بعض ملاحظات عن النفس
(٢٨) مدخل
ليس في نيتي هنا أن أناقش مسألة خلود الروح. (ولكن انظر المناقشة بيني وبين إكلس في الحوار ٦). ومع ذلك سأقتبس هنا عبارة موجزة عن هذه المسألة أتفق معها إلى حد بعيد. وهي تعود إلى بيلوف (١٩٦٢م، ص١٩٠):
«لستُ تَوَّاقًا إلى الخلود الشخصي؛ ولا يستهويني، حقًّا، عالمٌ تكون فيه أَنايَ شيئًا ثابتًا لا يَرِيم.»
أود، بعد أن ذكرتُ موقفي من مشكلة بقاء الروح، أن أذكر بإيجازٍ موقفي من المسائل الرئيسية قبل الدخول في الحجج والخلافات.
«لستُ حيًّا فقط، بل واعٍ بأني حي. كما أني أعرف أنني لن أظل حيًّا إلى الأبد، أن الموت لا مفر منه. أنا أملك صفتَي الوعي بالذات والوعي بالموت».
(٢٩) الأنفس (الذوات) selves
قبل أن أبدأ ملاحظاتي حول النفس، أود أن أُقِرَّ بوضوحٍ ودون لَبْس أنني على قناعة بوجود الأنفس.
كل هذا أوضح من أن يُكتَب. ولكنه يجب أن يُقال. ذلك أن بعض كبار الفلاسفة قد أنكره. كان ديفيد هيوم واحدًا من أوائل هؤلاء، والذي أدى به تفكيره إلى الشك في وجود نفسِه ذاتِها. وقد تَبِعَه في ذلك كثيرون.
هذه كلمات حادة، ولقد تركت انطباعًا حادًّا في الفلاسفة؛ فمنذ هيوم وحتى زمننا هذا اعتُبِر وجود الذات أمرًا مُشكِلًا إلى حد كبير.
«من الواضح أن فكرة النفس (الذات) أو بالأحرى انطباع النفس لدينا هو شيء لصيق بنا على الدوام، وأن وعينا يمنحنا تصورًا لشخصنا هو من الحيوية بحيث يستحيل أن نتخيل أن أي شيء في هذه الجزئية يمكن أن يتخطاه.»
هذا الإقرار المثبِت يبلغ نفس المبلغ الذي يعزوه إلى «بعض الفلاسفة» في الفقرة النافية الأكثر شهرة والمقتبسة آنفًا، والتي يعلن فيها بحسم أن هذا أمرٌ واضحُ التناقض والامتناع.
«هناك أيضًا طباعٌ مميزة لمختلِف الأشخاص … تقوم معرفة هذه الطباع على ملاحظة اطرادٍ في الأفعال التي تصدر منهم …»
من البيِّن أن للذاكرة أهمية في عملية الوعي بالذات: والحالات التي فقدتُ ذاكرتي عنها تمامًا من الصعب أن يقال إنها حالاتي، إلا بمعنى أنني قد أستعيد ذكرى تلك الحالات. غير أني أعتقد أن الوعي بالذات أكثر من مجرد الذاكرة، على الرغم من الرد الممتاز لكوينتون على ف. ﻫ. برادلي (١٨٨٣م)؛ إذ كتب برادلي: «السيد بِين يعتقد أن العقل هو مجموعة (= ما أسماه هيوم حزمة). فهل تفكَّر السيد بين: من يُجَمِّع السيد بين؟» يعلق كوينتون على ذلك (١٩٧٣م، ص٩٩) قائلًا: «الجواب هو أن السيد بين اللاحق يُجَمِّع السيد بين السابق عن طريق تَذَكُّرِه.»
التذكر مهم، ولكنه ليس كل شيء. والقدرة على التذكر ربما تكون أهم من التذكر الفعلي. من الواضح أننا لسنا طوال الوقت «نتذكر» ذواتنا السابقة. ونحن نعيش للمستقبل — نفعل، نُعِد، للمستقبل — أكثر مما نعيش في الماضي.
(٣٠) الشبح في الآلة١٢
ربما يكون من المفيد أن نعلق هنا بصورة أكثر اكتمالًا على مسألة معرفة الذات وملاحظة الذات، وعلى آراء جلبرت رايل في كتابه البالغ الروعة «مفهوم العقل» (١٩٤٩م).
لقد رَحَّبَ الماديون بهذا الكتاب باعتباره مناصرًا لعقيدتهم؛ ورايل نفسه يقول في كتابه إن «اتجاهه العام … بلا شك وبلا ضير، سوف يوصَم بأنه (سلوكي)» (ص٣٢٧). وهو أيضًا يعلن بصراحة (ص٣٢٨) «أن حكاية العالَمَين هي خرافة». (ولعل حكاية العوالم الثلاثة أن تكون أسوأ حتى من ذلك).
وإنما في هذا الضوء ينبغي أن نقرأ العبارة الآتية لرايل، التي تكشف بالتأكيد ميوله الإنسانية: «لا داعيَ لأن نحط قدرَ الإنسان إلى آلة إذا ما أنكرنا عليه أن يكون شبحًا في آلة … فما زالت تُهيب بنا القفزةُ المغامرةُ إلى فرضيةِ أنه، ربما، إنسان.»
يبدو رغم ذلك أن هناك مسألة مهمة واحدة على الأقل حول واقعة، حيث نختلف؛ رايل وأنا. إنها مسألة المعرفة الذاتية، ومسألة الملاحظة الذاتية (المختلفة نوعًا ما) (المسألتان مختلفتان؛ لأن المعرفة ليست دائمًا قائمة على الملاحظة).
ثمة عدد من التقارير الشائقة من نوعٍ مشابه يحويها كتاب مشهور، هو «علم نفس الابتكار في مجال الرياضيات» لجاك هادامارد (١٩٤٥، ١٩٥٤م). في هذه التقارير يغلب أن يكون الوصول إلى الحل شيئًا حدسيًّا، مفاجئًا؛ على ألا نُغفِل أن الحل دائمًا إنما يوصَل إليه بعد عملٍ شاق ودءوب، وبعد رفض متكرر لمحاولات سابقة، وبعد نقدٍ قاسٍ للنتائج غير المُرضِية.
من الواضح أن هذه الطرائق النقدية، حتى حيثما كان الحل النهائي حدسيًّا، هي مراحل ضرورية؛ وأنها أَمكنَت بسبب وجود اللغة، وغيرها من صور الرمزية؛ ذلك أننا ما دمنا نضمر اعتقادًا حدسيًّا من غير تمثيل رمزي فنحن وإياه واحد، ولا نملك نقده. ولكن بمجرد أن نصوغه، أو ندونه في شكلٍ رمزي، هنالك يتسنى لنا أن ننظر إليه بموضوعية، بوصفه موضوعًا للعالم ٣، وأن ننقده، ونتعلم منه، نتعلم حتى من رفضه. انظر أيضًا قسم ٣٤ لاحقًا.
يُفضِي بنا نشاطُ النفس، أو وعي النفس، إلى سؤال ماذا تفعل، وأي وظيفة تؤدِي، ومن ثَم إلى مقاربة بيولوجية إلى النفس. سيكون هذا موضوع أقسامي اللاحقة في هذا الفصل. ولكن قبل ذلك سأمس واحدًا من الموضوعات الأخرى لهذا الفصل: علاقة النفس بالعالم ٣.
(٣١) تعلُّم أن تكون ذاتًا (نفسًا)
من الأهمية بمكانٍ، فيما يبدو لي، أننا لم نولد ذواتًا (أنفسًا)، بل إن علينا أن نتعلم أننا أنفس؛ علينا في الحقيقة أن نتعلم أن نكون أنفسًا. عملية التعلم هذه هي عملية نتعلم فيها عن العالم ١، والعالم ٢، وبصفة خاصة عن العالم ٣.
لقد كُتِب الكثير (بواسطة هيوم، كانْت، رايل، وكثير غيرهم) عن سؤال هل يمكن للمرء أن يلاحظ نفسه. وأنا أعتبر هذا السؤالَ سيئَ الصياغة. إن بإمكاننا — وهذا شيء هام — أن نعرف الكثير عن أنفسنا؛ ولكن المعرفة، مثلما أشرتُ آنفًا، لا تقوم دائمًا على الملاحظة (كما يظن الكثيرون)؛ فكلتا المعرفة قبل العلمية والمعرفة العلمية تقوم بدرجة كبيرة على الفعل وعلى الفكر، على حل المشكلات. صحيح أن الملاحظات تلعب دورًا بالفعل، ولكن هذا الدور هو وضع المشكلات لنا، ومساعدتنا في أن نجرب حدوسنا الافتراضية، ونغربلها.
كما أن قدراتنا على الملاحظة موجهة بالأساس إلى بيئتنا. وحتى في تجارب الخدع البصرية التي أشرنا إليها في قسم ١٨، فإن ما نلاحظه هو موضوعٌ بيئي، ولِدهشتنا فنحن نجد أنه «يبدو» ذا خواص معينة، بينما نحن «نعرف» أنه لا يملك هذه الخواص. نعرف هذا بمعنى خاص بعالم ٣ لكلمة «يعرف»، نحن لدينا نظريات عالم ٣ جيدة الاختبار تخبرنا، مثلًا، أن أيما صورة مطبوعة فهي لا تتغير فيزيائيًّا أثناء النظر إليها. يمكننا القول إن الخلفية المعرفية التي نملكها تلعب، نزوعيًّا، دورًا مهمًّا في الطريقة التي نؤوِّل بها خبرتنا في الملاحظة. وقد تبين أيضًا بالتجربة (انظر جان ب. ديريجوسك ١٩٧٣م) أن بعض هذه الخلفية المعرفية مكتسَبٌ ثقافيًّا.
وبتعبير آخر، مختلف اختلافًا طفيفًا، فإن الطفل يتعلم أن يعرف بيئته؛ ولكن الأشخاص هم الموضوعات الأهم داخل بيئته؛ ومن خلال اهتمامهم به — وخلال تَعَرُّفِه بجسمه — فإنه يتعلم في الوقت المناسب أنه هو نفسه شخص.
هذه هي العملية التي تعتمد مراحلها اللاحقة اعتمادًا كبيرًا على اللغة. ولكن حتى قبل أن يكتسب الطفل تمكنًا من اللغة فإنه يتعلم أن ينادَى باسمه، وأن يُجاز له أو يُستنكَر عليه. ولما كان الاستحسان والاستهجان خصيصة ثقافية، إلى حد كبير، أو خصيصة لعالم ٣، فإن بوسع المرء حتى أن يقول إن استجابة الطفل، المبكرة جدًّا والفطرية فيما يظهر، للابتسامة، تشتمل بالفعل على البداية البدائية قبل اللغوية لرُسُوِّه في العالم ٣.
القطة غير النشطة لا تتعلم شيئًا. وأعتقد أن الشيء نفسه ينسحب على أي طفل يُحرَم من الخبرة النشطة في العالم الاجتماعي.
(٣٢) التفرد Individuation
بمعرِض حديثه عن الهوية الفردية والشخصية — الهوية أثناء التغير — ينطلق جون لوك (١٦٩٠، ١٦٩٤م، كتاب ٢، فصل ٢٧، أقسام ٤–٢٦) من الاعتبارات البيولوجية: ينطلق من مناقشة هوية النباتات والحيوانات المفردة. قد يقال إن شجرة البلوط (السنديان) هي الفرد نفسه، منذ بدايتها كجوزة وحتى موتِها؛ وكذلك شأن الحيوان الفرد. يبين لوك أن الهوية الفردية لإنسانٍ من الناس «ما هي في جوهرها إلا مشاركة … في نفس الحياة المستمرة، بواسطة تغيير دائم لجسيمات المادة» (قسم ٦).
هكذا فرغم ما يبدو للوهلة الأولى من أن المبدأ البيولوجي للتفرد قائم على البني الأساسية والآليات الخاصة بالبيولوجيا الجزيئية فإن هذا غير صحيح. فعندما نكون بصدد الحياة المتعددة الخلايا فإن انحرافات عن المبدأ تحدث: توجد بُنَى متعددة الخلايا ومستعمرات حيوانية أو دول ليست تحت مركزية كاملة لجهاز عصبي واحد أو ليست متفردة تمامًا. غير أن هذه التجارب التطورية، فيما يبدو، وإن كانت غير فاشلة طبعًا، ليست ناجحة تمامًا كنجاح المتعضيات المفردة المتعددة الخلايا ذات الأجهزة العصبية الشديدة المركزية. يبدو هذا مفهومًا بالحدس، بالنظر إلى آليات الانتخاب الطبيعي. ويبدو أن التفرد واحد من أفضل الوسائل لتأسيس غريزة للدفاع والبقاء؛ ويبدو أن التفرد أمر أساسي من أجل تطور ذاتٍ (أو نفس).
وهكذا فالنفس المتغيرة والمحتفظة بنفسها رغم ذلك، يبدو أنها تقوم على الكائن المفرد المتغير على أنه محتفظ بهويته المفردة.
حين ننسب النشاط إلى عملية غير حية، وحين ننسب النشاط بخاصة إلى كائن عضوي، فإننا نعتبر العملية أو الكائن على أنه مركز للتحكم و(ما لم يفقد التحكم) على أنه متحكم في ذاته. وحتى عملية غير حية من مثل لهب غازي قد يقال عنها حقًّا إنها نظام متحكم في ذاته (هوميوستاسي). الكائنات العضوية هي بالتأكيد ذاتية التحكم، وبعضها على الأقل يؤسس مراكز تحكُّم تحفظ الكائن في نوع من التوازن الدينامي. وفي تلك الحيوانات التي ننسب إليها، حدسيًّا، عقلًا أو وعيًا، فمن الواضح أن الوظيفة البيولوجية للعقل وثيقة الصلة بآليات التحكم (التحكم الذاتي) في الكائن الفرد.
إن ما يوصَف عادةً على أنه وحدة النفس، أو وحدة الخبرة الواعية، من المرجح جدًّا أنه نتاج جزئي للتفرد البيولوجي لتطور الكائنات العضوية ذات الغرائز المتأصلة من أجل بقاء الكائن الفرد. يبدو أن الوعي، وحتى العقل، قد تطور إلى حد كبير بفضل قيمته لبقاء الكائن العضوي الفرد (انظر أيضًا قسم ٣٧ لاحقًا).
في هذا القسم اقترحتُ أن علينا أن ننظر إلى مشكلة الهوية الذاتية من منظور بيولوجي. وهذا يُثبِت أن الهوية الذاتية هي، على الأقل جزئيًّا، ذات طابع عرضي بشكلٍ مفاجئ. وسوف نعرِض لجوانب أخرى لهذه المشكلة في أقسامٍ لاحقة. وفي القسم التالي سأعرض باختصار لوجهة نظر بيتر ستروصن عن الهوية الذاتية، وكيف تعتمد الهوية الذاتية على الدماغ.
(٣٣) الهوية الذاتية: النفس ودماغها
من الوجهة الزمنية فالجسم قائمٌ هناك قبل العقل. إنما العقل إنجازٌ لاحق؛ وهو أكثر قيمة. يهيب بنا جوفينال أن نحمد الله أن منحنا عقلًا سليمًا في جسمٍ سليم. غير أننا جميعًا على استعداد من أجل أن ننقذ حياتَنا لأن نبتر ساقًا، وسنرفض جميعًا، فيما أعتقد، إجراء عملية من شأنها أن تمنعنا من أن نكون مسئولين عن أفعالنا، أو أن تدمر وعيَنا بهويتنا الإحصائية في مختلف الأوقات: عملية تنقذ حياة الجسد دون تكامل العقل.
من الواضح أن لهوية النفس وتكاملها أساسًا فيزيقيًّا (جسميًّا). وهذا الأساس، فيما يبدو، متمركز في دماغنا. على أن من الممكن لنا أن نفقد أجزاء كبيرة من دماغنا دون أن يؤثر ذلك في شخصيتنا. ومن جهة أخرى فإنَّ تَضرُّر تكاملِنا العقلي يعود دائمًا، فيما يبدو، لتلف الدماغ أو لاضطرابٍ فيزيقي آخر للدماغ.
لهذا السبب لستُ أتفق مع نقد جون بيلوف لبيتر ستروصن. يقول بيلوف في كتابه الممتاز «وجود العقل» (١٩٦٢م، ص١٩٣): «إن كل ما يمكننا على الإطلاق أن نعرفه عن الأشخاص الآخرين يتعين أن يأتي، صميميًّا، من خبرتنا نحن الحسية. فإذا أُلِحَّ علينا أن نبرر اعتقادنا أن الأشخاص الآخرين لديهم عقول مثل عقولنا فلا نَزال نرتد إلى حججٍ أنالوجية … (هكذا) أن نقول، كما يقول ستروصن، بأن هويتنا نحن الشخصية تعتمد بشكلٍ ما على تمييزنا لهوية الآخرين، يبدو عكسًا غيرَ مشروع للموقف التقليدي.»
وبالإضافة إلى معرفة الرضيع الفطرية للأشخاص، وبخاصة أمه، فلا شك أيضًا أن على الرضيع أن يتعلم ما ينتسب إلى جسمه وما لا ينتسب إليه، وأن هذه المعرفة تسبق زمنيًّا وتشكِّل الأساسَ لاكتشافه أنه نفس (ذات). وإن المقاومة التي يبديها العالم الخارجي تجاه مقاصده وأفعاله لَتُسهِم أيضًا في هذا الاكتشاف.
والآن أعود إلى النظر في بعض الاعتراضات على نظرية ستروصن ومثيلاتها.
كل هذا يثبت أننا نعتبر العقل وهويته الذاتية كشيء حاسم بالنسبة للهوية الشخصية؛ ذلك لأننا لو كنا نعتقد مع أرسطو أن القلب هو مركز العقل لَتوقعنا ذهاب الهوية الشخصية مع ذهاب القلب لا مع ذهاب الدماغ (إذا كنتُ قد فهمتُ ستروصن (١٩٥٩م) على نحو صحيح، فإن رأيي هذا يناقض رأيه، وسوف يقول إنه — أي رأيي — يرتد بنا إلى المذهب الديكارتي).
وهكذا ففي الظروف العادية يمكننا اعتبار هوية الجسم محكًّا لهوية الشخص، ولهوية النفس. ولكن تجربتنا الفكرية، زراعة الدماغ (التي آمل ألا تُجرَى على كائنٍ بشري)، تبين أن هوية الجسم ليست معيارًا إلا ما بقيت تستلزم هوية الدماغ؛ والدماغ بدوره لا يلعب هذا الدور إلا لأننا نفترض (حدسيًّا) وصله بالعقل؛ لأننا نحدس بأن الدماغ بسبب هذا الوصل هو حامل الهوية الذاتية للشخص.
وهذا أيضًا يفسر لماذا يجب في حالة الفقدان المرضي للذاكرة أن نعتبر هوية الجسم كافية لتحديد الشخص. ولكن هذا لا يتضمن أن علينا أن نقبل بهوية الجسم كمعيارٍ نهائي.
ومن المفترَض حدسيًّا أن الوصل بين النفس والدماغ وثيقٌ للغاية. ولكن هناك عدد من الحقائق البالغة الأهمية ينبغي تذكرها، والتي تضاد القول برابطة شديدة الوثوق والآلية (بين النفس والدماغ).
ثمة طرائق أخرى لمعاينة عدم التزام مناطق كبيرة من اللحاء المخي؛ فقد تُزال أجزاء كبيرة من اللحاء غير الملتزم دون ضرر ملحوظ لأي وظيفة مخية، بل إن استئصال أجزاء من الدماغ لعلاج نوبات الصرع قد أدى في بعض الحالات إلى تحسن ضروب الأداء الذهني.
لقد عنونت هذا القسم «الذات ودماغها» لأني أقصد هنا أن أشير بأن الدماغ مملوك للذات (النفس) وليس العكس. والذات هي دائمًا تقريبًا في حالة نشاط. ونشاط الذوات (الأنفس)، فيما أرى، هو النشاط الأصيل الوحيد الذي نعرفه. والذات السيكوفيزيقية النشِطة هي المبرمِج النشِط للدماغ (الذي هو الحاسوب). إنها المنفِّذُ الذي أداتُه الدماغ. العقل كما قال أفلاطون هو رُبَّان (أو قائد) وليس مجموعًا كليًّا أو حزمةً أو تيارًا من خبراته كما يومئ هيوم ووليم جيمس؛ ففي هذا التصور نوع من السلبية. إنه، فيما أظن، رأى ينجم من محاولة المرء، سلبيًّا، أن يلاحظ نفسه بدلًا من أن يفكر رُجُعًا ويراجع أفعاله الماضية.
أرى أن هذه الاعتبارات تبين أن النفس ليست «أنا خالصة» (قارن قسم ٣١ سابقًا، المَتن التالي لحاشية ٢٨)، أي مجرد ذات؛ بل هي ثرية إلى حدٍّ مذهل. إنها أشبه بالقائد: تلاحظ وتتخذ أفعالًا في الوقت نفسه، إنها تفعل وتعاني وتتذكر الماضي وتخطط للمستقبل وتبرمجه، وتتوقع وتقدِّر. إنها تنطوي، في تتابع سريع أو في الوقت نفسه، على رغبات وخطط وآمال وقرارات بأفعال ووعي واضح بأنها ذاتٌ فاعلة، مركز نشاط. وهي مدينة كثيرًا في هذه الذاتية لتفاعلها مع الأشخاص الآخرين، الذوات الأخرى، ومع العالم ٣.
وكل هذا يتفاعل تفاعلًا وثيقًا مع «النشاط» الضخم الجاري في دماغها.
(٣٤) المقاربة البيولوجية إلى المعرفة والذكاء البشريين
أعني بالمقاربة البيولوجية إلى المعرفة مقاربةً تَعتبر المعرفة، سواء الحيوانية أو البشرية، هي النتيجة التطورية للتكيف مع البيئة، مع عالمٍ خارجي.
ويمكننا أن نُدخِل هنا تمييزات هامة عديدة.
-
(١)
التكيفات الموروثة في مقابل التكيفات المتعلَّمة التي يكتسبها الكائن العضوي الفرد. وستكون الثانية بصفة خاصة تكيفات مع جوانب جديدة الظهور من البيئة، أو مع بيئة مختارة حديثًا، أو مع جوانب غير مستقرة. لاحِظْ رغم ذلك أن لكل تكيف متعلَّم أساسًا جينيًّا، بمعنى أن موروث (جينوم) الكائن العضوي يجب أن يُعِيل ملكةَ اكتسابِ تكيفاتٍ جديدة.
-
(٢)
المعرفة الواعية في مقابل المعرفة غير الواعية؛ وهو تمييز ذو أهمية على المستوى البشري. وهذا يطرح مشكلة الوظيفة البيولوجية للوعي.
-
(٣)
المعرفة بالمعنى الذاتي (معرفة العالم ٢) في مقابل المعرفة بالمعنى الموضوعي (معرفة العالم ٣). لا يَبرز هذا التمييز (انظر كتابي 1972(a)) إلا على المستوى البشري.
يمكن أن تكون كل من المعرفة الموروثة والمكتسبة معقدة للغاية (قد يكون محتواها المعلوماتي كبيرًا جدًّا). وبدون خلفية المعرفة الموروثة، التي هي لاشعورية بالكامل تقريبًا، والمدمَجة في جيناتنا (أو هكذا تبدو)، لما كان بإمكاننا بالطبع أن نكتسب أي معرفة جديدة. ترى الفلسفة التجريبية الكلاسيكية العقل كصفحة بيضاء، سبورة خالية، صفحة خالية، خالية إلى أن يُدخِل الإدراك الحسي بندًا («لا شيء في فكرنا إلا وقد دَخَل إليه من خلال حواسنا»). هذه الفكرة ليست خطأ فحسب، بل هي خطأ فاحش؛ وبحسبنا أن نتذكر العشرة آلاف مليون نيورون الخاصة بلحائنا المخي، وبعضها (مثل الخلايا الهرمية اللحائية) لكلٍّ منها وصلات مشتبكية يقدَّر مجموعها بعشرة آلاف (إكلس، ١٩٦٦م، ص٥٤). بوسعنا أن نقول إن هذه تمثل الآثارَ الماديةَ (العالم ١) لمعرفتنا الموروثة واللاواعية بكاملها تقريبًا، والمنتخبة بواسطة التطور. ورغم أنه لا توجد، في الحقيقة، طريقة لمقارنة الاثنين (وهكذا الأمر بعامة فيما يتعلق بمشكلة الطبيعة مقابل التنشئة) فينبغي أن أميل حدسيًّا إلى القول بأن الكم الهائل من المعلومات الذي يمكننا اكتسابه في عمرٍ من خلال حواسنا هو صغير بالمقارنة بكم الخلفية الموروثة من الإمكانات. هناك على أية حال مصدران كبيران لمعلوماتنا: ذلك المكتسَب خلال الوراثة الجينية، وذلك المكتسب طوال حياتنا. كما أن المعرفة جميعها، سواء الموروثة أو المكتسبة، هي من الناحية التاريخية تعديل لمعرفة أسبق؛ وكل معرفة مكتسَبة يمكن أن تُقتفَى رُجُعًا، خطوةً خطوةً، إلى تعديلاتٍ لمعرفة فطرية أو غريزية. وتكمن أهمية المعلومات المكتسَبة، كليًّا تقريبًا، في قدرتنا الفطرية على استعمالها في الاتصال ﺑ، أو في تصحيح، معرفتنا الوراثية اللاشعورية.
وبالطبع فإن معظم المعلومات المكتسَبة التي نتلقاها من خلال حواسنا هي أيضًا لا شعورية. أما المعرفة المكتسبة شعوريًّا إلى حد كبير والتي قد تبقى شعورية زمنًا فهي معرفة العالم ٣ النظرية التي تنتج من تشييدٍ نظري، وبخاصة من تصحيحٍ نقدي لنظرياتنا. هذه عملية يتفاعل فيها العالم ٢ والعالم ٣ (انظر قسم ١٣ سابقًا). يقودنا ذلك إلى الحدس الافتراضي بأن العمل الذكي الشعوري تمامًا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على هذا التفاعل بين العالم ٢ والعالم ٣.
قد تقال كلمة بهذا الصدد عن الفروق في الذكاء.
وفضلًا عن ذلك فمن الممكن تمامًا، بين معظم الأسوياء، أن تكون الفروق الفطرية في الموهبة لا تُذكَر، مقارنة بالإنجاز الفكري الهائل لكل الأطفال تقريبًا في كونهم قادرين، بجهودهم النشِطة، أن يكتسبوا لغةً بشرية، بكل ما تتضمنه من تعقيدات، في عمرٍ مبكر.
(٣٥) الوعي والإدراك الحسي
وفقًا للمذهب الحسي أو التجريبي السيكولوجي، فإن معرفتنا وربما حتى ذكاءنا إنما يعتمد على المُدخَل الحسي. هذه النظرية هي في رأيي تفندها حالة مثل هيلين كيلر التي كان مُدخَلها الحسي من المعلومات (كانت عمياء وصماء) بالتأكيد دون الطبيعي بكثير، ولكن نمت قواها الفكرية بشكلٍ مدهش منذ اللحظة التي أتيحت لها فيها فرصة اكتساب لغة رمزية. ويبدو حتى أنها تعلمت، إلى حدٍّ ما، أن «ترى» و«تسمع» من خلال عيني وأذني معلمتها التي كانت هيلين على صلة لمسية (ورمزية) وثيقة بها.
كانت إنجازاتُها اللغوية مرتبطة لديها بخبرة قوية لا تُنسَى من السعادة والعرفان. كانت هذه خبرات واعية شديدة، ولكن لا علاقة لها بالإدراك الحسي. لم تكن لمسات يد معلمتها هي ما جعلها سعيدة، بل إدراكها المفاجئ أن سلسلة معينة من اللمسات كانت «اسمًا»، الاسم الخاص بالماء (من خبراتها الأخرى الواعية الشديدة خبرة أتت لاحقًا عندما اتُّهِمَت، خطًّا، بالانتحال).
(٣٦) الوظيفة البيولوجية للنشاط الواعي والنشاط الذكي
أقترح أن تطور الوعي، وتطور الجهد الذكي الواعي، ثم تطور اللغة والاستدلال — وتطور العالم ٣ — ينبغي أن يُنظَر فيه غائيًّا، مثلما ننظر في تطور الأعضاء الجسدية: بوصفها تخدم أغراضًا معينة، وبوصفها قد تطورت تحت ضغوط انتخابية معينة (قارن قسم ٢٥ سابقًا).
ثمة فكرة وثيقة الصلة فيما يخص وظيفة الوعي: الوعي لازمٌ لانتخاب توقعات أو نظريات جديدة على نحو نقدي — على الأقل عند مستوى معين من التجريد. فإذا كان أحد التوقعات أو النظريات ناجحًا بلا استثناء، تحت ظروفٍ معينة، فإن تطبيقه سيتحول بعد زمنٍ إلى وتيرة اعتيادية، ويصبح لا شعوريًّا. أما أي حدثٍ غير متوقَّع فسوف يجذب الانتباه وبالتالي الوعي. فنحن قد لا نكون على وعي بتكات ساعة، ولكننا «نسمع» أنها قد توقفت عن التك!
لسنا نعرف، بطبيعة الحال، إلى أي مدًى يبلغ وعي الحيوانات. إلا أن الجِدَّة يمكن أن تثير انتباهها، أو بتعبير أدق يمكن أن تثير سلوكًا يصفه كثيرٌ من الملاحظين، لمشابهته السلوكَ البشري، على أنه «انتباه»، ويفسرونه على أنه واعٍ.
غير أن دور الوعي ربما يتجلى على أوضح نحو حيثما يمكن لهدفٍ أو غرض (ربما حتى هدف أو غرض لا شعوري أو غريزي) أن يتحقق ﺑ «وسائل بديلة»، وعندما تُجرَّب وسيلتان أو أكثر بعد تدبُّر. إنها حالة صنع قرار جديد (الحالة الكلاسيكية بالطبع هي حالة الشمبانزي سلطان التي ذكرها كولر، ذلك الشمبانزي الذي واءَمَ عصا من الخيزران في أخرى، بعد محاولات عديدة لحل مشكلة الحصول على ثمارٍ فوق منالِه، وهي استراتيجية التفافية في حل المشكلات). ومن المواقف المثيلة عملية اختيار برنامج غير اعتيادي، أو اختيار هدفٍ جديد، مثل قرار هل أقبل دعوةً إلى إلقاء محاضرة وأنا مثقل بعملٍ كثير أقوم به. يُعد خطاب الموافقة، والإدراج في لائحة المواعيد، من موضوعات العالم ٣؛ ويعد إرساء برنامج العمل، والمبادئ العامة التي قد نكون وضعناها لقبول أو رفض مثل هذه الدعوات، هي أيضًا منتسبة إلى العالم ٣، وإن يكن، ربما، على مستوًى تراتبي أعلى.
(٣٧) الوحدة التكاملية للوعي
كثير جدًّا من هذه الأفعال الدمجية آلي ولا شعوري، ولكن بعضها ليس كذلك، يدخل ضمن هذا البعض، بصفة خاصة، عملية اختيار وسائل إلى غايات معينة (كثيرًا ما تكون لا شعورية)، أيْ عملية صنع قرارات، اختيار برامج.
من الواضح أن صنع القرار أو البرمجة وظيفة مهمة بيولوجيًّا لِأَيِّما كيانٍ يحكم أو يتحكم في سلوك الحيوانات أو البشر. إنه، جوهريًّا، فعلٌ دمجي بالمعنى الذي قال به شرودنجتون: إنه يربط السلوك في شتى اللحظات بالتوقعات؛ أو بعبارة أخرى يربط السلوك الحاضر بالسلوك الوشيك أو المستقبل. وهو يوجه «الانتباه»، بأن يختار ما هي الأشياء التي تَعنيه، وما هي الأشياء التي عليه إغفالها.
وكحدسٍ افتراضي جامح، أقترح أن الوعي إنما ينبثق عن وظائف بيولوجية أربع: الألم، واللذة، والتوقع، والانتباه. وربما ينبثق الانتباه عن توقعات محبَطة. ولكن الانتباه، كظاهرة، مطابِق تقريبًا للوعي، فحتى الألم قد يختفي في بعض الأحيان إذا ما صُرِف عنه الانتباه وتركز في وجهة أخرى.
ويبرز السؤال: إلى أي مدًى يمكن أن نفسر الوحدة الفردية لوعينا، أو ذاتيتنا، باحتكام إلى الموقف البيولوجي؟ أعني بالتجاء إلى واقعة أننا حيونات، حيوانات نَمَتْ فيها غريزة لبقاء الفرد، علاوة طبعًا على غريزة لبقاء النوع.
يقول كونراد لورينز (١٩٧٦م، ص٤٦ وما بعدها) عن قنفذ البحر إن «جهازه العصبي غير المتمركز … يجعل من غير الممكن لمثل هذه الحيوانات أن تثبِّط تمامًا واحدةً من عددٍ من طرائق السلوك الممكنة ومن ثم «تقرر» في صالح اتخاذ طريقة بديلة. على أن قرارًا كهذا (كما بيَّنَ إريك فون هولست بشكل مقنِعٍ جدًّا في حالة دودة الأرض) هو القرار الرئيسي والإنجاز الأهم لعضوٍ عصبي مركزي شبيه بالدماغ». ولكي يتحقق ذلك، فإن الموقف المعْنِيَّ يتعين أن يُبَلَّغ به إلى العضو المركزي بطريقة وافية (أي بكلتا الطريقتين: بطريقة واقعية، وأيضًا بطريقة مثالية من خلال قمع جوانب الموقف غير ذات الصلة). هكذا يجب على مركزٍ موحدٍ أن يثبِّط بعضًا من طرائق السلوك الممكنة، ولا يسمح إلا لطريقة واحدة في الوقت الواحد أن تتقدم: الطريقة، يقول لورينز، «التي يمكن في الموقف القائم أن تسهم في البقاء … وكلما زاد عدد طرائق السلوك الممكنة، ارتفع الإنجاز المطلوب من العضو المركزي.»
هكذا (١) فالكائن العضوي الفرد — الحيوان — هو وحدة؛ (٢) وكلٌّ من الطرق المتنوعة للسلوك — بنود المخزون السلوكي — هو وحدة؛ والمخزون الكلي يكوِّن مجموعة من البدائل التي لا تجتمع (يقصي أحدها الآخر)؛ (٣) والعضو المركزي للتحكم يجب أن يعمل كوحدة (أو بالأحرى سيكون أكثر نجاحًا إذا عمل كوحدة).
لستُ أعتقد أن ما قلتُه هنا أو قلتُه في الأقسام السابقة يبدِّد أي لغز. ولكني أعتقد حقًّا أنه ليس علينا أن نعتبر الفردية أو الوحدة أو فرادة النفس أو هويتنا الشخصية شيئًا ملغزًا، أو أكثر إلغازًا، مهما يكن، من وجود الوعي، أو في النهاية من وجود الحياة، ووجود الكائنات الحية المفرَدة. إن بزوغ الوعي الكامل القادر على التأمل الذاتي، والذي يبدو أنه متصل بالدماغ البشري وبالوظيفة الوصفية للغة، هو حقًّا أعجوبة من أعظم الأعاجيب. ولكن إذا نظرنا إلى التطور الطويل لعملية التفرد والفردية، وإلى تطور الجهاز العصبي المركزي، وإلى فرادة الأفراد (العائدة جزئيًّا إلى فرادة الجينات وجزئيًّا إلى فرادة خبراتهم) عندئذٍ فإن حقيقة أن الوعي والذكاء والوحدة مرتبطة بالكائن البيولوجي الفرد (وليس بالجِرمبلازم مثلًا) لا تبدو عجيبةً جدًّا. فإنما في الكائن الفرد يتعين على الجِرمبلازم، الجينوم، أن يواجه الاختبارات.
(٣٨) استمرارية النفس
قد نقول عن النفس (الذات) إنها، شأن أي كائن عضوي حي، تمتد خلال أَمَد من الزمان، تقريبًا من الميلاد إلى الموت. وفي حين أن الوعي يُقاطَع بفتراتٍ من النوم، فنحن نعتبر أنفسنا شيئًا مستمرًا. وهذا يعني أننا لا نوحِّد بالضرورة بين النفس والوعي: ثمة «أجزاء» من النفس لا واعية. غير أن وجود مثل هذه «الأجزاء» لا ينال عادةً مما نعرفه جميعًا (فيما أرى) على أنه وحدة النفس واستمراريتها.
أعتقد أن آراء جلبرت رايل ود. م. أرمسترونج يمكن أن تلقِي الكثير من الضوء على النفس اللاواعية التي هي حقًّا نزوعية، والتي هي، جزئيًّا على الأقل، فيزيائية. إنها تتكون من ميول (نزوعات) إلى الفعل، وميول إلى التوقع؛ توقعات لا واعية. يمكن تمامًا أن نصف معرفتَنا اللاواعية على أنها مجموعة من الميول إلى الفعل، أو إلى السلوك، أو إلى التوقع. ومن المثير للغاية أن هذه الحالات اللاواعية والنزوعية قد تصبح بطريقة ما واعيةً بأثر رجعي، إذا ما خُيِّبَ توقعُنا؛ تذكَّر أننا قد نسمع أن الساعة قد توقفت للتو عن التك. قد يعني هذا أن «مشكلة غير متوقعة» جديدة تبرز وتتطلب انتباهنا. يوضِّح هذا واحدة من وظائف اللاوعي.
من المؤكد أن ميولنا اللاواعية مهمة جدًّا لذواتنا؛ فالكثير مما يسهم في وحدة النفس، وفي استمراريتها الزمنية بصفة أخص، يبدو أنه لا شعوري. ثمة نوع من الذاكرة — القدرة على استدعاء (تذكُّر) ما حدث لنا في الماضي المباشر — هو، شأنَ كل ذاكرة كامنة، لا شعوري، ولكن يمكن استدعاؤه إلى الوعي. نحن عادةً «نعرف» بتفصيل معتبَر ما قد فعلناه وخبرناه منذ لحظة، بمعنى أننا نعرف كيف نستدعيه إلى الوعي «إذا شئنا ذلك». إن هذا النزوع اللاواعي هو ما يمنح الذات استمراريتها من لحظة إلى أخرى، في حالات تيقظها العادية.
وعليَّ أن أؤكد هنا، على النقيض من المادية الجذرية أو السلوكية الجذرية، أن هذه الميول اللاواعية إلى استدعاء الماضي المباشر عند الحاجة ليست ميولًا إلى السلوك، ليست ميولًا إلى سلوك يمكن ملاحظته، بل هي بالأحرى ميول إلى إعادة معايشة خبرة ما. وهذا ليس يصح بالنسبة لكل أنواع الذاكرة؛ فتعلُّم مهارة كالمشي أو قيادة الدراجة أو العزف على البيانو تتألف من اكتساب ميلٍ إلى السلوك، وفق الإرادة؛ وفي الوقت نفسه قد تظل تفاصيل سلوكية كثيرة لا شعورية تمامًا.
كل هذا يومئ إلى أن هناك نوعين على الأقل من الحالات النزوعية اللاواعية، التي قد تكون وقد لا تكون النتاج لعملية تعلُّم:
-
(١)
ميول إلى الاستدعاء إلى الوعي (التي قد تؤدي وقد لا تؤدي إلى فعلٍ واعٍ).
-
(٢)
ميول إلى السلوك لا شعوري.
ويبدو أن كلا هذين يؤثر بعمق على الذات. النوع الأول يكون شديد الأهمية فيما قد نصفه بأنه الذاكرة التي تُنتِج الاستمرارية الممكِنة للنفس، أو الذاكرة المنتِجة للاستمرارية.
هكذا فالذات النشطة موجَّهة ومُرساة في المكان بواسطة نظريات أو نماذج العالم ٣ التي لدينا نزوع إلى جعلها واعية وصريحة وفق إرادتنا. ونحن بالمثل مُرسَون في الزمان بواسطة نزوعنا إلى استدعاء ماضينا، وبواسطة توقعاتنا النظرية وبرامج فعلنا للمستقبل.
داخل نموذج بيئتنا، إذ تؤوِّله وتكثف عليه الضوء برامجُ فعلنا، ترسم الذاكرة المنتِجة للاستمرارية، على نحو لا شعوري، أثرًا مكانيًّا-زمانيًّا لماضينا المباشر، أشبه بالأثر الذيلي لطائرة في السماء، أو بأثر المتزحلِق على الجليد؛ أثرًا ما ينفك يبهت بمرور الوقت.
وعلينا أن نفرق بين الذاكرة المنتِجة للاستمرارية وبين الذاكرة بمعنى ما اكتسبه المرءُ بطريقة ما من «التعلم». فهذه، جوهريًّا، تكوين نظري أو تكوين مهارة بواسطة «الفعل والانتخاب»، يؤدي إلى ميول لا شعورية إلى التوقع وإلى الفعل.
لقد أكدت في هذا القسم على الطابع اللاشعوري والنزوعي لجوانب معينة من النفس، وبخاصة الذاكرة. وهذا ينبغي ألا يُساء فهمُه؛ فأنا أعتبر النفس الواعية ذات أهمية حاسمة، وبخاصة علاقتها بالعالم ٣، بعالم نظرياتنا عن أنفسنا وبيئتنا، بما فيها توقعاتنا وبرامج فعلنا. كل هذا يمكن أن يأخذ شكل الميول؛ وهذه الميول تمثل «معرفتنا» بالمعنى الذاتي، أو بمعنى عالم ٢. هذه المعرفة النزوعية هي جزء من أنفسنا؛ ولكنها تتألف، على الأقل جزئيًّا، من ميول إلى «فهم» موضوعات عالم ٣، أيْ «معرفة» بالمعنى الموضوعي.
(٣٩) التعلم من الخبرة: الانتخاب الطبيعي للنظريات
تنطبق هذه النظرية في عملية التعلم التي رسمتُ خطوطَها العريضة وتَسرِي بالتساوي على التعلم التكيُّفي على مستوى السلوك الحيواني (حيث تتعارض نظريتِي مع نظرية المنعكَس الشرطي القديمة، التي أَعرِض لنقدها في القسم القادم)، وعلى مستوى تكوين المعرفة الموضوعية كالنظريات العلمية مثلًا، وهي تتطابق بدقة مع التكيف بالانتخاب الطبيعي على المستوى الأكثر بداءة؛ مستوى التكيف الجيني.
على كل مستوًى من المستويات يبدأ التكيف من بِنية شديدة التعقيد والتي يمكن وصفها (وصفًا استعاريًّا بعض الشيء إذا أخذنا المستوى الجيني باعتبارنا) بأنها بنية النظريات الشديدة التعقيد المتلقاة حول البيئة، أو بأنها بنية «توقعات». ويتألف التكيف (أو التعلم التكيفي) من تعديلٍ لهذه البِنية الشديدة التعقيد بواسطة طفرات محاولة، وبواسطة الانتخاب.
تبدو هذه الطفرات، على المستوى الجيني، عشوائية تمامًا، أو عمياء. غير أنها على المستوى السلوكي ليست عمياء تمامًا؛ لأنها تتأثر بالخلفية المعرفية (الثابتة لحظيًّا) والتي تشمل البِنية الداخلية للكائن العضوي، وتتأثر ببنية الأهداف وبنية الخيارات الخاصة بالكائن (وهي بنية ثابتة نسبيًّا). وعلى مستوى تكوين نظريات عالم ٣ فتأخذ الطفرات طابع الاستكشافات المخطَّطة للمجهول.
وعلى المستوى العلمي تُعد الكشوف عملية ثورية وإبداعية، وهي دائمًا أيضًا نتاجٌ لنشاطٍ كبير؛ نتاج لطريقة جديدة في النظر إلى المشكلات، ونتاج نظريات جديدة، ونتاج أفكار تجريبية جديدة، ونقدٍ جديد، واختباراتٍ نقدية جديدة. وعلى المستويات الثلاثة جميعًا هناك تفاعل وتآزُر بين الميول المحافِظة والميول الثورية. فمن شأن الميول المحافِظة أن تحمي الإنجاز البنائي الهائل التعقيد وتحفظه، ومن شأن الميول الثورية أن تضيف تنويعاتٍ جديدةً إلى هذه البنيات المعقدة.
ونحن لا نجد في أيٍّ من هذه الإجراءات التكيفية لتعلُّمِ أشياء جديدة وصنع كشوفٍ تكيفية أيَّ شيءٍ من قبيل الإجراءات الاستقرائية، أو أي شيء من قبيل الكشف بالاستقراء أو التكرار؛ فالتكرار وإن كان يلعب بالفعل دورًا ما في التكيف السلوكي، إلا أنه لا يُسهم في الكشوف. إنه بالأحرى يساعد على جعل الكشف بعد أن يتم شيئًا روتينيًّا غير إشكالي، وجعله من ثَم لاشعوريًّا (هكذا الحال في المهارات التي ذكرناها سابقًا، كالمشي أو قيادة الدراجة أو العزف على البيانو). التكرار، أو الممارسة، ليسا طريقة لاكتساب تكيفات جديدة، بل طريقة لتحويل التكيفات الجديدة إلى تكيفاتٍ قديمة، إلى خلفية معرفية غير إشكالية، إلى ميولٍ لاشعورية.
وسأستخدم حقيقة أن أعضاءنا هي تكيفاتٌ و«تفترض» من ثَم اطِّرادات، شأنها في ذلك شأن النظريات — سأستخدمها في نقد نظرية المنعكَس — وبخاصة المنعكَس الشرطي.
(٤٠) نقد نظرية المنعكَسات غير الشرطية والشرطية
ثمة نظرية جِد مختلفة للتعلم التكيفي، وهي نظرية المنعكَس ونظرية الترابط (الترابطية) الوثيقة الصلة بها، ظلت سائدة منذ ديكارت ولوك وهيوم إلى جاك لوب وبيشتيريف وبافلوف، وإلى ج. ب. واطسون، مؤسس المدرسة السلوكية، وأتباعه، وحتى إلى الطبعة الأولى (١٩٠٦م) من كتاب شيرينجتون «الفعل الدمجي (التكاملي) للجهاز العصبي»، وإنْ تبرأ منها شيرينجتون في تصدير الطبعة الثانية (١٩٤٦م).
ونظرية المنعكَس (يُطلِق عليها بيشتيريف اسم «الرفلكسولوجيا») هي الدعوى القائلة بأن كل سلوك يُمكِن، من حيث المبدأ، تفسيرُه على أنه ناشئٌ عن تعاون أقواس انعكاس على درجة ما من التعقيد.
تميز نظرية المنعكَس بين المنعكَسات غير الشرطية، أو الفطرية، والمنعكَسات الشرطية أو المكتسَبة. ويفسَّر كل تعلُّمٍ، وبخاصة التعلم التكيفي، باستخدام المنعكَسات الشرطية أو الإشراط. تمضي العملية الأساسية للإشراط («كلب بافلوف») كما يلي: لِيَكُنْ هناك منعكَسٌ غير شرطي مثل سيل اللعاب لدى كلب كاستجابة للمثير البصري لشيءٍ ما قابل للأكل. فإذا ما رتبنا أن يصاحب مثيرٌ سمعيٌّ، مثل رنين جرس، المثيرَ البصري مراتٍ عديدة، عندئذٍ سيكون بإمكان المثير السمعي الجديد وحده أن يؤدي إلى استجابة سيل اللعاب.
يمكن للمنعكَس الشرطي الجديد (جرس-سيل اللعاب) أن «يُدعَّم إيجابيًّا» بمكافأة الكلب بالطعام عندما، أو بعد، أن يستجيب لرنين الجرس.
ثمة أيضًا طريقة «التدعيم السلبي»؛ وتتألف من عقاب الكلب (بصدمة كهربية على سبيل المثال) كلما امتنع عن الاستجابة بالطريقة المرغوبة. وللتدعيم السلبي فعالية وبخاصة إذا كانت الاستجابة الشرطية هي «استجابة اجتناب». مثال ذلك: يُدَق جرسٌ مباشرةً قبل تلقي الكلبِ صدمةً في رجله الأمامية اليمنى؛ فإذا رفع الكف إذ يُدَق الجرس لا تُعطَي صدمة. عندئذٍ يكون رفع الرجل الأمامية اليمنى لدى دق الجرس هو المنعكَس الجديد أو الشرطي؛ والصدمة الكهربية هي التدعيم السلبي.
ولكي نتقدم إلى النقد، فلننظرْ أولًا كيف تبدو نظرية المنعكَس في التعلم من وجهة النظر التي بُسِطَت هنا في القسم السابق.
حين تنظر إلى الأمر من وجهة نظرنا فلا وجود للمنعكَس الشرطي ولا المنعكَس غير الشرطي.
من وجهة نظرنا فإن كلب بافلوف في شغفه النشط ببيئته «يبتكر نظرية» (إما شعوريًّا وإما لا شعوريًّا)، ثم يختبرها. إنه يبتكر النظرية الصادقة والواضحة، أو التوقع، بأن الطعام سيصل عندما يرن الجرس. هذا التوقع يجعل لعابَه يسيل، شأنه تمامًا شأن التوقع الذي يثيره الإدراك البصري للطعام أو رائحة الطعام.
صحيح أن آلية التعلم التي يفترضها بافلوف بسيطة جدًّا، وأبسط كثيرًا من أي تفسير يمكن أن يكون عن تكوين النظريات أو التوقعات. غير أن الكائنات الحية ليست بهذه البساطة، لا هي ولا تكيُّفاتها مع البيئة.
أقترح أن الكائنات العضوية لا تنتظر، سلبيًّا، تكرار حدث (أو حدثين) لكي تطبع أو تفرض على ذاكرتها وجودَ اطراد، أو وجود صلة مطردة، بل الكائنات تحاول على نحو نَشِط أن تفرض اطرادات تخمينية (ومعها تشابهات) على العالم.
هكذا فنحن نحاول أن نكتشف تشابهات في عالمنا؛ تشابهات في ضوء القوانين، في ضوء الاطرادات التي ابتكرناها اختباريًّا نحن أنفسنا. ومن غير انتظار تكرارات، نحن ننتج تخمينات، حدوسًا افتراضية؛ ومن غير انتظار مقدمات نحن نقفز إلى نتائج. هذه النتائج قد يكون علينا أن ننبذها؛ وإلا ننبذها في الوقت المناسب فقد نُنْبذ معها.
كيف تؤثر نظرية عالم ٣ في كل هذا؟ ربما تكون الاطرادات المخمَّنة والتي من خلالها نحاول أن نُضفِي نظامًا على عالمنا، نظامًا قد نكيِّف معه أنفسنا، والتشابهات التي تعتمد عليها هذه الاطرادات، ربما تكون شعورية. ولكن حتى لو كانت كذلك فإنها ستكون نزوعية في طابعها، وستكون في أغلب الوقت جزءًا من فسيولوجيتنا. وليس قبل صياغتها في اللغة، أي جعلها موضوعات لعالم ٣، يمكن أن تكون موضوعات للتفحص والنظر والنقد العقلي. وما دامت حدوسنا الافتراضية جزءًا من أنفسنا فهناك احتمال كبير إذا كانت غير جيدة التكيف، بأننا سوف نموت معها. إن من الوظائف البيولوجية الرئيسية للعالم ٢ إنتاج نظريات وتوقعات شعورية بالأحداث الوشيكة؛ وإن الوظيفة الرئيسية للعالم ٣ هي أن تمكننا من أن نرفض هذه النظريات؛ أن نتركها تموت بدلًا منا.
والآن لننظر إلى المنعكَس غير الشرطي، مثلًا المنعكَس الشهير لحدقة العين، والذي يجعل الحدقتين تضيقان عندما تزداد كمية الضوء، وتتسعان عندما تقل كمية الضوء.
(٤١) أنواع الذاكرة
عندما كنتُ في نحو العاشرة من عمري اكتشفتُ أن بإمكاني أن أتعلم القصائد الطويلة على أفضل نحو بأن أعيد بناء هذه القصائد. وقد أدهشتني للغاية نتائج هذه الطريقة. تتألف الطريقة من محاولة فهم بنية القصيدة وأفكارها، ثم محاولة إعادة بنائها بدون النظر إلى النص، مع الانتباه إلى تلك الفقرات الملتبسة. وبعد أن يُعاد بناء الكل وتُختزَل الفقرات الغامضة إلى أدنى حد، عندئذٍ فقط كنتُ أنظر إلى هذه الفقرات، مرة واحدة. كان هذا كافيًا بصفة عامة، رغم أني لم أكن، قبل أن أبتكر هذه الطريقة، أحفظ شيئًا بسهولة، ولا كانت طريقة إعادة البناء سهلة. والمغزى كله هو أن أستبدل بالتكرار الآلي عملية البناء، وبالتالي عملية حل المشكلات.
أحد جوانب هذه الخبرة هو أني أشعر شعورًا قويًّا بأن طريقة إعادة البناء تهيب بملَكاتٍ مختلفة تمامًا عن تلك الملكات المتبطنة للطريقة الأكثر آلية؛ طريقة التكرار. إنها تهيب بالفهم وليس بالذاكرة «الآلية»، وهي نَشِطة (إيجابية) وليست سلبية؛ والنشاط فيها أشبه بنشاط عملية حل المشكلات.
-
(١)
توسعت نظرية نمو المشتبكات، كما يمكن أن نسميها، بواسطة نظرية تحل لنا المشكلتين التاليتين: (أ) ما هي الآلية التي تنمو بها المشتبكات؟ (ب) ماذا كانت آلية الذاكرة قبل أن تجد المشتبكات وقتًا للنمو؟ الإجابة عن هذين السؤالين تكمن في التمييز بين الذاكرة القريبة (القصيرة الأمد) والذاكرة البعيدة (الطويلة الأمد) (انظر إكلس ١٩٧٣م)، أو حتى في تمييز أكثر توسعًا بين الذاكرة القريبة، والمباشرة، والبعيدة، المشروحة في فصل ٨ لإكلس (انظر بخاصة شكل ٧ في هذا الفصل). والفكرة الأساسية هي هذه: تؤدي أية خبرة إلى دوائر ترجيعية reverberating circuits (أو لِنقُلْ: أثر دينامي dynamic engram)، تشمل عددًا كبيرًا من المشتبَكات. هذه الدوائر الترجيعية تشكِّل الذاكرة القريبة و/أو الذاكرة المباشرة. ولكن الدوائر الترجيعية لا تقتصر على تفسير الذاكرة القريبة والمباشرة، بل تفسر أيضًا نمو المشتبكات التي تشكِّل الذاكرة البعيدة (الأثر التشريحي أو الهستولوجي). ذلك أن الدوائر الترجيعية تفيد من مجموعة معينة من المشتبكات؛ ومن الممكن أن نثبت بالتجربة (انظر شكل ٣ في فصل ٨ لإكلس) أن كفاءة المشتبكات تزيد مع استعمالها؛ وهناك أيضًا أدلة على أن المشتبكات تنمو بالاستعمال (شكل ٤ في الفصل الثامن لإكلس).
-
(٢)
أهم التعديلات الحديثة لِنظرية النمو المشتبكي في الذاكرة هي هذه: لا يقتصر الأمر على نمو بعض المشتبكات، بل هناك أيضًا إضعاف أو إقصاء مشتبكات أخرى (انظر مارك ك. روزنزفيج وآخرون 1972b). وفضلًا عن ذلك فهناك فيما يبدو تغيرات أخرى، ربما ثانوية: ثمة تغيرات كيميائية (هولجر هايدن ١٩٥٩، ١٩٦٤م) يجب أن تُدخَل في النمو المشتبكي (إكلس 1966b، ص٣٤٠)، وهناك تجارب تشير إلى نمو الخلايا الدبقية.
هذه النتائج جِد مثيرة، إلا أنني غير راضٍ.
فأنا غير مقتنع أنه يكفينا أن نميز بين آليتين أو ثلاثٍ للذاكرة بحسب مدة الذاكرة، أي بحسب طابعها القريب، والمباشر، والبعيد. أعتقد أنه لا بد أن هناك أيضًا آليات أخرى وبِنيات أخرى تعمل عملها؛ وأحدس افتراضيًّا أن حل المشكلات من جهة، والتكرار السلبي المحض لخبرة ما، ليس من المحتمل أن يعملا من الوجهة التذكرية بنفس الطريقة.
هذا الحدس تؤيده نتائج تجريبية متعددة: مثال ذلك دور النشاط في تجارب هيلد وهين على القطط الصغيرة (١٩٦٣م)، التي ناقشها إكلس في فصل ٨، ونتائج روزينزفيج وفيرشمين المذكورة في قسم ٣٩.
أقترح أن من المفيد أن نضع قائمة بالظواهر التي قد تُدرَج تحت لفظة «ذاكرة» بمعناها الأوسع، كيما نحظى برؤية عامة للمشكلات المتضمَّنة.
يمكن أن نبدأ بالذاكرة قبل-العضوية، مثل تلك التي يبديها قضيب الحديد فيما يتعلق ﺑ «خبرة» المغنطة، أو بلورة نامية فيما يتعلق ﺑ «غلط» ما. ومع ذلك فقائمة مثل هذه الظواهر قبل العضوية قد تطول، وقد لا تكون كاشفة جدًّا.
-
(١)
أول ظاهرة شبيهة بالذاكرة في الكائنات العضوية هي، في أغلب الاحتمال، ظاهرة الاحتفاظ بالبرنامج الخاص بتركيب البروتين (الإنزيم) والمُشَفَّر في الجين (الدنا DNA أو ربما الرنا RNA). وهي تُبيِّن، بين أشياء أخرى، حدوثَ أخطاء ذاكرة (طفرة mutation)، وميلًا لدى هذه الأخطاء لأن تدوم:
-
(٢)
من المرجح أن المسارات العصبية الفطرية تشكل نوعًا من الذاكرة تتألف من الغرائز، وطرائق الفعل، والمهارات.
-
(٣)
بالإضافة إلى هذا الأثر (الإنجرام) البنيوي أو التشريحي (٢)، هناك ذاكرة فطرية إضافية ذات طبيعة وظيفية؛ وهذه تشمل، فيما يبدو، القدرة الفطرية لجميع الوظائف المختلفة على أن تنضج (كما هو الحال في تعلُّم المشي أو تعلُّم الكلام).
-
(٤)
القدرات الفطرية الأخرى على التعلم، والتي لا تتصل اتصالًا وثيقًا بالنضج؛ مثلما هو الحال في تعلُّم كيف تَسْبَح، أو كيف ترسم، أوكيف تُدَرِّس.
-
(٥)
الذاكرة المكتسَبة من خلال عملية تعلُّمٍ ما.
-
مكتسبة إيجابيًّا: (أ) شعوريًّا (ب) لا شعوريًّا.
-
مكتسبة سلبيًّا: (أ) شعوريًّا (ب) لا شعوريًّا.
-
-
(٦)
تحديدات أخرى، قابلة للاتحاد جزئيًّا مع ما سبق:
-
قابلة للاستدعاء طوعَ الإرادة.
-
غير قابلة للاستدعاء طوعَ الإرادة (بل، قُل، تأتي دون استدعاء، ﻛ «موجات توقُّع»).
-
مهارات يدوية ومهارات جسمية أخرى (السباحة، التزحلق).
-
نظريات مصوغة لغويًّا.
-
تعلم الخُطَب، المفردات، القصائد.
ليس هناك أي داعٍ لافتراض أن عمليات اكتساب هذه الذاكِرات المختلفة قائمة على نفس الآلية البسيطة من قبيل نمو المشتبكات بالاستعمال المتكرر. كما أن ذلك النوع من الذاكرة الذي أسميتُه في قسم ٣٨ «الذاكرة المنتِجة للاستمرارية» يُرجَّح أنها قائمة على آلية مختلفة جدًّا عن المعرفة النزوعية، أو عن الذاكرة المحصَّلة بواسطة حلٍّ نشِطٍ للمشكلات (أو بواسطة الفعل والانتقاء).
-
-
(٧)
الذاكرة المنتِجة للاستمرارية. وهناك نظريات شائقة عديدة تتصل بهذه الذاكرة. فهي ترتبط، أو يبدو لي أنها ترتبط، بما أسماه برجسون (١٨٩٦، ١٩١١م) «الذاكرة الخالصة» pure memory (كمقابلٍ ﻟ «العادات»)، وهي سِجِل لخبراتنا كلها في ترتيبها الزمني الصحيح. غير أن هذا السجِل، وفقًا لبرجسون، ليس مسجَّلًا في الدماغ، أو في أي مادة: إنه موجود ككيانٍ روحي محض (وظيفة الدماغ هي أن يعمل كمصفاة للذاكرة الخالصة، لكي يمنعها من إقحام نفسها على انتباهنا). ومن الشائق أن تقارن هذه النظرية بالنتائج التجريبية المحصَّلة من بنفيلد وبيرو (١٩٦٣م) بواسطة تنبيه مناطق مختارة من الأدمغة المكشوفة لمرضى واعين، والتي وصفها إكلس في الفصل الثامن: ربما كان برجسون قد ادَّعَى أن هذه التجارب تؤيد نظريته، ما دامت تثبت وجود سجل كامل لخبرات (أو على الأقل بعض خبرات) ماضية. غير أننا، كما يوضح إكلس، ليس لدينا مثل هذه السجلات من غير مرضى الصرع. أضِفْ إلى ذلك أن بنفيلد كان ينبه الدماغ ولم يكن يمنع الدماغ من العمل كمصفاة برجسونية. ولا يزال من الظاهر أن الحدس الأكثر احتمالًا هو أن الذاكرة المنتجة للاستمرارية ليست مسجلة تسجيلًا كاملًا، لا في العقل ولا في الدماغ، وأن كشوف بنفيلد المدهشة لا تثبت أكثر من أن نُتَفًا معينة منها قد تُختزَن كاملةً في بعض الأشخاص، ربما فقط في مرضى الصرع. أما الذاكرة السوية للمواقف الماضية فليس لها، بطبيعة الحال، طابع إعادة المعايشة المباشرة، بل بالأحرى طابعٌ باهت من «أتذكَّر ذلك» أو «أتذكر كيف».٦٦
-
(٨)
أما عن عملية التعلم النشِط بالمحاولة والخطأ، أو بحل المشكلات، أو بالفعل والانتقاء، فأقترح أن علينا أن نميز على الأقل بين المراحل المختلفة التالية:
(٨–١) الاستكشاف النشِط، مسترشِدًا بمعرفة فطرية ومكتسَبة: «معرفة كيف» knowing how، وخلفية من «معرفة أن» knowing that.٦٧(٨–٢) إنتاج حدوس افتراضية جديدة، نظرية جديدة.
(٨–٣) نقد واختبار الحدوس الافتراضية الجديدة أو النظرية الجديدة.
(٨–٤) نبذ الحدس الافتراضي، وتسجيل واقعة أنه لا يعمل («ليس هكذا»).
(٨–٥) إعادة هذه العملية (٢–٤) مع إجراء تعديلات على الحدس الأصلي أو مع حدوس جديدة.
(٨–٦) اكتشاف أن حدسًا جديدًا يبدو ناجحًا (يعمل).
(٨–٧) تطبيق الحدس الجديد شاملًا اختبارات إضافية.
(٨–٨) الاستخدام العملي والمقنَّن للحدس الجديد (تَبَنِّيه).
وأحدِس بأن العملية لا تأخذ طابع التكرار، على مراحل، إلا في ٨–٨.
ليس هناك ما يدعو إلى افتراض أن أيًّا من هذه الإجراءات متماثلة جدًّا في طبيعتها، أو أن مختلف نشاطات الدماغ المتبطنة لها متماثلة جدًّا. لنفترضْ أن كل ما يمكن للنيورون أن يفعله هو أن ينقدح (ليس هذا صحيحًا؛ فمن الظاهر أنه يمكن أن ينمو، أو يَذوِي، أو يكوِّن مشتبكات جديدة). غير أن تعقُّد الدماغ هائل؛ والتعلم بمعنى إنتاج نظريات، والصور الأخرى من تأسيس آثار الذاكرة، لا يلزم أن تحدث على مستوى قَدْح النيورونات أو على مستوى البنيات التشريحية، وإنْ كانت هذه المستويات تلعب دورًا بغير شك؛ مثل هذا التعلم يمكن جدًّا أن يتكون من تنظيم تراتبي لِبِنياتٍ تتركب من بنيات (لعل الهولوجرام كما اكتشفه دينيس جابور هو مثال غير دينامي لِبِنيات البِنيات هذه).
من الأسباب التي تشهد ضد نظرية التيارات الترجيعية، التكرارية الخالصة، والنمو المشتبكي الذي تُحدِثه هذا السبب التالي: لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه في التعلم تلك العناصر الانفعالية جزئيًّا مثل الشغف أو الانتباه أو الأهمية المتوقعة للحدث (انظر فصل ٨ لإكلس)؛ ولا الميل إلى نسيان أحداث معينة تجرح فكرتنا عن أنفسنا؛ ولا الميل إلى تحوير هذه الأحداث في ذاكرتنا. مثل هذه الأشياء تستعصي، فيما أعتقد، على التفسير بمجرد الآلية التكرارية؛ ولا يمكن تفسيرها، فيما أميل إلى الحدس به، إلا بالفعل الذي يمارسه عقلٌ بصير على محتويات ذاكرته، تلك المحتويات التي تتعلق بالعالم ٣ الخاص بالنظريات وبرامج الفعل.
من المشكلات الخلافية الكبرى في نظرية الذاكرة ذلك التباين في الرأي بين المدافعين عن النظرية الكهروفيزيولوجية (أو المشتبكية) في التخزين الذاكري، وبين المدافعين عن نظرية كيميائية (على سبيل المثال: هولجر هايدن؛ انظر جورج أنجار ١٩٧٤م، والمراجع المثبَتة هنا). قدمت المجموعة الأخيرة أدلة يبدو أنها تشير إلى أن العادات المتعلَّمة يمكن أن تنتقل من حيوان إلى حيوان بطريق حقن مواد كيميائية معينة (والتي من الممكن أن تكون مرتبطة ﺑ «مواد موصِّلة»؛ انظر إكلس ١٩٧٣م، الفصل الثالث، وإكلس، الفصل الأول هنا).
ورغم أني لستُ متخصصًا في هذا الحقل، إلا أنني لا أتمالك الشعور بأن نظرية تجمع بين النظرية الكهروفيزيولوجية والنظرية الكيميائية هي النظرية الأكثر وعدًا؛ وذلك للأسباب التالية: (أ) تبدو النظرية الكهروفيزيولوجية ضرورية في حالة جميع الحيوانات ذات الجهاز العصبي المركزي. (ب) تبدو النظرية الكيميائية هي النظرية الوحيدة الممكنة بالنسبة للنباتات (إذ يبدو أن بها نوعًا من «الذاكرة») والحيوانات الدنيا التي ليس لديها جهاز عصبي. يبدو أن هناك شيئًا قريبًا من الذاكرة في هذا المستوى؛ وإذا صح هذا سيكون من غير المرجَّح أن هذه «الذاكرة» الكيميائية تختفي تمامًا على الدرجات الأعلى من السلم التطوري، وسيكون من الأكثر احتمالًا أنها تلعب دورًا إلى جانب دور الجهاز العصبي.
(٤٢) النفس مُرساة في العالم ٣
في معظم الذي قيل حتى الآن كنتُ أسوِّي بين النفس وبين الكائن العضوي الحي. وقد حاولتُ أن أجمع من هذه المقاربة البيولوجية بعض الوقائع التي تفسر الوحدة، والفردية، واستمرارية النفس، بالإضافة إلى بعض الوقائع التي ربما تُلقِي بعضَ الضوء على الوظيفة البيولوجية لتلك الأعجوبة الكبرى بين الأعاجيب: الوعي الإنساني بالنفس.
غير أن الوعي البشري بالنفس يتجاوز، فيما أرى، كل تفكيرٍ بيولوجي خالص. وقد أطرح المسألة كما يلي: لا شك عندي في أن الحيوانات واعية، وبخاصة في أنها تشعر بالألم، وأن الكلب قد يكون ممتلئًا بالبهجة حين يعود صاحبُه. إلا أني أحدس بأنه لا يقدر على التأمل في نفسه إلا كائنٌ بشري قادر على الكلام. وأعتقد أن كل كائن عضوي لديه برنامج؛ ولكني أعتقد أيضًا أنه لا يمكن إلا لكائن بشري أن يكون واعيًا بأجزاء هذا البرنامج وأن يراجع هذه الأجزاء نقديًّا.
ومعظم الكائنات العضوية، إن لم يكن كلها، مبرمجة لكي تستكشف بيئتها، متجشمةً المخاطر في هذا الاستكشاف. إلا أنها لا تتجشم هذه المخاطر عن وعي. ورغم أن لديها غريزة لحفظ الذات، فهي ليست على دراية بالموت. وحدَه الإنسان مَن قد يواجه الموت في بحثه عن المعرفة.
قد يكون للحيوانات العليا شخصية أو طبع، قد يكون لها ما قد نسميه فضائل ورذائل؛ فيكون الكلب مثلًا شجاعًا ودودًا مخلصًا، أو قد يكون شريرًا وخائنًا. ولكني أعتقد أن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يسعى إلى أن يصبح إنسانًا أفضل، أن يسيطر على مخاوفه وكسله وأنانيته، ويتغلب على اندفاعاته.
في كل هذه الأمور يأتي الفارق بين الإنسان وغيره من الكائنات من ارتكاز النفس البشرية على العالم ٣؛ وأساس هذا الارتكاز هو اللغة البشرية التي تتيح لنا لا أن نكون ذواتًا أو مراكز فعلٍ فحسب بل أن نكون أيضًا موضوعات لفكرنا نحن النقدي، ولِحكمنا نحن النقدي. وذلك بفضل الطابع الاجتماعي للغة، وحقيقة أننا يمكننا أن نتحدث عن غيرنا من الناس وأن نفهمهم عندما يتحدثون عن أنفسهم.
هذا الطابع الاجتماعي للغة، وهذا الفضل الذي ندين به للغة، وبالتالي للآخرين، في وضعنا كذوات؛ في إنسانيتنا، في عقلانيتنا، يبدو لي مهمًّا: فنحن جميعًا، كذواتٍ وككائنات إنسانية، صنيعة العالم ٣، الذي هو بدوره صنيعةُ ما لا يُحصَى من العقول البشرية.
ولقد اقتبستُ مِن كانْت (في فصل ٣٣) قوله «إن الشخص هو تلك الذات المسئولة عن أفعالها». وبقدر ما يكون الشخص مسئولًا عن أفعاله أمام الآخرين وأمام نفسه يمكن أن يقال إنه يفعل بطريقة عقلانية، ويمكن وصفه بأنه فاعلٌ أخلاقي، أو ذاتٌ أخلاقية.
والهدف الأكثر شيوعًا في مثل هذه الخطة الحياتية هو مهمة المرء في رعاية نفسه ورعاية مَن يَعُولهم. ويمكن أن نصف هذه المهمة بأنها أكثر الأهداف ديمقراطيةً، إذا أزلتها ستكون قد جعلت الحياة بلا معنًى عند الكثيرين. ليس يعني هذا أنْ ليس ثمة حاجة إلى دولة رفاهية لكي تساعد أولئك الذين لا ينجحون في هذه المهمة، بل لعله أكثر أهمية أن على دولة الرفاهية ألا تخلق مصاعب غير معقولة أو مصاعب كأداء لأولئك الذي يحاولون أن يجعلوا هذه المهام الأكثر طبيعية وديمقراطية جزءًا كبيرًا من أهدافهم في الحياة.
ثمة جانبٌ بطولي كبير في الحياة الإنسانية. وأعني به تلك الأفعال التي تتسم بالعقلانية غير أنها تُتَّخذ لأهدافٍ تصطدم مع مخاوفنا، ومع غرائز الأمن والسلامة بداخلنا.
تسلُّقُ الجبال الشاهقة، إفرست على سبيل المثال، يبدو لي دائمًا تفنيدًا لافتًا لوجهة النظر المادية عن الإنسان. فأن تُجابِهَ الصعابَ لذاتها، وتواجه الأخطار الماحقة من أجل ذاتها فحسب؛ وتمضي في ذلك إلى حد الإنهاك التام: كيف يمكن لهذه الأفعال المضادة لكل ميولنا الطبيعية أن تفسَّر في ضوء المذهب الفيزيائي أو السلوكي؟! لعل المذهبين أن يفسرا حالاتٍ قليلة يطمح فيها المُخاطِر إلى المجد والشهرة. غير أن هناك كثيرًا من المتسلقين، في الماضي والحاضر، يزدرون الشهرةَ ولا يبالون بالصيت: إنهم يعشقون الجبال، ويحبون قهر الصعاب من أجل قهر الصعاب. إنه جزء من خطة حياتهم.
أليس شيءٌ شبيهٌ بذلك هو جزء من خطة حياة كثير من عظام الفنانين والعلماء؟ وأيًّا ما كان تفسير ذلك، حتى لو كان التفسير هو الطموح، فهو ليس تفسيرًا فيزيائيًّا؛ بل يبدو التفسير لي هو أن العقل — بشكلٍ ما — الذات الواعية … قد تمت لها السيادة وتولت زمامَ الأمر.
إن ما يميز النفسَ (بعكس العمليات الكهروكيميائية للدماغ والتي تعتمد عليها النفس اعتمادًا متبادلًا) هو أن جميع خبراتنا وثيقة الارتباط ومدمجة، لا بخبرات الماضي فحسب بل أيضًا ببرامج فعلنا المتغيرة، وتوقعاتنا، ونظرياتنا، أي بنماذجنا الشارحة عن البنية المادية والثقافية، الماضية والحاضرة والمستقبلة، متضمنةً «المشكلات» التي تطرحها علينا لتقييمها ولتطوير برامج فعلنا في ضوئها. غير أن كل هذه الأشياء تنتمي، جزئيًّا على الأقل، إلى العالم ٣.
هذا التصور العلائقي للنفس يظل غير كافٍ تمامًا، وذلك بسبب الطبيعة الناشطة والتكاملية الصميمة للنفس. وحتى بالنسبة للإدراك الحسي والذاكرة فإن نموذج «المُدخل» (وربما «المُخرَج» أيضًا) ليس وافيًا تمامًا؛ إذ إن كل شيء يعتمد على برنامج متغير باستمرار: فهناك انتقاءٌ نَشِط، وهضمٌ نشط جزئيًّا، وتَمَثُّلٌ نشط؛ وكلٌّ من هذه العمليات يعتمد على تقييماتٍ نَشِطة.
النقطة هنا هي أن فكرة الماهية هي في الحقيقة مأخوذة من فكرتنا عن النفس (أو الروح، أو العقل)؛ نحن نَخبُر أن هناك مركزًا متحكِّمًا مسئولًا لنا، لأشخاصنا؛ ونحن نتحدث عن ماهيات (ماهية، روح، الفانيليا essence of vanilla مثلًا) أو أرواح (روح النبيذ) بالمماثلة analogy مع أنفسنا. هذه الامتدادات قد تُرفَض على أنها ضروب من الأنْسَنَة (الأنثروبومورفيزم). ولكن لا بأس في أن يكون المرء أنثروبومورفيًّا في تناول الإنسان (لا بأس في الأنسنة عند تناول الإنسانكما قد ذَكَّرَنا هايِك).
ومن عجب أن الماهوية الأرسطية منسجمة تمام الانسجام مع الكائنات البيولوجية التي لديها ماهية بمعنى برنامج جيني. وهي تلائم أيضًا الأدوات صنيعة الإنسان التي ماهيتُها هي غرضها: ماهية الساعة أن تقيس الوقت (الأداة هي عضوٌ خارج الجسد). هذه التعليقات لا تتضمن قبولًا للمذهب الماهوي لطرح أسئلة «ما هو» وإن كان من المفيد في البيولوجيا وفي مجال الأدوات أن تُطرح أسئلة غائية من صنف «لأي شيءٍ هذا».
وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الاستدلال الاستقرائي لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا افترضنا الاطرادات التي شملت الحالات التي تمت ملاحظتها هي اطرادات سارية على الحالات التي لم نلاحظها. ولكن هذا الافتراض ليس حقيقة «قبلية» a priori ينطوي إنكارها على تناقض، ولا هو افتراض تبرره التجربة. إنه في الحقيقة «قفزة إيمانية» ليس لها سند في العقل المحض ولا في التجربة الحسية، ولا يمكن تبريرها بغير دور منطقي ظاهر. (المترجم)