئيتان (وأحداثهما الدماغية المناظِرة لهما) متماهيتان.
يبدو لي أن هناك نقطتين يمكن إثارتهما ضد هذا الرأي.
- أولًا: في حين كانت النظرية الأصلية التي كنا نناقشها صريحة ومُفيدة (مُبلِغة)، تصف، مثلما فعلت، الخبرات الحقيقية كإدراكاتٍ أولية أو ذرية، وتشير بأن هناك حدثًا ما دماغيًّا أوليًّا في تناظرِ واحدٍ لواحد مع كل منها، فها نحن الآن بإزاء شبحٍ ذري يقدَّم لنا كبديل. فالنظرية الاستبدالية تأملية تمامًا، لا تعدو الادِّعاء بأن جميع الخبرات الحقيقية مكونة، بطريقة ما غير محددة، من مكوناتٍ ذرية، يُفترَض أن لها ملازِمات دماغية (brain correlates): إنها تنقل المذهب الذري دوجماطيقيًّا من الفيزياء إلى السيكولوجيا. مثل هذه الأشياء قد توجد — فنحن لا نستطيع استبعادها — ولكن نظريةً كهذه لا يمكن أن تَدَّعِي أيَّ سندٍ تجريبي.
- ثانيًا: بالنظر إليها كنظرية في الإدراك أعتقد أنها على المسار الخطأ. سأقترح فيما يلي أننا يجب أن نتخذ مقاربة بيولوجية إلى الوعي، وأن إحدى وظائف الوعي أن يتيح لنا أن نميز الأشياء الفيزيائية عندما نقابلها مرة ثانية. تفسر النظرية التي كنا نناقشها هذا الأمر تعسفيًا على أنه تكرار لحدثٍ سيكولوجي وحدثٍ دماغي مناظر له.
ماذا إذن عن وضع الإدراك الحسي؟ أقترح أن نتقدم في طريقٍ مختلف. فبدلًا من أن نبدأ من افتراض آلية مثير استجابة واحد لواحد (رغم أن هذه الآليات ربما تكون موجودة وربما حتى تلعب دورًا هامًّا)، أقترح أن نبدأ من واقعة أن الوعي أو الدراية لها عدد من الوظائف المفيدة بيولوجيًّا.
عندما نسترد الوعي بعد نوبة من فقدانه، تبرز مشكلة مميزة: «أين أنا؟» وأنا أعد هذه دلالة على أن من الوظائف الهامة للوعي أن يحفظ مسار أماكن تواجدنا في العالم بتشييد نوع من النموذج التخطيطي (كما أشار كينيث ج. و. كريك، ١٩٤٣م) أو خريطة تخطيطية، مفصلة فيما يتعلق ببيئتنا المباشرة اللحظية، واستقرابية جدًّا فيما يتعلق بالمناطق الأبعد. هذا النموذج أو هذه الخريطة، فيما أرى، بموقعنا المحدد عليها، هي جزء من الوعي بالذات المعتاد. وهي موجودة في الأحوال العادية على شكل ميول أو برامج غامضة؛ غير أن بإمكاننا أن نركز انتباهنا عليها متى شئنا، وإذَّاكَ قد تصبح أكثر تفصيلًا ودقة. هذه الخريطة أو هذا النموذج هو واحد من عدد كبير من النظريات الحدسية الافتراضية عن العالم التي نتخذها، والتي نستدعيها للعون بشكل شبه دائم بينما نتقدم، وبينما نضع ونحدد ونحقق برنامج وجدول مواعيد الأفعال التي نحن منخرطون فيها.
إذا نظرنا الآن إلى وظيفة الإدراك الحسي واضعين هذا في الاعتبار، فإن أعضاءنا الحسية، فيما أرى، يجب اعتبارها مساعِدات لدماغنا. والدماغ بدوره مبرمج لكي يتخير نموذجًا (أو نظرية أو فرضًا)، ملائمًا وذا صلة، لبيئتنا، ونحن نمضي قدمًا، لكي يقوم العقل بتفسيره. هذا ما يجب أن أسميه الوظيفة الأصلية أو الأساسية لدماغنا وأعضاء حِسِّنا، للجهاز العصبي المركزي في الحقيقة؛ فقد نشأ في صورته الأشد بدائية كجهاز للقيادة، كمُعِينٍ على الحركة (الجهاز العصبي المركزي البدائي، في الديدان، هو مُعِين على الحركة، وكذلك الأمر في الحواس الأكثر بدائية بكثيرٍ لدى الفطريات. انظر ماكس ديلبروك (١٩٧٤م) لترى تقريرًا عن بحوثه الآسرة حول بداية أعضاء الحس وحول حل المشكلات في الفطريات الطحلبية).
وعَوْدًا من هنا إلى تجربتنا التي أدت إلى تتابع إدراكَين حسيين متماثلين عمليًّا، لستُ أنكر أن الإدراكَين بما هما إدراكان كانا متشابهين للغاية: فما كان لدماغنا، مدعومًا بأعيننا، أن يقوم بمهمته البيولوجية لو لم يكن قد أبلغنا بأن بيئتنا لم تتغير من اللحظة الزمنية الأولى إلى اللحظة الثانية. وهذا يفسر لماذا، في مجال الإدراك الحسي، سيكون هناك وعي بالتكرار إذا كانت الأشياء المدرَكة لا تتغير، وإذا كان برنامجنا لا يتغير. ولكن هذا لا يعني أن محتوى وعينا تَكَرَّر، مثلما ألمحتُ للتو. ولا هو يعني أن الحالتين الدماغيتين كانتا متماثلتين جدًّا. الحق أن برنامجنا (الذي كان، في هذه الحالة الخاصة، «قارِن استجابتك لمثيرٍ يتكرر في لحظتين متتاليتين من الزمن») لم يتغير بين اللحظة الأولى والثانية، ولكن اللحظتين الزمنيتين لعبتا دورين مختلفين اختلافًا حاسمًا في ذلك البرنامج، بالضبط بسبب التكرار؛ وهذا وحده قد أكد أنهما قد خُبِرَتا بطريقتين مختلفتين.
نرى الآن أنه حتى فيما يتصل بوعي الإدراكات الحسية (التي لا تمثل غير جزء من خبراتنا الذاتية) ليس ثمة تناظر واحدٍ لواحد بين المثير والاستجابة كما تشير ملاحظة ديفيد كاتز عن التغيرات الممكنة في اهتمامنا وفي انتباهنا. ورغم ذلك فإن الإدراكات لن تحقق مهمتَها ما لم يكن هناك، في الحالات التي لم يتغير فيها الاهتمام والانتباه، شيءٌ ما مقارب لتناظُر واحد لواحد. إلا أن هذه حالة خاصة جدًّا؛ والإجراء المعتاد في التعميم من حالة خاصة، والنظر إلى المثير والاستجابة كآلية واحدٍ لواحد بسيطة، وحصر محتويات خبراتنا الواعية في هذا وحده، هذا الإجراء خاطئ فاحش الخطأ.
ولكن إذا نبذنا فكرة تتابع حدثين مرتبطين ارتباطَ واحدٍ لواحد، فإن فكرة مذهب التوازي السيكوفيزيقي تفقد سندَها الرئيسي. إن هذا لا «يفند» فكرة نظرية التوازي، ولكنه في اعتقادي يبدد أساسها التجريبي الظاهري.
إن نظرية هوية الدماغ-العقل لَتتكشف، في ضوء الاعتبارات المذكورة، عن حالة خاصة من فكرة نظرية التوازي؛ لأنها هي أيضًا تقوم على فكرة ارتباطِ واحدٍ لواحد: إنها محاولة لتفسير ارتباط واحد لواحد عقلانيًّا، ذلك الارتباط الذي تسلِّم به تسليمًا دون نقد.
(٢٥) ملاحظات إضافية عن بعض النظريات المادية الحديثة
ينقسم كتاب أرمسترونج إلى ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول مدخل يستعرض نظريات العقل؛ والجزء الثاني، «مفهوم العقل»، هو نظرية عامة للحالات والعمليات العقلية، وهو في رأيي يتمتع ببعض المزايا الممتازة، وإن كان عُرضة فيما أعتقد للانتقاد من الناحية النيوروفسيولوجية. والجزء الثالث، وهو هزيل للغاية، لا يكاد يشتمل على أكثر من مجرد الدعوى القائلة بأن الحالات العقلية كما وُصِفَت في الجزء الثاني يمكن أن تتماهى مع حالات الدماغ.
لماذا أعتبر الجزء الثاني ممتازًا في عمومه؟ السبب هو هذا: يقدم الجزء الثاني وصفًا لحالات وعمليات العقل منظورةً من زاوية بيولوجية، أي كما لو أن العقل يمكن اعتباره عضوًا.
يعود هذا الموقف بالطبع إلى حقيقة أن أرمسترونج يريد لاحقًا (في الجزء الثالث) أن يماهي العقل بأحد الأعضاء؛ بالدماغ. وليس يَخفَى أنني لا أوافق على هذا التماهي، وإن كنتُ أحس أني أميل إلى اعتبار التماهي بين الحالات والعمليات العقلية اللاشعورية وبين حالات وعمليات دماغية حدسًا افتراضيًّا مهمًّا جدًّا. ورغم أني أميل إلى افتراض أنه حتى العملياتُ الواعية تُرافق بطريقة ما عملياتٍ دماغية، فإنه يبدو لي أن التوحيد بين العمليات الواعية وبين العمليات الدماغية معرض لأن يؤدي إلى مذهب شمول النفس.
ومهما يكن من خطأ الدوافع الميتافيزيقية لأرمسترونج، فإن منهجه في اعتبار العقل عضوًا ذا وظائف داروينية يبدو لي ممتازًا، والجزء الثاني من كتابه يبرهن في رأيي على خصوبة هذه المقاربة البيولوجية.
ونتحول إلى النقد، فنقول إن نظرية أرمسترونج إما أن تصنَّف كمادية جذرية مع إنكار الوعي، وتُنقَد على هذا الأساس، وإما أن تصنَّف كشكلٍ غير صريح تمامًا من مذهب الظاهرة المصاحبة، من حيث تناولها لعالم الوعي، الذي تحاول التقليل من أهميته. في هذه الحالة يَسرِي نقدي لنظرية الظاهرة المصاحبة كنظرية غير متوافقة مع وجهة النظر الداروينية.
سبب هذا الضعف لا يُلتمَس في حقيقة أن أرمسترونج وإن كان لا ينكر الوعي (أو الدراية) فإنه يقلل، ويفشل في مناقشة، أهميته؛ وإنما يُلتمَس في حقيقة أن أرمسترونج يُغفِل، ويفشل في مناقشة (بأي مصطلحٍ كان)، ما أُطلِقُ عليه موضوعات العالم ٣: إنه لا يلتفت إلا إلى العالم ٢ ورده (اختزاله) إلى العالم ١. ولكن الوظيفة البيولوجية الرئيسية للعالم ٢، وللوعي بصفة خاصة، هي فهم موضوعات العالم ٣ وتقييمها النقدي. حتى اللغة لا يكاد يذكرها.
وتبعًا لاقتراحٍ من أرمسترونج فقد أصبح رائجًا أن نشير إلى التماهي:
كنظيرٍ للتماهي المقترح ﻟ:
الحالة العقلية = الحالة الدماغية.
كان تماهي العقل مع الدماغ سيكون مماثلًا لهذا فقط إذا كان مفترَضًا، للبداية، أن العقل هو واحد من الأعضاء الجسمية ثم وجد تجريبيًّا أنه ليس القلب (مثلًا) أو الكبد بل الدماغ. وفي حين أن الاعتماد (أو الاعتماد المتبادل) بين الفكر، والذكاء، والخبرات الذاتية، وحالات الدماغ، كان متوقَّعًا منذ كتاب أبوقراط «عن المرض المقدس»، فليس غير الماديين من أقر هويةً، على الرغم من مصاعب وقائعية وتصورية جَمة.
يبين هذا التحليل أنه ليس ثمة مماثلة بين التماهيين. والادعاء بأنهما متماثلان ليس فقط بلا مسوغ بل هو مضلِّل أيضًا.
ويمكن أن يوجَّه نقد أقوى حتى من هذا ضد الادعاء بأن تماهي العمليات العقلية والعمليات الدماغية مماثل لتماهي ومضة برق وتفريغٍ كهربي.
اقتُرِح الحدسُ الافتراضي القائل بأن ومضة البرق هي تفريغ كهربي بملاحظة أن التفريغات الكهربية تشبه ومضات دقيقة من البرق. ثم جاءت تجارب فرانكلين التي أيدت بقوة هذا الحدسَ الافتراضي.
قدم جوديث جارفيس طومسون (١٩٦٩م) ملاحظات نقدية شائقة للغاية على هذه التماهيات.
أصدر أرمسترونج حديثًا كتابًا مدبَّجًا بوضوح وإحكام شديدين، هو «الاعتقاد والصدق والمعرفة» (١٩٧٣م). والكتاب في جوهره نظرية معرفة تجريبية تقليدية مترجمة إلى حدودٍ مادية. ليس بالكتاب ذكر، مجرد ذكر، للمشكلات المتعلقة بديناميات نمو المعرفة، أوتصحيح المعرفة، أو نمو النظريات العلمية، وهو شيء مخيب للآمال.
كيف يُتصوَّر هذا التماهي؟ يشير كوينتون إلى مثال أرمسترونج الخاص بوميض البرق والتفريغ الكهربي. وهو، مثل فايجل وسمارت وأرمسترونج، يُعتبَر التماهي إمبيريقيًّا. كل هذا حسن وجميل؛ غير أنه لا يقول لنا كيف نتقدم تجريبيًّا لكي نختبر التماهيات المفترضة حدسيًّا. وهو مثل سابقيه لا يقترح نوعًا من الاختبار يمكن أن يعد اختبارًا لدعوى هوية العقل والدماغ كشيءٍ متميز عن دعوى التفاعل (خاصة التفاعل الذي لا يعمل بجوهرٍ عقلي).
هناك أيضًا أولئك الذين يقولون، ببساطة، إن العقل هو نشاط الدماغ، ولا يتجاوزون ذلك. لا اعتراض يمكن أن يثار ضد ذلك بقدر ما يذهب. غير أنه لا يذهب قُدُمًا بالقدر الكافي؛ فالسؤال الذي يبرز هو ما إذا كانت النشاطات العقلية للدماغ مجرد جزء من نشاطاته الفيزيقية العديدة أو ما إذا كان ثمة فرقٌ هام؛ وإذا كان هناك فرق فماذا يمكننا أن نقول عنه.
(٢٦) المادية الوَعدية الجديدة
يُقَدَّر للنصر أن يحدث كما يلي: مع تقدم أبحاث الدماغ فمن المرجح أن تتغلغل لغة الفيزيولوجيين أكثر فأكثر في اللغة العادية وتغير صورتَنا عن العالم، بما فيها صورة الحس المشترك عن العالم. ومن ثَم فسوف نتحدث أقل فأقل عن الخبرات والإدراكات والأفكار والاعتقادات والأغراض والأهداف، وأكثر فأكثر عن عمليات دماغية، وعن ميول إلى السلوك، وعن سلوك ظاهر. بهذه الطريقة فإن اللغة العقلية سوف تغدو عتيقة الزي ولا تستعمل إلا في التقارير التاريخية، أو على سبيل الاستعارة أو التهكم. عندما نصل إلى هذه المرحلة سيكون مذهب العقل قد مات كليًّا، وستكون مشكلة العقل وعلاقته بالجسم قد حلت نفسها.
وقد أُشيرَ في تدعيم المادية الوعدية إلى أن هذا بالضبط ما حدث في حالة مشكلة السحرة وعلاقتهم بالشيطان؛ فنحن الآن نتحدث عن السحرة، إن تحدثنا أصلًا، إما لكي نصف خرافةً عتيقة، وإما لكي نتحدث استعاريًّا أو تهكميًّا. والشيء نفسه نوعَد بأنه سوف يحدث مع لغة العقل: ربما ليس عاجلًا جدًّا — ربما ليس حتى في أمد حياة الجيل الحاضر — ولكنه أمر وشيك بدرجة كافية.
والمادية الوعدية نظرية خاصة غير عادية؛ فهي تتكون جوهريًّا من نبوءة تاريخية (أو تاريخانية) عن النتائج المستقبلية لأبحاث الدماغ وتأثير هذه النتائج. هذه النبوءة لا أساس لها. لا تُبذَل محاولة لتأسيسها على مسحٍ لأبحاث الدماغ الحديثة. ويتم إغفال رأي الباحثين من أمثال ويلدر بنفيلد الذين بدءوا مناصرين لنظرية الهوية وانتهوا ثنائيين (انظر بنفيلد ١٩٧٦م، ص١٠٤ وما بعدها). لا تبذَل محاولة لحل مصاعب المادية بالحجة. ولا حتى يُنظَر في بدائل للمادية.
وهكذا يبدو أنه لا يُلتمَس في دعوى المادية الوعدية من الطرافة العقلية أكثر مما يُلتمَس في الدعوى بأننا مثلًا سوف نمحو القطط أو الفيلة من الوجود في يوم من الأيام بأن نتوقف عن الحديث عنها؛ أو في الدعوى بأننا سوف نمحو الموت في يوم من الأيام بألا نعود نتحدث عنه (حقًّا ألم نتخلص مِن بَقِّ الفِراش ببساطة برفضنا الكلام عنه؟)
يبدو أن الماديين الوعديين يحبون أن يدلوا بنبوءتهم في رطانة الفلسفة اللغوية الرائجة هذه الأيام. ولكني أظن أن هذا غير ضروري؛ وقد يتخلى أحد أصحاب المذهب الفيزيائي عن رطانة الفلسفة اللغوية ويرد على ما قلتُه هنا خلال الأسطر التالية:
(٢٧) النتائج والخلاصة
يظهر إذن من تحليلنا أنه في المناخ الدارويني الحالي لا يمكن لرؤية مادية متسقة للعالم أن تقوم إلا إذا كانت مصحوبة بإنكارٍ لوجود الوعي.
ويظهر، فضلًا عن ذلك، أننا إذا تبنينا وجهة نظرٍ داروينية (انظر القسم ٢٠)، وسلمنا بوجود وعي متطور، فإن هذا يؤدي بنا إلى مذهب التفاعل.
وما أسميه وجهة النظر الداروينية يبدو أنه جزء من رؤيتنا العلمية الحالية، وجزء مدمج أيضًا في أي عقيدة مادية أو فيزيائية.
ومن جهة أخرى فإن نظرية الهوية إذا فُصِلَت عن وجهة النظر الداروينية تبدو لي متسقة. غير أنها، عدا كونها غير متوافقة مع المبادئ الداروينية، لا تبدو لي قابلة للاختبار تجريبيًّا، كما يومئ فايجل (١٩٦٧م، ص١٦٠ وفي مواضع أخرى كثيرة)، بواسطة أي نتائج مستقبلية للفيزيولوجيا العصبية. فمثل هذه النتائج يمكن، على أفضل تقدير، أن تبين توازيًا وثيقًا بين عمليات دماغية وعمليات عقلية. ولكن هذا لن يدعم نظرية الهوية بأي شيء أكثر مما يدعم مذهب التوازي (مذهب الظاهرة المصاحبة مثلًا) أو حتى مذهب التفاعل.
وربما أبيِّن هذا لمذهب التفاعل بتفصيل أكبر قليلًا.
وجملة القول إنه يبدو أن النظرية الداروينية، ومعها واقعة وجود العمليات الواعية، تؤدي إلى تجاوز المذهب الفيزيائي، وهو مثال آخر لتجاوز المادية لذاتها، مثال مستقل تمامًا عن العالم ٣.
وثمة تحايلٌ آخر لتفادي الدحض، وهو ببساطة أن تُخرِج المثال المضاد counter example من التعريف نفسه: فإذا كنا مثلًا بصدد العبارة الكلية «كل الغربان سود» وجابَهَنا شاهدٌ مضاد لغراب أبيض لَأمكننا القول: «إن غرابًا أبيض هو ليس غرابًا على الإطلاق.»
مثل هذه الفروض التحايلية المقحَمة، والمناورات التعريفية، هي نوع من الغش والمماحكة، وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالِم الحق أن يتجنبها ما استطاع. ورغم أن الفروض العينية تُستخدَم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل بوبر جهده لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعة علميًّا وغير معطِّلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابًا من الحقيقة. (المترجم)
أما الملاحِظ فيخبر هذه الأحداث كمعطيات سلوكية و/أو فيزولوجية، تقدم معرفة بالوصف، للعلاقات العِلِّية/البنائية لهذة الأحداث (بالإضافة إلى منفذ من الدرجة الثانية إلى خبرات الذات) وتلقبها بمفاهيم فيزيقية (جسمية) قابلة للتحقق بينذاتيًّا (Aviel Goodman: Organic Unity Theory: The Mind-Body Problem Revisited., in American Journal of Psychiatry 148 :5, May 1991, p. 557). (المترجم)