الثورة المضادة
(١) الثورة المصرية ومقاوَمة الأحلاف١
بدَأت الثورة المصرية في ١٩٥٢م بسياسة مُقاوَمة الأحلاف. فقد جسَّدت الحركة الوطنية في الأربعينيات، وكان الضباط الأحرار في أطيافها المختلفة من الوفد والإخوان والشيوعيين. فلا فَرْق بين الاستقلال الوطني في الداخل ضد الإنجليز، والقصر، والإقطاع، والاستقلال الوطني في الخارج ضد هيمنة القوى الكبرى الصاعدة.
بدأت الثورة وهي لم تستقر بعدُ، والخلاف بين أجنحتها المختلفة، نَجيب وناصر، أو بينها وبين القوى السياسية السابقة عليها؛ مثل: الوفد، والإخوان، والشيوعيين بمعارَضة الأحلاف العسكرية. وقد كان مطروحًا في ذلك الوقت حلف بغداد. فقد كانت بغداد ما زالت تحت إمرة نوري السعيد، والملك فيصل، والهيمنة البريطانية. وكان يمتد جنوبًا إلى الرياض، وشمالًا إلى إسطنبول، وشرقًا إلى طهران وكراتشي؛ من أجل الإحاطة بالاتحاد السوفيتي من خاصرته الجنوبية، وإحكام الخناق حوله من الجنوب بعد حصاره من الغرب عن طريق حلف شمال الأطلنطي.
وتكاتفت سوريا مع مصر في الوقوف ضد حلف بغداد في ١٩٥٤م. وأعلن ناصر والشيشكلي أثناء زيارته لمصر هذه المقاوَمة لسياسة الأحلاف. كانت سوريا قد سبقَت مصر بثورات الجيوش منذ ١٩٤٩م وكنتيجة للهزيمة في فلسطين في ١٩٤٨م. وانعكَست مُقاوَمة الأحلاف في الخارج على الحركة الوطنية في الداخل. فحركة الاستقلال الوطني واحدة على الجهتين. أمَّم ناصِر القناة في ١٩٥٦م، وقاوَم العدوان الثلاثي. وناصَرَ العرب تأميمَ القناة. وفجَّرت سوريا أنابيب البترول. وتوحَّدت مصر وسوريا في ١٩٥٨م في أول تجربة وحدوية عربية في تاريخ العرب الحديث. ثم صدَرت قوانين يوليو الاشتراكية في عام ١٩٦٢-١٩٦٣م كَرد فعل على الانفصال في سبتمبر ١٩٦١م.
وفي أتون حرب اليمن بعد اندلاع ثورتها في ١٩٦٤م ومصر مُثقَلة بأعباء مُناصَرة الثورة، وقَفَت من جديد ضد الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م، حلف الرياض — طهران — كراتشي، بعد أن اندلعَت الثورة العراقية في ١٩٥٨م من أجل مُحاصَرة الثورة العربية والحركة القومية. واستغل الدين لذلك، الحلف الإسلامي في مواجهة الشيوعية في الخارج، والاشتراكية في الداخل؛ حفاظًا على الدين من المادية والإلحاد. وقاوَمت مصر الحلف الإسلامي حتى أثخَنَتها الجراح في هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م. فقامت الثورة في ليبيا في ١٩٦٩م كرد فعل على الهزيمة، ولكن وفاة ناصر في ١٩٧٠م أنهَت قصة مُقاوَمة الأحلاف في بداية الثورة وعلى مشارف نهايتها. كلفتها عدوان ١٩٥٦م لمقاومتها حلف بغداد في ١٩٥٤م، وهزيمة يونيو حزيران ١٩٦٧م لمقاومتها الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م.
كان الهدف من الحِلْفين واحدًا، إجهاض الثورات العربية بقيادة الجيوش الوطنية في الخمسينيات والستينيات بصرف النظر عن الأسماء: جغرافية، بغداد، أو إسلامية، كراتشي آنذاك وإسلام آباد اليوم. وما زالت باكستان في حضن الولايات المتحدة مُتحالِفة معها منذ غزو أفغانستان. والرياض ما زالت مُستعِدة لانتهاج السياسة القديمة ذاتها؛ حماية لنفسها من خطر القاعدة والتفجيرات، وتُفكُّك المجتمع من الداخل، وممارَسة العنف. وبغداد تم الانقضاض عليها وتدميرها كلية واحتلال العراق بأكمله. وقامَت الثورة الإسلامية في إيران في ١٩٧٩م لتقاوم الشيطان الأكبر. وما زالت تدافع عن استقلالها الوطني ضد محاولات الغزو من الخارج، والانقلاب من الداخل. وما زالت مستمرة في الدفاع عن حقها الشرعي في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، وإسرائيل تمتلك السلاح النووي أمام أعين العالَم دون لومٍ أو مُعارَضة.
ثم حدث الانقلاب على الثورة بقوة مضادة من داخلها منذ مايو ١٩٧١م. وبعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م التي أعدَّ لها ناصر ابتداءً من حرب الاستنزاف في ١٩٦٨-١٩٦٩م وبضغوط مظاهرات الطلاب في ١٩٧١م بدأ التَّحوُّل التدريجي من الثورة إلى الثورة المضادة بداية بقانون الاستثمار والانفتاح الاقتصادي في ١٩٧٤-١٩٧٥م. ولما اندلَعت الهَبَّة الشعبية في يناير ١٩٧٧م لاستمرار مبادئ الثورة، والدفاع عن حقوق المُستضعفِين، بدأت الأحلاف الخارجية لحصار الشعب من الداخل ابتداء من زيارة القدس في نوفمبر من العام ١٩٧٧م ذاته، ثم اتفاقية كامب دافيد في ١٩٧٨م، ثم مُعاهَدة السلام المصرية الإسرائيلية في ١٩٧٩م.
ولم تكن حرب أكتوبر ١٩٧٣م آخر الحروب، بل كانت بداية الحروب الإسرائيلية الأمريكية بغزو لبنان وحصار بيروت ١٩٨٢م، وضرب المفاعل النووي العراقي في ١٩٨٤م. ولما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ١٩٨٧م والتفَّ حولها العرب تم غزو العراق في ١٩٩١م ثم فلسطين كلها، ثم أفغانستان في ٢٠٠٣م. وبدأ تهديد سوريا وتقسيم السودان. ولمَّا انتفَضَت المُقاوَمة اللبنانية لتحرير مَزارع شبعا والإفراج عن الأسرى، وانتصر حزب الله لأول مرة في تاريخ العرب بقذف مُدن إسرائيل وتهجير الملايين من شمال إسرائيل إلى جنوبه، بدأ التفكير في عقد أحلاف جديدة لمقاوَمة محور حزب الله — سوريا — إيران بعقد اجتماع رباعي مخابراتي في العقبة بين رؤساء أجهزة مخابرات مصر، والأردن، وشبه الجزيرة العربية لتبادل المعلومات الأمنية ضد الإرهاب. ثم جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية لتحويل الاجتماع إلى محور جديد للدول المعتدلة ضد الدول المتطرفة، محور الخير ضد محور الشر داخل الوطن العربي. وربما يتحول إلى حلف سُنِّي ضد الشيعة من أجل قسمة الوطن العربي، ليس فقط إلى متطرف ومعتدل، بل إلى شيعة وسُنَّة، وتحويل الحرب ضد الاحتلال في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، والشيشان إلى حروب داخلية بين المعتدلين والمتطرِّفِين بين السُّنة والشيعة. فَتتفَتَّت المنطقة وتَتشرْذَم. فالعولمة ليست طريقًا واحدًا، بل طريقان، توحيد المركز وتفتيت الأطراف. وبالتالي تجهض كل إمكانية بإقامة قطب جديد في المنطقة العربية الإسلامية بالتعاون مع اليسار الناهض في أمريكا اللاتينية عودًا إلى حلم الستينيات عبد الناصر، وكاسترو، العالَم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في عصر الاستقطاب.
الدولة المعتدلة في مواجَهة الدول المتطرفة حلقة جديدة من سلسلة حلقات البدائل للقومية العربية والمد الإسلامي بعد الشرق أوسطية والمتوسطية والشرق الأوسط الجديد أو الكبير. لقد سقطت الخلافة في ١٩٢٤م التي كانت مَظهرًا من مظاهر وحدة الأمة حتى ولو كان ضعيفًا لصالح القومية العربية. ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م وعدوان النظام العراقي على الكويت في ١٩٩٠م لصالح الدَّولة القُطْرِية. ثم انهارت الدولة القُطْرِية بعد الغزو الأمريكي للعراق ومحاولة تقسيمه إلى ثلاث دويلات طائفية كُردية في الشمال، وسُنِّية الوسط، وشيعية في الجنوب، ثم تقسيم السودان إلى دويلات عرقية في الجنوب والشرق والغرب، ثم تقسيم لبنان، وسوريا، ومصر، وشبة الجزيرة العربية إلى دويلات طائفية عرقية تصبح إسرائيل بينها أكبر دولة عرقية طائفية في المنطقة، يهودية عِبرية، تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية والثقافات المحلية في المنطقة وليست من أساطير أرض الميعاد وشعب الله المختار والأرض الموعودة التي أقام عليها هرتزل تصوره للدولة اليهودية في ١٨٩٧م.
لقد انتهى الاتحاد السوفيتي والخطر الشيوعي في مواجهة حلف شمال الأطلنطي. والآن يبدأ خطر التطرف الإسلامي وإيجاد وظائف جديدة لحلف شمال الأطلنطي، إما كبديل للغزو الأمريكي ووراثة له، كما يحدث في أفغانستان حاليًّا، وإما لغزو الثقافة وتجنيد المثقفين في مشروعات بحثية ضد العنف والإرهاب والخطر الإسلامي والتطرف.
قاومت الثورة المصرية في البداية سياسة الأحلاف في الخمسينيات والستينيات، واستسلمت لها بتحول الثورة إلى ثورة مضادة في السبعينيات حتى اليوم. فمتى تقوم الثورة وينتفض الدم في عروقها لمقاومة الأحلاف من جديد؟
(٢) ١٥ مايو، ثورة التصحيح أم ضياع فلسطين؟٢
حدثان متزامنان وقَع كلاهما في مثل هذا اليوم ١٥ من مايو مع فارق ربع قرن يُمثِّل حقبة من تاريخ العرب. الأول ١٥ من مايو ١٩٤٨م يوم ابتلاع ما يقرب من ثلاثة أرباع فلسطين، يوم تأسيس الكيان الصهيوني رسميًّا وإعلان نشأته في الأمم المتحدة والذي أصبح عيد «الاستقلال» حيث يتوقف الجميع الساعة الثانية عشرة ظهرًا إحياء لذكرى ذلك اليوم الحزين للنكبة الأولى. والثاني ١٥ من مايو ١٩٧١م فيما سُمِّي ثورة التصحيح عندما انقلب اليمين الناصري على اليسار الناصري، واستولى على نظام الحكم، عندما انقلبت الرياسة على الجيش والحزب والإعلام والداخلية واستولت على السُّلطة. وتحت ضغوط مظاهرات الطلاب في ميدان التحرير لمعرفة متى يتم التحرير، ومتى ساعة الحسم، اندلعَت حرب أكتوبر بالجيش الذي أعيد بناؤه عندما كانت الناصرية ما زالت حية وفي أيامها الأخيرة بشعاراتها المعروفة «إزالة آثار العدوان»، «ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة» واللاءات الثلاث بعد مؤتمر الخرطوم إثر هزيمة يونيو ١٩٦٧م «لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضة». واندلعت حرب أكتوبر ١٩٧٣م بالجيش الذي أعاد عبد الناصر بناءه، وبخطة بدر التي وضعها قبل أن يغادر بعد الإرهاق النَّفْسي والبَدني لإيقاف مذابح الفلسطينيين في الأردن في سبتمبر (أيلول) الأسود ١٩٧٠م.
وبعد الحرب بدأ التحول عن الناصرية تدريجيًّا بالتلاعب بمسارها. كانت الحرب للتحريك وليست للتحرير؛ من أجل لفت نظر أمريكا إلى النظام الجديد، كما نصح الصديق هنري مستشار الأمن القومي في مصر بأن أمريكا لا تساعد جثة هامدة ولا بد من تحريك القضية. فبناء على أمر رئيس الجمهورية السابق، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة لم تتقدم القوات المصرية في اندفاعها الأول الذي أخذ العدو على غِرَّة بفضل سياسة التمويه حتى المضايق للاستيلاء عليها، وهي المداخل إلى سيناء المكشوفة برًّا، والمفتوحة جوًّا.
ولم تُصَفَّ الثغرة في الدفرسوار وفُكَّ الحصار عن الجيش الثالث. وتُركت سوريا وحدها بعد أن قاربت على تحرير الجولان، ورأت القوات مدينة صفد في الأفق في الأسبوع الثاني من الحرب حتى يقضي العدو على القوات العربية، واحدة تلو الأخرى، جبهة تلو الجبهة. وتَحوَّلت المكاسب العسكرية إلى خسائر سياسية في مفاوضات الكيلو ١٠١. وتم استرداد سيناء منزوعة السلاح على ثلاث دفعات، واستَردَّت مصر طابا بقرار من محكمة العدل الدولية.
وبرصيد حرب أكتوبر وبعد أداء جيش مصر الذي شهد له العدو قبل الصديق، بدأ التَّحوُّل السياسي تدريجيًّا بصدور قانون الاستثمار في ١٩٧٤م، وبالقضاء على الناصرية في الحزب في ١٩٧٥م بدعوى المنابر، اليسار واليمين والوسط، والذي بناء عليه بعد أن تحولت إلى أحزاب مثل «التجمع» اليسار، وحزب «الأحرار» اليمين، ثم نشأ «الوفد» الليبرالي بحكم القضاء. ومثلت الدولة أي اليمين الناصري الوسط. ورفعت شعارات جديدة «العلم والإيمان»، واتهام الماركسية بالكفر، ومُمارَسة العنف، والناصرية بالتحالف مع الاتحاد السوفيتي، والليبرالية بحكم الإقطاع والباشوات. وبدأ التحول من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وتشجيع رأس المال الأجنبي. كما رفع شعار «العلم والتكنولوجيا» بديلًا من «الأيديولوجيا» التي أدت إلى هزيمة ١٩٦٧م. وبدأ النَّهب المُنظَّم لثروة مصر في الداخل، وتهريب رءوس الأموال الوطنية إلى الخارج بعد خصخصة البنوك والشركات وإعفاء المستثمرين الأجانب من الضرائب لمدة عشر سنوات وإمدادها بالمرافق العامة مجانًا. فالرأسمالية لم تَعُد جريمة. ورُفِعَت شعارات «عربة وفيلَّا لكل مواطن»، «إلكترون في يد كل جندي»، «حرب أكتوبر آخر الحروب».
وبعد هَبَّة يناير ١٩٧٧م إثر قرارات رفع الأسعار، سيطرت جماهير عبد الناصر على مصر من الإسكندرية إلى أسوان، وفجرت جام غضبها على رموز الثروة والنفاق والسلطة، النوادي الليلية، مقار الحزب الحاكم وأقسام الشرطة، دون المدارس والمستشفيات، ووزعت المواد التموينية من المجمعات على الأحياء الفقيرة. وبعد ثمان وأربعين ساعة فُرِضَت الأحكام العرفية على البلاد، وفُرِض حظر التجول. وانبرى فقهاء السلطان لتبرير غلاء الأسعار. فالجسم المريض، وهو الاقتصاد المصري، في حاجة إلى دواء حر، وهو ارتفاع الأسعار؛ كي يصح، ويَعْبُر عُنق الزجاجة إلى دولة الرخاء. ورُفِعت صور عبد الناصر، وعادت شعاراته. ولولا غياب الحزب الثوري لعادت ثورة يوليو ١٩٥٢م إلى مسارها الصحيح ضد الانقلاب عليها بما سُمِّي بثورة التصحيح.
وفي نوفمبر من العام ذاته ١٩٧٧م أراد النظام السياسي في الجمهورية الثانية العثور على أحلاف تقويه ضد الثورة الشعبية في الداخل. فتمت زيارة القدس وكأنها بوحي من السماء، والرئيس في طائرة بين السماء والأرض، قريبًا من الله، مع أن كل شيء قد تم إعداده من قبل عن طريق رومانيا ورئيسها شاوشسكو الذي اغتيل أيضًا هو وزوجه بعد الانتفاضة الشعبية في أوروبا الشرقية ضد التسلط والطغيان باسم الاشتراكية. ثم عقدت معاهدة كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ثم معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني في ١٩٧٩م. وبالصلح المنفرد خرجت مصر من موازين القوى. تَحرَّرَت سيناء منزوعة السلاح، وبقيت باقي الأراضي المحتلة في الضفة والجولان تحت الاحتلال.
وبعد حادث المنصة في ١٩٨١م، استمرت سياسات الجمهورية الثانية في الجمهورية الثالثة. ورفعت شعارات جديدة استبشر بها الناس خيرًا، نظافة اليد، الشفافية. وتم الإفراج عن آلاف المعتقلين من التيارات السياسية كافة في البلاد؛ إيذانًا ببداية عهد حر ديمقراطي جديد. واختفت حرم الرئيس عن الأنظار بعد أن كانت مركز الإعلام والنشاط الاجتماعي والثقافي في البلاد، بالرغم من تحذير أحد أقطاب المعارضة آنذاك وكتابته عن «الوضع الدستوري لحرم الرئيس».
واستفْرَدَت إسرائيل بالوطن العربي بعد إخراج مصر من المعادَلة. وتم العدوان على لبنان وغزو بيروت في ١٩٨٢م، وضرب المفاعل النووي في العراق في ١٩٨٤م، واغتيال أبي جهاد في تونس أثناء الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، ثم احتلال كل فلسطين في أثناء الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى. وتدمير الصواريخ السورية في البقاع والاعتداء على حدود مصر، وتهديد سوريا المستمر، وفي الداخل ازداد القهر والتسلط في الجمهورية الثالثة باستمرار العمل بقانون الطوارئ وتزوير الانتخابات، وسيطرة الحزب الحاكم، وامتلاء السجون بالمعتقلين السياسيين. ولم تنفع تحذيرات مظاهرات الأمن المركزي في ١٩٨٦م. بل تم التوقيع في مؤتمر القاهرة في ١٩٩٠م على شرعية العدوان الأمريكي على العراق في ١٩٩١م، ودخول بعض القوات المصرية جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية، بدعوى تحرير الكويت وكما صوَّر فيلم «العاصفة». واستؤنف ضرب العراق في ١٩٩٨م بدعوى رفض التفتيش على قصور الرئاسة، ثم احتلاله كلية في مارس ٢٠٠٣م بدعوى امتلاك أسلحة الدمار الشامل. وإسرائيل تحتل أراضي ثلاث دول عربية سوريا وفلسطين ولبنان، وتمتلك السلاح النووي. ولا أحد يعتدي عليها، بل تشجعها الولايات المتحدة الأمريكية على العدوان والاستيطان.
وفي مايو ١٩٤٨م، قام الكيان الصهيوني مخترقًا حدود الهدنة، وإحلال شعب محل شعب. ثم اعتدى على غزة في ١٩٥٥م، مما دفع مصر لعقد صفقة الأسلحة التشيكية للدفاع عن النفس. ثم كانت إحدى دول العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٦٧م، مما دفع مصر إلى إعادة تسليح نفسها بالسلاح السوفيتي مع بناء السد العالي بمعونته المالية والتقنية. وانتشر الاستيطان، وزادت الهجرة الروسية إلى الكيان الصهيوني بحوالي مليون مهاجر وتوالت معاهدات الصُّلح مع الأردن من دول المواجَهة، ومع موريتانيا من المغرب الأقصى. وفُتِحَت مكاتب تجارية أو اتصال في المغرب وتونس وقطر. وتقدَّمَت الأردن بمشروع في مؤتمر القمة العربي الأخير في الجزائر باعتراف عشر دول عربية بإسرائيل إغراء لها من أجل تطبيق خارطة الطريق أو قبول مبادرة السلام العربية. فالدفع مقدمًا قبل توريد السلعة.
منذ مايو ١٩٤٨م، ابتلع الكيان الصهيوني كل فلسطين وتسارعت معاهدات الصلح والاعتراف والهرولة لخطب ودِّها تَقرُّبًا للولايات المتحدة الأمريكية. ووُقِّعَت اتفاقيات الكويز لابتلاع الاقتصاد العربي والخطورة هو خلق طبقة عربية مرتبطة بمصالحها مع إسرائيل في مجمع اقتصادي واحد. ثم يأتي الدور على العقل العربي والثوابت العربية، وتصبح إسرائيل نموذجًا لتحديث الوطن العربي، وتقوم بدور مصر التقليدي مركزية إسرائيل بدلًا من مركزية مصر.
فما أشبه مايو ١٩٤٨م بمايو ١٩٧١م. وما أبعدهما معًا عن مايو ٢٠٠٥م، بعد أن تحرك الشارع العربي في مصر ليفك الحصار عن النظام السياسي العربي المُحاصَر بين المطرقة والسندان، مطرقة الولايات المتحدة الأمريكية وسندان الشعوب.
(٣) محاكمة الانقلابيين
إذا كان التصور الرأسي للعالم قد يؤدي إلى التسلط، وكان التصور الهرمي للعالم قد يؤدي إلى القهر، فإن التصور الثنائي للعالم قد يؤدي إلى الكبت وهو التصور الذي يقوم على ثنائية متعارضة الحق والباطل، والخطأ والصواب في المعرفة، والفضيلة والرذيلة، والحسن والقبح، والبراءة والخطيئة في الأخلاق، والرجل والمرأة، والشيخ والمريد، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والظالم والمظلوم، والحاكم والمحكوم، والآمر والمأمور، والأعلى والأدنى في المجتمع.
والعلاقة بين الطرفين علاقة تَعارُض وتناقُض وتنافُر وتَدافُع، بل تَحارُب واقتتال، طرف حق مُطلَق، وطرف آخر باطل مُطلَق. ولا علاقة بين الاثنين إلا بأن يقضي أحدهما على الآخر. فلا تعايش بينهما ولا وفاق. ينتصر الحق بالضرورة على الباطل، والصواب على الخطأ، والأعلى على الأدنى، والفضيلة على الرذيلة، كما هي الحال في الدراما الشعبية. وهو ما ظهر في «مَعالم في الطريق» عند سيد قطب، الصراع بين الإيمان والكفر، والإسلام والجاهلية، والله والطاغوت. ومِن ثَمَّ يغيب الحوار بين الطرفين، ويحضر الصراع، ولا بقاء لأحدهما إلا بفناء الآخَر.
وهي بقايا ثنائية شرقية قديمة، موروثة من ديانات فارس، الصراع بين أهريمان وأرمزدا، والنور والظُّلْمة، والملاك والشيطان، ولا نصر لأحدهما على الآخر. إنما هو صراع أبدي. وتسرَّب هذا التصور إلى باقي الأديان. فقامت على الصراع وليس على الوئام، وعلى التناقض وليس على التآلف. بل تَسرَّب إلى ديانات التوحيد مثل الإسلام الذي يقوم على التناغم، والتآلف والاعتدال والوسطية. وفي أوقات الأزمات والهزائم يضيع التعادل ويسود التطرف، وتتحول الحياة إلى صراع بين أضداد، وينقلب التوحيد إلى ثنائية، والانسجام إلى تضاد باسم الحياة الروحية، وانتصار الرُّوح على البدن، والآخرة على الدنيا، ويشرع ذلك النص: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، ثم تنتقل هذه الثنائية المُتعارِضة إلى الحياة العامة، ابتداءً من الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع. فيقسم الفرد حياته إلى قسمين مُتعارِضَين الفضيلة والرذيلة، الشرف واللذة، العقل والحس، الإرادة والرغبة، الحكمة والميول، الحب والجنس، العاطفة والجسد.
ثم تمتد الثنائية إلى الأسرة بين الأب والأم، والزوج والزوجة، والابن والبنت، والأخ الأكبر والأخ الأصغر، والأخت الكبرى والأخت الصغرى. وهي أسرة «سي السيد» التي صورها نجيب محفوظ في «الثلاثية»، سي السيد وأمينة، سي السيد وكمال وياسين. ثم يفسر الدين طبقًا لذلك باسم القوامة الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، والدرجة التي للرجال على النساء وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، ابتسارًا للآيات، وأخذها إلى منتصفها دون وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ووَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وفَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، «إنما النساء شقائق الرجال».
ثم تمتد إلى المجتمع العريض بين طبقتين، الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، ورجال الأعمال والعمال، وأصحاب رءوس الأموال وصغار التجار، وتُجَّار الجُملة وتجار القطاعي، والشرفاء والحقراء، وأصحاب الأرض والفلاحين، وأصحاب المصانع والعمال، والمقاولين وعمال التراحيل، والقُوَّاد والجنود، والمشايخ والمريدين، والعلماء والجهلاء. وينشأ الصراع الطبقي دون أن يكون بالضرورة صراعًا بين الطبقات التي تُمثِّل المصالح، بل بين طبقتين تعبيرًا عن التصور الثنائي للعالَم.
ثم تمتد إلى العلاقات بين المجتمعات. فتنقسم إلى دار الإيمان ودار الكفر، دار الإسلام ودار الحرب، ودار العهد والأمان، ودار العدوان والطغيان. فتقع الحرب بين الشعوب بإعلان أو بغير إعلان، بمواجَهة أو بمكيدة، والحرب خدعة. وكما انتهى الاعتدال في حياة الفرد، والتعاون في الأسرة والوئام في المجتمع ينتهي السلام بين الشعوب ضد ما أوصى به الدين يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. وتنتهي الحياة الثنائية عادة إلى الوقوع في نوع من الازدواجية لإشباع الطرفين، حياة الدنيا، وحياة الآخرة بدعوى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، ووَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. وكلما زاد الإيمان زاد الإشباع. فالله يحب أن يرى نعمته على عبده فيبني العمارات الفارهة وربما بالرشوة للمصالح الحكومية، وبالغش في الأسمنت وحديد التسليح، و«خُلو الرِّجل» أو بيع «الشقة» مرتين ثم يخصص الطابق الأرضي أو ما تحت الأرض كمسجد للإعفاء من العوائد ولدرء الحسد وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. ويصوم بالنهار وينهم بالليل. وينعم بليالي رمضان ويعتكف في العشر الأواخر منه، ويتزوج مَثْنَى وثُلاث ورُباع، ويعدل بينهنَّ تطبيقًا لأحكام الشرع. ويطلقهنَّ بالدَّوْر لتجديد الأربع مع أن أبغض الحلال عند الله الطلاق. ويحج إلى بيت الله الحرام، ويتاجر في تأشيرات الحج. ويتزوج الشيخُ المُسنُ الحَدَثَ الصغيرة. كفيل يكفلها بالمال ويعين أسرتها الفقيرة. ويجمع الثروات، ويتهرب من الضرائب ويتصدق على المحتاجين، ويؤدي الزكاة ٢٫٥٪ وهي نسبة أقل من الضرائب الواجبة. ويبني المساجد، ويُلْحِق بها دُور المناسبات والعيادات الطبية. ويسميها باسمه تخليدًا لذكراه الطيبة على كل لسان. ويشارك في ليالي الطُّرُق الصوفية، والمناسبات الدينية، وموالد أولياء الله الصالحين. ويقيم موائد رمضان بما لذَّ وطاب من الطعام حتى ولو جمع المال من الكسب الحرام، وكدست النقوط من الرقص الشرقي. ويتناول السحور على حمَّام السباحة وأنغام الرقص الشرقي، وينوي الصيام. ويأخذ ألقاب الحاج والرئيس المؤمن، والزبيبة في الجبهة واضحة للعيان. ويبتهل ويسبل العينين ويدعو في كل خطوة. ولكل حركة ومكان، وسفر وحضر، ومنزل وشارع، وصفقة بيع وشراء، دعاء.
وكما يؤدي التصور الثنائي للعالم إلى الازدواجية قد يؤدي أيضًا إلى النِّفاق. يعيش الإنسان في المستوى الأدنى ويَدَّعِي ويتظاهر أنه يعيش في المستوى الأعلى. فالازدواجية قد تكون صادقة، ويعيش الإنسان المستويين معًا بالصدق ذاته، جمعًا بين الدنيا والآخرة، وأخذًا بالحسنيين، حظ الدنيا وثواب الآخرة. أما النفاق فإنه يعني أن يعيش الإنسان في المستوى الأدنى بصدق، وبادعاء وتظاهر وكذب في المستوى الأعلى، كالتصدق رياء للناس. لذلك نقد القرآن النفاق والمنافقين، وسلوك الأعراب، والذين يقولون ما لا يفعلون. واعتبر النفاق أشد من الكفر. النفاق كفر مُقنَّع، والكفر صريح.
وكَرَد فعل على النفاق يبدأ الزاهد في العزوف عن الدنيا، والتَّوجُّه إلى الآخرة، وإيثار طرف على آخر، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. فالتصوف تَرْك الدنيا بمن فيها كَرَد فعل على التكالب عليها. ولا يُعرف الله إلَّا ببدنٍ عارٍ وبطنٍ جائع. ويجد في ملكوت الروح عالمًا أوسع وأرحب وأصدق. والقرب من الله بُعد عن العالم. والأنس بالله وحشة من البشر، والحب في الله رد فعل على بغض البشر.
قد ينتهي التصور الثنائي للعالم إلى الازدواجية أو إلى الانحلال أو إلى الكبت. في حين أن الطبيعة واحدة، والفطرة طبيعة أولى، والأشياء على البراءة الأصلية، والإنسان قادر على السلوك الصادق بطبيعته. إنما يأتيه النفاق والانحلال والكبت من المجتمَع.
قد يفيد التصور الثنائي للعالم في المقاوَمة مقاوَمة المحتل والطغيان والقهر والتسلط. وهي مواجهة أفقية لا رأسية، في الخارج وليست مع النفس؛ من أجل التَّحرُّر وليس من أجل القهر والكبت. ويقوم على توحيد قوى النفس أولًا، المادية والمعنوية؛ من أجل مواجهة العدو الخارجي.
وهذا لا يمنع أنه في ثقافة أخرى مثل الثقافة الغربية التي خلطت بين المستويات أن تجد في هذه الثنائية ما يحافظ على التمييز بين المثالي والواقعي، بين النَّفْسي والبدني، بين العقلي والحس بدلًا من الوقوع في الرَّد المادي كالوضعية أو الرَّد الصوري كالمذاهب الرياضية. لذلك أتت مُعظَم المذاهب المعاصرة ثنائية البنية لرفع الخلط بين المستويات؛ المادة والذاكرة، والتطور الخالق منبع الأخلاق والدين عند برجسون وعلوم الوقائع وعلوم الماهيات عند هوسرل، والظاهريات المعاصرة والوجود والموجود عند هيدجر. فبقدر ما نحتاج إلى التوحيد الأول يحتاج الغرب المعاصر إلى الثنائية من جديد.
(٤) هل تَغيَّر شيء؟٣
كان مطلب المعارضة المصرية على مدى أكثر من ربع قرن تغيير بعض بنود الدستور الخاصة بالاستفتاء، وضرورة التحول من نظام المرشح الواحد إلى نظام الانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح، وتحديد مدة الحكم بمدتين كل منهما أربع سنوات، والتعددية السياسية، وإعطاء الشرعية لكل القوى السياسية في الشارع المصري. ويشتد ضغط المعارضة كلما حان وقت التجديد أو التمديد. واشتدَّت المُعارَضة الداخلية هذا العام. فقد طالت مُدَّة الحكم. وأصبح الحاكم العربي هو أطول حاكم في التاريخ من حيث مدة الحكم التي قد تصل إلى أكثر من ثلاثين عامًا. في حين أن رؤساء أمريكا السابقين بعد مدتين لا أكثر يسيرون في الأسواق، مواطنين عاديين بكل الاحترام ولهم مكانة أدبية رفيعة، وكلمة مسموعة. ويحلون القضايا الشائكة في العالم. ويقومون بأدوار عديدة على الساحة الدولية دفاعًا عن السلام.
واشتد ضغط المُعارَضة المصرية في الشهور الأخيرة. وكان آخرها في معرض الكتاب؛ حيث طالب المثقفون بالإصلاح الدستوري. وكان جزاء أحدهم المنع من المشاركة في نشاط المعرض الثقافي. وقامت المظاهرات في الجامعات المصرية، وتجمَّعت مع حركة «كفاية». حاصرتها الشرطة وضربتها بالعِصي، وكأننا ما زلنا في العهد الملكي. واتُّهِمَت المعارَضة بالسوقية، والخيانة، والنخبوية، والرغبة في الحكم، والطمع في السُّلطة، وإثارة الشَّغَب. كل شيء مسموح به إلا المطالَبة بإصلاح الدستور. فالوقت لم يَحِن بعد. والأمور لا بد أن تسير ببطء. والاختيار بين أكثر من مرشح يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي؛ مما يؤدي إلى توقف الاستثمار، وهرب رءوس الأموال الأجنبية الاستفتاء هو القانون والدستور. وأعمال الرئيس في الدورات الأربع الماضية تكفي عن برنامج سياسي جديد يقوم على أساسه إعادة ترشيحه دورة خامسة حتى تبلغ مجموع الدورات ثلاثين عامًا. وهو إرث من ثورة ٢٣ يوليو التي تحوَّلت إلى وراثة بين الرؤساء والنواب. ولما غاب النائب فالإرث من الرئيس إلى نفسه مع أنه لم يَعُد يبقى من مبادئ الثورة الستة شيء: لا محارَبة الاستعمار، ولا مناهَضة الصهيونية، ولا الوقوف في مواجهة الإقطاع، ولا الحد من الرأسمالية واحتلت فلسطين كلها. وأصبح جيش إسرائيل يصول ويجول في فلسطين ولبنان وسوريا. ويُهدِّد بالتوسع والعدوان كل الأقطار العربية.
وبعد أن اشتد الضغط الأمريكي على مصر والسعودية وباقي الأقطار العربية في سوريا لضرورة التحول الديمقراطي، وبعد أن ألغت وزيرة الخارجية الأمريكية ومستشارة الأمن القومي السابقة زيارتها لمصر إلا بعد مزيد من إجراءات التحول الديمقراطي، وضرورة الإفراج عن أحد رؤساء الأحزاب، وبعد اجتماع الحزب الحاكم مع أحزاب المعارَضة للاتفاق على الإصلاح فجأة وعلى غير إنذار، وجه الرئيس خطابًا في مسقط رأسه يطالب فيه مجلس الشعب والشورى بضرورة الإصلاح الدستوري، وتغيير إحدى مواده بالتحول من الاستفتاء على مرشح واحد إلى الاقتراع العام بين أكثر من مرشح تحول الرجاء إلى بطولة. وما كانت تطالب به المعارَضة وما تظاهَر من أجْلِه الطلاب وحركة «كفاية» ويرفضه الرئيس أصبح قرارًا لأنه أتى من الرئيس هذه المرة. فما زال الدستور هِبة من الملك وليس حقًّا مكتسبًا للشعب. وانقلب الإعلام رأسًا على عقب؛ ما كان يعتبره من قبل سابقًا لأوانه، ومدعاة لزعزعة الأمن والاستقرار أصبح يعتبر الآن بعد قرار الرئيس انقلابًا تاريخيًّا، وتغيرًا جذريًّا لم نشهد مثله من قبل منذ أيام الفراعنة. إنه زلزال ضخم لم يحدث منذ قيام الثورة المصرية منذ أكثر من نصف قرن. إنها هجمة مفاجئة على المعارَضة، عدو النظام، وإدخال الارتباك في صفوفها. فماذا ستفعل المعارَضة الآن؟ وما برنامجها السياسي؟ مَنْ هو مرشحها؟ وماذا بقي للمعارَضة أمام أعين الناس والرئيس قد سرق الأضواء منها وسحب البساط من تحت أقدامها؟ لم يَتغيَّر الإعلام. وظل كما هو في ركب النظام السياسي يأتي وراءه لتبرير قراراته. فالعربة أمام الحصان وليس الحصان أمام العربة. منذ خمسين عامًا أو يزيد عمر الثورة، ما زالت الصلة بين الإعلام الرسمي والنظام صلة التبرير والتزيين والتجميل خاصة الإعلام المرئي والمسموع؛ مما يتطلب استقلال الإعلام عن النظام، ونهاية عصر «الموظف الأيديولوجي»، والخطاب المزدوج العلني والسري، والنفاق السياسي، وتزيين أعمال السلطان وليس نصحه. فالعالِم يتقدم السلطان ولا يتبعه. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
وشتان بين النظر والعمل، بين القرار «التاريخي» والواقع السياسي. وبقدر ما تم تحقيق مطلب المعارَضة السياسية، فإن ما أُعْطِي باليمين أُخِذ باليسار، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف. فقد تعودت مصر على الاستفتاء منذ أكثر من نصف قرن. فكيف تتحول العادات السياسية بين يوم وليلة؟ والممارسات السياسية عادات قبل أن تكون قوانين، وهيبة السلطة والحكومة في قلوب الناس، وجهاز الإعلام في يد النظام وعدم وجود نائب للرئيس يبرز ولو نسبيًّا حتى يتعود الناس على وجود بديل في قمة السلطة استمر أكثر من ربع قرن. وكلما برز أحد الوزراء وتحول إلى شخصية زعامية، وقدَّره الناس، وأثنوا على رعايته مصالح البلاد، تم إقصاؤه حتى لا يبقى إلا نجم واحد في الليل البهيم، وما زال بعض الوزراء الذين أُقصوا عن مناصبهم لما أبدوه من رعاية المصالح الناس في الداخل ودفاع عن استقلال البلاد في الخارج، سواء وزارة الخارجية ضد التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية والهرولة تجاه إسرائيل (عمرو موسى)، أو الداخلية ضد تجار المخدرات وحسن تنظيم المرور (أحمد رشدي)، أو التموين والوقوف أمام ضغوط البنك الدولي (جويلي)، أو قادة الجيش وبلاؤهم في حرب أكتوبر (سعد الدين الشاذلي)، أو من قادة المعارَضة التاريخيين قبل الثورة أو بعدها دفاعًا عن الإصلاح الزراعي وجامعًا بين الإسلام والاشتراكية (إبراهيم شكري). وغيرهم كثيرون وكيف تتفق المعارَضة على مرشَّح واحد وما زال الحوار بينها في الطريق؟ وكيف يتم الإجماع على مرشح واحد ومواقف أحزاب المعارَضة ما زالت حدِّية؟ فالوفد لا يقبل الإخوان لأنه علماني، ولا ثورة ٢٣ يوليو لأنه ليبرالي. و«التجمع» لا يقبل المتأسلمين ويهاجمهم على مدى عدة عقود وكأنه لا يوجد «هم» إلَّا هذا الهم، ودون نقد مماثل للمطبعين والتابعين والفاسدين. و«الناصري» ما زال بينه وبين الإخوان ثأر قديم، وما زال بعيدًا عن «اليسار الإسلامي» و«حزب الوسط» ما زال تحت التأسيس. و«حزب العمل» معلق، وجريدة «الشعب» موقوفة. والإخوان والشيوعيون غير شرعيين. فبين أي مرشحين يكون الاختيار؟ بين الكل ولا شيء، بين الواحد الأحد ولا أحد معه.
وماذا عن باقي مواد الدستور من أجل تحديد مدة الرئاسة بفترتين وعدم تركها مفتوحة حتى أصبح الحاكم العربي أطول رئيس يحكم في العالم. لا يترك الحكم إلا بانقلاب أو بوفاة. بل إن بعض الدساتير العربية تجعله حاكمًا مدى الحياة. وماذا لو لم يرشح الأب نفسه لأسباب صحية أو تمهيدًا لترشيح الابن، والابن ما زال في الأربعينيات وأمامه حتى الثمانينيات، أربعون عامًا أخرى لأسرة حاكمة عودًا إلى العصر الفرعوني، عصر الأسرات؟ وجهاز الدولة الآن يُعاد تركيبه من الأب إلى الابن، وفي حضور الأب وبنشاط الأم، وبجهد الابن. فهو مساعد للأب ورئيس لجنة السياسات في الحزب الحاكم. وهو وجه مصر الجديد، يرى مصر بعيون مصر. وهو الذي يخطط، التعليم من أجل السوق، وكمبيوتر لكل مواطن والشباب قادم لوراثة الرعيل القديم، ومختار من نظام العالم الجديد، وابن العولمة والضغوط الخارجية مستمرة. والإعلام جاهز. والجداول الانتخابية معدة سلفًا. ورئاسة الدولة والحزب في الانتظار. وكل ذلك تحت إشراف القضاء.
(٥) نادي الضباط ونادي القضاة٤
إن التاريخ يُعيد نفسه، أزمة انتخابات نادي الضباط عام ١٩٥٢م والتي عجَّلت بثورة يوليو، ومذبحة نادي القضاة في الإسكندرية عام ٢٠٠٦م والتي قد تعجل بثورة يوليو الثانية بعد ما يزيد على نصف قرن. وهناك حنين إلى الستينيات والعودة إلى ذروة انتصارات الثورة المصرية في مواجَهة الاستعمار والصهيونية والبناء الاشتراكي لمصر، ورفض لما يحدث في هذا العقد من التحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية والصلح معها.
تلاعَب الملك في انتخابات نادي الضباط ورغبته في انتخاب أحد أنصاره، حسين سري عامر، ضد مرشح الضباط، اللواء محمد نجيب. وهو ما يحدث الآن في الصراع بين مجلس القضاء الأعلى المعين من وزير العدل ممثل الدولة، ونادي القضاة الحر المنتَخَب من مجموع الهيئة القضائية في مصر، والصراع على قانون السُّلطة القضائية التي يريدها نادي القضاة، والإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وإثبات التزوير في حالة وقوعه، وتصدي نواب محاكم النقض ورئيس نادي القضاة لذلك، الخضيري ومكي وبسطويسي. أزمة نادي الضباط الأولى في القاهرة، وحصار نادي القضاة الثانية في الإسكندرية التي أيَّد معسكرها وأيدت جامعتها الثورة بعد اندلاعها.
والظروف في الحالتين متشابهة. التغيير الوزاري المستمر قبل الثورة والتخبط في السياسات بين القصر والإنجليز والأحزاب، والتخبط في السياسات الحالية والتغيير الشكلي للوزارات وعدم الاستقرار السياسي. وفي كلتا الحالتين الإخوان والشيوعيون في المُعتقَلات السياسية، وفشل الحياة الحزبية بين أحزاب القصر، أحزاب الأقلية، وحزب الوفد، حزب الأغلبية في الحالة الأولى، وفشل أحزاب الأقلية المعارِضة، وفشل الحزب الحاكم في استقطاب مجموع الشعب، ووجود حزب المعارَضة الرئيسي، الإخوان في الشارع والبرلمان والصحافة دون أي سندٍ شرعيٍّ يحميه بعد حَلِّ الجماعة منذ ١٩٥٤م في الحالة الثانية.
كان هناك الملك والحاشية وأحزاب الأقلية. والكل يمثل سُلطة القصر. واليوم هناك الرئيس والبطانة والحزب الحاكم ولجنة السياسات للتدخل في الحياة السياسية وفرض الوزراء، والنواب، والمُحافِظين، ومديري الأمن، ورؤساء الجامعات والهيئات العامة. وكان الإنجليز القطب الثاني في الحياة السياسية قبل الثورة يُمْلُون إرادتهم السياسية مثل حادثة ٤ من فبراير، والآن هناك الولايات المتحدة الأمريكية التي تُملي سياساتها على النظم السياسية بالمنطقة مثل التحالف معها في العدوان على العراق. وكان الإقطاع سندًا للقصر والإنجليز أولًا، والآن رجال الأعمال والبنوك والمتلاعبون بأسعار الحديد والأسمنت ونواب القروض ورؤساء مجالس إدارات شركات القطاع الخاص؛ مثل النقل الملاحي التي هرب صاحبها بعد غرق العبارة. والفساد في كلتا الحالتين مستمر، فساد التهرب من الضرائب، والرشاوي، والعمولات، ونهب المال العام. والقمع مستمر أيضًا على مدى أكثر من نصف قرن. فأجهزة الأمن منذ أيام الملك حتى اليوم مُدرَّبة على أن الشعب عدو النظام، وأن قادة المظاهرات عملاء للأجنبي. ومن الأفضل التعامل مع حركات المعارَضة في كل الحالات على أنهم من دعاة الشغب، وتعكير صفو الأمن والنظام العام.
قاد الضباط الأحرار أزمة انتخابات نادي الضباط بالأمس. ويقود اليوم المثقفون الأحرار والقضاة الأحرار حركة نادي القضاة وحركة الشارع المصري الممثلة في «كفاية»، و«الحركة المصرية من أجل التغيير»، و«فنانون من أجل التغيير»، و«حركة ٩ مارس لاستقلال الجامعات» وتنظيمات المجتمَع المدني التي بلغت أربعة عشر تنظيمًا تلقائيًّا حرًّا. عجَّل بثورة يوليو حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م. وقد يعجل بالثورة الحالية مظاهر العنف في المدن، وفي سيناء، وفي الريف، والصراعات الطائفية في الصعيد والإسكندرية.
عبَّر الضباط الأحرار منذ أكثر من ستين عامًا عن فورة الحركة الوطنية المصرية في الأربعينيات كما جسدته لجنة الطلبة والعمال عام ١٩٤٦م، وتُعبِّر حركة المثقفين والفنانين والقضاة الأحرار عن الهَبَّات الشعبية التي اندلعت منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧م، مظاهرات مارس ١٩٦٨م، مظاهرات ميدان التحرير عام ١٩٧١م، الهَبَّة الشعبية في يناير١٩٧٧م، الإجماع الوطني على رفض سياسات الجمهورية الثانية في سبتمبر ١٩٨١م والذي انتهى بحادث المنصة، هَبَّة الأمن المركزي ١٩٨٦م، انتفاضة الجامعات ضد العدوان الأمريكي المتكرر على العراق في يناير ١٩٩١م، ثم في رمضان ١٩٩٨م، ثم الاحتلال الشامل في مارس ٢٠٠٣م. تكوَّنت الخلايا الأولى للضباط الأحرار في فلسطين عام ١٩٤٨م، كما تكونت حركات المعارضة في الجمهورية الأولى في مارس ١٩٦٨م ضد أحكام الطيران الذي أدى إلى هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وضد التحول الاشتراكي في مصر بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م. وظل الصراع ضد التسلط والقهر ممتدًا والدعوة إلى إقامة حياة ديمقراطية سليمة كأحد المبادئ الستة للثورة المصرية والذي ما زال هدفًا بعيد المنال بعد مرور أكثر من نصف قرن مع تعدد الأعذار: تأمين الثورة ضد خصومها في الداخل والخارج والديمقراطية المباشرة في الجمهورية الأولى، الديمقراطية لها أنياب والقوانين سيئة السمعة في الجمهورية الثانية، وقوانين الطوارئ وتزوير الانتخابات واللعب بالدستور في الجمهورية الثالثة.
ومما يساعد على الإسراع في إنهاء مرحلة وبداية أخرى الخروج على مبادئ ثورة يوليو كلية، والتحول من الثورة إلى الثورة المضادة، ومن النقيض إلى النقيض. فقد تم الانقلاب على الخيار الاشتراكي إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص حتى في القطاعات الشعبية مثل الكهرباء والمياه والمواصلات، ومن مجانية التعليم إلى التعليم الخاص، ومن دستور ١٩٢٣م الذي وضع لمصر نظامها الليبرالي إلى دستور ١٩٧١م في الجمهورية الثانية والتغيير الشكلي للمادة ٧٦ في الجمهورية الثالثة، ومن النظام الجمهوري إلى نظام التوريث المعلن وغير المعلن، ومن المَلَكيات الدستورية إلى الجمهوريات الوراثية، ومن تأميم الشركات الأجنبية إلى استدعائها كاستثمار مستقل أو مُشارِك، ومن القومية العربية إلى القُطْرية ثم إلى تفتيت الأقطار إلى فسيفساء عِرْقي طائفي كما يحدث الآن في العراق والسودان، ثم في الخليج والحجاز، ومصر، وأقطار المغرب العربي كله، ومن التعاون مع الشرق ممثَّلًا في الكتلة الشرقية وروسيا والهند إلى التعاون مع الغرب الأوروبي والأمريكي، ومن أفريقيا وآسيا في منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي كدائرة ثالثة للتحرُّك العربي ابتداءً من مصر والوطن العربي إلى الانكماش والانعزال والتراجع حتى أصبحت إسرائيل هي أداة التحديث في أفريقيا. وتتعاون مع الهند والصين في النهضة التكنولوجية الحديثة بما في ذلك صناعة السلاح. بل إن إسرائيل تطبق الآن سياسية الدوائر الثلاث حولها بدلًا من مصر: الدائرة الغربية الأمريكية، والدائرة العربية الإسلامية، ثم الدائرة الأفريقية الآسيوية.
وإذا كان ابن خلدون، والعالم كله يحتفل بستة قرون على وفاته، قد حدَّد الجيل بأربعين أو خمسين سنة، فإن عمرَ الثورة المصرية الأولى قد قارب على الانتهاء منذ ١٩٥٢م حتى ٢٠٠٣م غزو أمريكا للعراق، واستيلاء إسرائيل على فلسطين كلها النصف الأول في ١٩٤٨م والثاني عام ١٩٦٧م مع احتلال سوريا ولبنان، واسترداد سيناء منزوعة السلاح، فإن الثورة المصرية الثانية قد قاربت على الابتداء بعد ثلاث جمهوريات: الأولى ١٩٥٢–١٩٧٠م، والثانية ١٩٧٠–١٩٨١م، والثالثة ١٩٨٢م حتى انتفاضة نادي القضاة وتضامن نوادي أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية، وحركة ٩ مارس، وكفاية، والحركة الوطنية من أجل التغيير، ومنظمات المجتمع المدني، ونقابات الصحفيين والمحامين والمهندسين والعمال في الطريق.
لقد تم تخصيب مصر بعد عزلتها وانكماشها على نفسها. فانفرط العقد. توقف القلب ففشلت الأطراف. ولن تعود الأطراف إلى التآزر الحركي إلا بعد نهضة مصر من جديد، وعودتها إلى مسارها الطبيعي، وموقعها الجغرافي، وثقلها التاريخي. تحمي نفسها من التآكل والتفتت. وتحمي محيطها من التبعثر والضياع.
(٦) جيل يدفع … وجيل يقبض!٥
ينقسم تاريخ مصر المعاصر على مدى أكثر من نصف قرن منذ ثورة يوليو ١٩٥٢م حتى العصر الحالي إلى قسمين الأول، بناء مصر من ١٩٥٢م والثاني، هدم مصر من ١٩٧٠م حتى الآن. الأول ادخار ثروات مصر، والثاني نهب أموال مصر. قام بالأول جيل الخمسينيات والستينيات الذي ما زال يناضل ويحمي الوطن من الانهيار التام. وقام بالثاني جيل السبعينيات والثمانينيات الذي يبتلع مصر الآن. أما جيل التسعينيات، جيل الشباب الآن، فهو جيل حائر بين الجيلين السابقين، جيل شدَّ الحزام على البطون من أجل رخاء الأجيال القادمة، وجيل فك الحزام ونهب الثروات. ولتخرب البلاد وتفتقر الأجيال القادمة جيل يدخر، وجيل يبذر. جيل يقتصد، وجيل يستهلك.
بدأ جيل الخمسينيات والستينيات بقيادة ثورية وطنية، اشتراكية قومية، معادية للاستعمار والصهيونية. فقد اكتوى بالاحتلال البريطاني لمصر وبالهزيمة في فلسطين في ١٩٤٨م. عانى الاستعمار والصهيونية من الخارج، ومن القصر والفساد من الداخل. أَمَّم قناة السويس في ١٩٥٦م فرضًا للسيادة الوطنية على أصول مصر ضد النهب الاستعماري لها. ومَصَّر الشركات الأجنبية في ١٩٥٧م. وقام بأكبر عملية تصنيع منذ محمد علي، الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب، وصناعة الأدوية والكاوتشوك، وأقام المؤسسة العربية للتصنيع الحربي، وصناعة الألمونيوم، وصناعة السيارات، وصناعة الكيماويات … إلخ. وأقام أحياء بأكملها للصناعة في شبرا الخيمة والأميرية وحلوان وأسوان مع مدن كاملة للعمال في إمبابة. وبنى السد العالي الذي حمى مصر من الجوع والعطش. وشيَّد القطاع العام لتوفير السلع للطبقات الفقيرة. وأصلح الأراضي لزيادة الرقع الزراعية، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وأنشأ مديرية التحرير. وحدد الملكية ثلاث مرات متتالية. وقرر مجانية التعليم من المدرسة حتى الجامعة؛ استئنافًا لجهود الوفد، وإقرار مجانية التعليم حتى الثانوية العامة. فالتعليم كالماء والهواء. وبنى الجيش. وخصم جزءًا من راتبه الضئيل للمجهود الحربي. وهو سعيد لتحويل الجيش الملكي للاستعراضات إلى جيش وطني للقتال دفاعًا عن استقلال مصر الوطني واستعدادًا للقتال في التل الكبير وعلى ضفاف القناة وعودًا إلى فلسطين. وأقام الإسكان الشعبي ولجان تقدير الإيجارات حماية للسكان من استغلال الملاك. وأقام خططًا خمسية لتنمية مصر اعتمادًا على المدخرات الوطنية أكثر من الاعتماد على المعونات الأجنبية المشروطة وغير المشروطة. فلم تتجاوز ديون مصر مئات الملايين من الدولارات والتي بلغت الآن المئات من المليارات.
وهو الجيل ذاته الذي ساعد كل حركات التحرر الوطني العربي لاستقلال الشعوب العربية في الجزائر ومده بالسلاح لمقاومة الاستعمار الفرنسي، واليمن للتحرر من الاحتلال البريطاني. تحمَّل مرارة الهزيمة في ١٩٤٨م، والعدوان الثلاثي في ١٩٥٦م. وهو الذي قام بحرب الاستنزاف ١٩٦٨-١٩٦٩م، وبحرب أكتوبر ١٩٧٣م، خطة بدر لعبور القناة. وتبنَّى القومية العربية وحولها إلى حركة تحرر عربي شاملة لتحقيق الحرية، والاشتراكية والوحدة، وامتدت ثورته إلى العراق في ١٩٥٨م، وإلى اليمن في ١٩٦٤م، وإلى ليبيا في ١٩٦٩م. وأقام محافظة التكامل في وادي حلفا بين مصر والسودان. وحقق أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث، الجمهورية العربية المتحدة ١٩٥٨–١٩٦١م. وكان وراء استقلال المغرب العربي كله منذ إنشاء مكتب القاهرة في ١٩٥٠م. وفضل استقلال السودان باختيار حر للشعب السوداني وحقه في تقرير المصير في ١٩٥٤م. وساعد على استقلال دول الخليج. وحمى لبنان من التدخل الأمريكي في ١٩٥٨م. كما حمى الأردن من التدخل البريطاني في العام ذاته.
وهو الجيل الذي جعل القومية العربية بمضمونها الاشتراكي التقدمي أيديولوجية ثورية ضمن أيديولوجيات العالم الثالث للتحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وأقام أول تجمع سياسي أفريقي آسيوي في مواجهة الاستعمار الفرنسي والهيمنة الأمريكية في باندونج في ١٩٥٥م. وبرز زعماؤه عبد الناصر، تيتو، نهرو، شوين لاي، نكروما، سيكوتوري، جومو كنياتا، سوكارنو، تنكو عبد الرحمن، يمثلون تحولًا جذريًّا في مسار العالم، من الاستعمار إلى التحرر، ومن التبعية إلى الاستقلال وأصبح العالم الثالث يُمثِّل نقطة توازن بين الشرق والغرب؛ تخفيفًا للتوتر العالمي بين حلف وارسو وحلف شمال الأطلنطي. وقاوم الأحلاف الغربية منذ حلف بغداد في ١٩٥٤م حتى الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م.
والآن يقوم جيل السبعينيات والثمانينيات ببيع أصول مصر التي كوَّنها شعب مصر على مدى التاريخ. وضحَّى بها بآلاف العمال والفلاحين في حفر قناة السويس، وتشييد المصانع. يبيع القطاع العام بأبخس الأثمان للإقطاع القديم والرأسمالية الحديثة وللشركات الأجنبية تحت ذريعة الاستثمار، وعدنا إلى عصر سعيد. وخصخصت شركات القطاع العام بدعوى الخسارة. وتوقف بعضها من أجل إيقاف الإنتاج واتساع المجال للاستيراد بأسعار لا يستطيع الفقراء دفعها. وخُصخص التعليم من الحضانة إلى الجامعة. فقضي على التعليم الوطني لصالح التعليم الديني أو التعليم الأجنبي. وجعل الإسكان مجالًا للعرض والطلب بأسعار السوق بما في ذلك الإسكان التعاوني. وجعل النشاط الاقتصادي في أيدي رجال الأعمال. ورفعت الدولة يدها لصالح الاحتكار والتلاعب بأسعار الحديد والصلب والأسمنت. وجعل الغني أكثر غنى، والفقير أكثر فقرًا ما دام رجال الأعمال أعضاء في الحزب الحاكم، يصرفون عليه. ويقدمون الرشاوي للتهرب مما تبقى من رقابة الدولة على وسائل النقل البحري وتصاريح البناء. وخصخص البنوك الوطنية. ثم قامت بتهريب رءوس الأموال المصرية أكثر مما أحضرت رءوس الأموال الأجنبية. واستدان فجعل ديون مصر أربعين مرة عما كان الأمر عليه في الجيل السابق. واعتمد على المعونات الخارجية أكثر مما اعتمد على المدخرات الوطنية. وتلاعب بسوق الأوراق المالية. وحاول إلغاء الرقابة الإدارية. وجعل المجالس النيابية وسيلة لإثراء أعضائه بعقد الصفقات أو القروض حتى يصبح بعد أن يغادرها الأعضاء من رجال الأعمال. وأطلق الحكم للرئاسة بتغيير الدستور لصالحه، والتخلي عن النظام الاشتراكي التي كانت القوات المسلحة الأمينة عليه، ومنع تَداوُل السُّلطة بين القوى السياسية الرئيسة في البلاد.
عزل جيل السبعينيات والثمانينيات مصر عن محيطها العربي. وشاركت قواتها مع القوات الأمريكية لغزو العراق بدعوى تحرير الكويت الذي كان يمكن تحقيقه دون إعطاء الشرعية للعدوان الأمريكي من مؤتمر القاهرة الذي شرَّع للعدوان بفارق صوت أو صوتين، سوريا ولبنان. وأيد بقاء قوات الغزو بالعراق خوفًا من النزعات الطائفية كما تدعي الولايات المتحدة الأمريكية. ويسيل الدم في فلسطين بالعدوان المستمر عليه منذ الانتفاضة الأولى في ١٩٨٧م. وما زال يسيل. ويكتفى بتدريب الشرطة الفلسطينية، وقد خاضت مصر خمسة حروب من أجل فلسطين. وتركت لبنان فريسة للعدوان الإسرائيلي على المدنيين في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة التي انتصرت فيها المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله على أعتى قوة عسكرية في المنطقة. وعجز الجيش الذي لا يُقهر عن مواجهة المقاومة. هرمت مصر قبل الأوان، وانعكفت على ذاتها كما حدث لفرنسا بعد الثورة الفرنسية وهزيمة نابليون في وترلو.
وأضاع هذا الجيل الاستقلال الوطني ومقاومة الأحلاف الأجنبية لصالح التبعية للولايات المتحدة الأمريكية والصلح مع إسرائيل. وجعل الوطن العربي مستباحًا بلا حماية ولا كرامة. وأصبحَت للاستعمار والصهيونية اليد الطُّولى في تقرير حاضر الوطن العربي ومستقبله ومتنصلًا من ماضيه. بل خلق مَحاوِر من الدول المعتدلة مع الأردن والسعودية ضد الدول المتطرفة، سوريا ولبنان وإيران!
جيل ضحَّى، وجيل عاش، جيل افتقر، وآخَر اغتنى. فأين حق الجيل الماضي الذي ادخر من ثروة الجيل الحالي الذي بدَّد؟ أين حق من اقتصد قوت يومه ليبني مصر في ثروات من نهب مصر؟ قضية قانونية وسياسية ووطنية يعرضها جيل الخمسينيات والستينيات الذي ينظر إلى تبديد مدخراته وبيع أصوله. أين حق دم الشهداء من أجل مصر وفلسطين واليمن في ثروات من باعوا الأوطان وأصبحوا جزءًا من الرأسمالية العالمية؟ أين حق فقراء جيل الخمسينيات والستينيات في ثروات جيل السبعينيات والثمانينيات؟ متى يخرج الجيل الثالث، جيل مظاهرات الطلاب في ميدان التحرير في ١٩٧١م، وجيل أكتوبر في ١٩٧٣م، والهَبَّة الشعبية في يناير ١٩٧٧م، وانتفاضة الأمن المركزي في ١٩٨٦م، والمظاهرات ضد الغزو الأمريكي للعراق في يناير ١٩٩١م، واحتلاله في مارس ٢٠٠٣م؟ متى يتوقف هذا الجيل الثالث عن حيرته ودهشته لما حدث في مصر المعاصرة؟ متى ينضم إلى جيل الآباء ضد جيل الأحفاد حتى تعود مصر إلى مسارها الطبيعي، مصر الوطن، ومصر العروبة، ومصر الإسلام، ومصر العالم الثالث، ميزان الثِّقل في العالم بين الشرق والغرب؟
(٧) البداية والنهاية٦
من دلالة انتهاء مرحلة وبداية أخرى هو مقارنة بدايتها بنهايتها. فالجمهورية الثالثة في مصر (١٩٨١–٢٠٠٦م) بدأت منذ ربع قرن، وقاربت على الانتهاء. وهي أطول من الجمهورية الأولى (١٩٥٢–١٩٧٠م)، والجمهورية الثانية (١٩٧١–١٩٨١م). انتهت الأولى بموت طبيعي للزعيم الخالد، وانتهت الثانية باغتيال المُغامر والمُقامر، والثالثة على وشك الانتهاء بالانفجار الشعبي.
بدأ الجمهورية الثالثة ومصر كلها في السجون «ومين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟» في مذبحة سبتمبر الشهيرة عام ١٩٨١م. وهو ما أدى إلى تصفية رأس النظام بعدها بشهر في أكتوبر من العام ذاته. وبدأت الجمهورية الثالثة بالإفراج عن المعتقلين، من السجن إلى القصر الجمهوري، ومن أبي زعبل إلى الرياسة. وفيهم أقطاب السياسة في مصر من صحفيين، وأساتذة جامعات، وقادة سياسيين، وكُتَّاب، ومفكرين رجالًا ونساء. واستبشر الجميع خيرًا لهذا التحول من السجن إلى الحرية، ومن الخصومة بين الحاكم والمحكوم إلى الحوار بينهما، ومن العداوة السياسية بين الحكومة والمُعارَضة إلى تبادُل الرأي، ومن القرارات والسياسات المتفردة التي اتبعتها الجمهورية الثانية إلى الاشتراك في رسم السياسات الوطنية التي بها تتقرر مصالح الشعوب. وفي نهاية الجمهورية الثالثة عاد الأمر إلى التوتر من جديد بين النظام ومعارضيه. مذبحة القضاء الآن مثل مذبحة سبتمبر الأولى. وقد تضامن مع القضاء كل شعب مصر، أحزاب المعارَضة الرسمية وغير الرسمية، فيه الإخوان والناصريون، والليبراليون، والماركسيون، ومنظمات المجتمع المدني وحركاته التلقائية؛ مثل، «كفاية»، وحركة ٩ مارس، والحركة الوطنية المصرية من أجل التغيير، وكُتَّاب وفنانون من أجل التغيير والتي بلغت أربعة عشر تنظيمًا. وأصبح النظام السياسي في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، مما يؤذن بالنهاية. فالديمقراطية لها أنياب «أفرمهم بالقانون». وأمام أجهزة الإعلام هدم حائط من سجن أبي زعبل وفي الواقع يتم توسيعه. وأمام الكاميرات تحرق شرائط التجسس، وفي الواقع تنتشر أجهزة الأمن في كل مكان.
وفي نهاية الجمهورية الثانية كان ترزية القوانين قد أصدروا ما يريده الحاكم، القوانين سيئة السمعة: قانون الاشتباه، وقانون العيب لحماية كبير العائلة، وأخلاق القرية، وتمديد الرياسة إلى أكثر من دورتين، بل إلى مدى الحياة مع زيادة في الألقاب: خامس الخلفاء الراشدين، الرئيس المؤمن، بطل الحرب والسلام. وفي نهاية الجمهورية الثالثة بدأ ترزية القوانين أيضًا بتعديل المادة ٧٦ من الدستور، مادة يتيمة، في الظاهر الانتخاب بين أكثر من مرشح، وفي الواقع استحالة انتخاب أي مرشح آخر إلَّا مرشح الحزب الحاكم للشروط شبه المستحيلة أمام المرشح البديل. وبدلًا من قانون السلطة القضائية الذي يطالب به نادي القضاة المنتخب منهم، يمر أمام مجلس الشعب والشورى قانون لم يُعرض على القضاء لأخذ رأيهم. وما زال يعطي السلطة التنفيذية الأولوية على السلطة القضائية طعنًا في استقلال القضاء. وبدلًا من قانون يمنع حبس الصحفيين في جرائم النشر يقدم قانون الشائعات لاستمرار حبسهم.
وقد اكتفى رئيس الجمهورية الثانية بالتمديد، الرياسة مدى الحياة دون التفكير في التوريث، فكل إخوته ليسوا أشقاء. وكان أولاده من الإناث. والآن في نهاية الجمهورية الثالثة، يبدأ سيناريو التوريث للابن، من عضو في الحزب، إلى رئيس لجنة السياسات، إلى الأمين العام للحزب، إلى نائب الرئيس إلى الرئيس. ولا يوجد إجماع شعبي على شيءٍ من الجيش والشعب مثل الإجماع على رفض سيناريوهات التوريث. فالقوات المسلحة هي الحامية للنظام الجمهوري طبقًا للدستور. وقد كان القرار الأول لثورة يوليو تحويل الملكية إلى جمهورية. ومصر ليست سوريا ولا ليبيا ولا اليمن. وشتان ما بين عائلة محمد علي مؤسِّس مصر الحديثة، وعائلة رئيس الجمهورية الثالثة ناهب مصر المعاصرة.
وفي بداية الجمهورية الثالثة كانت هناك تجربة سابقة في الجمهورية الثانية خاصة بالوضع الدستوري لحرم الرئيس. ليس له نص في الدستور. إنما هو تقليد أمريكي، السيدة الأولى. ولم يكن أحد يعلم شيئًا عن حرم الرئيس عبد الناصر إلا ظهورها أحيانًا بجواره في المقابلات الرسمية، ورعايتها لأسرتها. وقد حدث رد فعل عند شعب مصر من ملكة مصر في الجمهورية الثانية، ودخولها الجامعة، وإعطائها أعلى الدرجات في مرحلة الليسانس على مدى سنوات أربع، وجمع المادة العلمية لها / وكتابة رسالتيها؛ الماجستير والدكتوراه في مرحلة الدراسات العليا. كانت راعية مشروع الوفاء والأمل، والمُحرِّكة لقانون الأحوال الشخصية. وكانت تلقي بظلالها على كل نساء مصر. وفي أثناء جنازة زوجها كانت تصفف شعرها. ووعت الجمهورية الثالثة الدرس. فاختفت حرم الرئيس في الشهور الأولى. ولما استتب الأمن ورسخ النظام خرجت إلى الحياة العامة وأصبحَت تدريجيًّا وراء نهضة مصر الاجتماعية والثقافية، مكتبة الأسرة، رعاية الأطفال، المجلس القومي للمرأة، حماية الآثار، مؤتمر السكان. بل أصبحَت لها نظرياتها وفلسفتها وأيديولوجيتها في الإدارة والحياة. أصبحت محورًا من مَحاور السياسة، وقُطبًا مؤثرًا في تشكيل الوزارة وتعيين الوزراء، والتخطيط لسيناريوهات التوريث كما تروي الأخبار الشعبية.
وفي بداية الجمهورية الثالثة في خطاب التنصيب بعد قسم اليمين الدستوري، ذُكِرت نظافة اليد، واستبشر الناس خيرًا بعد أن دبَّ الفساد في الجمهورية الثانية مع بداية قانون الاستثمار في ١٩٧٤م وبداية الخصخصة. وأدرك الناس أن من لم يغتنِ في هذه الفترة فلن يغتني أبدًا. والآن في نهاية الجمهورية الثالثة انتهت الشعارات الأولى وذهبت أدراج الرياح. فعمَّ الفسادُ وتهريب الأموال. وسيطر رجال الأعمال على رجال السياسة. وبيع ما تبقى من القطاع العام بأبخس الأثمان بما في ذلك الشركات الرابحة. والشركات الوطنية الكبرى الخاصة بالنقل والمواصلات والمياه والكهرباء في الطريق. وتمت المضاربات في سوق الأوراق المالية. فاغتنى الأغنياء من الحزب الوطني وخسر الفقراء من جموع الشعب بالمليارات. وغرقت العبَّارات وهرب أصحابها. واندلعت الحرائق لإخفاء السرقات والنهب للمال العام. وهربت ثروة مصر خارج مصر حتى أصبحت ضعف الدخل القومي، وضعف ديون مصر.
وفي التعليم تدخلت الجمهورية الثانية وفرضت نظام الفصلين الدراسيين لإبعاد طلاب مصر عن المظاهرات والمشاركة في الحياة الوطنية. وتم تعيين العمداء بدلًا من انتخابهم النسبي. واستمر تعيين رؤساء الجامعات واستمر تدخل رجال الأمن العلني والسري في الحياة الجامعية. وانطلقت الأغنيات الشعبية «شيد قصورك ع المزارع من دمنا وعرق جبينا، والخمارات قبل المصانع، والسجن مطرح الجنينة، عمال وفلاحين وطلبة، …» واستمر الأمر حتى نهاية الجمهورية الثالثة. وتدخلت لجنة السياسات في نظم التعليم. وفرض نظام الساعات المعتمدة الذي لا يتفق مع الأعداد الكبيرة، ونقص أعضاء هيئة التدريس، وفقر المكتبات العامة. وأخيرًا فرض نظام الجودة وإشغال الأساتذة بما لا يفيد إلا بصرف الأموال الطائلة على مكافآت الإغراء. تطوير التعليم من أجل السوق، الحاسبات الآلية، واللغات الأجنبية، والدراسات التطبيقية لإيجاد الخريجين فرص للعمل، ولحل مشكلة البطالة.
وكما انتهت الجمهورية الثانية بالقوانين المقيدة للحريات في الداخل انتهت أيضًا بالقطيعة مع العرب وبالاعتراف بإسرائيل، والمفاوضة والصلح معها منذ زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧م حتى كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام في ١٩٧٩م، عام اندلاع الثورة الإسلامية في إيران. وبدأت الجمهورية الثالثة بإعادة العلاقات مع العرب، وعودة الجامعة العربية إلى مصر. ثم عادت الآن لتهمل العرب، وتترك فلسطين حتى تقلصت قضية التحرر الوطني إلى البحث عن رواتب الموظفين والأغذية والأدوية لشعب لاجئ. وانكمشت مصر وتقلص دورها في محيطها العربي والإسلامي في فلسطين والعراق، وأفغانستان والشيشان وكشمير. وتركت حدودها تتآكل في الشمال في الشام، وفي الجنوب في السودان والصومال مثل فرنسا بعد هزيمة نابليون في واترلو. اقتصر دورها على عقد الحوار بين الفصائل الفلسطينية، وعلى تنظيم اللقاءات بين رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيس الوزراء الإسرائيلي، والدم يسيل كل يوم. تصفية قادة المقاومة، وقتل النساء والأطفال والشيوخ على الشواطئ، وهدم المنازل أو الاصطياد بالصواريخ ويستمر توريد الغاز الطبيعي لدوران عجلة الحرب الإسرائيلية، وتوريد الأسمنت والحديد لبناء الجدار العازل، واستقبال رؤساء وزراء ووزراء إسرائيل وكأنهم في بلادهم.
وبدلًا من تصحيح سياسات مصر الخارجية، التبعية لأمريكا، وتبرير وجود القوات الأمريكية بالعراق حماية له من الحرب الأهلية، واستعمال المياه المصرية لضرب العراق ودخول القوات المصرية مع القوات الأمريكية لاحتلال العراق بدعوى تحرير الكويت، وإقامة التدريبات المشتركة مع القوات الأمريكية ثم تلتها تونس والجزائر والمغرب، ما دام رب البيت بالدُّف ضاربًا.
وبدأت الجمهورية الثالثة بتواضع الرئيس بعد أن أخذ العبرة من عجرفة رئيس الجمهورية الثانية وغروره وقدَّر الناس بطل ضربة أكتوبر ١٩٧٣م كما قدر عبد الناصر من قِبَل الضابط الشاب، مدير الكلية الجوية. ثم تحول شيئًا فشيئًا إلى مثل ما كان عليه رئيس الجمهورية الثانية موضوع الغناء الشعبي، ووضع اسمه على الجوائز، ومشاريع الإسكان، ومحطات المترو، ويافطات الإعلانات، وتصدره لنشرات الأخبار. وأُعطِيت له أيضًا سلسلة من الألقاب، من كبير العائلة إلى كبير الآلهة، ومن مؤسِّس مصر الحديثة مثل محمد علي إلى باني مصر المعاصرة. لم يلجأ إلى الدين لتبرير السياسة ونزعه من المعارضة؛ فافتقر إلى الرؤية وإلى الشرعية. كلاهما لا يُقرأ. ويكتفي بالتقارير. فقدت مصر الخيال السياسي لتوجيه دفة الحلم في أعتى الأعاصير. وبلغ الضيق مداه، وعمَّ الاحتقان؛ مما ينذر بالانفجار.
(٨) الأيام الأخيرة للنظام٧
كما أن هناك علامات ليوم القيامة، اليقيني منها والظني، هناك علامات أخرى لنهاية أي نظام سياسي. فقد كانت هناك علامات في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات مثل الحركة الوطنية، النكبة الأولى في فلسطين حركة الضباط الأحرار، حريق القاهرة، سقوط الوزارات، الحركة الفدائية في القناة، ضرب الإنجليز لمخفر الشرطة في السويس على أن نهاية نظام قد حانت، النظام البريطاني الملكي الإقطاعي، ونظام آخر جديد قد بدأ، ثورة يوليو ١٩٥٢م. وتم التعبير عن ذلك في عديد من الأفلام حول الأيام الأخيرة ليسوع أو لهتلر أو لنابليون. فهي مفاصل التاريخ والدَّالَّة على حلقاته ودوراته وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
وعن علامات نهاية نظام فردية الحاكم وغروره وتجبره، بل تأليه نفسه، مسميًا نفسه آخر الفراعنة أو زوجته ملكة مصر مثل حتشبسوت ونفرتيتي وكليوباترا وشجرة الدر. لا يستشير أحدًا في قراراته التي يغامر بها في أواخر حياته. ويدعي الاعتماد فيها على الإلهام وهو في طائرة فوق السحاب، قريبًا من الملائكة ورسل الوحي، بل من الله. تأتيه الرُّؤى، الصلح مع العدو المحتل للبلاد على نحو انفرادي وكأن سيناء أغلى من فلسطين والجولان ولبنان. والحقيقة أنه اتفاق عن طريق الوسطاء بأسلوب مسرحي، وأمام أجهزة الإعلام بدعوى الصدمات النفسية مخاطبًا الغرب إذا عزَّ عليه إقناعه بالإلهام السماوي. فالغرب يعلم منذ عصوره الحديثة أن ما يُتخيل في السماء إنما يحدث في الأرض أولًا قبل أن يتخيله الناس في ثقافاتهم الشعبية ومؤسساتهم الدينية. يخاطر بمصائر الشعوب وينفصل عن ماضيها، ويحول ثوابتها إلى متغيرات، ومتغيراتها إلى ثوابت، وكأن السياسات المحلية والدولية أسرار في ذهن الحاكم، وكأن الحكم إرث شخصي، وكأن الوطن ضيعة، وكأن مصير الشعوب للبيع والشراء. لا فرق بين من غامر بالحرب وبين من غامر بالسلام فكلاهما مغامرة بالأوطان. وكلاهما تنفيذ لأوامر السيد الأجنبي، ومظهر من مظاهر التبعية باسم البطولة. وإذا ما وصلت الأشياء إلى الحد الأقصى فالطرفان يلتقيان. لا فرق بين البطولة والخيانة و«الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور متشابهات». والقطعية في السياسة تعصب وتحويل السياسة إلى دين. لا توجد أحكام قاطعة في السياسة خصامًا أو مصالحة، غلق الأبواب أو فتح الأبواب. بل هناك تحليل للمواقف، وحساب للمكسب والخسارة، وترك العلاقات الدولية مفتوحة أمام الأوضاع المتغيرة. فقد ينقلب الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق.
الأحكام القاطعة في السياسة تغلق الباب أمام البدائل والرأي والرأي الآخر. وهي أحد مظاهر التسلط في الرأي، والتعصب لأحادية الطرف، وإلغاء للتعددية السياسية. فالتسلط في الداخل ينعكس على التسلط في الخارج. وهو أيضًا طلب للشهرة والإعلام، والرغبة في الدخول إلى التاريخ ولو من أضيق الأبواب كما يفعل المجرمون ومشاهير اللصوص ومصاصو الدماء. والذاكرة تحتوي كل شيء، الخيانة والبطولة، الإدانة والبراءة، الظالم والمظلوم، الحاكم والمحكوم.
ومن مظاهر التفرد والغرور والتأله احتقار المعارضة في الداخل، وعدم أخذها مأخذ الجد وإن سمح بها كنوع من زينة المجالس، يفخر بها أمام الغرب الذي يفرض مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ويضع برنامجًا لإصلاحه في أول بنوده الديمقراطية. لديه مجالس منتخبة حتى ولو كانت مزيفة. يأخذ الحزب الحاكم بمعظم مقاعدها. وينجح الرئيس بالإجماع بناء على استفتاء عام للموافقة على المرشح الوحيد الأوحد مع أن الوحدانية من صفات الله. فإذا ما أراد إثبات أن المعارضة في الداخل محدودة، ومن ذا الذي يستطيع معارضة فرعون-الإله، فإنه يقبض عليها بالآلاف في ليلة واحدة أو يستبعدها من جهاز الدولة والصحافة والجامعات في مذبحة تذكر في التاريخ. وكما يقضي على المعارضة في الداخل يحتقر المعارضة في الخارج، ويقطع معها، ويعزل القلب عن الأطراف. بل يدخل في حروب وتحالفات مع الأجنبي ضد العربي، فيسفك العربي دم العربي كما يفعل الأجنبي، وكما عَبَّر عن ذلك فيلم «العاصفة». فهو الوحيد العالِم، والآخرون جهلة أراذل. وقد يكون الثمن بضعة مليارات لتخفيف الديون. وأموال الوطن مهربة في الخارج أضعاف الديون.
ومن عظمة التأله لا يكاد الحاكم يرى. ومن كثرة ما أحيط به من رجال البلاط يزينون أعماله ويمدحون صفاته، ويشيدون بمآثره، يغيب الواقع عنه. لا يعلم أن المياه الجوفية قد تجرف البنيان، وأن عرشه على الماء يهتز دون أن يشعر به لأن فرعون لا يموت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ويسخر ممن قبله. ولن يأتي أحد بعده. وليس له نائب لأن الله لا يخلفه أحد، وليس له مساعد إلَّا ابنه إعدادًا له حتى يخلف الفرعون الصغير الفرعون الكبير. والبطانة جاهزة. «مات الملك، يحيا الملك».
والاحتقان في الشارع وصل الذروة والناس بلغ بهم الضيق إلى حدِّ الانفجار. فالغلاء يشتد يومًا وراء يوم. والأسعار ترتفع والدخول على حالها. وكما يفقر الفقراء يغنَى الأغنياء. وكما تشقى الجماهير تنعم القلة. ودعم المواد الغذائية لمحدودي الدخل كاد أن يكون صوريًّا. وانتهى عصر الإسكان الشعبي ولجان تقدير الإيجار. وبُنِيت المدن الجديدة للقادرين، كمستعمرات مغلقة بحراس شداد لحماية الأثرياء الجدد والقطاع الخاص يلتهم كل شيء. والقطاع العام من قبيل الذكريات السيئة والتعليم الوطني أفرغ من مضمونه لصالح التعليم الخاص من أجل السوق. والناس تسخط كل يوم من الصباح إلى المساء. ولا ضير في السخط والتبرم. أما الفعل والتمرد والمظاهرة فلها الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ والاعتقال سنوات وسنوات دون تهمة أو محاكمة. وطوابير الخبز تطول أو تقصر. ولم تَعُد السرقة في المركبات العامة والأسواق، بل بالمضاربة على أسعار الحديد والأسمنت وبتهريب الأموال ونواب القروض، وشركات توظيف الأموال التي تحولت من اللص الصغير إلى اللص الكبير، ومن الجماعات الدينية إلى الدولة العصيَّة. فساد في الداخل وتبعية في الخارج، وبطالة وفقر، وضياع ويأس. فيهاجر غير القادرين إلى الداخل، المخدرات، والدين، والجنس، ويهاجر القادرون إلى الخارج. وتطول الطوابير أمام سفارات الدول العربية والأجنبية سعيًا للخروج إلى أرض الميعاد.
وكلما ازداد هاجس الأمن ازدادت العزلة والتفرُّد والتألُّه. وكلما طالت القامة ضعفت الأرجل ولم يَعُد للأرض ولا للناس أي دور. فيصعد فرعون إلى السماء بعد أن تطرده الأرض. فالأرض تدفع من أدنى إلى أعلى كما يفعل النبات والنار. وقد يحدث زلزال في الأرض فيهوي فرعون، من حيث لا يحتسب، كما تأخذ الأرض زخرفها وتتزين وتظن أن أمر الله لن يأتيها، وكما تجبَّر فرعون وقال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. والناس تنتظر الخلاص دون مخلص حتى لا يتكرر التأله. إنما تنتظره على أيديها حتى تسترد مصيرها، وتدافع عن أوطانها، وتستعيد كرامتها، وتثق بنفسها. فقد سئمت التأله. وكما يفعل الشهيد الذي فقد وطنه وأهله وقريته وصباه وتاريخه، والمستقبل أمامه معتم كذلك تفعل الشعوب في هَبَّاتها. فتغيير الوضع القائم أفضل من الاستمرار فيه أو القيام بمغامرة غير محسوبة العواقب. فالمجهول أفضل من المعلوم. والعهد الآتي خير من العهد الماضي. وإيقاف الحاكم الحاضر لن يمنع الشعوب من التمرد نحو المستقبل.
(٩) هل يأتي سبتمبر آخر؟٨
بعد ربع قرن تمامًا قد يعيد التاريخ نفسه من جديد من سبتمبر ١٩٨١م إلى سبتمبر القادم هذا العام أو العام القادم فتكتمل الدورة. وكما انتهت الجمهورية الثانية بعد شهر سبتمبر ١٩٨١م بشهر واحد، فقد تنتهي الجمهورية الثالثة حول سبتمبر القادم أو الذي يليه. ونظرًا إلى أن الظروف واحدة في الحالتين فقد تكون النتائج واحدة بالرغم من تشكك البعض لاختلاف الظروف، أو لأن حوادث التاريخ فردية لا تتكرر.
فالصلح المنفرد مع إسرائيل ما زال قائمًا، بل زاد بانضمام الأردن وموريتانيا وفتح مكاتب الاتصال أو المكاتب التجارية من المحيط إلى الخليج، وتفرد إسرائيل بالانتفاضتين الأولى والثانية بالاحتلال والتصفيات الجسدية لقادة المقاومة ونشطائها وهدم المنازل وتجريف الأراضي، ورفض الاعتراف بالحكومة الفلسطينية التي أتت باختيار شعبي حرٍّ وحصارها وتجويع شعب فلسطين، والمرتب في مقابل الوطن في فلسطين، كما أن الغذاء في مقابل النفط في العراق. وانتهت أحلام الحكم الذاتي وخارطة الطريق والدولة الفلسطينية المستقلة لعدم وجود طرف مفاوض فلسطيني أو عربي.
والاعتماد شبه الكلي على الولايات المتحدة الأمريكية ما زال قائمًا. فهي القوة الوحيدة التي تملك مفاتيح الحرب والسلام. بيدها ٩٩٫٩٪ من أوراق اللعبة وهي القوة المحافظة على الأمن والسلام في العراق وإلا اقتتلت طوائفه وأعراقه وتفتت وتشرذم وانقسم إلى دويلات. وهي التي تتوسط في محادثات أبوجا لحل مشكلة دارفور كما حُلَّت من قبل مشكلة الجنوب. وهي التي تملي شروطها على سوريا ولبنان واستعمال المنظمات الدولية لفرض القرارات الدولية عليها. وتهدد إيران بالحصار وبالهجوم المسلح. وتجبر ليبيا على التحول عن سياساتها لتتبع باقي النظم العربية في سياساتها الموالية لها، ودخول الجميع بيت الطاعة.
في سبتمبر الأول ازدادت القوانين سيئة السمعة المقيدة للحريات العامة مثل قانون الاشتباه، وقانون العيب، وقانون المحافظة على الوحدة الوطنية. واستمرت هذه القوانين في الجمهورية الثالثة بالإضافة إلى قانون الطوارئ وقانون مكافحة الإرهاب الجديد المزمع إصداره. وظلت قضية الديمقراطية والحرية السياسية هي حجر العثرة في الجمهوريات الثلاث التي تعاقبت على مصر في نصف قرن.
واستمر الانفتاح الاقتصادي منذ قوانين الاستثمار حتى انتهى إلى بيع القطاع العام كله بأبخس الأثمان، وغلبة القطاع الخاص، وزيادة سطوة رأس المال الخاص والمحلي والإقليمي والدولي. في سبتمبر الأول باسم التحرر الاقتصادي، وفي سبتمبر الثاني باسم العولمة والسوق العالمية، وحرية الاستيراد والتصدير، وقوانين السوق الربح والمنافسة. وقوى رجال الأعمال واحتكار تجارة الحديد والأسمنت والنقل البحري والاتصالات. وتكونت حكومات رجال الأعمال التي تبيع الوطن من أجل الربح. وتنسى حقوق الفقراء في ثروة الأغنياء. ونظرًا إلى تبني الرأسمالية دون قيمها مثل حرية المنافسة والضرائب التصاعدية فقد انتشر الفساد، وذاعت العمولات، وخرقت القوانين، وتعددت الشلل وجماعات الضغط. وارتبطت المصالح الاقتصادية بالنفوذ السياسي. فجمعت طبقة رجال الأعمال بين السلطة والثروة في الحزب الحاكم وفي المؤسسات التشريعية والإعلامية وأجهزة الدولة التنفيذية.
حدث سبتمبر الأول بعد أن عارض رئيس الجمهورية الثانية كل فئات الشعب وقواه السياسية. وتصور أن الكل عَدوه: الإسلاميين، والناصريين، والليبراليين والماركسيين. هم «الأراذل» من الطبقة المتوسطة الذين يتاجرون بمآسي الشعب، ولا يستطيعون الاستغناء عن الماء الدافئ. أراد أن يُثبت أن شعبه معه بعد أن أخبره بيجين ضيفه في مصر بأن الناس في مصر غير راضين عن اتفاقية كامب ديفيد في ١٩٧٨م ولا على معاهدة السلام في ١٩٧٩م فأراد أن يُثبت له أن شعبه معه، وأن المعارضة لا تتجاوز الآلاف من العهد البائد، وأنه قادر على وضعهم في السجون. فلما فعل اعتقل مصر كلها. ثم وقع حادث المنصة بعدها بشهر. «ومين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟»
ومن كثرة التسبيح بحمده، والإشادة بذكره، وبيان محامده، وترويج الإعلام لقراراته الحكيمة في الحرب والسلم يعتز الحاكم بنفسه إلى درجة الغرور. فلا يستمع لأحد. ولا يقبل النصح. ولا يتحمل النقد، ويتأله. ويدعي الإلهام والعون من السماء، وأنه آخر فراعنة مصر. وفي سبتمبر الثاني يتوحد الرئيس مع نفسه من طول بقائه في الحكم. ويفقد الصلة بنبض الشارع. ولا يستمع إلى النقد حتى ولو كان عالي النبرة. يستعمله كدليل لإثبات الديمقراطية كما يتطلب الخارج وليس كضرورة لإصلاح الحكم في الداخل. يعيش وحيدًا حتى ولو كان بين الأقران. لا يتصور أن هناك بديلًا له أو عن سياساته. فلا يوجد أحد من الثمانين مليونًا يختاره نائبًا. وأمريكا قدر لا يمكن الفكاك منه. وحرب أكتوبر آخر الحروب. ومصر تدافع عن سيادتها الوطنية، ومجرد وسيط بين متنازعين في فلسطين، والسلام خيار استراتيجي، والعراق مُهدَّد بالتقسيم مما يبرر وجود قوات التحالف واستمرار الاحتلال حماية لوحدة العراق. ولا شأن لها بما يحدث في السودان، الأمن القومي لمصر في الجنوب بالنسبة إلى مياه النيل، ولا بما يجري في الشام، الأمن القومي لمصر في الشمال مصدر الغزوات الدائم لمصر منذ الهكسوس قديمًا حتى إسرائيل حديثًا. وقد كانت سيناء باستمرار المدخل الشرقي لمصر.
وكما نشأت في سبتمبر الأول سياسات بديلة عن السياسات القائمة في رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني ورفض التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، ورفض القطيعة مع الوطن العربي، ورفض القوانين المقيدة للحريات، وهو الحد الأدنى من الوفاق الوطني الذي التفَّت حوله كل القوى السياسية، الإسلامية والناصرية والليبرالية والماركسية، تنشأ الآن جبهة وطنية تجتمع على الحد الأدنى من وفاق وطني جديد ممثلًا في حركة «كفاية» وباقي الحركات الوطنية التلقائية التي نشأت في السنوات الأخيرة مع النقابات المهنية والجمعيات الأهلية وتنظيمات المجتمع المدني، تقدم سياسات بديلة عمَّا هو قائم، رفض التبعية للولايات المتحدة، وتأييد المقاومة الفلسطينية والعراقية والأفغانية والشيشانية، ورفض قوانين الطوارئ وتزوير الانتخابات، وسيطرة الحزب الحاكم. وهو برنامج للإنقاذ الوطني يمثله نادي القضاة بصرف النظر عن تَعدُّد الأُطُر النظرية للقوى السياسية.
وفي كلتا الحالتين يتم الاستقواء بالخارج على الداخل. فالنظام القائم منذ ربع قرن وحتى الآن هو الوحيد الضامن ضد التغلغل الشيوعي أولًا وضد الإرهاب الإسلامي ثانيًا. فإذا سقط عمَّت الفوضى، ولم يَعُد أحد بقادر على رعاية مصالح الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. وفي الوقت ذاته الذي يرفع فيه الغرب شعار التحول الديمقراطي، فإنه يؤيد أعتى النظم ديكتاتورية. ويرفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات الديمقراطية في فلسطين. إذا سقطت الأنظمة الموالية للغرب أتى الإسلاميون أو الناصريون. وكلاهما مُعادٍ للغرب ومصالحه.
في سبتمبر الأول كانت الحُجَّة النزاعات الطائفية في الزاوية الحمراء. واتُّهِمَت المُعارَضة بكل فصائلها بأنها المسئولة عنها. وفي سبتمبر الثاني النزاعات الطائفية في الكُشْح أولًا، وفي الإسكندرية ثانيًا تهدد أمن النظام. وكانت الجماعات الإسلامية في سبتمبر الأول مصدر الإرهاب منذ حوادث الاستيلاء على الفنية العسكرية ومقتل الشيخ الذهبي والاستيلاء على محافظة أسيوط حتى حادث المنصة وجماعة الجهاد. وفي سبتمبر الثاني هناك حوادث طابا، وشرم الشيخ، ودهب، بعد ميدان عبد المنعم رياض، والسيدة عائشة، والموسكي.
وفي كلتا الحالتين كانت السيدة الأولى محط الأنظار. تُسمي نفسها ملكة مصر، مما اضطر أحد القادة السياسيين إلى الكتابة عن «الوضع القانوني لحرم الرئيس». وما زال التقليد سائدًا، دور السيدة الأولى في تدعيم مؤسَّسات المجتمع المدني، والمرأة، والطفولة، ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، ومكتبات الأطفال، والقراءة للجميع.
ومما يسرع بسبتمبر الثاني أن النظام الحالي دام حوالي ربع قرن، في حين أن سبتمبر الأول أتى بعد عشر سنوات. كما أن النظام الحالي مشغول بالتوريث والخلافة والملك، في حين أن النظام السابق كان يتصور أنه باقٍ إلى الأبد ما دام الرئيس بين أولاده. كما استعمل النظام السابق «ترزية» القوانين، في حين يصطدم النظام الحالي بالقضاة وهم الحكم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما حاول النظام السابق استمداد شرعيته من الدين، وتأسيس مجتمع العلم والإيمان، وأن من لا دين له لا أمان له، وأن الرئيس هو خامس الخلفاء الراشدين. في حين أن النظام الحالي لا يستند في شرعيته على شيء لا ثورة ٢٣ يوليو منذ نصف قرن؛ فقد قدم العهد وتغيرت الظروف، ولا من حرب أكتوبر منذ أكثر من ثلاثة عقود. ففلسطين وسوريا ولبنان ما زالت محتلة. غاب الخيال السياسي، وتوقف القلب، وشلَّت الأطراف، وأصبح السير في المكان بلا اتجاه. يكفي تجميع السلطة والثروة في يد واحدة، الحزب الحاكم أو طبقة رجال الأعمال أو الرئيس أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.