الثقافة والمجتمع
(١) الثقافة والسياسة١
انفض معرض القاهرة الدولي للكتاب الأسبوع الماضي. وهو ثاني أكبر معرض دولي للكتاب على مستوى العالم بعد معرض فرانكفورت. وتتكرر الظواهر ذاتها كل عام، بالإضافة إلى ظواهر جديدة تُعبِّر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية العامة في البلاد. فالمعرض أداة تنفيس جمهرة المثقفين، شبابًا وشيوخًا. يكشف أكثر مما تكشف أحزاب المعارَضة أو الحزب الحاكم أو أجهزة الثقافة، مجالسها وهيئاتها.
تنتشر الكتب الدينية، كتب التراث القديم بعدة نشرات وطبعات، مزخرفة ملونة، أعمال كاملة في العلوم النقلية، القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. وهي العلوم التي ما زالت تؤثر في الناس من خلال الجامعات والمعاهد الدينية ومكتبات المساجد وخطبائها، والبرامج الدينية في أجهزة الإعلام، ومقتنيات البيوت الخاصة. وهي علوم تعتمد على النقل وحده دون العقل مما يقوي التقليد وحجة السُّلطة، سُلطة النص والقدماء في الثقافة العامة. وتأتي في المرتبة الثانية الكتب المترجَمة، خاصة الكتب السياسية لمن شاء من النخبة المثقفة نافذة على الوافد. وأبرزها المشروع القومي للترجمة وبروز الأسماء اللامعة في الثقافة الغربية. وبين الموروث والوافد يغيب التفاعل من أجل الإبداع وتظل ثنائية الثقافة إحدى أزمات العصر. فالعربي بين ثقافتين. ولا يملأ الفراغ إلا الإبداع الأدبي في الشعر والرواية والقصة والمسرحية، ويدلُّ ذلك كله على غلبة الكم دون الكيف.
ويضاف إلى ذلك غلاء الأسعار، والزحام الشديد للفرجة وليس للشراء للاطلاع على السلع الجديدة في الأسواق. وكالعادة يهرب الناشرون مصريين وعربًا من المؤلِّفِين لعدم دفع حقوقهم، وكأن المؤلف شحاذ يبحث عن كريم، وكأن الناشر يُعطي صدقة ولا يؤدي حقًّا. ويظهر ناشرون جُدد، يضعون اختياراتهم النوعية، مثقفون ناشرون يجذبون الانتباه. يحاولون نشر الأصيل، ويَعِدون بأداء الحقوق والمؤلِّف يُصدِّق ويشجع «أفلح إن صدق». والناشرون يشكون من ارتفاع أسعار إيجار المتر المربع، ومن بطء إخراج الكتب من الدوائر الجمركية، ومن الرقابة ومصادرة الكتب التي تزداد عامًا بعد عام. فما كان مسموحًا به في الأعوام الماضية وما زال متوافرًا في الأسواق أصبح ممنوعًا هذا العام. بلا ضابط ولا معيار. مع أن القانون لا يبيح مصادرة كتاب لا قبل النشر ولا بعده إلَّا بأمر قضائي. والواقع يُكذِّب التصريحات الرسمية كالعادة في أزمة عامة لصدق الخطاب الرسمي السياسي والثقافي على حد سواء.
وأهم ما يميز معرض القاهرة هو نشاطه الثقافي والأدبي والفني الذي يجتمع فيه المثقفون والأدباء والفنانون ربما من عام إلى عام يستأثر الوزراء والمسئولون والكبار بالقاعات الكبرى. وفيها يتم الدعاية للنظام وتبرير سياساته. وهو ليس حوارًا بين الرأي والرأي الآخر، بل بين الرأي ونفسه، بعيد عن الثقافة السياسية وأقرب إلى التجميل السياسي.
والأهم مناقشة الكتب في «كاتب وكتاب». وهي الأقرب إلى النشاط الثقافي المستقل. والاختيار تغلب عليه الشللية. فما معيار اختيار كتاب آخر؟ صحيح أن هناك لجنة للاختيار. تختار كُتبًا قبل أن تصدر. وتترك كُتبًا قد صدرت. الوساطة والمحاباة والتميز والمعرفة المسبقة قد تكون أحد بواعث الاختيار. وتوضع أسماء المناقشين والمحاورين أحيانًا لملء الفراغ ولجذب الجمهور بل دون سؤال البعض منهم أو وضعهم بالرغم من اعتذارهم. وكثر الغياب بالرغم من امتلاء القاعة أو المخيم. ووصل الأمر إلى أن حضر المؤلِّف نفسه دون غيره. مناقشة نفسه أمام قاعة مكتظة.
وفي «الخيمة الثقافية» يشتد النقاش، وتتصارع الآراء، وتتعدد الاتجاهات. وتكون هي المؤشر على الحيوية الثقافية ومستوى الحوار في البلاد. الواقفون أكثر من الجالسين. والمتحدثون صرحاء، من رموز الحركة الوطنية والثقافة الوطنية. تتعرض للعام قبل الخاص، وللمصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، وللواقع المعيش قبل الكتاب المدوَّن، وللسياسة قبل الثقافة. فالثقافة سياسة، والسياسة ثقافة.
وتسترجع الخيمة الأحداث، نقاش الرئيس مع المثقفين كل عام حيث تطرح فيه المسائل بوضوح في مواجهة مباشرة. ولدواعي الأمن تغير المكان والزمان والهيئة المنظمة. فالمكان في رياسة الجمهورية، وليس في أرض المعارض. فالرياسة المحروسة أكثر أمنًا من المعرض الشاسع. والزمان قبل المعرض وليس في أول يوم فحركات الرئاسة تتغير زمانًا ومكانًا لدواعي الأمن. ولم يَعُد المنظم الهيئة العامة للكتاب، بل رياسة الجمهورية. تختار عددًا قليلًا من المضمونين مع استبعاد المشاغبين.
ومع ذلك لا يوجد ضمان كامل كما حدث في السادس من أكتوبر ١٩٨١م. فطالب رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ونائب مركز الأهرام للدراسات السياسية وأحد الكُتَّاب اللامعين والمفكرين السياسيين بالتعبير عن الإجماع الشعبي بضرورة تغيير الدستور، والتحول من الاستفتاء على مرشح واحد إلى الانتخاب بين أكثر من مرشح كإحدى علامات التحول الديمقراطي، والنظام محاصر بين المطرقة والسندان، مطرقة الخارج وسندان الداخل. وهو مطلب مشروع على لسان كل المواطنين. ومن أجله تكونت حركة «كفاية» كتحرك شعبي تلقائي. فاتهم الكاتب بأنه لا يفهم وبأن أولي الأمر أكثر فهمًا منه. وقوبل اتهام السلطان للعالِم باتهام العالِم للسلطان بأنه المسئول عن تعذيب الآلاف في السجون بلا تحقيق ولا محاكمة ولا إدانة. وكانت النتيجة منع المفكر السياسي من المشاركة من أي نشاط ثقافي في ندوات المعرض. فتحول إلى بطل قومي، وقائد وطني. يُهتف باسمه في معظم الندوات. فمن بيديه الأمر السلطان أم العالِم؟ مَنْ يقود مَنْ، العربة أم الحصان؟ ولماذا إذن، كان العلماء ورثة الأنبياء وكان السلاطين في النار «والله لو عثرت بغلة في العراق لسُئِلت عنها يا عمر: لماذا لا تسوي لها الطريق؟» وهل آلاف المسجونين المعذبين بلا جريمة ولا اتهام أقل من بغال العراق؟ وأين لنا بسلطان مثل عمر؟
البركان قادم ونرى الدخان. فقد ألقى روائي لامع بالجائزة في وجه ممثلي نظام القهر والطغيان في الداخل، والتبعية والتحالف في الخارج. والناس ترنو إلى مُخَلِّص، وتنتظر المسيح في آخر الزمان؛ كي يقضي على المسيح الدجال، كما تقضي بذلك علامات الساعة.
ويومًا وراء يوم يزداد عدد الشرطة. ويُحاط بالقاعات وبالخيم الثقافية. ويُقبض على الشباب الذين يوزعون المنشورات ضد التوريث والتجديد. ويقوم المعرض بدور الأحزاب والجمعيات الأهلية وهايد بارك القاهرة. وتعلو أصوات باعة المأكولات والألعاب الشعبية في العراء على أصوات المثقفين داخل القاعات والمخيمات. ويظهر طابور للأطفال ربما من مدرسة أو ملجأ بلباسٍ موحدٍ يصرخون ويصخبون، وكأنهم في مظاهرة غير واضحة الأهداف، لا تكشف عنها الشعارات. إنما هي الحناجر التي ما زالت تصرخ. جيل قادم ما زال يبحث عن وضوح رؤية.
وكان طفلي الصغير منذ ما يزيد على العشرين عامًا وعمره خمس سنوات يمشي مشية عسكرية وفوق كتفه عصا «مقشة» فسألته: ماذا تفعل؟ قال: «أحارب». قلت: تحارب مَن؟ قال: أحارب العراق. قلت: وماذا فَعلَت العراق؟ قال: إذن أحارب إيران؟ قلت: وماذا فعلت إيران؟ قال: أمال أحارب مين؟ قلت: تحارب إسرائيل. قال: قالوا لي في المدرسة إننا عَقَدْنا معها سلامًا. سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ.
(٢) البوابة الحديدية للجامعة٢
للحياة رموز. وللأشياء معانٍ. وللحركات الشعبية دلالات. وهذا بالضبط ما يحدث في جامعة القاهرة في السنوات الأخيرة. يقع حدث يمس الحياة الوطنية، العدوان الأمريكي على العراق، العدوان الإسرائيلي على فلسطين، تزوير الانتخابات الطلابية فيجهر الطلبة بأصواتهم، ويقومون بمظاهرات داخل أسوار الجامعة، ويدورون بين الكليات لتجميع باقي الطلاب. فإذا ضاق بهم المكان، وارتفعت الأصوات، وبلغت القلوب الحناجر، واشتد الحصار حولهم من أجهزة الأمن العلنية والسرية، وغُلِّقت الأبواب، اندفع الطلبة نحو الباب الحديدي، وكسروا القيد حوله ليخرجوا إلى الميدان أمام الجامعة وفي وسطه النصب التذكاري للشهداء، وحوله الأمن المركزي بلباسه الأسود وخوذاته الحديدية وبأيديه العِصِي؛ جاهزًا للضرب فوق الرءوس والأبدان. فممنوع الخروج خارج الجامعة. ولو كسرت سلسلة البوابة الحديدية فلبضعة أمتار حتى لا يلحق الطلاب برموز التبعية والاستسلام، السفارة الإسرائيلية بجوار كوبري الجامعة، والسفارة الأمريكية بميدان التحرير. وقد ضرب حولهما الحصار المسلح من قوات الأمن موجهة الرصاص على المواطنين إذا ما تجمهروا أمامهما، ومنعًا للطلاب من الوصول إلى المدينة الجامعية أو الالتحام بفقراء بين السرايات أو بميدان الجيزة. فالطلاب ممنوعون من الالتحام بالشعب، وهم نخبته المثقفة، وقلبه النابض، وضميره اليقظ والمؤشر على حركته الوطنية.
هذه الجامعة ابنة ثورة ١٩١٩م، أُسِّسَت جامعة وطنية عام ١٩٢٥م بأرض تبرعت بها إحدى سيدات العائلة المالكة، وباكتتاب عام من باشوات مصر الوطنين بعد أن كانت جامعة خاصة منذ ١٩٠٨م بداية بمدرسة الحقوق، وكان اسمها في ذلك الوقت مدرسة الحقوق الفرنسية لاعتمادها على الفرنسيين الذين كانوا يساعدون الحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال البريطاني حتى الاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا عام ١٩٠٤م. كما تبرعت العائلة المالكة بأرض حديقة الحيوان وحديقة الأورمان أمام الجامعة. وقامت الجامعة بدورها الوطني خاصة في الأربعينيات، وتكوين لجنة الطلبة والعمال في ١٩٤٦م. وفتح على طلبتها كوبري عباس الشهير في العام ذاته. وخُلد شهداؤها بالنصب التذكاري أمام الجامعة، وفي نهاية الشارع وضع تمثال نهضة مصر بعد نقله من ميدان محطة مصر، ميدان السكة الحديد كما نقل تمثال رمسيس الثاني فيما بعد بعيدًا عنه.
وسفارة إسرائيل تطل عليه من الأدوار العليا في العمارة الثالثة من على يسار كوبري الجامعة، وعَلَمها يرفرف في سماء مصر. وطبقها للاتصالات ثابت فوق سطحها. وداخل الجامعة مبنى دار الضيافة بالمعونة الأمريكية، ومبنى آخر للجودة وإصلاح التعليم من أجل السوق بتوجه من لجنة السياسات للحزب الحاكم؛ من أجل إرساء قواعد جديدة للتعليم الجامعي. يركز على تعلم اللغات والتعامل مع الحاسبات الآلية لاحتياج الشركات، وجعل بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية بالإنجليزية والفرنسية وليسانس الحقوق بالفرنسية بجوار العربية، كما كانت الحال في الجامعات الجزائرية في عصر الاستعمار.
نشأت الجامعة المصرية، إذن، تحمل هموم الفكر والوطن العلم والسياسة، الثقافة والوطن. واستمرت فيها المظاهرات الطلابية التي يؤرخ بها للحركة الوطنية المصرية، لا فرق بين مُشَرَّفة، ونظيف من كلية العلوم، وعبد الحكيم الجراحي من شهداء الحركة الوطنية المصرية. وقد جمع طه حسين، وأحمد أمين، وأمين الخولي، ولويس عوض، وعبد العظيم أنيس بين العلم والوطن، بين البحث العلمي الحر والليبرالية السياسية. وعصفت بها بين الحين والآخر النُّظم السياسية مثل ما حدث من تطهير فيها للخصوم السياسيين في مارس ١٩٥٤م وفي سبتمبر ١٩٨١م، وعَمَّتْها المظاهرات في الأزمات السياسية الكبرى وفي أوقات الهزائم مثل المظاهرات ضد حكم العسكر، وضرورة العودة إلى الديمقراطية في أزمة مارس ١٩٥٤م، والمظاهرات ضد أحكام الطيران في ١٩٦٨م، ومظاهرات ميدان التحرير في ١٩٧١م والسؤال عن عام المعركة الذي طال. ثم التحم الطلاب بالهَبَّة الشعبية في يناير ١٩٧٧م احتجاجًا على ارتفاع الأسعار، وبالمعارضة السياسية الرئيسة في البلاد ضد معاهدة كامب ديفيد في ١٩٧٨م واتفاقية السلام في ١٩٧٩م والتي كلَّفت زعماء المعارضة من أساتذة وصحفيين وسياسيين وقادة روحيين الفصل خارج وظائفهم بقرار جمهوري يعترف في ديباجته بخرق قانون العاملين في الدولة. وهو ما دفع رئيس الجمهورية الثانية حياته بسببه. واستمرت المظاهرات الطلابية ضد الغزو الأمريكي للعراق في ١٩٩١م، ثم في ضربه بعد ذلك في ١٩٩٨م، ثم في احتلاله عام ٢٠٠٣م. وقامت أيضًا ضد الاحتلال الصهيوني لكل فلسطين، دعمًا للمقاومة. واندلعت المظاهرات أخيرًا ضد تزييف انتخابات الاتحادات الطلابية، وشطب أسماء المرشحين من الحركة الإسلامية، وتكوين اتحادات حرة موازية. ومهما استعملت الحركة الطلابية بفصيليها الرئيسين بعضها ضد البعض الآخر، تصفية الحركة الإسلامية بأيدي اليساريين أو تصفية اليساريين بأيدي الجماعة الإسلامية، ظلَّت الحركة الطلابية — في مجموعها — حركة وطنية، ومؤشرًا على الأزمات السياسية الكبرى التي تمر بها البلاد.
والقضية هي البوابة الحديدية للجامعة المقيدة بالسلاسل والأقفال وكأن الأمن الجامعي داخل الأسوار، والأمن المركزي خارجه لا يكفيان. إذا اشتدت المظاهرات وعلت الأصوات هز الطلبة البوابة رمز القهر الجامعي والاستبداد السياسي وتعلقوا بها، وعلوا قمتها، وهزتها الأيدي حتى تنكسر. ثم يندفع الطلاب خارجها. فيُواجَهون بخط الدفاع الثاني من الأمن المركزي جنودًا وعربات تحيط بالميدان، وفي وسطه النصب التذكاري للشهداء. فيقف الطلبة حوله يهتفون بالشعارات الوطنية، ويخطبون في زملائهم. فهل للجامعة أسوار؟ وهل تغلق البوابة الحديدية بالسلاسل والأقفال حماية للنظام؟ أليست الجامعة ضد الأسوار والقيود والسلاسل، وظيفتها هدم الأسوار؟ ألم ينهدم سور برلين؟ أليس جدار الفصل العنصري بين الضفة وفلسطين ١٩٤٨م في طريقه إلى الزوال؟ وكلما كسر الطلبة البوابة الحديدية يُعاد إصلاحها وتقويتها وإعادة لحمها بالحجر. وهل يمنع ذلك الحركة الطلابية من معاودة كسر الرمز حتى تفتح الأسوار، ويسقط الستار الحديدي، ويفك القيد؟ وهم يتعلمون في المدارس منذ نعومة الأظفار أشعار أبي القاسم الشابي:
إن مهمة الجامعة ليست غلق الأبواب بل فتحها، وليس حبس الطلاب داخل الأسوار، بل إطلاق حرياتهم خارجها. فالطلبة أبناء الشعب. وإذا كان السور علامة، والبوابة رمزًا، فإن مهمة الجامعة هدم أسوار الأذهان، وفتح بوابات العقول، وتنوير القلوب. قوة الطلاب أقوى من الصلب. والأمن المركزي لا يحيط بالنصب التذكاري للشهداء، ولا يمنع من الوصول إلى تمثال نهضة مصر، ولا إلى سفارة إسرائيل أمامه. ومِن ثَمَّ كان شعار لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة خارج تاريخها الذي جمع بين العلم والوطن.
لقد خلقت الجامعات الألمانية الوحدة الألمانية. وأسس الأساتذة الألمان الثقافة الوطنية التي عليها قامت الوحدة. لم يُخَوِّنهم أحد. وكانت إدارة الجامعة من كبار المفكرين والفلاسفة كما كانت الجامعة المصرية في أول عهدها برئاسة أحمد لطفي الجامعة القاهرة، وعِمادة طه حسين لكلية الآداب، ومصطفى مُشَرَّفة لكلية العلوم، في الوقت الذي كانت مصر تبني وطنًا لا تهدمه.
إن جمال جامعة القاهرة وطرازها المعماري من عصر النهضة كان مقصودًا. فالجامعة عماد النهضة. واليوم اختنق المرور أمام الجامعة بعد انسداد شوارعها وحصار أرصفتها خوفًا من العربات المفخخة. وأصبح المرور من كلية الفنون التطبيقية حتى بين السرايات حي الطلاب، السكن والكتب والطباعة، عذابًا يوميًّا يضيع فيه الوقت؛ فتختنق فيه الأنفاس. فما المانع من إقامة نفق أرضي يربط بين الجامعة والمكتبات على الرصيف المقابل لانتقال الطلاب دون المخاطرة بحياتهم أمام وسائل النقل العامة والخاصة. كما تحول رصيف الجامعة الموازي لحديقة الأورمان أمام الجامعة إلى مقلب وعربات للزبالة. وكلها رموز وعلامات على حال الجامعة الآن. وما المانع أن تتحول حديقة الأورمان المغلقة وقاية للأخلاق من رعونات الشباب إلى ساحة حرة للتعبير عن الرأي مثل هايد بارك في لندن إن كان ميدان عابدين أمام القصر محرمًا على الشعب من التظاهر أمامه؟ وفي المساء وفي شارع الجامعة وعلى الخضرة في وسطها تقوم فرق الغناء والضرب بالدفوف للاحتفال بالأعراس. وداخل الأسوار في المساء يلعب بعض الطلبة الكرة الشراب في أروقة الجامعة بين المباني مثل أطفال الشوارع. ولا يضج ذلك أمنًا ولا يُثير غضب إدارة. فهذا عصر جديد وذاك عصر قديم، وسبحان من له الدوام!
(٣) أفعل التفضيل٣
يكشف تحليل الخطاب السياسي اليومي خاصة الخطاب الإعلامي عن نوع من المبالَغات وإطلاق الأحكام. وتصل المبالَغات إلى حد التهويل والتكبير والتعظيم والتفخيم. ويبدو ذلك في كثرة استعمال أفضل التفضيل في وصف الرئيس، رئيس دولة أو مؤسَّسة أو مصلحة أو هيئة أو جماعة أو حتى عصابة. فهو ليس فقط فاضلًا، بل أفضل والأفضل. وليس فقط ذكيًّا بل أذكى والأذكى. وليس فقط قادرًا، بل أقدر والأقدر. وليس فقط عالِمًا، بل أعْلَم والأعلم.
فإذا ما قرر الرئيس تغيير مادة في الدستور كثيرًا ما طالبَت بها المعارَضة منذ سنوات واعْتُبِر الطلب في غير موعده متهورًا، يؤدي إلى القلق، وهروب أموال الاستثمار، فإنه زلزال سياسي، حدثٌ تاريخي لم يحدث منذ أيام الفراعنة، ضربة معلم، حُسْن تخطيط، إجهاض للمعارَضة، استجابة لرغبة الشعب. وهو مثل حوادث الطبيعة والظواهر الكونية، رعد وبرق. ويتحوَّل الخطاب السياسي من الصمت المطبق إلى الصراخ المُطلَق، ومن اللاشيء إلى كل شيء، ومن الصفر إلى اللانهائي، ومن العَجْز المطلق إلى القوة الخارقة.
وهو خطاب سياسي في الظاهر، وديني في الباطن. فالخطاب الديني هو الذي يقوم على التعظيم والتفخيم والإجلال، كما يبدو في التعظيم الإلهي، والمدائح النبوية، وتفسير الظواهر بعلة واحدة وسبب أول هو الفاعل الحق، وغيره فاعل بالمَجاز. هو خطاب التأليه الذي يُعظِّم كامل الأوصاف، لا فرق بين صفات الله وصفات السلطان، يقوم به رجال الدِّين ورجال السياسة، وفقهاء الشريعة وفقهاء السلطان. يصف القرارات وكأنها مُعجزات، لم يتوقعها أحد، ولا يقدر عليها إنسان.
وإذا تقدَّمَت الحكومة بمشروع فهو أعظم المشاريع الذي لم يأتِ به الأولون ولا الآخِرون، تغيير خريطة مصر، الخروج من الوادي، وتحويل الوادي الرأسي إلى وادٍ أفقي، والخروج من ضيق الوادي القديم إلى رحاب الصحراء مياه الشرب أنقى مياه في العالم، والأسعار أرخص أسعار في الكون، ومكتبة الأسرة قدوة لتجارب القراءة في العالم، ومشروع القراءة للجميع أصبح نموذجًا لقراءة كل الشعوب، والعناية بأطفالنا نموذج للعناية بأطفال العالم، ومَعارِضنا تكشف عن إبداعنا وعبقريتنا على المستوى الدولي. صحافتنا حرة، وتعليمنا للجميع، وطرقنا العلوية والدائرية وأنفاقنا كلها آية في العمران.
أصبحت حياتنا كلها مبالَغات في مبالَغات، وغاب عن حياتنا النقد الذاتي، ووضع كل شيء في مكانه الصحيح، وفي نسبته المقررة. لم يَعُد للخطاب السياسي أي ثقل. ولا يتطلب أي تصديق من كثرة ما تَعوَّد عليه الناس لا يؤدي غرضًا، ولا يهدف إلى شيء إلى مزيد من مدح السلطان. نقص الخطاب السياسي الصدق وأصبح لا فرق بين الخطاب السياسي والخطاب الديني. الأول مدح للسلطان، والثاني مدح لله.
وفي الوقت ذاته الذي نضخم فيه الحدث الصغير، نصغر الحدث الكبير ليس عن طريق أفعل التصغير، بل عن طريق تصغير الأسماء. الأفعال للتفضيل، والأسماء للتصغير. فالمظاهرة السياسية الضخمة التي تناقلتها أجهزة الإعلام، وعرضتها القنوات الفضائية، محدودة العدد، معزولة عن الجماهير، نظمتها فئة ضالة، أو مُندَسُّون من التاريخ. وتفجير قنبلة في حي سياحي تُودِي بحياة الأبرياء حادث فردي منعزل، ولا يوجد تنظيم وراءه، خلية نائمة أو نشطة. لم تتأثَّر السياحة، ولم تلغ الأفواج، والفنادق عامرة، والأمن مُسْتَتب. والفقر محدود، والاقتصاد قارب أن يخرج من عنق الزجاجة، والبطالة أمكن السيطرة عليها بتوفير آلاف من فرص العمل عن طريق الشركات الاستثمارية الجديدة. واختناقات المرور محدودة. والتهريب استثناء. والاقتصاد بخير. فقد أمكن السيطرة على ارتفاع أسعار العملات الأجنبية، وقويت العملة المحلية. ومخالفات الشرطة تَمَّت المعاقَبة عليها. وقانون الطوارئ فقط في الحالات الحَرِجة وأوقات الخطر التي يتهدد فيها الأمن القومي للبلاد. والطائفية حوادث متفرقة في حين أن نسيج الأمة سليم.
وما يتم على الصعيد الداخلي يتم أيضًا على الصعيد الخارجي. علاقتنا بأمريكا ممتازة. والخلاف لا يفسد للود قضية، خلافات داخل الأسرة الواحدة، عاصفة في فنجان، والخلاف مع إسرائيل طبيعي، ولكن السلام قائم، والأمن على الحدود مُسْتَتِب. والسفارات مفتوحة، وحوادث قَتْل المصريين على الحدود حوادث فردية، خطأ حُرَّاس الحدود. واعتذار إسرائيل مقبول. وشارون رجل سلام. والسلام قائم إنما يحتاج فرصة، وخيار استراتيجي يستلزم الصبر.
وخلافاتنا مع إثيوبيا في خبر كان. وقطع علاقاتنا مع إيران منذ ربع قرن لا شيء في إيقاع التاريخ. صادقناها أيام الشاه حليف إسرائيل. وعاديناها بعد الثورة المعادية للكيان الصهيوني. تبعث الجواسيس، وظهير الحركات الإسلامية، وتُصدِّر الثورة. ونبعث مراقبين للسودان لحل أزمة دارفور التي كَبَّرها الإعلام الغربي وضخَّمَتها القوى المعادية. وإهانات المصريين خارج الوطن مشاكل صغيرة تحلها السفارات في الخارج. وفرنسا دولة صديقة. والمجموعة الرباعية متعاطفة. وروسيا ما زالت حليفة، والصين صديق تقليدي. والعالم كله ينظر إلينا نظرة إعجاب.
وهكذا نحول الصغير كبيرًا، ونجعل الكبير صغيرًا بفضل أفعل التفضيل وطُرق التصغير مما يدل على تَقصِّي التحليل، والتَّسرُّع في الحكم على الأشياء. فالتطرف ليس فقط في الواقع لدى جماعات التطرف بل هو في لغة الخطاب السياسي، ورؤية العالم، وإصدار الأحكام بين التهويل والتهوين. نأخذ مواقف انفعالية من الواقع بين الحد الأقصى والحد الأدنى. ونَصِف الواقع بين الخير المُطْلَق والشر المُطْلَق. ونخلط بين الذات والموضوع، بين انفعالات النفس وبنية الواقع، بين ما نَتمنَّى أن يكون وما هو كائن. لذلك يجيب الرئيس باستمرار عن أي سؤال عن أمر واقع في الأوضاع الداخلية أو الخارجية بألفاظ «أتَمنَّى»، «أرجو»، «أتعشم». والواقع له بِنْيَته الخاصة بعيدًا عن الأمنيات. لذلك غلب الإنشاء على الخبر في الخطاب السياسي الإعلامي، وكثرت الماينبغيات، وتراكمت الأخلاقيات حتى أصبحت كغطاء للتعمية على واقع يصعب تحليله ورؤية عناصره ومكوناته. والعيش في الأوهام خير من رؤية الواقع. والنفس تعشق الأماني، وتَنْكَفُّ من الغَم والهَم والقَرَف.
ونظرًا إلى سيادة الإعلام خاصة المرئي منه، فقد عم الخطاب الإعلامي الخطاب الثقافي والخطاب العلمي، كما ضم من قبل الإعلام والثقافة في وزارة واحدة. وأصبح سمة عامة للثقافة الوطنية. واتُّهِمَت كل محاولة لنسبية الأحكام بالخيانة في السياسة، والكفر في الدين. تُشَكِّك المعارَضة في كل شيء ولا ترى الإنجازات. تهدم أكثر مما تبني، وتحقد أكثر مما تحب.
أصبح الاحتماء بأفعل التفضيل وسيلة للهروب من الواقع، وطريقًا للتقرب لأصحاب السلطة الذين لا يستدعون إلا من يُكْثِر من المديح للسلطان، والهجاء لخصومه السياسيين، باستعمال أفعل التفضيل له، وطرق التصغير لهم. وعادة ما ينتهي الذهاب إلى أقصى حد إلى نيل أقل شيء. وكلما اتسع الخطاب قَلَّ التحقيق، وكلما علا الصوت رجَعَ الصدى، ولا شيء إلَّا الصوت وأصبح الكلام رخيصًا بلا ثمن مع أن الله هو الكلمة.
وتنتهي الثقافة إلى سجال بين الإثبات والنفي ويتحول الحوار إلى خصومة، والبرهان إلى جدل، والتعددية في الرؤية إلى أحادية في النظر. ثم تقع الواقعة، ويقع الخطب الجلل. وينكسر الخطاب القائم على أفعل التفضيل. ويظهر خطاب الأسى والحسرة والندم. ويكثر البكاء ونعي الحظ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.
(٤) الشفافية٤
كثر استعمال كلمة «الشفافية» في الخطاب السياسي العربي في الآونة الأخيرة. ويَزداد الاستعمال كلما تَعقَّدَت الأمور وصعب إيجاد المخرج للأزمة على أرض الواقع. فيأتي الانفراج باستحداث الكلمات ومن خلال اللغة وبصياغة خطاب سياسي وهمي مُطعَّم بألفاظ بها مفتاح الفرج.
ويُسْتَعمل اللفظ في كل الاتجاهات، وبكل المعاني، ولتحقيق الأغراض كافَّة حتى لو كانت معاني متضاربة. فاللفظ يجد هوًى في النفس. وهي صورة فنية في ثقافة تعشق الكلمات والأغاني والأشعار، وتستعمل التشبيهات، وما زالت الأمثال العامية فيها سُلطة وحجة لفهم الواقع وتبرير أحداثه. ومن كثرة الاستعمال في معانٍ متضاربةٍ فَقدَت معناها الدقيق. يستعملها القائل بأي مَعنًى يشاء. ويفهمها السامع بأي معنى يريد. غرض القائل التمويه على السامع، وغرض السامع الترفيه عن النَّفْس من القائل باعتباره مُغنِّيًا أو راقصة أو فتاة إعلانات أو لاعب كرة. أصبحت كلمة «شفافية» غير شَفَّافة؛ لأنها لا تعني شيئًا مُحدَّدًا، بل تُسْتَخدم لأغراض غير شفافة. بل إنها أصبحت من ألفاظ النِّفاق في الخطاب الذي يهدف في العلن إلى غير ما يبطنه في السر.
يستعملها المُزوِّر للانتخابات من المشرفِين عليها من أجهزة الأمن ابتداء من وزير الداخلية حتى رجالات الحزب الحاكم، وكبار ضباط الشرطة؛ حتى يغسلوا أيديهم من دم يعقوب ويلبسوا قميص عثمان «الشفافية». ويستعمله بائعو القطاع العام وشركاته الخاسرة والرابحة بأرخص الأسعار للمُشتَرين من أصحاب العائلات الكبرى المواطنين أو العرب أو الأجانب بعد قيامهم بأداء الرشاوى اللازمة، حتى يسري عليهم العطاء بدعوى الشفافية. وتستعمله أنظمة الحكم المُتَّهمون في قضايا الاغتيال السياسي في الداخل والخارج تهربًا من المسئولية واستجواب لجان التحقيق بدعوى الصدق في الخطاب السياسي بناء على الشفافية في الرؤية وفي التعبير. ويستعمله مديرو هيئات المَعارض الدولية للكِتاب لإقصاء النشاط السياسي منها بدعوى الشفافية؛ فالنقاش السياسي يُعبِّر عن مصالح وقُوًى تسيطر عليه المعارَضة وتجذب إليه الشباب. فلا سياسة في المعرض ولا معرض في السياسة؛ تنفيذًا للأوامر من لواء سابق. وافتقدت المَعارض عصر الأساتذة الجامعيين الذين كانوا يديرونه بروح الرأي والرأي الآخر، الحكومة والمعارَضة. ويستعمله مديرو الجامعات لإبعاد الطلاب والأساتذة عن السياسة. فلا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة. ويستعمله رجال الدين وفقهاء السلطان لقصر الدين على أمور الآخرة، وعدم خلطه بأمور الدنيا، فلا دين في السياسة ولا سياسة في الدين وبدعوى الشفافية، والتي تعني هنا تبرير المواقف المسبقة للسلطة السياسية. ويتداوله الوزراء المسئولون عن الفساد للتغطية عليه وعلى بيع البلاد، الشركات والبنوك، بل قناة السويس التي حاربت مصر من أجلها بعد العدوان الثلاثي عليها في ١٩٥٦م. وظيفة اللفظ في التداول هو الدفاع عن النفس، وتغطية الفساد السياسي والاقتصادي، والهجوم على المعارَضة غير الشفافة التي تهدف إلى الوصول إلى السُّلطة، وكأن السُّلطة حِكْر على فئة بعينها من قريش أو الجيش. يُستعمل اللفظ، إذن، كسلاح سياسي بين نُظُم الحكم والمُعارَضة، بين الدولة وخصومها في الصراع على السُّلطة باسم الشفافية، وطهارة اليد، ونقاء الضمير.
ومن كثرة تَداوُل لفظ «الشفافية» أصبح معتمًا لا شفافًا، لا يعني شيئًا، ولا يساعد في رؤية شيء أو إيضاح مسألة. أصبح ثقيلًا على النَّفْس، لا ينير الذهن. وانضم إلى باقي المفاهيم الشائعة والتي كثر استعمالها في ثقافتنا المعاصرة؛ مثل: الديمقراطية، المجتمع المدني، الأقليات، المرأة، حقوق الإنسان، الإصلاح، الإسلام، والتي هي كلمات حق يُراد بها باطل. إذ تعني الديمقراطية الخصخصة والأمركة والانفتاح على الغرب، والعولمة، والاستهلاك، وليس حرية التعبير والاختيار وتَداوُل السُّلطة. ويعني المجتمع المدني البديل عن الدولة الوطنية لصالح المجتمع المفتوح لحرية رأس المال، وليس قوة الرقابة الشعبية من خلال الإعلام المُستقِل والحسبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتعني الأقليات تفتيت الأمة تحت دعاوى العِرْقية والطائفية، وليس التَّعدُّدية السياسية والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين. وتعني المرأة شق صف النضال الوطني ضد الاستبداد في الداخل والهيمنة في الخارج، وتحويل العدو الفعلي وهو الطغيان إلى عدو وهمي هو الرجل، وكلا المرأة والرجل ضحية له. وتعني حقوق الإنسان حقوق الأفراد بالمعنى الغربي أكثر مما تعني حقوق الشعوب في الاستقلال في عصر الهيمنة الجديدة. ويعني الإصلاح مشاريع الشرق الأوسط الكبير والشرق أوسطية والمتوسطية، وليس تَجاوُز كبوة الإصلاح الأولى منذ فجر النهضة العربية إلى إعادة صياغته في بداية النهضة العربية الثانية. ويعني الإسلام مُواجَهة القهر في الداخل والعدوان في الخارج كما صاغه الأفغاني وتحقيق مصالح الأمة في الاستقلال الوطني، وحرية المواطن والعدالة الاجتماعية، ووحدة الأمة والتنمية المُستقِلَّة، والدفاع عن الهوية، وحَشْد الناس. ومِن ثَمَّ أصبح تشويه المفاهيم البريئة أحد مَظاهر الفساد العامة في البلاد للاتجار بها في اقتصاديات السوق، وللتستر على كل مظاهر الفساد في الواقع، وجعل الحل في الداخل وليس في الخارج. فتغيير النَّفْس سابق على تغيير الواقع، والجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس، أصعب من الجهاد الأصغر وهو جهاد الأعداء في الداخل والخارج. فلم يَعُد شيء حتى اللغة عصيًّا على التجارة به في سوق النخاسة.
إن المهمة الرئيسة للثقافة الوطنية هو تحليل اللغة التداولية في الحياة اليومية؛ لمعرفة كيفية استعمال الألفاظ بعد اختراعها للتمويه على الناس كمُخدِّرات لغوية وفكرية في مجتمع انتشرت فيه المُخَدِّرات الفعلية؛ من أجل تسكين البدن والروح، وإيهام الجسم والعقل بموفور الصحة وكمال العقل. إنه نوع من تدنيس المقدَّسات في مجتمع لم يعد فيه شيء مُقدَّس بعد أن تَمَّت التجارة بكل شيء حتى بالأوطان وبالتاريخ وبالأمم وبمستقبل الشعوب. وبعد بيع القطاع العام والتفريط في حقوق الشعوب واستقلال الأوطان، يتم بيع لغتها في ثقافة ما زالت اللغة وأشكال التعبير خاصَّة الشعر هو ما يحافظ على وجودها واستمرارها في التاريخ. ولما كان الواقع أبلغ من الألفاظ، وكانت هناك حدود لتحمل الزيف الإعلامي في الخطاب السياسي فقد تندلع الثورات الشعبية ضد كل مظاهر الزيف اللغوي والنفاق السياسي، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.
(٥) التعليم من أَجْل السوق أم لتكوين المُواطن الصالح؟٥
تجري همهمات بين الحين والآخر تتحول إلى تصريحات لجَس النَّبض ومعرفة رَد فِعْل الرأي العام عن ضرورة إصلاح التعليم. بل تنشر الصحف القومية وملحقاتها التعليمية الإصلاح المنشود الذي يركز كله على البرامج الدراسية وليس المناهج التعليمية. يركز الإصلاح على ضرورة جعل أكثر المواد اختيارية، وأقلها إجبارية. فحرية الاختيار مقياس التعليم الصحيح. وهي شرط التحول الديمقراطي، أحد متطلبات مشروع الشرق الأوسط الكبير. كما يركز الإصلاح على عدد سنوات الدراسة حذفًا لعام مرة، وإضافة إلى عام مرة أخرى. وهي كلها تغييرات شكلية لا تتعرض لموضوع مناهج التعليم، وضرورة تجاوز التَّلقين والحِفظ والنَّقل إلى مناهج النَّقْد والتفكير الحر والإبداع. فما زالت غاية التعليم بالنسبة إلى النظام السياسي هو خلق المُواطن المطيع وليس المواطن الصالح، المواطن الذي يسمع ويلبي دون أن يُفكِّر أو يعترض، والمدرِّس بيده العصا حفاظًا على النظام، لا فرق بينه وبين الشرطي الذي يُمسِك بعصا أغلظ لِفضِّ المظاهرات. وليس الهدف هو القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية التي أفرغت التعليم الوطني من مضمونه وخلَقَت تعليمًا خاصًّا موازيًا في المنازل. فما يعطيه المدرس في التعليم العام مساوٍ لأجره، وهو القليل. وما يعطيه في المنازل له أجر إضافي، وهو الكثير. فتحوَّل التعليم المجاني وهو من مظاهر سيادة الدولة ومسئولياتها؛ لأن التعليم كالماء والهواء، تحوَّل إلى تعليم مدفوع الأجر بطريق غير مباشر أو تعليم خاص بالعملة الأجنبية، دينية أو أجنبية، إسلامية أو مسيحية، وطنية أم أجنبية، محلية أو دولية. تلك مَعارِك جيل مضى، جيل الأربعينيات الذي ناضل من أَجْل مَجَّانية التعليم ووطنيته، وجيل الخمسينيات الذي حقق مجانية التعليم الجامعي والتزامه بقضايا التنمية بعد الثورة المصرية في ١٩٥٢م.
والأخطر من ذلك الآن، وهو ما يتربص هذا الجيل، بعد ما يزيد على نصف قرن من مخاطر قادمة، التعليم من أجل السوق؛ بحجة القضاء على البطالة وتخريج فنيين مَهرة قادرين على التعامل مع السوق في عصر العولمة. فالسوق هي القيمة الوحيدة وهدف التعليم العام من أجل خلق موظفين للشركات أو التعليم العالي لخلق محامين ومحاسبين ومُنَظِّرين للسوق؛ مما يتطلب تعليمًا أجنبيًّا موازيًا. حقوق بالفرنسية بجوار العربية. واقتصاد وعلوم سياسية بالفرنسية بجوار العربية. وتجارة خارجية «بالإنجلش» موازية للتجارة العربية، وكأننا في عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب العربي، في تونس والجزائر ومراكش قبل التعريب. تتطلب السوق الموظف الكفء، والمدير القادر على التعامل مع شريكه الأجنبي والذي يعرف قوانين السوق. ومِن ثَمَّ يتحول المواطن إلى آلة صماء كما تحول العامل من قبل فأصبح شيئًا مثل الآلة والمتجر، أداة لقوانين السوق. فالتعليم مهنة وليس رسالة في حين أن اسم الوزارة المسئولة «التربية والتعليم» أي تربية المواطن الصالح وتعليمه أو «التعليم الوطني» أي ارتباط التعليم بالوطن وبالأمة، بمصالحه وقضاياها. مهمته تربية الفكر النَّقْدي، وعي المواطن بحقوقه قبل إلزامه بواجباته. فلا واجب إلا ويقابله حق. وهو الفكر الحر القادر على الجهر بالحق دون خوف من عصا المُدرِّس أو هيبة الناظر. غايته تكوين المواطن الصالح وتأكيد المواطنة، المساواة في الحقوق والواجبات. فنقص الوعي بالمُواطَنة قد يُفتِّت الأوطان في السودان، والعراق، ولبنان، والخليج، ومصر، بل المغرب العربي كله.
يُركِّز إصلاح التعليم على الاختيار بين النظري الذي لا فائدة منه والعملي المفيد. الأول مثل كل المواد الاجتماعية؛ الفلسفة، والمنطق، وعلم النفس، والجغرافيا، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة. والثاني اللغات والحاسبات الآلية. الأولى علوم قديمة، والثانية علوم جديدة. مع أن التاريخ هو الذي يُثبِّت في المُواطن وعيه التاريخي وانتسابه إلى أمة دون انتزاعه منها. والجغرافيا هي التي تجعله واعيًا بالعالَم المحيط به وتنمية موارده والوعي بنظام العالَم المحلي والدولي كما هي الحال في الجغرافيا السياسية، ومبادئ الاقتصاد والسياسة هي التي تجعله يدرك قضايا العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل ونظام الأجور، والحقوق السياسية في الحرية والديمقراطية. والفلسفة هي التي تجعله قادرًا على الفكر الحر بمعرفته بتاريخ المذاهب الفلسفية ودورها في نهضات الشعوب. والمنطق يعلمه مبادئ الفكر السليم ومناهج الاستدلال، واستنباط النتائج من المُقدِّمات في ثقافة ما زال تسيطر عليها الخَطابة والإنشاء أو الخرافة والسحر، وعلم النفس يجعله قادرًا على سَبْر غَوْر النَّفْس البشرية بدلًا من الإلهامات وانتظار المعجزات.
وللتمويه على الرأي العام؛ يعرض الإصلاح المنشود على لجان من الخبراء التي قد تصل إلى الرأي المُضاد فلا يُؤخذ به؛ لأن الأمر معروض على مجلس الوزراء أي على السُّلطة التنفيذية دون أهل الاختصاص. وتُنْشَر بنوده في الصحف لمشاركة الرأي العام من أجل التمويه، في حين أن القرارات مأخوذة سلفًا، مفروضة من لجنة السياسات في الحزب الحاكم الذي تأتيه التعليمات من مشروع الشرق الأوسط الكبير. ودوره في الإخراج والتنفيذ. فأصبح «الإصلاح» كلمة حق يُراد بها باطل، وعلى المستويات السياسية والتعليمية كافة.
إن الغاية من الإصلاح المزمع هو السيطرة على أجيال قادمة، وإدخالها في قوانين السوق باسم العولمة، وارتباطها برأس المال العالمي. ورأس المال ليس له وطن. وولاؤها للمستثمر الأجنبي، والقطاع الخاص، والمناطق «الكويز» وللأسواق الحرة، فالتجارة شطارة بالرغم من تنبيه ابن خلدون على مَخاطر أخلاق التجار، الكسب السريع، والفساد، والغش، والتكسب بإنتاج الآخَرِين، الفلاحين والعمال في قطاعي الزراعة والصناعة. الغاية من الإصلاح هو الهيمنة الداخلية على تشكيل وعي الأمة بعد الهيمنة الخارجية، وخدمة الداخل للخارج بدلًا من خدمة الخارج للداخل. الغاية هو الاستيراد والاستهلاك والعمولات والرشاوى، بدلًا من التصدير والإنتاج وفائض القيمة والرقابة على البنوك والتحويلات والأموال العامة.
إن الهدف من التعليم أساسًا قبل الإعداد المهني وتنمية القدرات من أَجْل السوق، هو تكوين المُواطن الصالح الذي يدين بالولاء للوطن ويحرص على ثوابت الأمة. فالتلميذ أو الطالب هو حامل الأمانة للحفاظ على وحدة الأمة في التاريخ. وهو بفكره الحر، وعقله الناقد قادر على أن يقوم بدور الناصح الأمين لأولي الأمر، وليس المُواطن المطيع الذي ينحصر دوره في تنفيذ قرارات «سي السيد» إن كان عاملًا أو تبريرها إن كان عالمًا. إن رفض مشروع الشرق الأوسط الكبير إنما هو باللسان، ورفض الإملاء من الخارج إنما هو بالقول. أما في الواقع فيتم تنفيذه بالفعل بجهاز الدولة ذاته الذي لا يقتنع به، وبالنظام السياسي ذاته الذي يرفضه، وبالرجال أنفسهم الذين لا يؤمنون به.
ومع ذلك قد تضيع كل هذه الجهود هباء؛ لأنها ضد منطق الأشياء وطبائع الأمور وقانون التاريخ. فقد بدأت الشعوب تتحرك في بيروت. وتسير العدوى الآن إلى باقي العواصم العربية ومنها القاهرة وشخصية مصر، والمواطن المصري، والثوابت الوطنية صامدة ضد أي محاولات لتغييرها والانحراف بها أو محوها. وليس من السهل أن تقضي حضارة خمسمائة عام في العالم الجديد على حضارة سبعة آلاف عام من فجر التاريخ. والدول التاريخية الثابتة لا تهزها الأنظمة السياسية التابعة «يا جبل ما يهزك ريح».
(٦) الرد على البدعة أم السكوت عليها؟٦
ثارت ضجة إعلامية في الآونة الأخيرة، وسالت الأقلام، وارتفعت أصوات الاستنكار والرفض بل الخروج على الشرع إلى حد التكفير. وتساءل الرأي العام لا عن تهويد القدس، ولا زرع المُستوطَنات، ولا دماء العراق والشيشان، بل عن جواز أن تؤم المرأة الرجال في الصلاة، في وقتٍ المسجدُ كله مُهدَّد بالضياع والهدم على رءوس مُصَلِّيه رجالًا ونساءً.
فقد دَعت مسلمة من أصل أفريقي أمريكي في إحدى كنائس هارلم إلى جواز إمامة المرأة للصلاة، وتَجاوُر المرأة الرجل في الصف ذاته خلف المرأة الإمام. وأمَّتهم بالفعل أمام أجهزة الإعلام للدعاية والإعلان. وأقامت امرأة مصرية أخرى الصلاة. فالفتوى عامة. يشارك فيها الناس من كل الشعوب أمريكية ومصرية. وتوالت المَقالات وفُتِحت الساحات للنزال. وكلها تنقد وتهاجم. وولت الوجوه بعيدًا عن فلسطين والعراق إلى نيويورك وأمريكا والتي منها يأتي الخير والشر على حدٍّ سواء.
والحقيقة أن الدعوة قد أطلقتها أقلية وهي واحدة من الأقلية الأمريكية الأفريقية، من الأقلية المسلمة منها والتي — في غالبها — مُحافِظة تقليدية. وهي امرأة، وهو الموضوع الذهبي في الولايات المتحدة الأمريكية. فالنساء والأمريكيون الأفارقة معتبرون من الأقليات الذين لهم نسبة من الوظائف العامة والخاصة. تنتسب إلى الحركة النسائية العامة في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي حركة قوية نشطة يحميها الدستور ضد أي أشكال التمييز الجنسي أو العرقي؛ مثل المرتب المتساوي للعمل المتساوي بين المرأة والرجل، بالإضافة إلى حق الإجهاض، والشذوذ الجنسي، والعري، وامتلاك الجسد. وأمريكا بلد الإعلام والتقاليع والموضة والإثارة. فتصدر الخبر بالصورة أجهزة الإعلام كلها، المقروءة والمرئية والمسموعة، في مجتمع يقل فيه الاهتمام بالشأن العام، والحوادث الفردية خاصَّةً الجرائم والفضائح تأخذ حيزًا كبيرًا في الإعلام الباحث عن البطولة الحقيقية أو المُزيَّفة كما هي الحال في راعي البقر في الأفلام الأمريكية. ففي جو الشمول والآلة الرأسمالية الضخمة وبقيمة الفرد والفردية يحتاج الأمريكي الذي لا يبرز من خلال النَّسق الكبير إلى فِعْل بطولي فردي بما في ذلك إطلاق النار على أطفال مدرسة من فوق السطح أو اغتيال سَفَّاح مجهول عشوائيًّا لكائن من كان. فتتصدر صورته الصفحات الأولى وكأن الحرب العالمية الثالثة قد قامت.
حدث ذلك في نيويورك، أكبر مدينة في الولايات المتحدة، مركز السُّلطة والمال، وفي كنيسة وليس في مسجد؛ لأنه يسهل في الكنيسة القيام بالتقاليع. فالكنيسة ليست فقط مكانًا للصلاة، بل مركزًا للخدمات، للثقافة والفنون. وقد قام قسٌّ شابٌّ من قبل بالاحتفال بالقُدَّاس يوم الأحد على أنغام الجيتار أو بموسيقى الجاز أو على إيقاع الرقص الحديث. فالعبادات تتغير أشكالها طبقًا لظروف العصر، بل العقائد أيضًا. فالمسيح أبيض عند البيض، وأسود عند السود. والشيطان أبيض، والملاك أسود. والأنبياء من إبراهيم حتى محمد سود، وأعداؤهم، آل إبراهيم وابن نوح ويهوذا وأبو جهل وأبو لهب بيض. حدث ذلك في هارلم، معقل الأمريكيين الأفارقة، والمسلمين منهم.
لقد عُرفت صاحبة الزوبعة بنشاطها على الساحة الإسلامية. وحضرت جنوب أفريقيا في كيب تاون وحاضرت في مسجد كليرمون المعروف باتجاهات إمامه التقدمي ومصليه الإصلاحيين. إذ يحضر الرجال والنساء في دروس المسجد. ويصلون معًا وراء الإمام. والمحافظون يصبرون عليه على مضض. وثارت زوبعة صغيرة ومحدودة لدى المسلمين لم يُطنطن لها الإعلام الغربي أو الأمريكي، زوبعة في فنجان. كانت الغاية من زيارة جنوب أفريقيا كسب الثقة، والإعلان التدريجي عن جرأة المسلم كرد فعل على تهميشه والنيل من ثقافته. وأصبحت من روَّاد المُؤتَمرات والندوات الخاصة والعامة، بما عرف عنها من مُناصَرة المرأة بوجه عام والمسلمة بوجه خاص مثل كثير من رائدات الحركة النسائية العربية خاصة في المغرب وفي بنجلاديش. ولم ينفع معها التنبيه غير المباشر وأن الإسلام شيء والتقليعة الأمريكية والضرب على الوتر الحساس شيء آخر. ولم ينفع معها حوار هادئ وتَبادُل النصح بين المسلمين عندما حضرت إلى إندونيسيا، وأصرت على توسيع الزوبعة الصغرى إلى إعصار أكبر. صحيح أن المسلمين الأفارقة في حاجة إلى رفع للمعنويات، فهم أقلية داخل أقلية، ومتهمون بالتخلف بسبب دينهم ولونهم في عالَم يسيطر عليه البيض من خلال الإعلام. تشجيع الاجتهاد الإسلامي شيء محبوب أمام موجة المحافظة والتقليد، لكن في صمت دون طنطنة إعلامية، وفيما ينفع المسلمين في حياتهم اليومية دفاعًا عن المصالح العامة، وليس في أشكال العبادات.
إن الغاية مما حدث في نيويورك أخيرًا تفتيت الأمة أكثر مِمَّا هي مُفتَّتة، وقسمتها أكثر مما هي مقسمة، وإحداث فتنة فيها أكثر مما بها من فتن. وثار جمهور المسلمين المحافظين في أمريكا، ومعهم جماهير المسلمين في الوطن العربي والعالَم الإسلامي. وانهالت مقالات التنديد. وأشاح المسلمون بوجوههم بعيدًا عن الدماء التي تسيل في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، والمَخاطر المحيطة بلبنان، وسوريا، والسودان، وإيران إلى هذه الفتنة الجديدة التي لا نفع فيها للمسلمين، تهددهم بالانقسام والانشغال بما لا ينفع. ترك المسلمون المصالح العامة إلى ما لا نفع فيه إلا مزيدًا من التشهير المتبادل بين «الإسلام التقدمي» و«الإسلام المحافظ»، والغرب الأوروبي والأمريكي سعيد بما يحدث، وتوجيه المسلمين حرابهم إلى أنفسهم وليس إلى عدوهم، الهيمنة الأمريكية والتوسع الصهيوني وأيهما له الأولوية في فقه الأولويات، دم الشهداء في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، أم إمامة المرأة للصلاة في كنيسة؟ ويُعيد التاريخ الحديث نفسه. ففي الوقت التي كانت الانتفاضة الأولى في الذروة، والعالَم كله مشدود أمام أطفال الحجارة وهم يرشقون الدبابات الإسرائيلية خرجت قضية رواية «الآيات الشيطانية» وتم تكفير صاحبها ورصد جائزة بالملايين لقتله. فالمسلمون الذين يناضل أطفالهم بالحجارة أعتى الجيوش وأقواها وأكثرها تسليحًا، لا يتحملون رواية لأديب في مجتمع دولي حرية الإبداع فيه مُقدَّسة. فخسر العرب والمسلمون باليسار ما كسبوه باليمين. وفي الوقت الذي كان حزب العمل ممثلًا بجريدة «الشعب» في مصر يواجه الفساد والتغلغل الإسرائيلي في الزراعة المصرية أقام الدنيا وأقعدها على رواية «وليمة لأعشاب البحر» لأديب منشورة منذ عشرات السنين وعدة مرات لإعادة نشرها في وزارة الثقافة في مصر، وخرجت المظاهرات من جامعة الأزهر العريق تندد بالإباحية. فكانت فرصة للنظام للقضاء على أكبر أحزاب المعارَضة وأقوى جرائدها حماية للأمن العام. لا يتعرض الفقهاء المسلمون إلا إلى ما تعم به البلوى، وما يمس كل منزل وهي الحاجات الأساسية التي بها قوام الحياة والتي حددها الأصوليون في مقاصد الشريعة الضرورية الخمسة: الحياة، والعقل، وما يتفق عليه جمهور العقلاء، والعِرض أي الكرامة، والمال أي الثروة الوطنية. ولا تدخل إمامة المرأة ضمن هذه المَقاصد العامة.
ما زالت ثقافتنا الموروثة والتي ما زالت مستمرة في الثقافة الوطنية تُحدِّد للناس تصوراتهم للعالم، وتعطيهم موجهاتهم للسلوك، ما زال الرجل فيها هو المركز في الأسرة والمجتمع، ليس بسبب الإسلام الذي يمنع حقوق المرأة، بل لأنها طبيعة الثقافة التقليدية، وكما هي الحال في اليابان أيضًا، كونفوشية أو بوذية أو شنتوية (عبادة الإمبراطور)، أو مسيحية. وما تَناقلَته أجهزة الإعلام من الصلاة بإمامة المرأة من صور، مناظر ما زال الذوق العربي الإسلامي لم يتعوَّد عليها. امرأة تركع وتسجد والرجال وراءها يأتمون، وامرأة بجوار الرجل تركع وتسجد أيضًا وليس في موسم الحج بملابس الإحرام التي يتساوى فيها الناس جميعًا، دون تمييز بين غني وفقير أو رجل وامرأة. والعادة جزء من الشرع مثل اللغة في معاني الألفاظ، بل الأولوية للعادة إذا ما تعارضت مع الشرع. وتغيير العادة يحتاج إلى النَّفَس الطويل وليس إلى الفرقعات الإعلامية، والأهم هي النَّوازل؛ أي ما يحل بالمسلمين من كوارث وأزمات. والعاجل له الأولوية على الآجل. ودم المسلمين الذي يراق كل يوم وأراضي المسلمين التي تدنس لها الأولوية على إمامة المرأة.
(٧) الأقوال والأفعال٧
تجعل أحوال الأمة الدفاع عن الإسلام عند الدعاة صعبًا للغاية. فما أكثر الاتهامات التي تُقال على الإسلام حاليًّا؛ مثل: الإرهاب، والعنف، والتخلف، والطائفية، والعرقية، ووضع المرأة، وحقوق الإنسان، ووضع الطفل والشيخ، والمجاعة، والجفاف، خلطًا بين الإسلام والمسلمين، بين الدين وممارساته، بين نسق القيم والأوضاع الاجتماعية. وقد أصبح الدفاع عن الإسلام ودحض شبهات خصومه جزءًا من أدبيات الحركة الإصلاحية.
والغرب لا يعرف حُجَّة القول، بل حجة العمل. ولا يصدق المثال بل يرى الواقع. فمهما قيل عن عَظمة الإسلام وعَالَميته وإنسانيته وحريته وعدالته، والغرب يرى واقع المسلمين في الاتجاه المعاكس فإنه لا يصدق الدعاة. فالواقع أبلغ من التمنيات. والرؤية أقوى من السماع طبقًا للمثل الشهير «أسمع كلامك يعجبني، أشوف أعمالك أستعجب».
ويعرف الغرب أيضًا حدود منهج الدفاع. فهو منهج انتقائي يقوم على اختيار النصوص التي في صالحه دون نصوص أخرى نقيضة. فإذا تحدث الداعي عن لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قدم له المستشرق الغربي آية السيف. وهو منهج نصي. يعتمد على حُجة السلطة وليس على حجة العقل. ويغفل تحليل العلل وهي أساس الأحكام الشرعية. والمستشرق يحلل الواقع ولا يأبه بالنص، ويرصد العلل ويحيلها إلى جوهر الإسلام الثابت وليس إلى عوامل التاريخ المتغيرة. وهو منهج تاريخي. يستدعي من الذاكرة اللحظات المضيئة في التاريخ ويترك غيرها. فيأتي المستشرق الغربي وينتقي لحظات أخرى في صفه ليثبت هجومه. والتاريخ مملوء بالشيء ونقيضه، دون تمييز بين القاعدة والاستثناء. وهو منهج أخلاقي يضع ما ينبغي أن يكون، وليس منهجًا اجتماعيًّا يصف ما هو كائن. والمستشرق يصف الظواهر كما هي عليه ويحللها ولا شأن له بما ينبغي أن يكون. فهو لا ينتسب إلى الحضارة الإسلامية كمثال، ولكنه يدرسها كواقع. وبقدر ما يستعمل الداعية الخطابة والوعظ الديني، يستعمل المستشرق التحليل الاجتماعي. وفي النهاية تكون حُجَّة الواقع أبلغ من حجة النص. ويكون التحليل العلمي أقوى من الوعظ الأخلاقي. ويضيع كل الوعظ الأخلاقي في القنوات الفضائية إلى الهواء كما بدأ منه. ولا يبقى إلا العلم. والأمثلة على هذا التقابل بين أقوال الداعية وواقع المسلمين كثيرة.
يُكثر الداعية بأن الإسلام دين السلام وبأن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم حرام عليهم، وأن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا، وأن لفظ «الإسلام» ولفظ «السلام» من الاشتقاق ذاته. ومع ذلك تسيل دماء المسلمين، ويقتتلون فيما بينهم. وتنفجر القنابل في المساجد في العراق وباكستان، ويقتتل السُّنَّة والشيعة. وما أكثر الحروب الأهلية عند المسلمين في لبنان والجزائر. وما أكثر معارك الحدود بين دولهم، بين الجزائر والمغرب. وقد غزا العراقُ الكويت. واقتتل اليمنيون فيما بينهم. وأبرز الغرب الصراع بين العرب والأفارقة في دارفور، وكلاهما مسلمون. ووضع مع ذلك المُقاوَمة في العراق التي تقتل العراقيين والعمليات الاستشهادية في فلسطين. ويختلط الحابل بالنابل دون تفرقة بين الإرهاب والمقاومة، بين العراقي الوطني والعراقي العميل المتعاوِن مع الاحتلال. وفي حالة غياب رابطة الأخوة في الأمة، فإنها تجد هُوِيَّات بديلة وعرقية وطائفية وقُطْرية تسبب هذه النزاعات طبقًا للمبدأ الاستعماري القديم «فَرِّق تَسُد».
ويتحمس الداعية، ويصول في مبادئ العدالة الاجتماعية في الإسلام؛ مثل: الزكاة، والمشاركة في الأموال، وحق الفقراء في أموال الأغنياء، والمِلكية العامة للركاز أي ما في باطن الأرض غير المنقول مثل المناجم بما في ذلك النفط، ونظرية الاستخلاف، وأن ما لدى الإنسان وديعة له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الاكتناز والاحتكار والاستغلال. ويستدعي من الذاكرة التاريخية أبا ذر الغفاري وموقفه من عثمان في قضية توزيع الثروة، وعمر بن الخطاب وثوبه القصير، وتحريم السَّمْن على نفسه عام المجاعة، وسيرة عمر بن عبد العزيز، وقول الأفغاني: «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه»، وما كتبه سيد قطب في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، ومصطفى السباعي في «اشتراكية الإسلام». وفي الوقت ذاته يرى المستشرق حال المسلمين والتباين الشديد بين الأغنياء والفقراء، وتراكم الثروة في شبه الجزيرة العربية، والفقر والمجاعة في جنوب السودان، ومالي، وتشاد، وبنجلادش، والملايين المُهدَّدة بالموت من القحط والجفاف نساء وأطفالًا وشيوخًا، وانتظار مساعدات الكنائس وهيئات الإغاثة الدولية.
ويتحدَّث الداعية عن الحرية في الإسلام، وأن الإسلام دين الحرية، وأن «لا إله إلا الله» إعلان للحرية، رفض آلهة العصر المزيفة بفعل «لا إله»، ثم إثبات حرية الضمير في «إلا الله». وتُستدعى من الذاكرة التاريخية قولة عمر لحاكم مصر: «لِمَ استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» وتذكر آيات لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. ويرى المستشرق والغرب كله معه وأجهزة الإعلام استعمال قانون الرِّدَّة ضد المُفكِّرِين والباحثين والكُتَّاب، والتفريق بينهم وبين زوجاتهم، وإصدار الفتاوى بقتلهم، وهروبهم من أوطانهم إلى الغرب، ينعمون بحرية الفكر والبحث والتعبير. وفي التقارير الدولية عن حالة حقوق الإنسان، تظهر الدول الإسلامية في مقدمة الدول التي تخترق فيها هذه الحقوق بالسجن والتعذيب والاعتقال للصحفيين والأدباء والمفكرين.
ويتحمس الداعية في رؤية الإسلام لتعمير الأرض، وتنميتها، وتحويلها من رمال صحراء إلى حدائق غناء، ومن هشيم أصفر تذروه الرياح إلى خضرة تهبط عليها الماء وتنبت من كل زوجٍ بهيجٍ. فقد خلق الله الإنسان في الأرض واستعمره فيها. وسخر له كل شيء فيها، الفلك، والأنعام، والمعادن والطير، والأسماك، والهواء، والنار لصالحه. ويرى الغرب بعينيه أن البلاد الإسلامية في أفريقيا وآسيا هي قلب الدول المُتخلِّفة، تعتمد في غذائها على الخارج. وترتهن إرادتها الوطنية بسبب المعونات الأجنبية خاصة القمح. ديونها الخارجية وعجز ميزان مدفوعاتها بالمليارات. تستورد أكثر مما تُصَدِّر. ولا تمثل إلا أقل القليل في التجارة العالمية. ولديها الأموال والأرض والمياه والسواعد والعقول؛ كي تصبح سلة العالم للغذاء، ولكن معظم شعوبها تعيش تحت خط الفقر أو فوقه بقليل.
ويبرز الداعية عالمية الإسلام وإنسانيته، وأن الرسول قد بُعِث للأسود والأحمر، وأنه هداية للعالمين. فالإسلام آخِر الديانات، والرسول خاتم الأنبياء، والكل لآدم وآدم من تراب، والإسلام دين الفطرة، وأبواه يُهوِدَّانه ويُنصِّرانه ويُمَجِّسانه. لا يفرق بين الأجناس والألوان، والشعوب والأقوام. ثم يرى الغرب في الواقع النزعات العرقية والطائفية. ويتخصص بعض المستشرقين في إبراز الرِّق في الإسلام خاصة في أفريقيا. ويُبْرِز علماء اللغة معاني «العبد»، و«البربري» في اللغة التداولية. وتصبح قضية دارفور عنوانًا للمسلمين، دون ذِكْر لنِضَال المسلمين في جنوب أفريقيا ضد نظام التفرقة العنصرية، أو بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي من صحابة الرسول، وأن العروبة هي اللسان وليست العرق.
ويُبيِّن الداعية تحريم موالاة الأجنبي، وأن المسلمين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، وأن اليهود والنصارى لن ترضى عن المسلمين حتى لو اتبعوا ملتهم. ويرى الغرب في الواقع موالاة المسلمين للأجنبي على حساب الوطني. نظمهم السياسية تابعة للغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية. القواعد العسكرية الأجنبية على أرضهم ومدنهم، وفي بحورهم وموانيهم. يحاربون معه إخوانهم في الدين، وعاجزون عن مناصرة إخوتهم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. وضاع منهم استقلالهم الوطني الذي كثيرًا ما ناضلوا من أجله. وفضلوا التبعية على الاستقلال.
ويفخر الداعية بأنهم خير أمة أُخرجت للناس، وبأن الله جعلهم شهداء على جميع الأمم، وجعل الرسول عليهم شهيدًا. في حين يرى العالم أن الأمم الغربية هي صانعة التقدم، وأن مجموعة الثمانية تسيطر على ٨٠٪ من تجارة العالم، وأن العولمة في المركز الغربي، والمسلمين في الأطراف. وفي تصنيف شعوب العالم في العلم والصناعة والعمران تأتي الدول الإسلامية في آخرها.
ولا تنفع الحجج بأن ذلك هو مصير كل الحضارات. فقد تحولت المسيحية من المحبة إلى العدوان، ومن المغفرة إلى الهيمنة، ومن ملكوت السموات إلى ملكوت الأرض. كما تحولت اليهودية من رسالة الأنبياء موسى وإسحاق ويعقوب إلى دعوة صهيونية لهرتزل وجابونتسكي، ومن طاعة للتوراة إلى عصيانها. بل إن هذا أيضًا مصير الشعوب في ثوراتها. وشتان ما بين الآباء المؤسسين لأمريكا وبين المحافظين الجُدُد في البيت الأبيض. وقد تحولت الثورة الفرنسية من الحرية والإخاء والمساواة إلى الإرهاب. كما انقلبت الثورة الاشتراكية في روسيا إلى نظام شمولي قهري.
قد يكون هذا هو المصير الإنساني، من الوجود إلى العدم، ومن البقاء إلى الفناء، ولكن هيهات من يسمع ومن يقتنع، والواقع مرئي للعيان. وأفضل وعظ للمسلمين هو تغيير أحوالهم؛ حتى يتطابق واقعهم مع مثالهم. هنا لا تحتاج الأمة إلى دعاة بالقول في الفضائيات، بل إلى فلاحين في الحقول، وعمال في المصانع، وعلماء في الجامعات، حينئذٍ لا يُقال عنا: رأيت في الشرق مسلمين بلا إسلام، ورأيت في الغرب إسلامًا بلا مسلمين.
(٨) صحافة الإثارة٨
الإعلام أحد العلوم الحديثة الناتجة عن علوم الاتصال. ورث الروايات القديمة التي كانت الطريق لنشر الخبر جيلًا وراء جيل. كما ورث طرق جمع المعلومات القديمة وتبادل الرسائل واقتفاء الأثر مثل الحمام الزاجل، والأحصنة وسماع وقعها على الأرض، واقتفاء الأثر مثل الرمال. وتلتها الأجهزة السلكية واللاسلكية ثم الموجات الصوتية ثم الموجات الضوئية والأقمار الصناعية وكل وسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت ثورة في المعلومات. فالمعلومات قوة. ومَن يمتلك معلومات أكثر ويعرف كيفية تحليلها، يمتلك قوة أكثر. والحرب هي أساسًا حرب معلومات. واستحدثت أجهزة الكمبيوتر لتخزين المعلومات وفهرستها وتحليلها، وسهولة استدعائها لضعف الذاكرة البشرية وسرعة تلف أرشيفات الحفظ.
وأنشئت كليات الإعلام وعلوم الاتصال لهذا الغرض. تعلم الطلاب الخبر وتحليله والصحافة وتبويبها، والفرق بين الخبر والتعليق والتحليل والمقال. وعرض الفلاسفة المعاصرون للأمر؛ نظرًا إلى ما رأوه من خطورة الإعلام على نقل الحقائق، وأثره على تكوين الرأي العام، وتحديد رؤى العالم. واختيار أنماط السلوك كما فعل هربرت ماركوز في كتابه الشهير «الإنسان ذو البعد الواحد»، تحليل دور الإعلام في المجتمعات الصناعية المتقدمة لتسويق المنتجات في النظم الرأسمالية، والتوحيد بين الخبر وطريقة إيصاله بحيث يوحي بتوجه معين، ويدفع إلى سلوك خاص لشراء البضائع؛ لأنها الأفضل نوعًا والأرخص ثمنًا، كبيرة ولذيذة، لا يضارعها مثلها، فرصة العمر قبل أن يحين الأجل.
وتقوم صحافة الإثارة في البلاد المتخلفة بمثل هذا الدور عن طريق الإثارة والدفع إلى الحد الأقصى في مجتمعات التطرف والتعصب والحدة. ويصل الأمر إلى الكذب ونقل أخبار مختلقة، أو أقوال مبتسرة خارجة عن السياق؛ بهدف الإثارة وليس بهدف التوعية عن طريق إيصال الخبر الصحيح. وقد فرق القدماء بين الخبر الصحيح والخبر الكاذب. ووضعوا شروطًا لنقل كل منهما. كما تنقل المعلومات الصماء دون تحليل لها؛ حتى يؤدي الخبر دوره في يقظة الوعي القومي والدعوة إلى التفكير والتساؤل. وقد يتم توظيف الخبر دفاعًا عن الأنظمة القائمة وليس نقدًا لها، كما هي الحال فيما يُسمَّى بالصحافة القومية التي تمتلكها الدولة، وإساءة تأويل المعلومات. وتتحول الصحافة إلى إعلانات حكومية بدلًا من البيانات الثورية للصحافة السرية أو صحافة المعارضة. ويصل الأمر إلى حد عدم تصديق مثل هذه الصحف، وهبوط توزيعها، وتكرار مادتها مهما تعددت عناوينها. وتصبح مُجرَّد ديكور للدولة الحديثة وأحد متطلباتها.
والهدف من صحافة الإثارة ليس نقل الخبر ولا تحليله، بل بيع الجريدة وزيادة توزيعها وانتشارها، بدلًا من ركودها، وتفاقم الديون عليها، ويكون الهدف أيضًا ترقية الصحفي الشاب أو الصحفية المبتدئة؛ لأنها هي التي أذاعت الخبر المثير، وترقية المسئول عن الصحيفة أو القسم أو مدير التحرير إلى رئيس للتحرير؛ لأنه هو الذي قرر نشر الخبر المثير، وخبط خبطة صحفية استرعت الانتباه، وأثارت الرأي العام، وأصبح حديث القاصي والداني. وربما استعمله النظام السياسي لأغراضه الخاصة ضد خصومه السياسيين، وأصبح من أعمدة النظام الإعلامي. وتصبح الغاية من الإعلام ليس يقظة الوعي القومي، بل تصفية خصوم النظام والكشف عن الفضائح، وفتح الملفات السرية التي يبقيها النظام لديه لحين الوقت الذي يقرر فيه تصفية خصومه أو عملائه الذين أصبحوا عبئًا عليه، أو رفضوا الامتثال المطلق لأوامره، وإذا ما أرادوا تَرْك السفينة قبل أن تغرق واللحاق بِبَر الأمان أو ركوب سفينة أخرى ما زالت قادرة على عبور اليباب. وقد يكون الهدف من الإثارة إشعال الفتنة، وكب الزيت على النار، وحرق البلاد بتدخل أيد أجنبية تدفع إلى الحدة والتطرف للقضاء على وحدة البلاد، وإثارة حرب أهلية بين الطوائف والأعراق والأيديولوجيات السياسية.
وتعتمد صحافة الإثارة على الثقافة الشعبية والمحافظة الدينية السائدة في الرأي العام، واستقرار الأعراف التي تحولت إلى قيمٍ ثابتةٍ من طول قبولها، والرضوخ لقيمها، وطاعة أوامرها. كما تعتمد على الأفكار الشائعة والمعتقدات الموروثة والقوى السياسية المحافظة؛ إذا برز رأي جديد أو عبَّر كاتب عن موقف بديل. فتحاصر كل رأي، وتُجَرِّم كل فكر، وتتملق الذوق العام. وتجعل نفسها حارسة القيم، والمدافع عن الإيمان ضد المنحرفين المُلحدِين المارقين المُرتدِّين الخارجين على النظام.
تَتعرَّض للمسائل الإيمانية، والمُعتقَدات الموروثة. وتدافع على ما استقر منها عَبْر مئات السنين ضد أي اجتهادٍ جديدٍ أو قراءة مُعاصِرة. وتدخل في أدق المسائل العلمية والعقائدية لتعرضها على الرأي العام في الصحف السيارة مع أن مكانها الطبيعي في الجامعات ومراكز الأبحاث والمعاهد المتخصصة. ودون أدنى حرج تتعرض للمسائل العقائدية مثل الذات الإلهية، صفاتها وأفعالها وأسمائها، وكأنها قرب المنال، يعرفها الصحفي كما يعرفها النبي. وتتعرض لقضايا الوحي والتاريخ والنص وحوامله في الزمان والمكان. وتتهم المفكرين والباحثين بأنه ينكر الوحي والنبوة والمقدس، وما هو نازل من السماء يجعلونه صاعدًا من الأرض، والناس في لحظات ضعفها وهزيمتها وعجزها لا تجد قوة إلا في الدفاع عن المُقدَّسات التي تعطيها الأمل في المستقبل، والتمسك بالثوابت دون المتغيرات كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
وتترصد صحف الإثارة لهذا المفكر أو ذلك الباحث لكلمة منه أو لتشبيه عفوي تلقائي. وتلقي عليه الأضواء. تترك المعاني والمقاصد، وتتمسك بالألفاظ والحروف، والله يضرب الأمثال للناس كي يعقلوا. ويقضي الباحث العمر في البحث العلمي والتأليف الجاد الرصين. ولا يسمع عنه أحد شيئًا. ولتشبيه عابر أو عبارة عفوية بقصد التقريب إلى الإفهام تتناقله أجهزة الإعلام، وتطير به وكالات الأنباء، ويصبح اسمه على كلِّ لسانٍ في مشارق الأرض ومغاربها. ويُعرف بما لم يقصده، ويُجهل بما قصده. وتضيع سنوات العمر لصالح لحظة عابرة. ويضيع المقصود لصالح غير المقصود.
ومثل القضايا الدينية الإيمانية تثار الفضائح الجنسية للشخصيات العامة، ولرجال الكهنوت، والزواج العرفي، والأطفال الشرعيين وغير الشرعيين. والجنس مثل الدين والسياسة مُحرَّمات ومُقدَّسات في الثقافة الشعبية. ويُقرن بها أخبار الزواج والطلاق، والخلع والهجر، والحب والعشق لنجوم المجتمع من رجال السياسة والمال والسلطان، مع أخبار الفنانين والفنانات، المحجبات وغير المحجبات، الصادقات والطالبات منهنَّ الشهرة والإعلانات لتسويق الأفلام القادمة. ومعها تنشر مذكرات السياسيين الصامتين، وتذاع أسرار المجتمع بعد كشف الغطاء، ويُعلن عن تصريحات القادة المنسيين الذين يقلبون صفحات التاريخ، ويعيدون تركيب الحوادث من جديد بعد أن طواها النسيان.
قد يكون الهدف من صحافة الإثارة الانحراف بالرأي العام، وإبعاده عَمَّا يهم الناس وما سماه القدماء «عُموم البلوى» قضايا الاحتلال والتحرر، والقهر والحرية، والفقر والعدالة الاجتماعية، والتجزئة والوحدة، والاعتماد على المعونات الخارجية والتنمية المستقلة. قد يكون الهدف هو إبعاد الناس عن التفكير في الدماء التي تسيل كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وعن كوارث القطارات والعبَّارات، ومياه الشرب المسمومة، وأنفلونزا الطيور، والأمراض المستوطنة، وتعذيب المواطنين في السجون والمعتقلات، وامتهان كرامتهم في أقسام الشرطة. مهمتها تزييف الوعي القومي واغترابه، وإدخاله فيما لا نفع فيه، وترك الصالح العام. فالإثارة غُبار يعمي الرؤية.
وعلى هذا النحو تضحي صحافة الإثارة بالوطن من أجل المهنة الزائفة. وتضرب بعَرْض الحائط الصالح العام من أجل الصالح الخاص للصحفي أو لجريدته. تضرب المفكرين بعضهم ببعض، وتجعلهم يكيلون السباب والشتائم لبعضهم البعض بلا حياء ولا خلق. ويصل الأمر بفضل الإثارة إلى تبادل الاتهامات بالتكفير، وإطلاق الأحكام بالتخوين. ويتبارى فقهاء السُّلطان، ويتسابقون في تكفير الخصوم السياسيين، والحُكْم عليهم بالقتل لأنهم مرتدون. وما أسهل أن يأتي متعصب لتنفيذ الحكم إذا ما تقاعست الدولة بعد فتوى أحد الفقهاء أنه يجوز لأي مسلم توقيع العقاب على مسلم آخر إذا ما صدر ضده حكم بالرِّدَّة احتسابًا لوجه الله.
صحافة الإثارة هي البديل الأسوأ للعلم والتحليل الموضوعي للأحداث في هدوء ودون انفعال؛ إيثارًا للاعتدال على التطرف، دون إثارة للفتن والنعرات الطائفية والعرقية، ومنع تدخل الأيادي الأجنبية لإشعال الحريق، وتفتيت الأوطان، وإحداث حروب أهلية بين فرقاء الوطن الواحد. ومِن ثَمَّ كان على المثقف الوطني والمفكر الواعي الصمود ضد صحافة الإثارة من أجل وَأْد الفتنة في مهدها «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها.» وإطفاء النار ووأدها وهي ما زالت في المهد، وتفضيل الآجل على العاجل، والتضحية بالنفس من أجل المحافظة على الوطن.
(٩) أباطرة الصحافة وسَدَنة النظام٩
سقوط النجوم علامة من علامات الساعة وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، عندما يتهم البريء صاحب الدعوة بالضلال والغواية مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. أما في حالة أباطرة الصحافة في مصر وفي الوطن العربي، فإنهم قد ضلوا الطريق، وغووا الناس، وزينوا للحكام سوء أعمالهم، وقَلبوا الحق باطلًا والباطل حقًّا. يظل إمبراطور الصحافة على مدى عقود من الزمان نموذجًا للوطنية، ثم يَتحوَّل في غمضة عين إلى نموذج للفساد. ويسقط من أعلى رأس النظام إلى حضيضه، ومِن دخول مبنى الجريدة، دخول الأباطرة القصور إلى دخول دُور المحاكم والقضاء كالمتهمين والمجرمين للتحقيق، ومن تَرأُّس مجلس الإدارة في الصحيفة في أعلى دور في المبنى الشاهق إلى قفص الاتهام محاطًا بالحراس في الطابق الأرضي لقصور العدالة.
ومنهم مَن يقفز من القطار قبل أن يصطدم، وتقع الواقعة. ويدعي الوطنية وينضم إلى صفوف المعارَضة، وينقد النظام والحزب الحاكم بعد أن استفاد عدة عقود من الزمان، وشعر أن نهاية النظام قريبة؛ فيترجل، ويستعد للنظام القادم. ومنهم من ينتظر إلى سن المعاش بعد أن يكون قد استنفد آخر قطرة من لبن البقرة، ثم يتحول إلى مُعارِض داخل الصحف القومية أو داخل صحافة المعارَضة بالمقالات الملتهبة، وبالمقابلات الصحفية الرنانة. فقد تحول بقدرة قادر من الجاهلية إلى الإسلام. ومنهم من يقوم بذلك وهو ما زال تحت السلاح، في سن الخدمة ليضمن مستقبلًا يبنيه في المرحلة القادمة بعد أن أوشكت هذه المرحلة على الانهيار. يترك الحزب الحاكم، ويتنازل عن مكاسبه العاجلة في السلطة والثروة؛ انتظارًا لمكاسب آجلة في السلطة البديلة، والثروة مستمرة. يموت الأنبياء والملوك، ويستمر الكهان والأحبار والسدنة. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. أما رجال الاقتصاد والمال فإنهم يهربون خارج البلاد بعد تهريب أموالهم وبيع شركاتهم وانتظار عقد الصفقة مع النظام للعودة مع تنازل عن جزء من رأس المال للوسطاء ومبعوثي النظام. ومنهم من يزاح في صمتٍ بعد أن أصبح عبئًا على النظام. وطوابير الانتظار طويلة إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى.
الإعلام الرسمي في يد الدولة مثل كل شيء. وهي الكتيبة الأولى في الدفاع عن النظام بالتمويه والكذب كما تفعل أجهزة الأمن والشرطة بالعصي والقنابل المسيلة للدموع. وما أكثر المُوظَّفِين الأيديولوجيين في كل نظام الذين يستعملون العلم والدين والثقافة ويُزَيِّفون التاريخ والحقائق دفاعًا عن النظام. يتبعونه كما يتبع الخادم سيده. ويخالفون الضمير. والنظام يعلم ذلك. والمصالح واحدة. لهم مرتبات تبلغ عشرات الألوف شهريًّا، ونسب من الإعلانات التي تبلغ الملايين سنويًّا، وعلاوات وبدلات سفر مع أنهم في طائرة الرئيس، وينالون شرف المُقابَلات الصحفية مع الرئيس أو مع رؤساء الدول على الصفحات الأولى. ويُوضَعون في مناصب أكبر من قاماتهم، ويلبسون أثوابًا أوسع من أجسادهم؛ حتى يظلوا عبيدًا للشُّهرة والثروة والقوة والمنصب والجاه. لهم اللسان الذي يُعبِّر عن عباقرة السياسة ومنقذي العالم. أباطرة يعظمون آلهة، ويتفاوتون في الذكاء وحسن التبرير وجمال الأسلوب والقدرة على الإقناع كما يفعل الراوي في سرد حكايات ابن البلد، وكما يفعل عازف الربابة في التغني بمآثره، وفي القرآن قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ وهم المداحون. وفي الرواية القديمة «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم.»
وتحفظ آلهة الحكم ملفَّات أباطرة الصحافة بالفساد. فعندما يحين الوقت، ويصبح هؤلاء الأباطرة عبئًا على النظام، أو عندما تفوح رائحة الفساد، أو عندما يُسْتَهلَكون ويصبحون غير قادرين على الإقناع، أو عندما يفقدون الأهلية كلية في خطاب الناس، تفتح ملفات الفساد. ويُضحَّى بهم ككبش الفداء. ويظهر الحاكم أنه الراعي للحق والعدل، وأنه نظيف اليد، وأنه بريء من دم يوسف، وانتهاك كرامة الأوطان، براءة الذئب. والعيب كل العيب فيمن لبسوا قميص عثمان. وقد يحدث ذلك عندما تبدأ صحف المعارضة في النَّيْل منهم، وتسريب أخبار فسادهم بما لدى الصحفي من مصادر معلومات مستقلة أو بما يسربه إليه النظام. فقد خلق النظام بعض أوجه المعارَضة لاستعمالها ضد سدنته عندما تأزف الآزفة، وتقع الواقعة إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. وقد يهدد الأباطرة أنفسهم بإعلان ملفات الفساد للكل، لهم ولغيرهم لهدم المعبد على رءوس الجميع. ومنهم من لا يُمس؛ لأنه تحت مظلة الحماية الأمريكية أو الإسرائيلية. فعملاء الخارج أكثر تحصينًا من عملاء الداخل.
إن النظام السياسي هو أداة الفساد الأولى في البلاد. وأباطرة الصحافة أداة الفساد الثانية لتزييف الوعي الشعبي وتضليل الرأي العام. وإنها أسطورة أن الصحافة ملك الشعب، وأنها قطاع عام يسيطر عليه المجلس الأعلى للصحافة، ومن داخل مجلس الشورى. وقد تنازلت الدولة عن القطاع العام، وباعته بأبخس الأسعار. وهي في سبيل خصخصة الماء والكهرباء والنقل البري والبحري والجوي. وما زالت تسيطر على قطاع الصحافة؛ لأنها اشترته لنفسها إلى الأبد. وذاعت تجارة تراخيص الصحف من الأحزاب الصورية الموجودة على الورق إلى الأحزاب والتيارات والقوى السياسية الموجودة في الشارع دون شرعية قانونية. وتنشأ صحف جديدة للمعارَضة من الإرث الوطني القديم. بل ينشئ النظام السياسي نفسه أو ورثته صحيفة جديدة بين الصحف القومية وصحف المعارَضة لشق طريق ثالث، يد في النظام واستمراريته، ويد في المعارَضة الإصلاحية من الداخل لتجديده من جيلٍ جديدٍ يرث الجيل القديم، وينتظر الثروة والسُّلطة بعد أن فاضت في أيدي الرعيل القديم.
أما صحافة المعارَضة فإنها مثقلة بالديون. تطبع في مطابع الصحف القومية ومُهدَّدة بالغلق إن لم تُسدِّد ديونها. صوتها عالٍ وحزبها ضئيل كما وضح في الانتخابات الأخيرة. وتنقسم على نفسها أيضًا إلى صحافة جيل قديم لا يريد أن يترجَّل، وصحافة جيل جديد يظن أنه أولى بريادة الحزب والتصدي لقضايا الواقع المرير. وما زال الكل صرخة في واد. قد تؤدي دورًا مزدوجًا، دورًا في إحداث التراكم التاريخي الضروري لتحركات شعبية بدأت من قبل ما زالت مستمرة، وفي الوقت ذاته، يستشهد بها النظام لتجميل صورته في الداخل والخارج كدليل على الحرية والديمقراطية.
من الطبيعي أن تكون هناك صحافة الحزب الحاكم. ومن البديهي أن تكون هناك صحف للمعارَضة. وتلقائيًّا تنشأ صحف وطنية مستقلة تشق طريقًا ثالثًا بين السُّلطة، والسُّلطة البديلة، بين من يحكم بالأمس ومن يحكم في الغد. وكلاهما يتنافسن على حكم اليوم ولِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
وفي القرن الثامن عشر قسم فيكو، أحد فلاسفة التاريخ في إيطاليا، تطور التاريخ إلى ثلاث مراحل، وقال إنه استمدها من تاريخ مصر القديم. الأولى مرحلة الآلهة، والثانية مرحلة الأبطال، والثالثة مرحلة البشر. الأولى طويلة، والثانية متوسطة، والثالثة قصيرة في الدورة الأولى. وفي الدورات التالية تقل مرحلة الآلهة لصالح مرحلة الأبطال. وتقل مرحلة الأبطال لصالح مرحلة البشر. فمتى يسقط آلهة النظام وأباطرة الصحافة لصالح الناس؟ ولله في خلقه شئون.