سؤال مصر
(١) مَن الذي قتل سفير مصر؟١
يُفرِّق الفلاسفة شَرقِيِّين وغَرْبِيِّين عند وقوع أي حدَث بين أنواع من العِلل أهمها العلة الفاعلة والعلة الغائِيَّة. ويتساءلون أيهما أكثر تأثيرًا في وقوع الحدث؟ فمَن الذي قتل سفير مصر، مختطفوه وهم العلة الفاعلة، أم سياسة مصر وهي العلة الغائية؛ أي السبب الذي من أَجْلِه اُغْتِيل سفير مصر؟
ويفصل فلاسفة آخرون العلة الفاعلة ويجعلونها على أنواع: الأداة، السلاح الأبيض أو السلاح الناري أو اليد التي تُمسك به أو الشخص القابض بيده على السلاح. ويضيف آخرون، والضحية نفسها، عدم قدرتها على الهرب أو عدم نجاحها في المُقاوَمة. ومع ذلك يتفق الجميع على أن العلة الفاعلة الحقيقية هي الهدف من الفعل والغاية من ارتكابه.
وقد تكوَّن إجماع الأمة الآن بعد طول تردُّد، وبعد النجاحات التي حققتها على أن ما يحدث في العراق الآن مقاوَمة مشروعة للاحتلال يقوم به الجيش العراقي الذي حافظ على نفسه بأسلحته وعتاده يوم احتلال بغداد في أبريل ٢٠٠٣م، بعد شهر من المقاومة، بعد أن تحول من جيشٍ إلى شعبٍ، ومن عسكريين إلى مدنيين. فالجيش جيش الشعب. وانضم إليهم البعثيون والإسلاميون واليساريون والليبراليون الوطنيون. فالأرض أرض العرب والمسلمين. ولا فرق بين أن يكونوا من الداخل أو من الخارج من العراق أو سوريا أو لبنان أو إيران. فالمعركة واحدة. وأرض العروبة واحدة. والشعب العربي واحد، بل إن قوات الاحتلال بعد أن غاصت في مُستنقَع العراق وتكبدت الخسائر في الأرواح والعتاد، بدأت تُفاوِض المقاومة المسلحة مباشرة في الميدان، أو عن طريق الحكومة التي تَشكَّلَت تحت الاحتلال، أو عن طريق تنظيمات جديدة تنشأ بوازع من الاحتلال وكأنها مستقلة، وتنادي بضرورة الوصول إلى كلمة سواء؛ حتى تغطي انسحاب قوات الاحتلال وكأنه كان رضوخًا لإرادة شعب العراق، ووقفًا لإراقة الدماء، وحماية لشعب العراق. وأصبحت المقاومة تَشتدُّ يومًا وراء يوم. وتكسب شرعية جديدة ممن كانوا يتردَّدُون في الاعتراف بها، وبعد أن انتقَلت من الدفاع إلى الهجوم، وتحوَّلت قوات الاحتلال من هجوم إلى دفاع، وبعد أن قامت ببطولات نالت احترام الجميع في الداخل والخارج.
مَن قَتل سفير مصر هي سياسة مصر الخارجية تجاه العراق وفلسطين خاصة، ومُجْمَل القضايا العربية والإسلامية. فقد آثَرَت مصر الانكماش على نفسها بدعوى استهلاك مواردها على أكثر من نصف قرن على الأمن القومي في مصر في الشام، حدود مصر الشرقية المفتوحة، والتي كانت تأتي منها الغزوات وكان زَرْع الكيان الصهيوني لفصل مصر عن الشام، وبَتْر الوطن العربي قسمين، قسمًا في آسيا، وقسمًا في أفريقيا.
وأخطر من الانكماش هو تحالُف مصر مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فقد أعطَت سياسة مصر للعدوان على العراق في مؤتمر القاهرة في ١٩٩٠م الشرعية للغزو الأول لأمريكا للعراق في يناير ١٩٩١م بفارق صوت واحد، وتخلَّت عن دورها في الوساطة والمُصالَحة بين العراق والكويت؛ من أَجْل انسحاب العراق من الكويت بإرادة العرب وليس بالغزو الخارجي.
ومن مَظاهر هذا التحالف، الاعتراف بحكومة العراق التي تكوَّنت تحت الاحتلال، وإرسال سفير لمصر هناك. بل تَزعَّمَت مصر الدعوة إلى استئناف التمثيل الدبلوماسي بين الأقطار العربية والحكومة التي تَكوَّنَت تحت الاحتلال بدعوى مساندة شعب العراق والعمل لصالحه. وتُثار تساؤلات في الشارع المصري حول الضغوط الأمريكية على مصر للقيام بذلك؛ حتى لا تسقط حكومة العراق وينكشف للعالَم أن كل الانتخابات التي تمَّت في العراق تحت الاحتلال والتي قاطعها قسمٌ كبيرٌ من الشعب العراقي كانت غير شرعية وأن الحكومة لا تُمثِّل شعب العراق، ولو فعلَت مصر، الشقيقة الكبرى ذلك لتبعها العرب طبقًا للتَّصوُّر الشائع.
يضاف إلى ذلك سوء الاختيار، وتردُّد السفير الضحية في القبول. فقد أمضى من قبل عدة سنوات في البعثة الدبلوماسية المصرية في إسرائيل، وفلسطين تحت الاحتلال. وها هو ينتقل إلى العراق، أيضًا تحت الاحتلال. وقد تم التعيين مواكبًا لصفقة الغاز المصرية إلى إسرائيل بالمليارات على عدة سنوات قادمة. يضاف إلى ذلك اضطهاد جماعات المعارَضة في مصر، واعتقال أعضاء الإخوان المصريين، قادة وشبابًا طبقًا لقانون الطوارئ. المسئول هو سياسة مصر الخارجية التي وضعت سفراءها في الخارج في موضع الخطر، وسياسة مصر الداخلية التي اضطهدت الحركة الإسلامية.
المقاوَمة العراقية هي مُجرَّد أداة التنفيذ وليس سببه، بل السبب سياسة مصر الخارجية، العربية والإقليمية والدولية. لذلك جاء في بيان الخاطفين: «مصر دولة الطاغوت التي والت النصارى واليهود.» وكما تُقَرِّر كُتُب الفقه القديم. والسُّرعة التي تم بها الاختطاف والقتل تُبيِّن أن الأمر يتعلَّق بالمبادئ والمواقف العامة من مصر وسياساتها العربية. ولم يكن هناك مجال للحوار ولا المساومة ولا الوصول إلى وعود. وأصبح السفير ضحية المطرقة والسندان، مطرقة المقاومة، وسندان سياسة مصر العربية وموقفها من حكومة العراق تحت الاحتلال، وحكومة إسرائيل المحتلة لأراضي فلسطين.
وقد نجحت سياسة المقاومة في سحب القائم بأعمال البحرين بعد أن تَمَّت محاولة الاغتيال، وانتقال سفير باكستان إلى عمان، وتقليل عدد أعضاء البعثة الدبلوماسية المصرية في العراق. وقد نجحت المقاوَمة من قبل، بعد تفجير قطارات مدريد في إسقاط الحكومة اليمينية الإسبانية المتحالفة مع الولايات المتحدة وانتخاب الشعب الإسباني حكومة اشتراكية سحبت القوات الإسبانية من العراق. كما نجحت تفجيرات قطارات لندن بإعلان رئيس الوزراء البريطاني بِنِيَّة بريطانيا سحب قواها في ظرف عام. بل جاءت التقارير أيضًا لخوف أمريكا أن يُصيبها ما أصابها من قبل أن تبدأ أمريكا سحب معظم قواتها في ظرف عام؛ حتى لا تظل وحيدة تغرق في مُستنقَع العراق. وتهيج ذكريات فيتنام وانتصار شعب من شعوب العالم الثالث على أكبر قوة في العالم. فالتاريخ يُعيد نفسه. وأمريكا لا تتعلم من التاريخ لأنها لا تاريخ لها.
إن مؤازَرة العرب للمُقاوَمة في العراق وفلسطين، بل في أفغانستان والشيشان يومًا بعد يوم، وتحمل مناظر الدماء التي تسيل من أجل استقلال العراق، سواء من قوات الاحتلال أو من الشرطة المتعاونة معها يحاصر سياسة العرب الخارجية تجاه العراق؛ خوفًا من أن تنتقل إليهم المقاوَمة بعد استقلال العراق، كما انتقلت إليهم بعد طرد القوات السوفيتية من أفغانستان وعودة العرب الأفغان إلى أوطانهم. ويفخر العرب بدور سوريا ولبنان وإيران في حرب تحرير العراق.
إن تيار العداوة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل يشتد يومًا بعد يوم في الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل داخل الولايات المتحدة ذاتها. وانتخاب رئيس جمهورية إيران دليل على ذلك. فالناس سئمت استجداء الكرامة والتَّذلُّل للقوي ليرحمها. فلا يَفِلُّ الحديدَ إلا الحديد ولا يقاوم المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة إلَّا المحافظة القديمة في العالم الإسلامي؛ حماية لإيران وسوريا ولبنان.
إن شهادة سفير مصر هي نتيجة لسياساتها. ولا يعوض عن ذلك تعزية عامة أو خاصة، مرة أو مرتين، ورعاية أسرة الشهيد. فلا شيء يعوض الرجال إلا الاتعاظ بهم وحمايتهم من رعونة الحُكَّام.
قد يكون الأمر معادًا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين.
(٢) مَن الذي فَجَّر شرم الشيخ؟٢
عادة ما تبحث أجهزة الأمن والإعلام عن الفاعلين لحوادث العنف، والحكم قد صدر من قبل بأنهم مجرمون ضالون مخربون. ينتمون لمنظمات إرهابية عالمية كالقاعدة، قادمون من أفغانستان أو باكستان أو من ممثليها في بعض العواصم الأوروبية. وقد انتشرت قوات الأمن في كل مكان أكثر مما كانت. ودخلت في معارك مسلحة مع الهاربين في كهوف الجبال ومغاراتها في سيناء.
ويُقال أيضًا إن ما يحدث من حوادث عُنْف إنما هي سلسلة من الإرهاب العالمي لا فرق بين تفجيرات قطارات مدريد أو لندن أو واشنطن ونيويورك قبلها، أو شرم الشيخ بعدها. فهي حلقات من مسلسل واحد هو الإرهاب، وحَلُّه في إقامة مؤتمر دولي للإرهاب لتعريفه واقتراح الوسائل للقضاء عليه بالرغم من تنوع الأسباب والمصادر. سيطرة أمريكا على العالَم وإيثارها القوة على العدل وظُلْم المسلمين وراء حوادث واشنطن ونيويورك، واشتراك إسبانيا وبريطانيا في قوات العدوان الأمريكي على العراق وراء حوادث قطارات مدريد ولندن، وسياسات النظام في مصر وراء تفجيرات شرم الشيخ فالعلة الفاعلة ليست فقط الأداة، هذه المجموعة أو تلك من جماعات المعارَضة السرية، ولا حتى العلة الغائية أي السبب الذي من أجله وقعت حوادث العنف. بل السبب هو صورة الجَلَّاد في ذهن الضحية، صورة الظالم في ذهن المظلوم. فالحرب هي أيضًا بين الصور الذهنية المتبادلة بين الطرفين المتحاربين. لذلك كان الإعلام وتشويه الصور المتبادَلة عند الفريقين المتصارعين أحد أسلحة القتال، وهو ما يُسمى «التوجيه المعنوي».
ولا تنفع الحُجَج الخطابية والنداءات الإنسانية لمواجهة ظواهر العنف مثل النيل من أرزاق الناس. فمعظم ضحايا العنف من بسطاء العمال الذين تَغرَّبوا وتركوا مُدنهم وقُراهم من أجل لقمة العيش. والكرامة قبل الأرزاق، والكل قبل الأجزاء. صحيح أن قتل الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ لا يجوز شرعًا. وفي رأي آخر المتعاونون مع نُظم القهر والطغيان يستحقون ما يستحقون مثل المتعاونين من الشرطة والجيش في العراق مع قوات الاحتلال. ويستنكر تدمير الدخل القومي، والسياحة في مقدمتها، وشرم الشيخ درة السياحة المصرية والإضرار بمصالح البلاد القومية. وتريد جماعات العنف إثبات أن القوة الحقيقية هي قوة جماعات العنف المُطارَدة من أجهزة الأمن.
ونظرًا إلى معرفة النظام السياسي أن وسائله الأمنية عاجزة عن مقاومة ظواهر العنف المسلح والقضاء على أسبابه، فإنه لجأ إلى تنظيم تظاهرات شعبية من أهالي شرم الشيخ مع بعض السياح أمام أجهزة الإعلام؛ لبيان اشتراك الشعب مع الشرطة، والناس مع الدولة لحصار جماعات العنف، وبيان أنها دوائر منعزلة عن الشعب، وان الشعب مثل الشرطة والجيش ضدها. بل تَمَّت الدعوة إلى عقد مؤتمر قمة عربي طارئ لمواجهة ظاهرة الإرهاب. والعنف عام في السودان والسعودية واليمن والجزائر. ولم تدعُ هذه الدول إلى عقد مؤتمر قمة عربي طارئ. ولأجل إضفاء مزيد من الحجج يضاف إلى جدول أعمال فلسطين والعراق من أَجْل الموافقة على بيان ختامي أُعِدَّ سلفًا قبل عقد المؤتمر، يُكرر ما تم إصداره عشرات المرات من قبل. ولولا ظروف أخرى طارئة لانعقدت القمة الطارئة ولا جديد فيها ولا حاجة إليها منذ القمة العادية في مارس الماضي حتى القمة العربية في مارس المقبل. والهدف عودة شرم الشيخ إلى الصدارة في أجهزة الإعلام العربية والعالمية؛ حتى تنشط السياحة من جديد، وتخف الأضرار على هذا الموسم السياحي بعد إلغاء بعض الحجوزات للأفواج السياحية الغربية.
والحقيقة أن التعامل الأمني الإعلامي مع ظواهر العنف يعيبه قصر النظر، ورفض البحث عن الأسباب الفعلية لها؛ أي الدوافع التي تدفع جماعات الغضب للانفجار بين الحين والآخر؛ فتتصدَّر الإعلام وهي محرومة منه، ووجودها فيه لأنها جماعات وجودها نفسه محظور. فلا يوجد نظام أمني لا يمكن اختراقه. ولا يوجد إعلام حكومي إلَّا وله إعلام مضاد، ومنه العنف كوسيلة إعلامية للظهور على الصفحات الأولى من جماعات محظورة في الوجود والتعبير والإعلان.
والحقيقة أن الدافع الأول إلى ظواهر العنف هي صورة النظام السياسي في ذهن خصومه السياسيين في الداخل والخارج، في العلن أو في السر، فوق الأرض أو تحتها، الشرعي منها وغير الشرعي وهي الصورة التي تدفع إلى الاحترام أو الغضب، إلى القبول أو الرفض، إلى المسالَمة أو إلى الحرب. فإذا كان النظام السياسي مُجرَّحًا يكون عرضة للعنف السياسي. إذا ما قهر جماعات المعارَضة في الداخل، اضطرها إما إلى النزول تحت الأرض في الداخل، وإما الهروب إلى الخارج حيث يتمتع كل مواطن أو جماعة بحرية التعبير وشرعية الوجود. وتحت الأرض تقوى شبكة التنظيم السري في خلايا نائمة تنشط على غير توقُّع في السيدة عائشة، أو الأزهر، أو ميدان الفريق عبد المنعم رياض. وفي الخارج تقوى شبكات التنظيم العالمية لجماعات العنف السياسي لسهولة وسائل الاتصال الحديثة.
ويكون النظام السياسي مُجرَّحًا مُعرَّضًا للعنف السياسي، إذا كان قد مارس القهر في الداخل والتبعية للخارج. إذ تطول مدة الحكم، وتتجدد فترة الرئاسة إلى ما لا نهاية، وتبدأ محاولات التوريث، وتتحكم «شلة» واحدة باسم النظام الحاكم في مقدَّرات البلاد. تجمع بين السلطة والثروة. ويعم الفساد في غياب أجهزة الرقابة الإدارية، وأمام ضعف قوى المعارضة. ويضاف إلى القهر في الداخل التبعية للخارج، لأمريكا وإسرائيل، بالصمت على العدوان على العراق، بل الدخول في قوات التحالف ضده بدعوى تحرير الكويت عام١٩٩١م، وتأييد الحكومات التي تَكوَّنت تحت الاحتلال، والاعتراف بها، والدعوة إليها. كما يتم قبول مشاريعها مثل الشرق الأوسط الكبير أو المتوسطية أو العولمة التي تقودها بدعوى السلام والتنمية والنشاط الاقتصادي العالمي الواحد، الاقتصاد المفتوح القائم على المنافسة وقوانين السوق.
ويكون مجرحًا مرة ثانية بالاعتراف بالعدو الصهيوني، وعَقْد معاهدات السلام معه، وفلسطين ما زالت محتلة، والمقاومة الفلسطينية تذبح كل يوم منذ الانتفاضة الأولى حتى الانتفاضة الثانية. وقد دخلت مصر أربعة حروب من أجل فلسطين. وقامت ثورتها في ١٩٥٢م من أجل فلسطين. وفلسطين هي المدخل الشرقي لمصر، وأمنها جزء من أمن مصر القومي في الشام في الشمال مثل أمنها في السودان في الجنوب.
ومن ثم تحقق جماعات العنف السياسي هدفين، الأول إثبات ضعف النظام وعجزه عن الدفاع عن أمن المواطنين في الداخل، وأن جماعات العنف هي التي تتحكم في الشارع؛ بقدرتها على تجنيد أفراد الجماعات وأعضاء الخلايا. وفي الوقت ذاته تُضعِف النظام اقتصاديًّا بضربه في مقتل وهي السياحة أو الشركات الأجنبية.
السبب غير المنظور للعنف، إذن، هي صورة النظام السياسي في ذهن جماعات الغضب وعدم احترام الدولة لنفسها أمام مواطنيها لما يرونه من مظاهر القهر والفساد في الداخل والتبعية والموالاة في الخارج. جعلت الدولة نفسها مُعرَّضة للعنف ضدها؛ لأنها جرحت نفسها بنفسها، وعرَّت صدرها للمعارضة الشرعية في الداخل بالكشف عن مظاهر التسلط والقهر والفساد أو المعارَضة السرية في الداخل والخارج التي مهمتها إطلاق الرصاص على من جعل صدره عاريًا، ونفسه مجرحًا. ولماذا لا يتم العنف في ماليزيا ويتم في إندونيسيا والفلبين وكشمير وسيريلانكا؟
لقد استطاعت ماليزيا أن تُعطي نموذجًا للحكم الرشيد، بناء الدولة اقتصاديًّا مع استقلال الإرادة الوطنية؛ حتى أصبحت ثاني أكبر معدل للتنمية في العالم بعد الصين. وترك رئيس وزرائها الحكم وهو في قمة السلطة والثروة للبلاد؛ كي يعطي المَثل على تداوُل السُّلطة. في حين تَعثَّر النظام السياسي في إندونيسيا والفلبين وسيريلانكا لغياب الحوار الوطني الداخلي بين الفرقاء والجماعات السياسية المتعددة.
إن التيار الإسلامي من أقوى فِرَق المعارضة في الوطن العربي والعالم الإسلامي في الداخل والخارج. وهو قادر على تجنيد الجماهير وحشد المظاهرات بالآلاف، بل بالملايين والنزول إلى الشارع والوقوف في وجه الطغاة في الداخل والعتاة في الخارج ضد العدوان على حقوق الشعوب في حكم نفسها بنفسها، وضد العدوان عليها من قوى الهيمنة الخارجية كما حدث في العراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. وتستند إلى رصيدٍ ضخمٍ، وبُعد تاريخي طويل في تراث المعارَضة، وضرورة الخروج على الحاكم الظالم بعد استنفاد الوسائل السلمية؛ مثل النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واللجوء إلى القضاء. وتكشف كثير من أقوال جماعات العنف عن هذا التراث السَّلفي القديم، الشيعي والسُّنِّي على حدٍّ سواء مثل «قرب الأشرار وأبعد الأخيار» في حيثيات اغتيال رئيس الجمهورية الثانية في مصر، «دولة الطاغوت التي والت النصارى واليهود» في حيثيات تفجير شرم الشيخ «دولة الكفر» لتبرير تفجير قطارات مدريد ولندن. وهو تراث شائع في المعاهد والجامعات الدينية وعلى المنابر منذ غزوات الصليبيين والتتار والمغول والاستعمار الحديث، والهجمة الاستعمارية الحالية تسترجعه ذاكرة التاريخ. ولا ينفع في الإيقاف من أثره طرد الطلاب الأجانب من المدارس الدينية في باكستان، أو اختيار تراث آخَر يُعبِّر عن السِّلْم والتسامح والأخوة؛ لأن ظروف الأمة وأوضاعها الحالية تجد في تراث الخروج على الحاكم الظالم أفضل تعبير عنها.
إن العنف السياسي ظاهرة مُعقَّدة تحتاج إلى البحث في جذورها بصراحة وصدق بعيدًا عن الإعلام الرسمي والنظام السياسي الأمني. فدماء الأبرياء أمانة في عنق فقهاء الأمة، وليس فقط فقهاء السلطان.
(٣) بِمَ تنشغل مصر هذه الأيام؟٣
من مآسي الزمن وحسرة الشعوب ومن علامات الانهيار في النظام السياسي، ومن العلامات الفارقة في المسار التاريخي، أن تنشغل مصر، هذه الدولة المركزية في محيطها الإقليمي وموازين القوى الدولية، بما هو أقل من قامتها وما يدور في هامشها بعد أن ابتعدَت هي عن القيام بدورها المركزي، وهمَّشت نفسها فلم يَعُد لها إلا الموضوعات الهامشية لتشغل نفسها بها، وتصبح بؤرة حياتها السياسية.
انشغلَت مصر أخيرًا بالأحداث الطائفية في الإسكندرية. كما انشغلت قبلها بالأقباط المتحولين من المسيحية إلى الإسلام؛ بسبب الاقتناع أو بسبب الحب، حب قبطية لمسلم أو لطلاق الأقباط أو حرمان الكنيسة لبعض الكهنة لاتهامهم بسوء الخُلق، وتصوير ذلك في الإعلام؛ بحيث تضاعف سعر الجريدة عشرات المرات. ولا تدرك مصر ما يُخطَّط لها من نزاعات طائفية كما يحدث في لبنان والعراق والخليج، ضمن مُخطَّط التَّفتِيت المستمر للوطن العربي منذ انتهاء الخلافة التي كانت توحِّد المسلمين، ولحساب القومية العربية عام ١٩٢٦م، ثم انتهاء القومية العربية التي كانت تُوحِّد العرب لحساب الدولة القُطْرِية بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، ثم انتهاء الدولة القُطْرِية بعد غزو العراق الأول عام ١٩٩١م بدعوى تحرير الكويت، واحتلاله الثاني عام ٢٠٠٣م بدعوى القضاء على أسلحة الدمار الشامل، وتدويل قضية الوحدة الوطنية في السودان والصراع بين الشمال والجنوب، والشمال والغرب في دارفور وإدخاله في أتون النزعات العرقية والطائفية. فتقسيم مصر أيضًا في الطريق.
وتنشغل مصر الآن بالبهائية، وحكم قاضي الإسكندرية بأنها دِينٌ مُستقِل يُكْتَب في البطاقة الشخصية مع الإسلام والمسيحية واليهودية. وهي نِحْلة صوفية إشراقية تَدَّعِي أنَّ مؤسِّسها بهاء الله أتاه الوحي من السماء بالإخاء بين البشر، ونهاية العداوة بين الأديان. فالدين واحد وهو دين الروح والمحبة. فلا صراع بين الأقوام والطوائف والشعوب. مَعبَدُها الرئيس في حيفا. وهناك ضغوط دولية للاعتراف بها كدين؛ احترامًا لحقوق الإنسان. وبالرغم من نقد سوء تأويلها للدين عامة، وللإسلام خاصة من مجموع علماء الأمة مثل القاديانية، إلا أنها تعود من جديد إلى الواجهة فيما يُخطَّط للوطن العربي من فسيفساء لدويلات عرقية وطائفية وشغلها بالنِّحَل والمِلَل؛ حتى تبتعد عن الأوطان وما يحيط بها من أخطار في الداخل، الفساد والتسلط، وفي الخارج، التبعية والهيمنة.
وتعود مصر للانشغال بالتحليل والتحريم، هل الفن حرام؟ فما زالَت قضية التحريم هي السائدة. بل يُحرِّمه بعض أساتذة الفنون المنشغلون به لضرورات المهنة. فالنص له الأولوية على الواقع، والماضي يسبق الحاضر، وإيمان العوام يجب فن الخواص، بل ينشغل مفتي الديار المصرية، وهو أرفع منصب في الاجتهاد للتحديث والتجديد فيما تَعم به البلوى ويفيد الناس، بتحريم التماثيل كما فَعلَت الطالبان في أفغانستان عندما أطلقت المدافع على تماثيل بوذا في بوبيان. وهو الموقف الرسمي للمؤسَّسات الدينية المحافِظة. والأعمال بالنيات. كان التحريم قديمًا لشبهة وثنية فقد كان الإسلام قريب العهد بها. أما اليوم فقد انتفَت الشُّبهة. ولم يَعُد أحد يعبد الآن تمثال سعد زغلول أمام كوبري قصر النيل، أو تمثال طلعت حرب في الميدان باسمه، أو تمثال إبراهيم باشا في ميدان الأوبرا، أو تمثال مصطفى كامل في الميدان الذي يحمل اسمه، فإذا انتفت الشبهة انتفى الحكم.
كما تنشغل بالعنف في سيناء وبجماعة التوحيد والجهاد، والبحث عن التنظيمات الجهادية السِّرِّية التي تضرب الدولة الفاسدة في العمق في مسلسل مُتواصِل، طابا، شرم الشيخ، دهب في سيناء، ميدان عبد المنعم رياض، السيدة عائشة، الأزهر بالقاهرة.
وتنشغل مصر أيضًا بالتبشير وسماح الأزهر في وثيقة للمبشرين. مُزاولة نشاطهم في مصر تحت الضغوط الدولية وحرية الأديان. والديانات كلها محبة وسلام. والتبشير يبطن غير ما يظهر. فقد كان التبشير دائمًا مقدمة للاستعمار والتغريب ونزع المواطنين من ثقافاتهم الوطنية، وزَرْعهم في ثقافة أخرى، يدينون لها بالولاء مع إغراءات المنح الدراسية، والعمل، والسفر إلى الخارج؛ فهو جزء من التدخل الخارجي في الأوطان.
وتنشغل مصر بنجوم الفن والمُغنِّيات الشابَّات، المصريات والعربيات، وبأنواع الفيديو كليب، والرقص العاري مع الأغنية، وهو الهدف الرئيس منها، وليس الكلمات، أشعار شوقي وحافظ وجبران، ولا ألحان عبد الوهاب والرحبانية. ومع نجوم الفن يأتي نجوم الكرة، وأبطال الدوري، والمنافَسة بين الأندية لتفريغ الطاقة بدلًا من المنافَسة الحزبية والمعارَضة السياسية. ومعهم يأتي مشايخ الفضاء بلباسهم الأبيض المهيب، ولحاهم السوداء الطويلة، وقسمات وجوههم الجادَّة، يَعِدون بالجنة، ويُنذِرون بالنار.
تنشغل مصر هذه الأيام بقضية التوريث بعد التجديد، وأي فرعون سيتولَّى حُكْم مصر، وأي خليفة سيكون للمسلمين. ويتقلَّص الوطن في الحكم. ويدافع الفرعون عن الوراثة وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ. ويستخف برموز المعارَضة أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. ويستخف بجماهيرها فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. وتنسى قضية الوطن العربي، المستباح دماؤه في فلسطين والعراق، والمهدَّد في الشام في سوريا ولبنان وفي السودان، في الشمال والجنوب الأمن القومي لمصر.
وتنشغل مصر بالصراعات الحزبية لوراثة الحكم والنظام المنهار. وينشغل الإعلام الرسمي والحزبي بالهجوم على الإخوان وأدائهم في مجلس الشعب بين صفقاتهم مع النظام ومشاركتهم في الحركة الوطنية مع أحزاب المعارَضة. وكما تَحوَّل الوطن في العراق إلى برنامج النفط في مقابل الغذاء، وفي فلسطين إلى المُرتَّب في مقابل الوطن، فإنه تحوَّل في مصر إلى كرسي العرش، وقصر عابدين في مقابل الوطن. وضحَّت مصر ببغداد؛ لأنها مُنافِس لمصر في زعامة الوطن العربي بعد اختفاء زعيمه الأول الذي قاد حركة التحرر العربي، ودافَع عن القومية العربية والوحدة العربية لحماية الأقطار العربية من التجزئة والتفتيت. وتركَت الدماء تسيل في فلسطين على مدى عشر سنوات منذ الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧م، وهي التي دخلت أربعة حروب من أَجْلِها. وتركَت الخليج مُحاصَرًا، بالرغم من إعلان دمشق بين الحضور الإيراني في الشرق، والخطر الإسرائيلي من الشمال الغربي، والوجود الأمريكي من أقصى الغرب.
كانت مصر عَبْر تاريخها الطويل دولة الفتح والدفاع عن محيطها الإقليمي في الشام وفي السودان. تُوحِّد وادي النيل، والمغرب العربي، والشام، وتُدافِع عن استقلالها ضد الهكسوس والفرس والرومان والصليبيين والتتار والمغول والاستعمار الغربي الحديث. ثم نَست تاريخها، وتحالَفَت مع الغرب، وتَبِعت الولايات المتحدة الأمريكية، واعترفت بإسرائيل، وصالَحَتها، وعقَدت معها المعاهَدات، والأراضي العربية ما زالت مُحتلَّة. والخطر الإسرائيلي بالتوسع والتهديد النووي ما زال قائمًا. وترفض انسحاب قوات الاحتلال من العراق حتى لا يَتفتَّت. وتتحرج من مقابلة وزير الخارجية الفلسطيني للضغط على الحكومة الفلسطينية للاعتراف بإسرائيل من دون أن تأخذ شيئًا في المقابل، الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وحق عودة اللاجئين، وفك المستوطنات، وتوزيع المياه.
نست مصر أنها كانت مصدر النهضة العربية الحديثة في مصر وبر الشام، وأنها الممر للمغرب العربي من الشرق إلى الغرب فتحًا، ومن الغرب إلى الشرق حجًّا، وأنها أول من قام بالتجارب الوحدوية الحديثة منذ محمد علي حتى عبد الناصر. ولم تَعُد تتذكر أن «جندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة».
انشغلت مصر بهموم الخبز في الداخل ونَسِيَت الحرية، وهما لا يفترقان فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وكيف يَتوفَّر الخبز في الداخل وقد هربَت المطاحن إلى الخارج؟ وكيف تتذكر الحرية حين أصبح هَمُّها الأول كرسي العرش؟
غاب خيالها السياسي وتَحوَّلت إلى سلطنة أو إمارة لم تَعُد قادرة على الدخول في المَعارك الكبرى في التحرر والتنمية والوحدة والنهضة والريادة والمقاومة والتأميم والتصنيع والتخطيط ومضاعفة الدخل القومي كل عشر سنوات، وأن تكون مثل الصين وماليزيا.
ما تنشغل به مصر هذه الأيام هو مَقْتَلها؛ لأنه يقضي على روحها، ويحاصرها في حدودها، ويؤدي إلى انغلاقها على ذاتها وسكونها وركودها. فتتآكل من الداخل، وتنشغل بهوامشها وأطرافها وليس بقلبها ووعيها. وإذا كان جيفارا يعود من جديد إلى أمريكا اللاتينية، فمتى يعود صلاح الدين، والظاهر بيبرس، ومحمد علي، وعبد الناصر من جديد إلى مصر؟
(٤) العقل أم القدم؟٤
مرت بمصر أحداث جسام هذا الشهر، غطى بعضها على البعض الآخر. وتداخَلت الأمور، تشابكت وتعقَّدَت مثل أحوال الصوفية. فلم يعد أحد يدري هل هو في حالة خوف أم رجاء، هَيْبة أم أُنس، حزن أم فرَح، قَبْض أم بَسْط، غَيْبة أم حُضور؟ المُضحِكات والمُبكِيات شيء واحد.
كان الحدث الأكبر هو الدَّوْرة الأفريقية لكرة القدم والذي غطَّى على معرض القاهرة الدولي للكتاب الثاني في الأهمية بعد معرض فرانكفورت. وامتلأت الصحف بأخبار الدورة أكثر من أخبار المعرض، وكان الاستعداد والدعاية لها أفضل من الاستعداد للمعرض. بلغ عدد زوار الأستاذ الرياضي خمسة وسبعين ألفًا في كل مباراة، وبيعت تذاكرها في السوق السوداء من الكبار والصغار. وبلغت حصيلة كل مباراة ما يقرب من ثلاثة ملايين جنيه مصري. ولم يتجاوز زوَّار معرض الكتاب عدة آلاف كل يوم، بعد أن زادت تذكرة الدخول أربع مرات. وكان في الماضي يفتح أبوابه مجانًا للجميع. فالقراءة للجميع. وأغلق المعرض أبوابه مبكرًا مساء؛ حتى يشاهد الجمهور المباراة. ويوم الجمعة تغلق أبواب المعرض في منتصف النهار بعد الصلاة؛ استعدادًا ليوم الحسم في الكرة، وتفتح في الصباح والناس تستيقظ متأخرًا، وتذهب إلى الصلاة مباشرة. فبدأت استعدادات الناشرين للرحيل من اليوم السابق يوم الخميس.
وافتتح الرئيس الدورة الأفريقية، كما حضر الحفل الختامي لتوزيع الجوائز، وحمَلَت السيدة حرَمُه عَلَم مصر تُلوِّح به للفريق المصري الفائز. وحَمَل نَجْلُه عَلَم شركة كورية للدعاية. وحضر بينهما التدريبات الرياضية للفريق المصري للتشجيع. وافتتح معرض الكتاب أيضًا، مارًّا على دُور النشر دون حوار مع المثقفين هذه الدورة؛ حتى لا يفتح على نفسه الباب أو يأتيه صُداع في الرأس من الأسئلة التي تُثار كل عام حول الديمقراطية، وتزوير الانتخابات، والبلطجة، وتَدخُّل أجهزة الأمن، وإهانة القضاء، والتوريث، والأحكام العرفية، والدستور، والفساد، وحكومة رجال الأعمال، وبيع مصر.
وبقدر نجاح الدورة الأفريقية لكرة القدم من حيث التنظيم ومتابعة الجمهور، بقدر ما فشل معرض الكتاب الدولي. فقد بدأ بخلاف بين الناشرين المصريين ورئيس الهيئة حول إقامة إدارة المعرض حوائط عازلة أمام عرض الكتب تمنع الجمهور من الرؤية. وهدَّدُوا بالمغادرة. وتضامن معهم الناشرون العرب.
وتقلَّصت الأنشطة الثقافية إلى الحد الأدنى تحت شعار «لا سياسة في المعرض، ولا معرض في السياسة.» مع أن الثقافة سياسة، والسياسة ثقافة فيما يعرف بالثقافة السياسية. وهو الشعار ذاته «لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.» مع أن السياسة تستعمل الدين لتحريك الجماهير في «لاهوت التحرير» كما فَعلَت الحركات الإصلاحية، الأفغاني، والكواكبي، وعلَّال الفاسي، والبشير الإبراهيمي، وعبد الحميد بن باديس. كما يستعمل الدين السياسة لتحقيق مُثُله العليا عن طريق الممارَسة السياسية. وهو الشعار ذاته «لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة.» فماتت الجامعة ولم تعد قادرة على تخريج علماء متخصصين، ولا مواطنين صالحين. وفَرْق بين معرض القاهرة الدولي للكتاب بإدارة أستاذ جامعي يَعرِف قيمة الثقافة والحوار الثقافي بين كل اتجاهات الفكر والعمل في الحياة الوطنية مع استقلال نِسْبي عن الدولة، وبين إدارته بلواء في الشرطة أو الجيش، أو باستئجار هيئة لتنظيم المعرض بناء على علاقات الأصهار والصداقات والمصالح المُتبادَلة.
وحضر الرئيس الدورة الأفريقية لكرة القدم في القاهرة، وغاب عن مؤتمر الاتحاد الأفريقي في الخرطوم. ومصر هي البلد المؤسِّس لمنظمة الوحدة الأفريقية إبان حركات التَّحرُّر الوطني في أفريقيا، ولم تكن هناك إلا ثلاث دول أفريقية مستقلة. وكانت معظم حركات النضال الوطني الأفريقي لها مكاتبها في القاهرة. وسارت الشائعات حول سبب غياب مصر عن أفريقيا، وفي الخرطوم عاصمة وادي النيل، وفي وقت السودان في خطر، ومُهدَّد بالعدوان بحُجَّة دارفور كما حدَث في العراق، وتقسيم القُطْر الشقيق بين غربه وشرقه، بين شماله وجنوبه. هل صحة الرئيس هي السبب وقد جاوز السبعين، وشُبهات الأمراض العضال تتناولها الألسنة؟ هل الورقة الليبية التي تدعو إلى اعتبار المغرب العربي جزءًا من أفريقيا وليس من الوطن العربي؛ كي تحمل همومه في فلسطين والعراق؟ وهي الدعوة الفرنسية الاستعمارية القديمة لقسمة الوطن العربي إلى مشرق ومغرب، مشرق صوفي إشراقي ديني، ومغرب عقلاني علمي مدني. المشرق أقرب إلى فارس والهند، والمغرب أقرب إلى فرنسا. وهي الدعوة التي روَّج لها أيضًا طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر». هل لم تُرِد مصرُ إحراج نفسها بتبني سياسة خارجية معادية لتدخُّل القوى الأجنبية في السودان منذ استبعادها عن مؤتمر المصالَحة الوطنية بين شمال السودان وجنوبه، ومشكلة دارفور في طريقها إلى التدويل وتدخُّل الأمم المتحدة؟ هل ما زال الرئيس متشائمًا من الخرطوم منذ حادثة الاعتداء عليه؟ هل قررت مصر منذ مدة الاحتجاب، تعكف على شأنها، ولا تُبدِّد مواردها في حروب إقليمية على حدودها، وقد تَحوَّل الاستنزاف الخارجي إلى استنزاف داخلي بنهب ثروتها ببيع القطاع العام، وتهريب الأموال والإسراف في مظاهر الترف، والثراء الفاحش للقلة على حساب الأغلبية؟
وعمَّت الأفراح بعد نَيْل مصر كأس أفريقيا للمرة الخامسة. ونزلت الآلاف إلى الشوارع، ترقص وتغني وتصيح وترفع الأعلام الملونة، وتدهن الوجوه، وتلبس القبعات حتى الصباح. وغطت الأفراح على أحزان ألف شهيد، غرقى العبارة. وبدلًا من أن يُعلن الحداد الوطني ثلاثة أيام، وتُنكَّس الأعلام أسوة بما يحدث حين موت زعيم عربي، عمَّت الأفراح وآلاف المصريين لا يعرفون أين جثث ذويهم، في بطون أسماك القرش، أم داخل العبارة في أعماق البحر؟
وتحوَّل السخط العام على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد والذي يخشى منه من اندلاع انتفاضة ثالثة أسوة بالانتفاضة الأولى في يناير ١٩٧٧م، والثانية انتفاضة الأمن المركزي في ١٩٨٦م، تَحوَّل إلى فرح عارم، ووَهْم بالانتصار بترجيح ضربات الجزاء. وتَجمَّعَت القوى الشعبية بعشرات الألوف وكأنها تُناصِر المقاوَمة الفلسطينية أو العراقية أو الشيشانية. وهي الجماهير نفسها التي لم تشأ أن تشارك في الانتخابات التشريعية الماضية بأكثر من ٢٣٪. نزلَت عن بكرة أبيها الآن تسد الشوارع، وتعوق المرور. فكُرَة القَدَم أهم من المؤسَّسات التشريعية، والمباريات الرياضية أهمُّ من المُناقَشة الحزبية بين المعارَضة والحزب الحاكم، وكأن صفر المونديال وجد تعويضًا له في كَسْب الكأس بركلات الترجيح.
وكافأ الرئيسُ المنتخبَ القومي المصري بثلاثة ملايين جنيه مصري، ورُبْع سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر، والملايين من عُمَّال مصر وفلاحيها يصارعون من أجل البقاء، ونساء مصر اللائي يَعمَلن من أَجْل إعالة أسرهن. وأساتذة الجامعات الذين بَلَغوا السبعين خُفِّضَت مرتباتهم إلى مائتي جنيه، والباقي تعويضًا لهم من صندوق الصدقات والنذور والخدمات الاجتماعية. لا حق لهم في حضور مجالس الأقسام، ولا مجالس الكليات، ولا مجالس الجامعات بعد هذه الخبرة الجامعية الطويلة على مدى نصف قرن. بل لا يحق لهم التدريس أو الإشراف على الرسائل مُنفَردين إلا بالاشتراك مع أستاذ عامل قد يكون أحد طلابه. ولماذا يخرج الضُّبَّاط على الاستيداع وهم في سن الأربعين ويأخذون مكافأة مالية كبيرة ليعملوا بالقطاع الخاص في قطاع الأعمال، ويبقى الأساتذة هذا العمر الطويل في الجامعات من دون إفساح المجال للأجيال الشابَّة الجديدة؟ ولماذا لا يكون النموذج العسكري هو النموذج الأكاديمي؟ وقد ظَلَّ رَسَل وجادمر في جامعاتهم حتى المائة أقل أو أكثر. وقد صدَر القانون بعد أن دخل مجلس الشعب في جلسته الأخيرة. ولم يستغرق أكثر من أربع وعشرين ساعة. وصدر به قرار جمهوري! وهُم الأساتذة الذين تربَّى على أيديهم أبطال الكرة المصرية، وضباط الجيش، والرئيس، وحرمه، وأنجاله. وكيف يَهَبُ الرئيس من خزانة الدولة هذه الملايين الثلاثة من دون موافقة من وزارة المالية أو مجلس الشعب، ومن دون إذن بالصرف من الخزانة العامة؟ وهل يتصرف الرؤساء في أموال الشعوب، كما كان يَتصرَّف قدماء السلاطين بالهِبَات والعطايا والمِنح على العلماء والشعراء والفلاسفة والأدباء والفقهاء في بلاطه؟
ثم ننعى بعد ذلك على الشباب وضياع مُثلهم. فأي المِثَالين أفضل، كرة القدم أم تنوير العقول؟ وأيهما أنفع تسجيل الأهداف في الشباك أم تحقيق الأهداف الوطنية؟ أيهما أبقى في تاريخ الأمم، ركلة قَدَم وضربة رأس أم تحقيق انتصار قومي في التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، بدلًا من المساعدات الأجنبية والبون الشاسع بين الأغنياء والفقراء؟
(٥) الطاقة النووية بين الجدِّ والهزل٥
انشغل الرأي العام في مصر أخيرًا بحق مصر في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية. وهو حق طبيعي لا ينازِع فيه أحد من الدول الكبرى أو الصغرى. وتمارسه مصر فعليًّا منذ بداية الثورة وإقامة مفاعل أنشاص، واستعمال الطاقة النووية في البحوث الطبية والزراعية، واستكشاف التربة. فالطاقة النووية ليست بالضرورة السلاح النووي الذي يتطلب بحوثًا أكبر، وإمكانات أعظم، وظروفًا دولية مواتية، وحاجة فعلية للدفاع عن النفس.
ليست القضية قدرات مصر العلمية فهذه لا شك فيها. فقد كان لديها برنامج توقف منذ أوائل الثمانينيات بعد كامب ديفيد في ١٩٧٨م، واتفاقية السلام في ١٩٧٩م. فلم تَعُد تشعر مصر بخطر عليها من السلاح النووي الإسرائيلي ومفاعل ديمونة على مقربة منها في صحراء النقب، الامتداد الطبيعي لسيناء. وعلماء مصر ذَوُو شهرة عالمية، سواء من بقي في الداخل أو من هاجر إلى الخارج. ويكفي ذكر اسم يحيى المشد عالم الذرة المصري الذي اغتالته إسرائيل في غرفة نومه في العراق، وهو يساعد في إنشاء القدرة النووية العراقية في المدينة العلمية التي أسَّسها العراق لاستقبال العلماء العرب. ليست القضية تقنية خالصة، فالتقنيات النووية معروفة في مراكز الأبحاث المتخصصة تحت طلب من يريد. وهي ليست قضية موازين دولية بين الشرق والغرب بين روسيا وأمريكا، أو بين الشرق والشرق الصين أو اليابان أو الهند أو باكستان، أو بين الغرب والغرب، أمريكا أو أوروبا. فقد انتهى عصر الاستقطاب، والتعاون الدولي من أجل استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية متاح للجميع. والوكالة الدولية للطاقة النووية تقوم بالتنسيق بين الدول والتفتيش على مفاعلاتها لضمان عدم انتشار الأسلحة النووية، وتوقيع الدولة على عدم انتشارها التي وقعتها مصر ولم توقعها إسرائيل.
وليست القضية الاستعداد لإيجاد بدائل للطاقة نظرًا إلى نفاذ البترول في مصر الذي يُقدَّر عمره الآن بعشرين عامًا أكثر أو أقل. فهذه قضية عالمية. وأكبر مخزون للنفط ما زال في المنطقة العربية. والغاز الطبيعي مخزون لا ينفد، وأبحاث الطاقة الشمسية على أشدها، وتستغل باقتدار في اليابان. وليست القضية أيضًا الحاجة إلى الطاقة النووية لتحلية مياه البحر. فالمياه العذبة متوافرة، والنيل يفيض عامًا وراء عامٍ ومخزون المياه وراء بحيرة السد فيه أكثر من الحاجة. وما يضيع في البخر في أعالي النيل وفي البحر في مصبه. هذه مشكلة الخليج والسعودية والمناطق الصحراوية الخالية من الأنهار والمياه الطبيعية، الجوفية أو الأرضية.
إنما أثيرت القضية في أثناء الاجتماع السنوي للحزب الحاكم بعد أن طالت المناقشات من دون التوصل إلى نتائج واضحة فيما يتعلق بالمطالب القومية الكبرى التي تحملها المعارضة وبعض الأجنحة الإصلاحية في الحزب الحاكم. لم يتم التوصل إلى إصلاح الدستور، وتداول السلطة، والتعددية الحزبية، وشرعية الأحزاب الموجودة في الشارع السياسي، والقضاء على الفساد، والحريات العامة، وحقوق الإنسان والعلاقات العربية، وإعادة دور مصر في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا والسودان. ترك ملف مصر مفتوحًا من دون الوصول إلى شيء. أُثيرت قضية حق مصر في امتلاك القدرة النووية والذي تملكه بالفعل من أجل تلميع الحزب الحاكم، وإثارة النعرة الوطنية، وخلق معركة وهمية لا يُنازع فيها أحد. فالحزب في حاجة إلى شرعية وطنية، وحضور جماهيري لا يجده. والأمين العام للجنة السياسات هو الذي يثير القضية حتى يصبح في مكان الصدارة، المدافع عن حقوق مصر الوطنية، وليس مُجرَّد بؤرة جذب لرجال الأعمال ولا وريث شرعي للحكم، ولا يكتفي بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية له.
ليست القضية، إذن، موضوعية امتلاك مصر القدرة النووية، بل إثارتها في هذا التوقيت بالذات للتغطية على الانتكاسات المتتالية في السياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، غلاء الأسعار، زيادة معدلات الفقر، كوارث القطارات والعبَّارات، سوء الخدمات الصحية والتعليمية، نهب ثروات مصر، التلاعب بالأسعار خاصة الحديد والأسمنت المزيد من الاحتكار، بيع القطاع العام في صفقات مشبوهة آخرها صفقة عمر أفندي، بيع البنوك الوطنية، الاتجاه إلى خصخصة شركات المياه والغاز والكهرباء؛ أي تحويل مصر إلى سوق لرأس المال الداخلي والعالمي، والدخول محلية. وعلى الصعيد الخارجي ترك لبنان يُدمَّر وحيدًا خوفًا من تدمير مصر، وتُرِكَت سوريا شريك مصر في الحرب والسلام مُحاصَرة بين المطرقة والسندان، والعراق يُذْبَح أبناؤه كل يوم، ومهدَّد بالتقسيم، والسودان تغزوه القوات الدولية لتقسيمه بدعوى حقوق الإنسان في دارفور، وكأنه لا وجود لحقوق الإنسان في فلسطين والعراق، والسودان هو الأمن القومي لمصر. والأخطر من ذلك كله منافسة إيران في قدراتها النووية، وإيقاع تناقض بين قدرات إيران الفعلية وقدرات مصر المستقبلية؛ تخويفًا للخليج، مع أن القدرة النووية الإيرانية الحاضرة ظهير للقدرة النووية العربية القادمة. والتناقض بين القدرتين الإيرانية والعربية من ناحية، والسلاح النووي الإسرائيلي من ناحية أخرى. وقد بدأ ذلك بالفعل في اجتماع رؤساء أجهزة المخابرات والأمن لبعض الدول العربية «المعتدلة» بتعبير وزيرة الخارجية الأمريكية ونظرائهم في إسرائيل؛ لعمل جبهة واحدة في مقابل التطرف والإرهاب في إيران وسوريا وحزب الله، مقابل لا شيء لاسترداد حقوق فلسطين، أو لانسحاب قوات الاحتلال من العراق، أو بعدم التدخل الخارجي في شئون السودان.
وإذا كان الإعلان عن حق مصر في امتلاك القدرة النووية جادًّا، فلماذا تعارض الولايات المتحدة امتلاك إيران وكوريا هذا الحق؟ ولماذا توافق على هذا الحق الفعلي لكل الدول الغربية والشرقية، مثل إسرائيل والهند؟ إن أول من أعلن موافقته على هذا الحق لمصر بعد إعلان الحزب الحاكم عنه هو سفير أمريكا في مصر. فربما تمَّت موافقة أمريكا على هذا الإعلان من قبل؛ حتى تظهر أمريكا عادلة في مواقفها من الدول ضد إيران وكوريا ومع مصر وإسرائيل والهند وباكستان.
توقيت هذا الإعلان يدل على أن القضية مجرد علاقات عامة لملء الفراغ السياسي في البلاد، تغطية على الانهيار الداخلي والتبعية الخارجية. والأمور الجادَّة لا تُؤْخَذ بمثل هذه الخفة. ومن يُرد امتلاك القدرة النووية يفعل ذلك سرًّا، ولا يتباهى به علنًا. والكلام عن شيء يدل على عدم صنعه. فالكلام أحيانًا يكون تعويضًا عن العجز يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. لذلك وصف أحد المستشرقين العرب؛ ولهذا السبب، بأنهم ظاهرة صوتية.
إن الأمور الجادَّة التي بها يتحدد مصير الأوطان لا تؤخذ وسيلة للدعاية والإعلان؛ وللتغطية على مواقف أخرى. فإسرائيل لا تتحدث عن قُدرتها النووية ولا عن سلاحها النووي، ولا عن عدد القنابل النووية التي لديها ولم تُوقِّع على اتفاقية انتشار الأسلحة النووية بالرغم من صياح الغرب ومشاريعهم في جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، وبالرغم من اتهام العرب الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية بالمعيار المزدوج في التعامل مع العرب وإسرائيل.
ثم خَفَّت الضجة وطواها النسيان مثل كثير من الأمور المثارة في الوطن العربي. هي مجرد أهواء وانفعالات وليست وقائع وحقائق، مُجرَّد زوبعة في فنجان، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
(٦) يا مصر، كم لك من حدود؟٦
تربى المواطن المصري منذ نعومة أظافره في الحَضَانات والمدارس حتى الإعلام الرسمي، أن مصر تَتميَّز بتجانس تاريخي وجغرافي وسكاني وديني وثقافي وسياسي. حافظَت على وَحدَتِها عَبْر التاريخ، بالرغم مما طرأ عليها من نُظُم سياسية مُتعاقِبة، دخيلة أو أصيلة، أجنبية أو وطنية. ولم تنقسم إلى شمال وجنوب إلا في لحظة واحدة في تاريخها القديم سرعان ما قام الملك مينا بتوحيدهما، ولبس التاج المزدوج رمزًا لوحدة القُطْر. وكانت الوحدة الوطنية دائمًا أحد أهداف الحركات الوطنية منذ الملك مينا حتى ثورة ١٩١٩م برمْزَي الهلال والصليب، وحدة المسلمين والأقباط. الشعب متجانس بين الشمال والجنوب، بين بحري وقبلي، بين الدلتا والصعيد. يربطهما وادي النيل والقطار، وكما ظهر ذلك في الأغاني الشعبية والأمثال العامية. لا فرق بين سكان الشمال البيض أصحاب العيون الخضراء أو الزرقاء والشعر الأشقر في المنصورة، وبين سكان الجنوب أصحاب البشرة السمراء والعيون السوداء والشعر الفاحم سكان وادي حلفا. وبالرغم من تفاوت الرزق بين المصريين والذي يزداد يومًا وراء يوم منذ شكاوى القروي الفصيح في مصر القديمة حتى الهَبَّات الشعبية من أجل الخبز في يناير ١٩٧٧م والأمن المركزي في يناير ١٩٨٦م، فإن أحدًا من المصريين لم يَمُت جوعًا ولا عطشًا. فمياه النيل متوافرة، الأرض الخضراء فيها قُوت للجميع حتى قبل مَعونة القمح الأمريكية. سكانها بدو وحضر، وأرضها وادٍ وصحراء، وطقسها ممطر وجاف، وجوها بارد وحار. ومع ذلك حافظَت مصر على وحدتها الجغرافية كما حافَظَت على وحدتها السياسية. وبالرغم من طغيان حكامها حتى إن لفظ فرعون، حاكم مصر القديم، أصبح معادلًا للطاغية، سواء كان ذلك لدى الفراعنة القدماء أو الفراعنة الجدد، فإن الحد الأدنى من التوافق ظَلَّ سائدًا بين الحاكم والمحكوم بالرغم من الهَبَّات الشعبية التي لم تنقطع في الشمال والجنوب، ثورة ابن الهمام في الصعيد، وثورة عرابي شرق الدلتا.
ويعرف العالم كله حدود مصر الدولية، في المطارات عَبْر الجو، وفي المدن الحدودية، رفح، والسلوم، ووادي حلفا في الأرض، وفي المدن البحرية الإسكندرية، وبورسعيد، والسويس في البحر. ويُعاني المصريون أكثر من الأجانب، والعرب الفلسطينيون والعراقيون أكثر من المصريين، وأحيانًا الباكستانيون أرض أسامة بن لادن أكثر من الكل من الانتظار «قليلًا»؛ حتى يتم اتخاذ الإجراءات الأمنية الضرورية بالرغم من حصول القادمين على تأشيرات دخول في السفارات والقنصليات المصرية في الخارج. في حين يمر الأوروبيون والأمريكيون والإسرائيليون بمجرَّد أَخْذ طابع بخمسة عشر دولارًا من شباك البنك داخل المطار ومن دون تفتيش أو بحث أو مراجعة قوائم المشبوهين والممنوعين من الوطنيين المصريين أو المواطنين العرب.
كل ذلك معروف. ويعرفه المصريون الذين يقفون بالساعات الطوال منذ الفجر، ويقفون في طوابير الصباح للتقدم إلى نوافذ القنصليات أو السفارات الأجنبية للحصول على تأشيرات دخول، من دون أماكن انتظار في الغالب، وعلى قارعة الطريق في الطقس البارد أو الحار. والذهاب أكثر من مرة، مرة لتقديم الأوراق والعودة بعد أسبوعين لمعرفة: هل تمَّت الموافقة أم لا؟ أو استكمال الأوراق، ومنها التأمين الصحي. ومن السفارات الكبرى يأخذون البصمات وصور حدقات العيون. وفي المطارات الأجنبية يقفون المصريون أيضًا لإعادة النظر والتحقق من عدم تزوير تأشيرات الدخول؛ فالعربي مشبوه مشبوه والمسلم خاصة ولو كان بجلباب أو طاقية أو ذقن من أنصار ابن لادن وتنظيم القاعدة، إرهابي خطير؛ أتى لتفجير القطارات أو الطائرات أو المباني العامة.
إنما القضية هي في الحدود الداخلية داخل الوطن، في الانتقال من الوادي إلى الصحراء، ومن الشرقية إلى سيناء، ومن شمال سيناء إلى جنوبها، وقبل الدخول إلى المدن الساحلية الشهيرة كالغردقة وشرم الشيخ. وسيناء هي المدخل الشرقي لمصر، والصحراء الغربية هي المدخل الغربي المصر، ووادي حلفا هي المعبر الجنوبي لمصر. قبل كل مدينة في سيناء يوجد «كمين» وعليه شرطة أو جيش أو مخابرات عامة لفحص الركاب وحقائبهم خاصة الشباب. وقد يستدعي الأمر إنزالهم جميعًا من العربة في البرد القارس أو الحرارة الملهبة؛ حتى يطمئن الكمين أنه لا يوجد من بين المواطنين إرهابي. في حين يدخل الإسرائيليون إلى طابا بلا تأشيرة؛ طبقًا لاتفاقيات كامب ديفيد ومُعاهَدة السلام، بل إلى شرم الشيخ أيضًا وباقي مدن سيناء تشجيعًا للسياحة، والاستفادة من دخلها، حتى لو تم التفريط في السيادة الوطنية.
لم يتغير الأمر منذ أيام الاحتلال البريطاني لمصر، عندما كانت حدود مصر الشرقية قناة السويس، ولا يعبر المواطن في سيناء إلى الوادي بثروته الحيوانية؛ إلا إذا دفع ضريبة مرور على كل ضأن وماعز وجمل وفرد؛ لأنهم سيطعمون من خضرة الوادي. ولا يعبر المواطن ويسير على ضفاف القناة الغربية من جهة الوادي؛ إلا إذا أخذ تصريحًا من جيش الاحتلال، أو الجيش الوطني أو الشرطة العسكرية أو شركة قناة السويس. فهناك حدود داخل الحدود. والمواطن مُتَّهم ومشبوه، عدو للنظام منذ البداية ما دام أنه قادم إلى التخوم، وخارج من قريته أو مدينته.
تآكلت الحدود الوطنية بفعل الحدود الأمنية. وقد يتغير ولاء البدو في سيناء بعد طول الاحتلال من الوطن الغربي إلى الوطن الشمالي. فقد بَنَت قوات الاحتلال المساكن، وعبَّدَت الطُّرق، وأدخلَت الكهرباء والمياه، وتعاملت مع البدو كأنهم امتداد لبدو النَّقَب. وأقامت بعض الصناعات على بحيرة البردويل لتجفيف الأسماك، ومغسلة في العريش لإيجاد فرص عمل للبطالة الزائدة لدى الشباب، واستخرجت المعادن، وأقامت المستعمَرات مثل ياميت، وكانت من مشاريع الأمن الوطني زراعة سيناء وإقامة مزارع جماعية ومدن في سيناء قادرة على استيعاب خمسة ملايين مواطن، يقفون في مواجهة «الموشاف» والمزارع الجماعية في النَّقَب. وقد كان فراغ سيناء من السكان أحد أسباب احتلالها المستمر مهما حاولت الجيوش الدفاع عنها في العراء. وفي التفجيرات الأخيرة في طابا وشرم الشيخ تم استجواب الآلاف من سكان سيناء. فَهُم الأعداء الذين يُهدِّدون الأمن القومي داخل البلاد. هم الحدود التي يجب أن يُدافع عنها، حدود في الداخل وليست في الخارج، موانع في القلوب وليست حواجز على الأرض.
ويمر «السوبر جيت» سريعًا، القصر الطائر، لرجال الأعمال والشخصيات المهمة، بأسعار مرتفعة. يحمل الذين يبنون مصر، ويُشيدون القرى السياحية، ويُعمِّرون مصر، ويزيدون دخلها القومي. يأخذه الناس اللي فوق حيث المضيفات الحسناوات وأسعار المشروبات والمأكولات المرتفعة. كما تأخذ عربات الوجه القبلي «الناس اللي تحت». وتتصاعد الروائح الكريهة من حمامها.
وفي كمائن التفتيش يُسأل من يعترض على سوء المعاملة، وطول الانتظار في برد الليل أو قيظ النهار: مَن أنت؟ ويجاب: أنا مواطن من ثمانين مليونًا من المصريين، يدافع عن حقوقه وحقوق المواطنين في المرور بسلام في ربوع الوطن شماله وجنوبه شرقه وغربه، واديه وصحرائه، نِيله وسينائه. يحاول مد الجسور بين المواطن والدولة بدلًا من العَدَاء المستحكم بينهما. إذ تَعْتَبر الدولةُ بأجهزتها المُواطنَ عدوًّا لها، يريد الانقضاض عليها وتخريبها وتعكير صفو السواح، والإضرار بالأمن القومي وتشويه سمعة مصر وصورتها في الخارج. وكرد فعل على ذلك في اللاوعي الوطني يشعر المواطن بأن الدولة عدو له، لا ينتمي إليها، ولا يشعر بالأمن منها؛ مما قد يضطره إلى الهجرة أو طلب الحماية الأجنبية كما كانت تفعل الأقليات الدينية والعرقية طوال تاريخ مصر الحديث. ويسأل المواطن ممثل الأمن، مدنيًّا من المخابرات العامة: ومَن أنت؟ ألست الذي يقف عائقًا بين المُواطن والدولة التي تحميه؟ ألست الذي يُمثِّل الدولة لدى المُواطن، وليس المواطن لدى الدولة مثل معظم مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسات التعليمية، والعمداء، ورؤساء الجامعات، ونواب المجالس النيابية والوزراء؟ وهل مَنعتْ كل هذه الاحتياطات الأمنية من وقوع بعض الحوادث في الأقصر أو الدير البحري أو سيناء؟ ولماذا تتصور الدولة نفسها على أنها جهاز أمن، وإن دعت الضرورة جهاز قمع، والمواطن هو المشبوه والمُدان والمجرم بالضرورة؟ ألا يخلق ذلك عند المواطن تصورًا مقابلًا بأن الدولة عدوه، وسبب آلامه وأحزانه وشقائه من البطالة والفقر بالإضافة إلى القهر والتسلط؟ وفي هذه الحالة يستعد المواطن للخروج عليها. وينتظر الفرج ممن يأتي إليه داعيًا ومبشرًا بنظامٍ جديدٍ، يقيم العدل، ويقضي على الظلم، وبالتالي إمكانية تحوله من مهمش متهم في وطنه إلى أن يكون أميرًا للعالم كله، ابتداء منه، من هذه البؤرة، بؤرة الإسلام، وهذه الجماعة، جماعة المؤمنين. العمل ميسور، والسكن موفور، والزواج مضمون، والنصر بإذن الله.