الدين والسياسة
(١) القهر الديني والقهر السياسي١
القهر سمةُ العصر وأحَد أسباب الضيق في الوجدان العربي المُعاصر. يشعر الفرد أنه مقهور. وتحس الجماعة أنها مقهورة. ويعاني الشعب أولًا؛ لأنه مقهور. وقد كَتَب كثير من علماء النفس والاجتماع العرب عن «سيكولوجية الإنسان المقهور»، وعن مصادر القَهر الديني، والسياسي والاجتماعي والتاريخي.
القهر بِنْيَة بِصَرف النظر عن تَجلِّياتها في السلوك الإنساني وفي الحياة العامة. هي بِنْية تقوم على التَّسلُّط. ويعني التَّسلُّط تحديد العلاقة بين طرفين على نحو رأسي، بين الأعلى والأدنى، وليس على نحو أفقي بين الأمام والخلف. فالقمة أعلى من القاعدة، والإرادة الشاملة أقوى من الإرادات الفردية بل تَجبُّها. هو التصور الهرمي للعالم. وليس غريبًا أن يُبدعه فرعون رمزًا للحياة وللممات. فهو الإله الفرعون رمز القهر الديني والقهر السياسي. سماها البعض «أرض النفاق والطغيان». فالطغيان يُولِّد نفاق البعض للتعايش وتَجنُّب البطش. كما يؤدي إلى شهادة البعض الآخَر لمُقاومة البطش دفاعًا عن العدل ضد الظلم وامتلاك البلاد وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ. وليس غريبًا أن ينشأ في مصر على مدى عصور التاريخ، بالرغم من شكاوى الفلاح الفصيح، وثورة ابن الهمام في صعيد مصر، وثورة الفلاحين، وثورة ١٩١٩م، وثورة يوليو، والهَبَّات الشعبية بين الحين والآخر والمُظاهرات العارمة في لحظات الخطر والمساس بالكرامة الوطنية.
ومصادر القهر متنوعة:
- الأول: الدين كما يَعْرِضه رجال الدين دفاعًا عن مناصبهم المُزوَّرة كما يقول الكِندي. وكثيرًا ما تَعاوَن رجال الدين مع رجال السياسة عَبْر العصور. وكثيرًا ما تعاونت الكنيسة مع الدولة، والبابا مع الإمبراطور، وعلماء الأزهر مع رجالات الحكم باستثناء القليل. وأفرزَت عقائد القضاء والقدر التي ينقدها الأفغاني دفاعًا عن الحرية والمسئولية بعد أن تَحوَّلَت إلى ثقافة شعبية كما تبدو في الأمثال العامية «المكتوب مامنوش مهروب.»، «المتعوس متعوس ولو علقوا على راسه فانوس.»، «يا متعوس غير رزقك ما تحوش.»، «العين صابتني ورب العرش نجاني.» إلى آخر الأمثال التي درسها أحد علماء الاجتماع في مصر في «هتاف الصامتين»، و«رسائل الإمام الشافعي». ولا تقوم ثورة إلا إذا تَخلَّى الشعب عن هذا المُعتَقد كما حدث قُبَيل الثورة الفرنسية بفضل فلاسفة التنوير.
- والثاني: السياسة كما تبدو في النُّظم التسلطية؛ مثل: النازية، والفاشية، والنظم الشمولية، والنظم العسكرية، والملكية. وهو ما سمَّاه ابن رشد في «الضروري في السياسة»، «وحدانية التَّسلُّط» أي حكم الفرد المُطلَق الذي يقرر الصواب والخطأ، ويضع السياسات بناء على عبقريته أو إلهامه الخاص في الحرب والسلام والاشتراكية والرأسمالية والاعتماد على الشرق أو الغرب. هو وحده كامل الأوصاف لا بديل عنه، ولا نائب له. يحكم في الحياة عن طريق أجهزة الأمن والشرطة والإعلام، وفي الممات عن طريق الصور المُعلَّقة، والأقوال المأثورة، والذاكرة الحية قبل أن تضعف أو تتوارى أمام الأحداث الجديدة. لذلك تَشتدُّ الدعوات للحرية والديمقراطية، وينتهي حكم الفرد بالليبرالية البرلمانية.
- والثالث: المُجتمَع. وهو قهر العادات الاجتماعية، وقهر أب الأسرة، والأخ الكبير والأم أحيانًا والمدرس والناظر والفتوة والشَّجِيع. ومن يخرج على التقاليد يُتَّهم بالعقوق والانحراف. وإذا كانت معتقدات شعبية؛ فسرعان ما يتهم بالكفر والإلحاد والرِّدَّة، جزاؤه الموت والتفريق، وعدم التوريث أو الدفن في مقابر المسلمين أي أنه «موت وخراب ديار». لذلك قامت كل الحركات الإبداعية في الفن والأدب بتجاوز التقاليد والعرف للتحول من القديم إلى الجديد، ومن الاتباع إلى الإبداع.
- والرابع: التاريخ وتقليد القديم والتمسك بالماضي ومُمارَسة العادات الموروثة دون نَقْد أو تمحيص. فالسلف أفضل من الخلف فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وكما برز في بعض الأحاديث التي تعتمد على نقد السَّند دون نقد المتن كما لاحظ ابن خلدون «خير القرون قرني» مع أن القرآن يدعو إلى المُشارَكة في حركة التاريخ والاختيار بين التقدم والتأخر، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كما يدعو إلى التنافس في الخير، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ. فالتاريخ له ثقله في الوعي الشعبي. يعيش الماضي في الحاضر، والسلف في الخلف؛ فتنشأ الحركات السلفية التي تُطالِب بالعودة إلى الماضي بعد أن انسد الطريق أمامها. وعَجزَت عن الخروج من توقف الحاضر إلى حركة المستقبل. وهو ما يحدث الآن في هروب الحركة السلفية إلى الماضي، وهروب الحركة العلمانية إلى المستقبل. وكلاهما عجز عن الدخول في أتون الحاضر.
والأهم هو القهر الديني وتعاونه مع القهر السياسي والقهر الاجتماعي والقهر التاريخي. فالقهر الديني هو الأساس، أي قهر الرُّوح باسم الإيمان والطاعة، مستغلة القهر السياسي؛ لأن أفضل وسيلة لطاعة السلطة السياسية هي السلطة الدينية التي تشرِّع له وتُضفي عليه الشرعية التي يفتقدها؛ لأنها لم تأتِ باختيار حر من الناس مع أن «الإمامة عقد وبيعة واختيار» بتعبير الأصوليين القدماء. حدث ذلك في الغرب في العصر الوسيط عندما استعمل القهر الديني القهر السياسي، وسيطرت الكنيسة على الدولة، وقام البابا بطرد الملوك من الرحمة الإلهية إذا ما عصوه. تعاونت السلطتان على الدفاع عن الإقطاع، أراضي الكنيسة وأراضي الدولة، ضد ثورات الفلاحين كما حدث في ألمانيا في القرن السادس عشر بقيادة توماس مونزر الراهب البروتستانتي. واستعمل الملوك الأحبار في بني إسرائيل. واستعملت بعض النظم السياسية في الوطن العربي المؤسَّسات الدينية لتبرير سياسات هذه النظم. فإذا ما قويت الدولة استعملت الكنيسة لمد سلطانها في الداخل والخارج في قبول النظام الملكي، واستعمار الشعوب في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية باسم التبشير.
ويأخذ السُّلطان صفاته من الله؛ مثل علمه المطلق، وقدرته التي ليس لها حدود، وحياته الدائمة، واستمراره في الحكم. يسمع ويُبصر عن طريق أجهزة المخابرات العامة، والبوليس السري، وأدوات التجسس، والتنصت، وانتهاك الحرمات. يتكلم كما يشاء. يريد فيأمر فيُطاع. وتصور الوعي الشعبي الله كالسلطان، فعَّال لما يريد وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ. كما تصور قدماء المصريين الفرعون كإله، وكما تصور اليابانيون حتى إلى عهد قريب الإمبراطور كإله.
وفي كلتا الحالتين؛ الشعب هو الخاسر، وهو مصدر السُّلطات. والمواطن هو الضائع بفقدان حرياته الفردية. ومن تراكم القهر الديني تنشأ حركات الإلحاد في حدِّه الأقصى للتحرر من الإله السلطان أو العلمانية في حدها الأدنى للفصل بين السلطتين الدينية والسياسة، بين الكنيسة والدولة. كما تنشأ حركات ليبرالية تُدافِع عن حرية الفرد والجماعة أو فوضوية تَكفُر بالدولة، والنظام السياسي، والطبقة، وكل مَظاهر القهر الديني والسياسي والاجتماعي والتاريخي دفاعًا عن الفرد الحر كما فعل شترنر في «الواحد وصفاته». وبدلًا من أن يتوقف التاريخ تحدث الثورات فيه، وتقع الانكسارات في مساره المتصل. فالتاريخ قصة الحرية عند كروتشة.
ما زال القهر هو البنية الغالبة على الوجدان العربي. وانغرست فيه محرمات ثلاثة: الدين والسُّلطة والجنس، الثالوث المُقدَّس، مصدر عبادة وتشريع، وفي الوقت ذاته مظهر حرمان وضياع. لعبة الدين والسياسة والجنس وراء كثير من الصراعات البرلمانية ومشايخ الإعلام والقنوات الفضائية والصحافة السوداء، صراعًا على السُّلطة، والقهر باقٍ. قنوات ثلاث يُغذِّي بعضها بعضًا. لا يحدث تَحرُّر سياسي إلا بَعد تَحرُّر الدين. فالدِّين هو الأساس، والسياسة فرع. تَحرُّر الروح سابق على تَحرُّر البدن وتَحرُّر الذهن قبل تَحرُّر السجن. وتَحرُّر القلب قبل تَحرُّر العقل. والتَّحرُّر من الإله السُّلطان سابق على التحرر من السُّلطان الإله.
(٢) ألفاظ التكفير والتَّعدُّدية السياسة٢
اللغة أداة للتعبير عند المُتكلِّم، ووسيلة للفهم عند السامع، ومدخل لمعرفة نوع الخِطاب وتحليل لغة الخطاب يكشف عن نوع الثقافة وطُرق المُمارَسة. ولا فرق في ذلك بين الخطاب الديني، والخطاب السياسي، والخطاب الإعلامي، بل الخطاب في الحياة اليومية.
وقد وَرِثْنا تَرِكَة ثقيلة من ألفاظ تُمثِّل لغة الاستبعاد والإقصاء للمعارضين السياسيين، ظاهرها ديني أو طائفي أو عرقي أو جغرافي وفي باطنها سياسي، استبعاد السلطة للمعارضة لإقصائها وإدانتها كسلطة بديلة، وبالتالي القضاء على تداول السُّلطة.
ومن هذه الألفاظ: كافر، مُلْحد، مُشرِك، مُرتَد. وهي تقضي على المعارَضة من الأساس. فمن يلصق به هذا الاتهام يخرج من زمرة الجماعة. لا يعيش معها، ولا يتزوج من نسائها، ولا يدفن في مقابرها، ولا يرث من أموالها. بل يُقتل المرتد إذا ما فارق الجماعة. وأخَفُّها زِنديق، ومنافق، فاسق، عاصٍ. خرج عمله عن إيمانه، ومِن ثَمَّ فأفعال المُعارَضة السياسية تخرج عن حظيرة الإيمان، مع أن الحاكم أيضًا قد يخرج فعله عن إيمانه ويتستر بالنفاق وهو أولى بالاستبعاد. و«من قال لأخيه كافر فقد باء بها.» وأخَفُّ منها شيعي، خارجي، معتزلي. وهي فِرَق المعارضة السياسية الرئيسة في تاريخنا القديم في مقابل السُّنِّي أو الأموي أو الأشعري الذي في السُّلطة. فالشيعي اتبع الأهواء ومال. والخارجي فارق الجماعة، والمعتزلي اعتزلها. وكل مَن عارض السُّلطة القائمة فقد «زعم» و«ادعى». والسلطة القائمة وحْدَها هي التي «تقول». فالمُعارَضة زعم وادعاء وبطلان. والحكومة حق وصواب دون بهتان.
فإذا ما خَفَّت لغة التكفير ظهرت لغة الطائفية لتصنيف الناس والتفرقة بين المواطنين طبقًا للطائفة. فهذا سُنِّي وذاك شيعي، وهذا مسلم وذاك ماروني. وتَفرَّق أبناء الوطن الواحد وتوَزَّع الوطن على الطوائف. شيعة الجنوب، ومسلمو الشمال، كما توزعت ضواحي المدن على الطوائف بيروت الشرقية للمسلمين وغربها للمسيحيين وما بينهما نقاط تماس. وشمالها للمارونيين وجنوبها لأمل. ويقع الخليج في الفخ ذاته، بالحديث عن الشيعة والسُّنة، بالإضافة إلى أهل البلاد أصحاب رءوس الأموال والمهاجرين. والمهاجرون نوعان عرب وآسيون. والعرب نوعان فلسطينيون وسوريون من ناحية ومصريون من ناحية أخرى، منافسة على الأرزاق. وقد تأخذ القسمة الطائفية شكلًا سياسيًّا بين مُعارَضة وموالاة، والمُعارَضة — في أغلبها — مسيحية، والموالاة — في أغلبها — إسلامية. صحيح أنَّ تَحرُّك الشارع اللبناني أخيرًا كان تحت علم لبنان الوطن، واختفت أعلام الطوائف. ومع ذلك ظلَّت الطائفية المحرك الباطني، كل منها يريد استبعاد الآخَر من الحكم، والاستئثار بالسُّلطة، وتقنين ذلك بالدستور. رئيس جمهورية ماروني، ورئيس وزراء سُنِّي، ورئيس برلمان شيعي. واختفت المواطنة لصالح الطائفة. وهو ما يحدث الآن في العراق. وتَحوَّلت معارك السُّلطة إلى معارك الطائفة. وما قد تجر إليه سوريا والسودان ومصر والجزائر والمغرب. إذ تحكم طائفة وتستبعد طوائف أخرى. قد تتحكم أغلبية في أقلية، أو أقلية على أغلبية ليس بناء على اختيار للمواطنين، بل على التحكم والاستبعاد؛ مما جعل الغرب يثير قضية الأقليات في الوطن العربي. وقد يعطي نظام نسبة معينة لتمثيل الأقليات في المجالس النيابية، ومن ثم تختفي المساواة بين المواطنين. كما يتوارى قانون الجدارة والاستحقاق في رعاية المصالح العامة. والكافر العادل خير عند الله من المسلم الظالم.
وقد يحل العرق محل الطائفة أو معها فهذا عربي وذاك بربري أو زنجي. العرب في الحكم والبربر أو الزنوج في المعارَضة. وكما ينقسم العرب إلى قبائل، كذلك ينقسم الزنوج إلى قبائل، هذا من البشارية، وذاك من النوبة ويكون الصراع على السلطة بين القبائل والعشائر، وليس فقط بين الحكومة والمعارَضة.
وقد تكون القُطْرِية أحد عوامل التمييز بين العرب، والمنافسة على المناصب القيادية في المنظمات الإقليمية. هذا مصري وذاك مغربي، هذا سوري وذاك سعودي. وقد يتم توزيع المناصب دوريًّا على الأقطار العربية. فأصبح القُطْر مثل الطائفة أو العرق. وضاعت العروبة كعنصر جامع. وتُورَث المناصب طبقًا للأقطار؛ حتى لا يفقد القُطْر نفوذه على المنظمة الإقليمية. وبدلًا من أن يكون القُطْر في خدمة المنظمة العربية، تكون المُنظَّمة في خدمة القُطْر.
وقد يأتي الإقليم كقسمة داخل القُطْر الواحد. ويَتحزَّب أبناء الإقليم ضد أبناء الأقاليم الأخرى في توارث المناصب. فهذا بحراوي وذاك صعيدي، هذا حضري وذاك بدوي. بل قد يوزع المواطنون على المحافظات. هذا شرقاوي وذاك منوفي. ويظهر التنافس بين سكان كل إقليم. ويسخر بعضهم من بعض طبقًا للذكاء والغباء، الفهم وعدم الفهم، «الحداقة» والسذاجة، الفهلوة والعبط.
وقد يدخل التعليم الذي يحدد نوع المهنة في التمايز بين المواطنين. فهذا أفندي وذاك «بلدي». هذا شيخ وذاك علماني. وهذا عسكري وذاك مدني. ولكل زيه. الطربوش أو عري الرأس للأفندي، و«الطاقية» للبلدي، و«العمامة» للشيخ، و«الكاسكيت» للعسكري. بل يتم احتكار المهنة والحفاظ بالمنصب للتوارث من الآباء إلى الأبناء. فالطبيب ابن الطبيب. والمهندس نجل المهندس. والمحامي الابن يخلف المحامي الأب. ويتم توارث المهن حتى المهن اليدوية. فذاك من أسرة النَّحَّاس وذاك من أسرة الخَبَّاز، وثالث من أسرة الحَدَّاد. ويتم التنافس بين المهن. وتتحول المهن إلى طبقات يصارع بعضها بعضًا. ويزهو أصحاب المهن النظرية على أصحاب المهن العملية، ويَترفَّع خريجو الجامعات على خريجي المعاهد الفنية والمدارس المهنية أو الصناعات الحرفية عن طريق الخبرة والممارَسة. وقد يتحول الأمر إلى التحزب لنادٍ رياضي والانتصار له، ولو بالضرب على النادي المعارض. فهذا أهلي وذاك «زملكاوي». وقد يصبح الأمر أيضًا منافسة على المطربين. فهذا من أنصار عبد الوهاب وذاك من أنصار أم كلثوم. وهذا من أنصار الفنان القديم، وذاك من أنصار الغناء الشبابي الجديد. واختلف الناس وتحزبوا وتفرقوا شيعًا فيما لا فرقة فيه ولا تشيع.
قد يكون من المقبول تصنيف الناس والقوى السياسية طبقًا لاختياراتهم السياسية. وفي الشارع العربي هناك أربعة اختيارات رئيسة تمثل تيارات فكرية تحولت بعدها إلى قوى سياسية: الإسلاميين، والقوميين، والناصريين، والليبراليين والماركسيين. فالتيار الإسلامي هو المُحرِّك الرئيس للشارع العربي والأقدر على تجنيد الجماهير بعد أن استُبْعِدوا من الحكم على مدى نصف قرن. وما زال سلاح اللاشرعية والمنع وراءهم بالرغم من وجودهم في الشارع ونجاحهم في الانتخابات في الاتحادات والنقابات والمنظمات الأهلية. والتيار القومي الناصري هو الذي يمثل حركات الضباط الأحرار التي استولت على السلطة في منتصف القرن الماضي بالرغم من انقلابها إلى ثورات مضادة في الربع الأخير من القرن ذاته. وما زال الحنين إليه قائمًا، والمعارضة منه قوية ومؤثرة. والتيار الليبرالي حكم البلاد في النصف الأول من القرن العشرين والذي يمثل الوطنية والحرية والاستقلال بالرغم من عدائه للثورات العربية الأخيرة وتَبنِّيه الاقتصاد الحر. والتيار الماركسي بالرغم من ضعفه أو حضوره الهامشي، السري أو العلني، إلا أنه ما زال اختيارًا من بعض المثقفين وقِطاع من العمال. الخطورة إذا أتى فريق فِي السُّلطة استبعد القوى الأخرى باعتبارها خصومًا سياسيين أو مُعارَضة غير شرعية، كما استبعد الليبراليون الإخوان والشيوعيين، وكما استبعد الناصريون الإخوان دائمًا والشيوعيين بعد انقلاب الثورات القومية على أنفسها.
وقد يكون من المقبول تصنيف الناس طبقًا لأصولهم الاجتماعية، هذا غني وذاك فقير، هذا رأسمالي وذاك اشتراكي، ذاك من الصفوة وذاك من العامة، هذا من النخبة وذاك من الجماهير، هذا من الحكومة وذاك من المعارضة، دون تداول للسلطة وبعقلية الفِرْقة الناجية في السلطة، والفرق الهالكة في المعارضة.
لقد نَجحَت الثورة الفرنسية في خلق لفظ جديد هو «المواطنة» يتساوى فيه الجميع، كما هو في نشيد المارسيلييز «إلى السلاح، أيها المواطنون.» كما نجحت الثورة الاشتراكية في روسيا في خلق لفظ آخر يتساوى فيه المواطنون وهو «الرفيق». ونجحت الحركة الإسلامية في اختيار لفظ يتساوى فيه جميع أفراد الأمة وهو «الأخ» إلا أننا ما زلنا في ثقافتنا الوطنية متأرجحين بين هذه الألفاظ بالإضافة إلى ألفاظ «الراعي» و«الرعية» و«الإمام» و«الأمة». وما زلنا نفتقد ألفاظ «الوطن» و«المُواطن» و«المُواطَنة»، وما زال خطاب عبد الناصر يرن في الآذان «أيها الأخوة المواطنون».
(٣) الدين الشعبي والمعارضة السياسية٣
هناك فَرْق بين الدِّين الرسمي والدِّين الشعبي. الدِّين الرسمي هو العقيدة والشريعة، دين المؤسَّسات، الدين كما ينبغي أن يكون في أصوله وقواعده. وهو معيار السلوك الصحيح. مسطور في الكتب، وعليه إجماع الناس. لا يختلف — في عمومه — من بيئة إلى بيئة، ومن مُجتمَع إلى مُجتمَع. يتعلمه المؤمنون في المدارس والمساجد وأجهزة الإعلام. أما الدِّين الشعبي فهو الدِّين الذي يمارسه الشعب ويختلط بالعادات الموروثة عَبْر الأجيال ومن خلال القرون الطويلة. لا فَرْق بين دين ودين، بين الإسلام والمسيحية واليهودية، أو بين الهندوكية والبوذية والشنتوية في طُرُق الممارَسات الشعبية. هو الدِّين الاجتماعي الذي كثيرًا ما درسه علماء تاريخ الأديان، والاجتماع، والقانون، والفنون الشعبية.
وقد اتضح الدين الشعبي في مصر خاصة منذ الفاطميين حتى العثمانيين؛ تَقرُّبًا من الحكام للشعب أو يلهونه به بعيدًا عن السياسة أو طلبًا للولاء للدِّين كمقدِّمة للولاء للسياسة. لا فَرْق بين النَّبِي والولي، بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء. واشتهَرت مصر بحب آل البيت والأولياء الصالحين. وعُرِفَت القاهرة بأنها مدينة الألف مئذنة، ومركز مشيخة الطُّرق الصوفية، ومدينة الأزهر الشريف.
وأُعْطِي لكل من آل البيت والولي كرامة مثل سيدنا الحسين، فالحسين حبيبُ النَّبي، والسيدة زينب «إن شالله يا ست» وهي حفيدة النبي، والسيدة عائشة، والسيدة تيريزا، وعذراء الزيتون. وأُعْطِي لكل منها قدرة خاصة. فالشافعي يستجيب لطلبات المستغيثين خاصة العاقرات حتى يحملن. وهي أيضًا من كرامات الست تيريزا. وعذراء الزيتون تَظْهَر في الأزمات كما ظهرت بعد هزيمة يونيو (حزيران) في مصر، والسيدة زينب تنتقم للمظلوم من الظالم، والدعاء لها مستجاب لنصرة المظلوم من الظالم. الدعاء للمظلوم لاسترداد الحق المسلوب، والدعاء على الظالم كي يَرُد الحق إلى أهله وإلا ناله القصاص، والدليل على صدق الدعاء تنظيف الضريح، وكنس ما يحيط به من مُخلَّفات، أو التصدق بالعيش والفول على الفقراء «عيش وفول للسيدة».
وهذا هو ما حدث عندما ذهب فريق من حركة «كفاية» المعارِضة في مصر وأغلبهم من النساء إلى ضريح السيدة يدعو على النظام، ويستنجد بها ضده. يَحْمِلون المقشات بعد حمل الشموع لتنظيف الضريح. وهو ما لم تحبذه حركة «كفاية» كحركة سياسية واعية. فما الإيجابي وما السلبي في الاعتماد على الموروث الديني والثقافة الشعبية في المعارَضة السياسية؟
الإيجابي هو استعمال الضعفاء كل ما في إمكاناتهم لتقوية موقفهم، وشد عزيمتهم، وتعبيرهم عن إيمانهم بحق المظلوم من استرداد حقه من الظالم. ولا غضاضة في الاعتماد على الثقافة الشعبية وإيمان البسطاء. وهو خير من الاستسلام للقضاء والقدر، واللامبالاة، والفتور. وقد استطاعت حركة «كفاية» تحريك الشارع المصري لأول مرة في الآونة الأخيرة مستقلة عن أحزاب المعارَضة، ومنظمات المجتمع المدني والحركات السرية، إسلامية أو ماركسية.
والثقافة الشعبية في البلاد النامية تقوم بدور الأيديولوجيا السياسية في البلاد المتقدمة. فهي تنبع من الوعي التاريخي. وما زالت قادرة على تحريك الناس. وجماهير الموالد والاحتفالات الدينية أكثر مما يستطيع الحزب الحاكم أو أحزاب المعارَضة أن تحشده بالرغم من قوة أجهزة الدولة وسلطاتها على توفير وسائل النقل والرشوة وتقديم الضمانات والوعود كافة.
كما تمتاز بقدرتها على إنزال السياسة من برج السياسيين وعقول المثقفين إلى الشارع، واستثمار عواطف الغضب السياسي عند الجماهير وتركيب المَطالب الاجتماعية والسياسية على حوامل شعبية.
هكذا فعَلَت كثير من حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ لتحريك الجماهير باستخدام الموروث الثقافي الديني أو الشعبي. ولاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية نوع منه، توظيف العقائد للحراك السياسي والاجتماعي. وهو ما يتم في آسيا في البوذية السياسية، والكونفوشوسية الاجتماعية، والهندوكية التي تقوم على اللاعنف والنضال السلمي وجلوس الملايين في الميادين العامة أمام القوات البريطانية لشل حركتها. وهو ما حاولته حركة ماو ماو في أفريقيا، والمؤتمر الوطني الأفريقي في توظيف الرقص الأفريقي والغناء من أجل حشد الجماهير. وهو ما حاولته المهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا في توظيف «الرباط» لطرد المُستعمِر وما تفعله الحركات الجهادية الآن في العمليات الاستشهادية.
وحدث ذلك على مدى التاريخ عندما رفض المسيحيون في شمال أفريقيا عماد الكنيسة الإمبراطورية الرومانية التي اضطهدت المسيحيين قبل أن يتحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية، والرغبة في الاستمرار في كنيسة الشهداء للتحرر من الاستعمار الروماني الوثني أو المسيحي. وهو ما حدث أيضًا في ظهور عذراء جوادلوب في المكسيك، والجثو على الركب من المعاقين طلبًا للشفاء. وما المانع من توظيف الخرافة سياسيًّا واجتماعيًّا. وقد ظهر السيد المسيح لفيكتور كولومبوس، وأسست كنيسة الرجل الأبيض لتدعيم تحقيق رسالته السياسية. وظهرت السيدة العذراء لجان دارك مطالبة إياها بتحرير فرنسا من الاستعمار البريطاني بعد هزيمة الجيش الفرنسي.
وهو نوع من الإبداع السياسي يتجاوز مَقارَّ أحزاب المعارَضة في الشقق السكنية في وسط المدينة. يثير الخيال السياسي. وتشارك فيه الجماهير. وتخرج السياسة من أوساط المثقفين وممارسات النخبة إلى حركة الشارع التي كثيرًا ما اشتكى الساسة من غيابها. وتنصب عليها أجهزة الإعلام الأجنبية، والقنوات الفضائية، وتأخذ مساحة كبيرة في الإعلام الخارجي، وتجد صداها في الأحياء الشعبية بالرغم من تجاهُل الإعلام المحلي لها.
وقد تخيف أنظمة الحكم وأجهزتها التي ما زالت جاهلة. فالثقافة الشعبية أصيلة لدى الضابط والشرطي، لدى الرئيس والمرءوس، لدى الوزير والغفير. وكثيرًا ما تركت الشرطة التي تحاصر مباني النقابات؛ لمنع الأعضاء من الدخول إذا ما استعْدَت عليها الناس الست أم هاشم أو غضب أولياء الله الصالحين. وبالإضافة إلى الإحساس بالذَّنْب لدى الشرطة وأجهزة الأمن وأنهم عبد المأمور، هناك أيضًا الانتقام الديني والعذاب الإلهي كما حدث ليقظة بعض ضباط الشرطة ورفضهم الأوامر بضرب المظاهرات السلمية والانتفاضات الشعبية.
أما السلبي في ذلك فهو أيضًا كثير. فغاية أحزاب المعارَضة والتنظيمات الشعبية هو تنمية الوعي السياسي للجماهير. ولا يحدث ذلك بالاغتراب عن الواقع واللجوء إلى الدين كحيلة للعاجز. والقضاء على الظلم له آلياته في أخذ الحقوق وليس من بينها الدعاء على الظالمين والاستنجاد بالست أم هاشم. ولا يمكن محو الأمية السياسية بأمية خرافية. تلجأ الجماهير إلى قوى خفية، وتتوقع إحداث كرامات. وهو ما يناقض التنظيم السياسي وآليات حشد الجماهير، وبجعل الجماهير أكثر انفعالًا وأقل عقلًا، وربما أشد تعصبًا وأقل تسامحًا كما قد تحدث ردة إذا لم تتحقق النتائج المتوقعة، واستأسد النظام السياسي، واستمر في طغيانه. ويتحول الصراع السياسي إلى صراع الخرافات. كما أنه سلاح ذو حدين. إذ يستعمل الحاكم أيضًا شيوخه وأئمته ودعاته وأولياءه وكهنته لإبطال مفعول الاستنجاد بالست أم هاشم، بل القيام بدعاء مضاد باسم الحفاظ على الأمن، وضمان الاستقرار بالاستمرار، ولكل فريق مبرراته. ويصعب الأمر إذا ما نجح القمع في تفريق المظاهرات، وفرض الأمن، واعتقال المتظاهرين بالآلاف.
والحقيقة أن سدنة الحكم يخشون على الثروة والسُّلطة ليس من انتقام الست أم هاشم ولا دعاء المعارَضة، بل من الثورة الشعبية وانتزاع الثروة والسُّلطة من أيديهم. فهم في ساعة الخطر يأخذون بالأسباب، ويستعدون بتهريب الأموال إلى الخارج، ويحاربون المعركة الأخيرة.
إن مجموع الخَطأَين لا يكون صوابًا. ولا بديل عن الوعي السياسي بواجبات الحكام وحقوق المواطنين بإحصاءات دقيقة، مَن يمتلك ماذا من ثروة مصر المهدورة؟
(٤) الدولة الإسلامية دولة مدنية٤
في لعبة شد الحبل بين الدولة والإخوان في مصر، يضيع الحق قصدًا، ويتم تشويه الإسلام عمدًا لصالح الصراع على السُّلطة. والوصول إلى السُّلطة حق مشروع لكل التيارات والقوى السياسية في البلاد عن طريق تَداوُل السُّلطة، وبالأسلوب الديمقراطي، واللجوء إلى صناديق الاقتراع، والاختيار الحر من الشعب. حزب حاكم في السُّلطة على مدى أكثر من نصف قرن عمر الثورة المصرية، وأحزاب معارَضة إسلامية، وليبرالية، وماركسية، وقومية تُنازِعها السُّلطة. الحزب الحاكم بيده كل شيء؛ الدولة، والجيش، والشرطة، والإعلام، والمعارَضة ليس بيدها أي شيء، مُطاردة من أجهزة الأمن، في السجون والمُعتقَلات أو سرية تحت الأرض، أو مُهاجِرة خارج البلاد، أو ضعيفة مُهمَّشة في الداخل. ظهر حجمها الحقيقي في الانتخابات التشريعية الأخيرة عندما لم تحصل في مجموعها على أكثر من عشرين مقعدًا، بينما حصد الإخوان ثمانية وثمانين، ومجموعها مائة صوت أقل من ربع المقاعد في مجلس الشعب الذي تبلغ مقاعده أربعمائة وأربعة أربعين مقعدًا.
والخوف على مصر بعد العراق، ولبنان، وفلسطين، والصومال، والسودان، والتهديد المستمر لسوريا وإيران. «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.» الخوف أن تتكرر مأساة الصدام بين الثورة والإخوان كما حدث في ١٩٥٤م في حادثة المنشية لاغتيال رئيس الجمهورية الأولى، ثم حادث المنصة في ١٩٨١م باغتيال رئيس الجمهورية الثانية، وما قد يقع اليوم من صدام بينهما بدت مُؤشِّراته في حملة الاعتقالات الأخيرة تحت ذريعة التدريب العسكري لطلاب الحركة الإسلامية في جامعة الأزهر ضد الهجمة الاستعمارية الجديدة على الوطن العربي والعالم الإسلامي. وهو ما قامت به الثورة في بدايتها في المدن الجامعية؛ استئنافًا لحرب الفدائيين في القناة عام ١٩٥١م ضد قوات الاحتلال البريطاني على ضفاف القناة. وبين كلتا الحادثتين ربع قرن تقريبًا. فمتى تتوقف هذه الدائرة المفرغة بين الدولة وخصومها، بين السُّلطة والمعارَضة؟
الذريعة اليوم هي رَفْض الدولة الدينية التي تدعو إليها الحركة الإسلامية؛ لأن الدولة الحديثة دولة مَدنية، ورفض تكوين أحزاب دينية لا يسمح بها الدستور درءًا للفتنة الطائفية. والإسلام ليس دولة دينية ولا دولة أمنية، بل دولة مدنية يحكمها القانون والدستور كما هي الحال في الدولة الحديثة. وهو منصوص عليه في برامج الحركة الإصلاحية في مصر، وسوريا، والأردن، ولبنان. فلماذا التشويه المُتعمَّد، وتَصيُّد الأخطاء، وابتسار الحقائق، والعودة إلى شعارات الأربعينيات، والاعتماد على ما هو وافد من تاريخ الغرب في الصراع بين الكنيسة والدولة، أو بين السُّلطة الدينية، والسُّلطة السياسية؟ لماذا تشويه الحقائق ونقل تاريخ الغرب على تاريخنا؟ ليس القصد هو العلم أو الوطن بل إبعاد الحركة الإسلامية عن السُّلطة في مرحلة ضَعْف الدولة، وتحويلها إلى دولة قاهرة فاسدة في الداخل، وتابعة ضعيفة في الخارج بعد نجاح الحركة الإسلامية في الاتحادات، والنقابات المهنية بالرغم من محاولات التزييف من الحزب الحاكم.
لقد تَغيَّرَت برامج الحركة الإسلامية على مدى ربع قرن وتَجاوزَت مرحلة النشأة الأولى التي رفعت فيها شعارات «الحاكمية»، «تطبيق الشريعة الإسلامية» وتحولاتها الحديثة، «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل». لا تعني الحاكمية حكم رجال الدين، بل حكم الشريعة والقانون. ولا يعني تطبيق «الشريعة الإسلامية» تطبيق الحدود، بل إعطاء الحقوق قبل أداء الواجبات. فحق المسلم في بيت المال: التعليم، والعلاج، والعمل، والسكن، والاستقرار العائلي قبل تطبيق الحدود. فالجوع والبطالة مانعان من تطبيق حد السرقة. ولا يعني شعار «الإسلام هو الحل» أو «الإسلام هو البديل» إلا السَّأَم والمَلل من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث؛ الليبرالية، والقومية، والماركسية. فقد ضاعت نصف فلسطين في ١٩٤٨م في العصر الليبرالي، وضاع النصف الآخر في ١٩٦٧م في أثناء الحكم القومي.
تطورت الحركة الإسلامية من العشرينيات حتى الآن على مدى أكثر من ثمانين عامًا. فلماذا دَفْعُها إلى الوراء لتشويهها وهي تكاد تقترب من مبادئ الدولة المدنية الحديثة، وتَقبَل بالتعددية السياسية، وحرية الفرد، وديمقراطية الحكم، والانتخابات التشريعية، وتداول السُّلْطة، والمواطَنة، والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون؟ لقد كبا الإصلاح من الأفغاني إلى محمد عبده بسبب فَشَل الثورة العرابية، واحتلال مصر في ١٨٨٢م، وكبا مرة ثانية من محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب الثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٣م. وكبا مرة ثالثة بالصدام بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤م. وكبا مرة رابعة في الصدام بين الجماعات الإسلامية والدولة في ١٩٨١م. وقد تَعلَّمت الحركة الإسلامية من التاريخ. وبدلًا من أن تتجه إلى مزيد من العنف جَرَّاء ما حاق بها من ويلات على أيدي النظام السياسي اتجهت إلى السلم والعمل السياسي العلني. وما زال سيف الحظر مسلطًا عليها بالرغم من وجودها في الشارع، وفي المجالس التشريعية والدستورية في الاتحادات، والنقابات المهنية، وفي شَتَّى مظاهر الحياة العامة. وما زالت المحافَظة الدينية العامة الموروثة منذ ألف عام منذ قضاء الغزالي على العلوم العقلية وتكفير المعارَضة وتشريع أَخْذ الحُكم بالشوكة، ما زالت حالة في الوجدان، بل تقوى يومًا بعد يوم بسبب الصدام بينها وبين النُّظم السياسية، وإقصائها من العمل السياسي على مدى أكثر من نصف قرن. ومنها خرجت مُعْظَم حركات التَّحرُّر الوطني في مصر، وتونس، وليبيا، والجزائر، والمغرب، والسودان، واليمن، وسوريا، ولبنان، والعراق، وفلسطين.
والأخطر من ذلك صب الدولة الزيت على النار باستدعاء باقي أحزاب المعارَضة ضد التيار الإسلامي، ووقوع بعض أحزاب المعارَضة في الفخ، كما استَعمَلت الجمهورية الثانية التيار الإسلامي لتصفية الناصريين، «أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض.» بل إن بعض الإسلاميين العلمانيين وقَعوا في الفخ يهاجمون الحركة الإسلامية بعدما نُشِّئوا فيها. ودفعهم التجديد إلى الحد الأقصى دون المرور بالمراحل المتوسطة.
الدولة الإسلامية ليست دولة دينية يحكمها رجل دين أو مَلك أو خَليفة، بل يحكمها من يبايعه الناس طواعية واختيارًا. فتعبير القدماء «الإمامة عقد وبيعة واختيار» السُّلطة للشعب، والحاكم مُنفِّذ للدستور، والقضاء له الكلمة الأخيرة. وهي دولة الفقراء الذين يشاركون الأغنياء في أموالهم وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وفيها المِلْكية العامة لوسائل الإنتاج وللموارد الطبيعية. نظامها يقوم على العدل. فالعدل أساس الملك. وحاكم كافِر عادلٌ خيرٌ عند الله من حاكم مسلم ظالم. وعلاقاتها الدولية تقوم على السِّلْم والتعاون. فلا إكراه في الدين. وقد كان النجاشي، ملك الحبشة، حاكمًا مسلمًا بالرغم من أنه نصراني؛ لأنه انتصر للعدل وللحق ضد الظلم والباطل. الإسلام ليس دينًا بمعنى الكهنوت، ولكنه دِين المصالح العامة. والشريعة وضعية كما قال الشاطبي في «الموافَقات». تقوم على الدفاع عن الحياة، والعقل، والقيمة، والعِرض؛ أي الكرامة، والمال؛ أي الثروة الوطنية. والتوحيد ليست مُجرَّد عقيدة دينية؛ بل نظرية في الوحدة، وحدة الذات الإنسانية ضد النفاق وانفصال القول عن العمل، واللسان عن القلب، والفكر عن الضمير، وضد التفاوت الشديد بين الطبقات، وضد استعلاء دولة على دولة؛ دفاعًا عن وحدة البشرية والنص الديني إجابة عن أسئلة طرحها الواقع، كما هو معروف في أسباب النزول. الواقع يسأل، والوحي يُجيب: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ. والتشريع مُتطوِّر بتطوُّر الزَّمان وتَغيُّر المصالح كما هو مَعروف من دلالة النسخ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا؛ بُغْيَة التَّدرُّج، ومواكبة التشريع لدرجة تطور الواقع كما هي الحال في تحريم الخمر.
لقد نَجحَت الدولة الإسلامية في الماضي في المدينة، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، وإسطنبول في قيام حضارة تقوم على العلم والفن. وما زلنا نزهو بجامعات الأزهر، والزيتونة، والقُرويين وبآثار قصر الحمراء، ومدينة الزهراء، وبرج أشبيلية بالأندلس، وبمدارس الطب الإسلامي في باليرمو وبادوا. وقد كانت النهضة الأوروبية في بدايات العصور الحديثة من آثار الترجمات العبرية واللاتينية للعلوم العربية والثقافة الإسلامية.
وكما نجحت الدولة الإسلامية قديمًا نجحت حديثًا في ماليزيا، وإندونيسيا بعد أن تَحوَّل الإسلام إلى هُوِيَّة وطنية، وأَسْهَم في إنشاء الدولة. ونجح في تركيا المعاصرة بفضل حزب العدالة والتنمية والنهج الاستقلالي. ونجح في إيران الثورة ومناهضتها للاستعمار والصهيونية. وتَحوَّلَت الحركات الإسلامية إلى أحزاب سياسية شرعية في الأردن، والكويت، واليمن، والمغرب، ولبنان. تُسْهِم في البناء الديمقراطي، وتعمل على تَداوُل السُّلطة. وفي الغرب أحزاب ديمقراطية مسيحية واشتراكية مسيحية تصل إلى السُّلطة عَبْر صناديق الاقتراع. ولم يتهمها أحدٌ بالدولة الدينية. وأمامنا عدو صهيوني أنشأ دولته على اليهودية ولم يتهمها أحد بأنها دولة دينية وشرعيتها دينية. وتُسمى «الدولة اليهودية». وتقدَّم حزب الوسط، وحزب الكرامة، وأحزاب أخرى بطلب ترخيص من لجنة الأحزاب بمجلس الشورى فَرُفِضَت جميعها، وكلها تقول بالدولة المدنية.
خطورة حَظْر العمل الشرعي للحركات الإسلامية فوق الأرض يجعلها تتكون سرًّا في إطار لا شرعي تحت الأرض. الخطورة أن تنشأ أجيال جديدة أكثر عنفًا من الجيل القديم بعد أن تضيق بها السُّبل يتربص بها قانون الطوارئ. فمن يكسر هذه الحلقة المفرغة؟
(٥) الجامع والكنيسة أم المدرسة والمستشفى؟٥
انشغلَتْ مصر هذه الأيام والمنزلُ يَحترق حولها في لبنان، وسوريا، والعراق، والسودان. بل في دول الجوار؛ مثل: إيران، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير بالجامع والكنيسة، والمسلم والقبطي. وهو الفتيل الذي تَوَد قُوى الهيمنة الخارجية إشعاله؛ من أَجْل تفتيت مصر في استراتيجية التجزئة والتقسيم للأوطان، وللوطن العربي، والعالم الإسلامي للقضاء على أي شكل من أشكال الوحدة، الوطنية، أو القومية، أو الإسلامية. فقد تَحرَّرَت الشعوب بفضل أيديولوجيات الوحدة والاستقلال للوطن، في حركات الاستقلال الوطني أو العروبة، القومية العربية، أو الأمة الإسلامية. ولا تريد قوى الهيمنة الحالية المُمثَّلة في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية أي وحدة أخرى باستثناء العولمة، ومجموعة الثمانية، وحدة السوق المركزية حتى تظل الأطراف أسواقًا وطاقة وعمالة، ويظل التقابل قائمًا إلى الأبد بين المركز والأطراف، المُنتِج والمُستهلِك، المعلِّم والتلميذ، المتقدِّم والمتخلِّف، الأبيض والملون.
وهي مباراة في الانفصال، وتأكيد للهويات البديلة الدينية، والعرقية، والقبلية، والعشائرية، والعائلية كما هي الحال في لبنان، والعراق، والسودان، والخليج، والجزائر في وقت ضَعُفَت فيه الدولة، وتوقف النظام السياسي عن الحركة، وغاب فيه الولاء للوطن والجماعة. وكلها هويات تجزيئية مُفتعلَة يُظن أنها تجلب الحماية للأقليات وهي أداة للتدخل الأجنبي. ولما كان الوطن العربي والعالم الإسلامي ما زال مرتبطًا بتراثه وبموروثه الثقافي، فإنه يمده بهويته الدائمة عَبْر العصور بالرغم من نتوءات الحداثة بين الحين والآخر هنا أو هناك، ليبرالية مرة، وماركسية مرة أخرى. ولما كان التراث مُقدَّسًا وكأنه ليس من صنع الرجال واجتهاد العلماء، فقد تماهى مع الدين، وأصبحت الهوية الثقافية هوية دينية. تؤيدها قوى الهيمنة وصعود اليمين الغربي، وتغذيها المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة لإشغال الشعوب بمشاكل مزيفة بعيدًا عن الأوطان والقوميات والأمميات. ولما كانت الثقافات بطبيعتها خاصة، وقع صدام الحضارات، وتكون العولمة هي النظرة التوحيدية المُمكِنة باسم السوق، والعالَم قرية واحدة، وثورة الاتصالات. ومن ثم يَتوحَّد المركز، وتَتفتَّت الأطراف.
وتصبح مصر وتُمسِي على أخبار مَن تحوَّل من المسيحية إلى الإسلام، إما عن اقتناع وإما بدافع الحب، سرًّا أم علنًا، الآن أم منذ وقت طويل. وتثور الكنائس على نقص عدد الأقباط واحدًا، ويفرح المسلمون بزيادة المليار والربع واحدًا أو اثنين. وتعجز الدولة. وتلجأ للسُّلطة، سُلطة الكنيسة أو الأزهر ليمنع هذه «التَّحوُّلات»؛ تَطفئةً للنار؛ ودفاعًا عن الأمن وحتى لا تَتحوَّل مُظاهرات الكنائس إلى مُظاهرات الشوارع، ويَتحوَّل الديني إلى سياسي، والضيق في النفوس، والقلوب في الحناجر، والحطب جافٌّ ينتظر الشرارة. وتحول الشخصي إلى عام، والعام إلى شخصي، مع أن الدين في القلب، ولا فرق بين إسلام ومسيحية، فكلاهما دين إبراهيم. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وجوهر الإيمان العمل الصالح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الإيمان في القلب وليس في الشعائر، وفي النية الحسنة وليس في الطقوس.
وجوهر الإيمان «محبة الجار» أو السعي في مصالح الناس. «والله في عون العبد ما دام في عون أخيه.» بل إن تسوية الطريق في العراق حتى لا تتعثر بغلة فيه من واجبات الحاكم، فما حال موالاة الأجنبي والتعاون مع المحتل ونهب الثروات والإضرار بالصالح العام؟ وقد أوحى المسيح بأنه إذا أردنا الصلاة فليغلق كل منا نفسه في حجرته، ويغلق الأبواب ويصلي حتى لا يراه إلا أبوه الذي في السموات؛ تحذيرًا من النفاق والتظاهر والادعاء. كما قال الرسول: «جُعِلت لي الأرض مسجدًا وَطَهورًا.» لقد نَشأت حركة بناء المساجد والجوامع عندما تَراكَم رأس المال في عصور المَلَكية والإقطاع مُوازِية لحركة بناء القصور. الغرض منها الأبهة والعظمة وبيان مَدى سُلطة الملك. لا فرق بين دار العبادة والقصر والسجن في الفخامة والقوة. والدِّين زُهد وتَقشُّف، وإيثار الآخرة على الدنيا. الدين ليس من جانب المنغلق بل المنفتح. ولا يهدف إلى إشغال الأرض بالمباني والحضور المزيف، بل إلى مزيد من التقوى في القلوب. وكان مسجد الرسول من سعف النخل، وكانت كنيسة المسيح في الأخوة بين الحَواريين والعشاء الرباني. والدولة تشكو من ضيق الميزانية، وعدم تَوافُر الدعم اللازم للخدمات العامة، والعجز في ميزان المدفوعات، ونَقص المَرافق. فالأولى من بناء الكنائس والمساجد، بناء المدارس والمستشفيات، وإعادة بناء المَرافق العامة التي يستفيد منها كل الناس بصرف النظر عن دينه. الدولة فقيرة مُكبَّلة بالديون الخارجية، وتعيش على المعونات الدولية، وأموال الزكاة وصدقات البر إنما تُنفَق لإشباع الحاجات الأساسية، وهي الضروريات وليس الحاجيات أو التحسينات بتعبير الأصوليين.
الناس في حاجة إلى مستشفيات، ومدارس، وأندية رياضية. فالجسد المريض ليس مسلمًا ولا قبطيًّا. وكان المسيح يُبرئ الأكمه، والأبرص، ويقيم القعيد، ويحيي الموتى. وكان الطب صنعة الأقباط والمسلمين، أسرة بختيشوع، وحُنَيْن بن إسحاق، وابن سينا، والرازي، وابن رشد. والناس في حاجة إلى مدرسة للعلم بدلًا من اكتظاظ الفصل بالعشرات، وكثرة الصراخ الإعلامي، وبرامج التنمية عن محو الأمية. فالدين وحي، والوحي معرفة. وصحة الجسد في النادي الرياضي لا تُفرِّق بين مسلم وقبطي. وأطفال الشوارع والميادين الذين يَلعبون الكرة على قارعة الطريق في حاجة إلى نوادي رياضية للجميع.
وتعليم الدين في المدارس ليس عن طريق حصص في العقائد الإسلامية أو المسيحية وفصل التلاميذ. المسلمون لحصة الدين الإسلامي. والأقباط لحصة الدين المسيحي. هنا تبدأ الفُرقة في الوطن، وتنشأ الهويات البديلة المُزيَّفة عن الهوية الوطنية. ويشعر التلاميذ أن الوطن به عُنصران وطائفتان وثقافتان وحقيقتان، وإن وَحَّد العلم بينهما فإن الدِّين يفرق بينهما. وهنا تبدأ الطائفية، والمُغايَرة، والتمييز بين المواطنين. الأفضل تعليم القيم الدينية المُشترَكة في كل الأديان عن محبة الجار، والتسامح، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان وحرية الفرد، وديمقراطية الحكم، وإعمال العقل، وخدمة الناس. وهي مقاصد الشريعة عند الأصوليين، والمواعظ على الجبل في الإنجيل. الدين جزء من التربية الوطنية. الوطن واحد، والدين واحد؛ لإحقاق العدل في الداخل، والاستقلال عن الخارج. فالمواطَنة أولًا، والتنوع الثقافي ثانيًا.
يستطيع البرنامج الوطني العام أن يجمع بين المواطنين جميعًا في مشروع وطني مشترك يضم محو الأمية، تعمير الصحراء، إيجاد فرص عمل، تجميل المدن، تنظيم المرور، تنظيف الشوارع، تعبيد الطرق. فالعلاقة مباشرة بين المُواطن والوطن وليس عن طريق الحكومة أو جهاز الدولة. فيشعر المواطن بالانتماء للوطن الذي يشارك فيه الجميع وليس للطائفة، ولا العرق، ولا العشيرة، ولا العائلة. والمسيحيُّ مُسلِمٌ ثقافةً؛ لأنه يعيش بين المسلمين، والمسلمُ المسيحيةُ جزءٌ منه، والمسيحُ كلمة الله وروح منه. والدين الشعبي يُوحِّد بين الدينين. فالمسلم يطلب الشفاء والمرأة المسلمة ترجو الحمل من السيدة تيريزا. والمسيحية تطلب الحمل والشفاء من الإمام الشافعي. كِلاهما قَدَري، صابر، يرضى بما رزقه الله له. وفي الأزمات الكبرى يَتوحَّد الشعب ويظهر الولاء للأوطان. وفي حالات الضعف للنظم السياسة تظهر الفرقة الدينية كهُوِيَّات بديلة، وتخلق الأزمات. فالدين وسيلة لتوحيد الأوطان والشعوب، وليس لبث الفرق وقسمة الأوطان.
(٦) تداوُل السُّلطة أم الائتلاف الوطني؟٦
وفي الظاهر هو تعبير فعَّال. يُمثِّل سلاحًا قويًّا ضد الحزب الحاكم الذي يستأثر بالسُّلطة على مدى عشرات السنين، وضد الحكام العرب المنتسبين إلى قريش أم إلى الجيش، إلى الهاشميين أم إلى العسكريين الذين يستمدون سُلطتهم من الوراثة وهي أبدية من الخلافة حتى المُلك العَضُود، أو من الانقلاب العسكري الذي يُعبِّر عن موازين القوى الفعلية. فما زال الجيش في كثير من بلدان العالم يُمثِّل القوة الرئيسة المنظمة، وأكثر قدرة على التحرك من المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية، بل الثورات الشعبية وانقلابات البلاط. ومع ذلك هو تعبير غير مُؤثِّر. فلم يحدث أن تَداوُل السُّلطة ديمقراطيًّا في الأنظمة السياسية العربية المعاصرة.
والأخطر من ذلك أن مفهوم «تداوُل السُّلطة» إنما يعكس ما سماه ابن رشد «وحدانية التَّسلُّط»، لا فرق بينه وبين ممارَسة الحزب الحاكم. إذ يشرع للسُّلطة البديلة؛ أي للمعارَضة على الحكم بمفردها بعد أن يُزاح الحزب الحاكم ديمقراطيًّا عندما يصبح أقليةً والمعارَضةُ أغلبيةً، أو بانقلاب عسكري حماية للوطن من التبعية للخارج والفساد في الداخل أو بثورة شعبية، كما حدث في السودان عام ١٩٨٦م، وفي لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء وعدد آخر من الاغتيالات السياسية للنواب والصحفيين. الخطورة أن تأتي المُعارَضة بعد أن حصلت على الأغلبية، ثم تتمسك بالسُّلطة إلى الأبد، ويعلن قادتها أن الانتخابات التي أحضرتهم لسُدَّة الحُكم هي آخِر انتخابات كما حدث في الجزائر منذ إعلان بعض قادة جبهة الإنقاذ ذلك، وانقلاب الجيش عليها، ثم وقوع البلاد في حرب أهلية كَلَّفَت أكثر مائة وخمسين ألف شهيد. فالحزب الأيديولوجي، إسلاميًّا كان أم علمانيًّا، قرشيًّا كان أم عسكريًّا إنما وُجِد ليحكم إلى الأبد؛ لأنه الحق الذي لا يأتيه بالباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وينشغل الحزب الحاكم وأحزاب المُعارَضة في التنافس على السلطة، والتسابق على الحكم، وتزوير الانتخابات، وتجنيد الأنصار، وشراء الأصوات، واستعمال كل وسائل البلطجة، وتدخل أجهزة الأمن مما يؤدي إلى انعزال الناس. فسواء كان في الحكم هذا الحزب أو ذاك فالواقع لم يتغير. والفَقْر في تزايد، والقهر مستمر. أصبحت السُّلطة غاية لا وسيلة. والوصول إلى الحكم تربُّع على العرش لا فرق بين الملكيات والجمهوريات. فكلاهما وراثة. بل إن الناس في النظام الجمهوري تتحسر على أيام الملكية حيث كانت حرية الصحافة، والمنافَسة الحزبية، واستقلال الجامعات والقضاء والصحافة. والناس تحت النظام المَلكي لا تجرؤ على المعارَضة والمناداة بالنظام الاشتراكي بعدما آل إليه هذا النظام من مَلَكية جديدة وتوريث، قهرًا بقهر، وفسادًا بفساد. أصبحت السُّلطة فارغة دون مضمون. ويَحدُث التغير الاجتماعي من خارجها، من مُؤسَّسات المجتمع المدني، والحركات الوطنية التقليدية، والمظاهرات الطلابية والاضطرابات العمالية، والهَبَّات الشعبية، والثقافة الحرة. لم يحكم الأفغاني. وكان له أكبر الأثر على الحركات الإصلاحية الثورية في مصر، والسودان، وإيران، وأفغانستان. فليس المهم مَن يحكم في القصر، بل ما الذي يَتحكَّم في العقل؟
يكشف مفهوم «تَداوُل السُّلطة»، إذن، أنه لا فرق بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارَضة، تسلطًا بتسلط، وفسادًا بفساد. ولا فرق بين رئيس الحزب الحاكم، وباشا الحزب المعارِض؛ البِنْيَة واحدة في المجتمع الأبوي، التَّفرُّد بالحكم واتخاذ القرار.
وتثبت التجارب السياسية التي حدث فيها تداول في السُّلطة أن المُعارَضة التي أصبحت في السُّلطة تحكُم بفردها ذهنيًّا وفكريًّا حتى لو ضمت بعض الوزراء من السُّلطة السابقة. ففي التجربة المغربية كان حزب الاستقلال في السُّلطة والاتحاد الاشتراكي في المُعارَضة. ثم أصبح الاتحاد الاشتراكي في السُّلطة والاستقلال في المعارَضة. ثم أصبح حزب العدالة والتنمية في السُّلطة وباقي الأحزاب السياسية في المعارَضة. وفي الحالات الثلاث لم يحدث حوار بين السُّلطة والمعارَضة. وحاليًّا لا يوجد حوار بين حزب العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي. كل فريق ينظر إلى الفريق الآخر على أنه خصم أيديولوجي. فالإسلام أيديولوجية كاملة مُتكامِلة لا يحتاج إلى حوار مع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث. والاشتراكية أيديولوجية تَقدُّمية، ونزعة إنسانية ديمقراطية لا تحتاج إلى حوار مع حركة إسلامية مُحافِظة رجعية ثيوقراطية نصية. التجربة التركية أفضل عندما حكم العلمانيون منذ الثورة الكمالية واستمروا في الحكم بالرغم من تَغيُّر الظروف، وظهور تيارات إسلامية محافِظة أو تَقدُّمية جديدة. فأتى حزب «الرفاه» في المعارَضة يُحْيي ذكريات قديمة وحنينًا إلى دولة الخلافة. فعاداها الجيش، وحَلَّ الحزب، وعزل رئيسه أربكان. والآن استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحكم بالتَّشاوُر مع باقي التيارات السياسية الأخرى، علمانية أو إسلامية. كما استطاع تحييد الجيش. واستقَرَّت تركيا سياسيًّا بعد أن تَبدَّلت عليها الأحزاب والقوى السياسية عدة مرات، دون أن ينجح أي منها بمفرده، أو متحالفًا مع حزب آخَر في الاستمرار في الحكم. كما أخذ الحزب الحاكِم موقفًا وطنيًّا من القضية الكردية في الداخل في إطار من التعددية السياسية، ومن القضية الفلسطينية بالابتعاد عن إسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا، ومن العدوان الأمريكي على العراق برفض مرور القوات الأمريكية على أرضها بناء على رفض البرلمان.
وتجربة حماس في الطريق. عليها أن تختار: الحكم بمفردها كما حَكمَت فتح بمفردها بناء على تَداوُل السُّلطة بين الأغلبية والأقلية، أم بناء على تآلف وطني تُشارِك فيه السُّلطة والمعارَضة، حماس وفتح فيها من أَجْل التفاوض أو المقاومة لاسترداد حقوق شعب فلسطين. ليس من مصلحة الشعب الفلسطيني أن تحكم حماس بمفردها لتبين قدرتها على إنجاز ما لم تستطعه حركة فتح. وليس من مصلحته كذلك أن ترفض فتح المشارَكة في السُّلطة مع حماس حتى تذوق ما ذاقته فتح من الإذلال والإهمال والتهميش في التعامل مع الولايات المتحدة وإسرائيل وفُرجة الوطن العربي على ما يحدث، فالقضية فلسطينية وليست عربية في عصر القُطْرية والطائفية والعِرْقية. «مصر أولًا»، «الأردن أولًا»، «الكويت أولًا» … إلخ.
الإسلاميون قادمون إلى السُّلطة ديمقراطيًّا كما هي الحال في المغرب وتركيا. وهم على وعي بعدم التَّسرُّع والقفز على السلطة بالعقلية الانقلابية القديمة للمَودودي وقُطب، بل بالانتشار في المجتمع أولًا من القواعد الشعبية، وبالمشارَكة لا المُغالَبة مع السلطة القائمة. فقد جرَّب الشعب العربي الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين ثم الاشتراكية مرة أخرى في النصف الثاني منه. وجرب الماركسية في تحالف مع بعض الأحزاب القومية. وكانت النتيجة مزيدًا من التبعية للخارج، والقهر للداخل ضاعت نصف فلسطين في العهد الليبرالي ١٩٤٨م، والنصف الثاني في العهد الاشتراكي ١٩٦٧م. وتَبعثَرت الأمة الإسلامية أولًا، والعربية ثانيًا. وتعيش الآن مرحلة تفتيت الدولة القُطْرِية وتجزئتها إلى فسيفساء عرقي وطائفي. فلم تجد الناس إلَّا الحركة الإسلامية تنتسب إليها. وأصبحت شعاراتها «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، بحثًا عن طوق النجاة، و«الحاكمية لله» بدلًا من الدولة القاهرة المُستبِدَّة الفاسدة التابعة، و«تطبيق الشريعة الإسلامية» بدلًا من عذاب المواطنين في بيروقراطية الدولة ورشاوى الموظفين. ما تحتاجه فقط مزيد من الترشيد والعقلانية والواقعية والاجتماعية وأقل قدر من النصية والعقائدية والسلفية والمثالية والإيمانية.
وقد كان هذا هو طريق الرسول في بناء الدولة العربية الإسلامية الأُولى، بالتوافق الوطني بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، وأهل الكتاب والمسلمين. فالديانات الثلاث تنتسب إلى مصدر واحد، إبراهيم. وأضاف القرآن الصابئة. وأضاف الرسول المجوس. بل إن القاضي عبد البر أضاف عبدة الأوثان فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ما يهم هو العمل الصالح للجميع. فأيهما أجدى «تَداوُل السُّلطة» أم «الوفاق الوطني»؟
(٧) الدين والثقافة والسياسة في رمضان٧
ظاهرة غريبة تتكرر كل عام في الشهر الكريم دون تَوقُّف، ودون تساؤُل ودون استدراك. وهي ظاهرة إلغاء الصفحات الثقافية والسياسية في الصحف اليومية، سواء صحف الحكومة أو صحف المعارَضة، ووضع بدلًا منها صفحات الفكر الديني. وبدلًا من المقالات الثقافية، ومقالات التحليل السياسي تُوضَع بدلًا منها صور مآذن المساجد وجداول إمساكية رمضان والحديث عن الصيام كركن رابع من أركان الإسلام الخمسة، مع صور ملونة، وعيون جاحظة، ووجوه مبتهلة، وسماء مُرصَّعة بالنجوم. وتكرر ما تفعله كل عام بالحديث عن مفطرات الصوم وآدابه، وكيفية أداء شعائره الإضافية كالتراويح، وليلة القدر، وختم القرآن، والاعتكاف في العشر الأواخر منه، وإضاءة المصابيح وإنارة المآذن، وتعليق الفوانيس، وزيارة الأقارب في أوله، وزيارة المقابر في آخره مع الاحتفال بالعيد ووضع الزهور عليها، والتَّرحُّم على الموتى، وتوزيع الرحمة، وقراءة القرآن، لا فرق بين الزيارة الشرعية والعادات الشعبية. وقد تتطرق صفحات الفكر الديني إلى مأكولات رمضان ومشروباته، ما يضر منها وما ينفع، قمر الدين، والكنافة والقطايف والبلح والخشاف والمكسرات التي يُكلِّف استيرادها أضعاف الشهور العادية.
والسؤال هو: هل تحويل الصفحات الثقافية والتحليل السياسي إلى صفحات للفكر الديني في المناسبات على هذا النحو هو من جوهر الدين أم من مظاهره؟ هل الدين هو رموزه وشعائره وطقوسه وعبادته كما يرى الفقهاء، أم معانيه ومقاصده ودلالاته، كما يحاول الصوفية وهم أقرب إلى الحديث النبوي؟ فكم من الصائمين لم يَنَلْهم من الصيام إلا الجوع والعطش؛ لأنه لم يَتمثَّل معانيه؛ مثل: قوة الإرادة، وتحمُّل الجوع والعطش، والكف عن الأذى، وتقوى الله في المعاملات، والتراحم، وزيارة الأقارب، ومشاركة الفقراء في همومهم، وتلبية حاجاتهم. فللفقراء حق في أموال الأغنياء وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، و«ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ.» والأدبيات كثيرة عن حكمة الصوم والإسلام والاشتراكية في الستينيات.
الدين سلوك رمزي، لذلك سميت العبادات الشعائر والطقوس، وللرموز معانٍ ودلالات في الحياة ومؤشر على السلوك فيها. الدين وسيلة لإسعاد البشر وتحقيق الكمال على الأرض وإرشاد للإنسان في حياته اليومية وليس غاية في ذاته، وإلا تحول إلى صور وأشكال ورسوم وكهنوت. وهو مصير كل دين قبل حركات الإصلاح فيه. حدث ذلك في بعض الديانات الشرقية مثل الهندوكية والديانات الأفريقية مثل «الفتشية»، تقديس الأشياء في الطبيعة. وهو ما يميز الديانات «البدائية» كما يصف الأنثروبولوجيون. وقد كان ذلك مصير اليهودية أيضًا على يد الأحبار والكهان ورؤساء المعابد. فجاء المسيح ليحيلها إلى مضمون أخلاقي روحي لإكمال الشريعة من جانبها الباطني وليس الخارجي. ثم جاء الإسلام ليؤكد على ما أكد عليه المسيح لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وأن الرسول قد بُعث ليتمم مكارم الأخلاق.
الدين ما يتعلق بحياة الناس. فخيركم للناس أنفعكم للناس. والله في عون العبد ما دام العبد عون أخيه، ولو عثرت بغلة في العراق لسئل عنها عمر لماذا لم يسوِّ لها الطريق؟ وكانت غزوة بدر في رمضان، وحرب أكتوبر (تشرين) ١٩٧٣م في رمضان. رمضان شهر الإنفاق والبذل وزكاة الفطر، والتراحم والتزاور والتصالح. فلا يجوز خصام الأخ لأخيه أكثر من ثلاثة أيام. والأحزاب تتخاصم، والحكومة والمعارضة تتنافران، والمصالح الشخصية تفرِّق الناس ولا تجمعهم. والصيام حد من الاستهلاك وليس مضاعفته. وقد لا يطعم الفقراء والمساكين اللحم طيلة العام إلَّا على موائد الرحمن.
الثقافة جزء من الدين. إذ يحثُّ الدين على إعمال الفكر، وتحكيم العقل، والاعتماد على النظر. فالنظر أول الواجبات والعقل مناط التكليف. والاجتهاد أحد مصادر التشريع. أتى الإسلام لتحرير العقل من الخرافة والوهم. ودعا القرآن للتفكر والنظر أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وأَفَلَا تَفَكَّرُونَ، وفي الحديث القدسي «أول ما خلق الله خلق العقل. فقال له: أدبر فأدبر، وعزتي وجلالي ما خلقت إليَّ أعز منك.» أتى الإسلام لتنوير العقول وإثارة الأذهان، وطلب البرهان قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
ولا يوجد دين تحول إلى ثقافة وحضارة كالدين الإسلامي. فتعلم القراءة والكتابة يُحرِّر العبد، والقضاء على الأمية جوهر الدين وهدفه الأقصى، على عكس ما هو قائم حاليًّا من أن أكثر من نصف المجتمع ما زال أميًّا. وانخفاض مستوى التعليم يجعل الأمية مزدوجة، أمية القراءة وأمية الوعي الثقافي. وترجم القدماء ثقافات اليونان والرومان غربًا، وفارس والهند شرقًا. وعظَّموا الثقافات المجاورة. عرضوها وأكملوها وأبدعوا فيها. وتحول بلاط الخلفاء إلى نقاشات ثقافية حول المسائل الإيمانية الكبرى، وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، وشارك فيها المسلم، والنصراني، واليهودي، والمجوسي، والصابئي، والوثني، والزرادشتي، والهندوسي، والمانوي، والملحد، والكافر على قدم سواء.
وانتشرت الثقافة الإسلامية شرقًا إلى آسيا، وغربًا إلى أوروبا عبر الترجمة إلى اللاتينية مباشرة أو عن طريق العبرية. ونشأت الثقافة العقلانية في العصر الوسيط المتأخر تحت أثر الثقافة الإسلامية. وانتشرت الرشدية اللاتينية في قلب الثقافة المسيحية لتحكيم العقل في قواعد الإيمان. فانتهى العقلانيون إلى التوحيد والتنزيه.
وفي القرنين الأخيرين، عندما اتصل علماء الأزهر بالغرب؛ مثل: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وابن أبى ضياف، انفتحوا ثقافيًّا على الآخَر. وظهرت تيارات الإصلاح في العالَم الإسلامي بفضل الانفتاح الثقافي على الغير. وقامت حركات النهضة بكل تياراتها الليبرالية والعلمية والتحديثية والقومية بفضل التفاعل الحضاري مع الآخَر. فالدين ثقافة وحضارة. ودخل الإسلام في معركة صدام الحضارات لتحويلها إلى حوار الثقافات. وقد دعا الكِنْدي أول فلاسفة الإسلام سابقًا إلى أَخْذ الحكمة حتى من الأمم البعيدة القاصية عنَّا. فكل إنسان يشرفه الحق «اطلبوا العلم ولو في الصين.» فالثقافة دين والدين ثقافة. ومن ثم تحويل الصفحات الثقافية إلى صفحات للفكر الديني، خروج عن مقصد الدين وتحويله إلى كهنوت وعالَم مُغلَق منفصل عن عالم الحياة.
وإلغاء صفحات التحليل السياسي أيضًا لصالح الفكر الديني في رمضان تملق لأذواق الجماهير، ولعب بالعواطف الدينية، وفرصة ذهبية للتعتيم السياسي، والتخلص من هم كثيرًا ما ضايق الحكام بتنوير المحكومين ومعرفة حقوقهم لاستردادها من الحاكم. أتى الدين لتغيير الأمر الواقع. وقاوم الأنبياء عيوب أقوامهم، تسلط فرعون، والشذوذ الجنسي عند قوم لوط، وصورية الشريعة عند اليهود، وعبادة الأوثان عند قوم إبراهيم، والدعوة إلى المساواة بين عبيد مكة وساداتها، بين عامتها وأشرافها، بين سُودها وبيضها، بين فقرائها وأغنيائها. وجعل من مبادئه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم. وجعل الحسبة الوظيفة الرئيسة للحكومة الإسلامية؛ أي الرقابة على الأسواق وجهاز الدولة كما تفعل الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة الآن. وأعظم شهادة قولة حق في وجه حاكم ظالم، ومن مات دفاعًا عن عِرْضه وماله فهو شهيد، وعظَّم ثقافة الشهادة، وأسس الأحكام السلطانية، ووضع السياسة الشرعية. فالنقد الاجتماعي جزء من الإسلام، وتطبيق الشريعة أساسه وجوهره. فالسياسة دين والدين سياسة. فكيف تلغي صفحات التحليل السياسي في رمضان لحساب الفكر الديني؟
يُخشى أن يَتحوَّل الدين في شهر رمضان إلى كهنوت وعُزْلة عن الحياة الثقافية والسياسية. كما يُخشى أن يتحول الدين إلى وثنية جديدة عن طريق التركيز في شهر رمضان على العادات الاجتماعية التي لُصِقَت بالدين، وهي وافدة من خارجه خاصة من عصر الفاطميين لإلهاء الناس بالدِّين الشعبي عن مُقاوَمة الحكام. لذلك تساند الدولة مَظاهر التدين في رمضان في أجهزة الإعلام الرسمية المرئية والمسموعة والمقروءة. وفي الوقت ذاته تُلهي الناس بالمسلسلات التليفزيونية والبرامج الترفيهية وفوازير رمضان.
(٨) إفطارات رمضان٨
من مَظاهر الشهر الكريم، وقد قارَب على الانتهاء، عدة ظواهر دينية واجتماعية وسياسية وثقافية. تتداخل فيما بينها دون تمييز إلا في أذهان العامة أو الفقهاء. فمن الظواهر الدينية: إنارة المساجد خاصة المآذن، صلاة التراويح، حفلات تسليم جوائز حفظ القرآن الكريم، السرادقات في الأزهر والحسين لمشايخ الطُّرق الصوفية، البرامج الدينية الزائدة في الإعلام المرئي، صفحات الفكر الديني النمطية بدلًا من الصفحات الثقافية في الصحافة، مَعارض الكتب الدينية في أروقة المساجد الكبرى، الإمساكيات لمواقيت الصلاة والإفطار والسحور والشروق.
ومن المظاهر الاجتماعية: فوانيس رمضان أغاني رمضان، مسابقات رمضان، ليالي رمضان، أوكازيونات رمضان، ياميش رمضان، كعك العيد، مأكولات رمضان، قمر الدين، الخشاف، الكنافة، القطايف، مدفع الإفطار، المسحراتي، تقليل ساعات العمل، السهرات الرمضانية، سحور رمضان في السرادقات أمام محلات الفول والطعمية والكباب، زحمة الطُّرقات وتكدُّس المرور. إذ تخرج الملايين في الوقت ذاته وتعود في الوقت ذاته، القيادة بسرعة فائقة قبيل الإفطار للحاق بموعده حتى ولو كان في ذلك فقدان الحياة إثر حوادث الطرق المميتة، العصبية والضيق؛ نظرًا إلى الجوع أو العطش أو الامتناع عن التدخين.
ومن هذه المظاهر إفطارات رمضان تدعيمًا للترابط الاجتماعي بين الطوائف والهيئات والمؤسَّسات والجمعيات ومنظمات المجتمع الرسمي والمدني. وبعد عدة دعوات على بعض منها، وبناء على خبرة شخصية هي على أنواع باستثناء دعوات القوات المسلحة وأفرعها العديدة. وبلغت من كثرتها حد أنه أصبح من المستحيل حجز أي قاعة في أي مكان لإفطار، سواء في دور القوات المسلحة: الدفاع الجوي، أو المدرعات، أو المركبات، أو المدفعية، أو المشاة، أو الحرب الإلكترونية، أو الإشارة، أو في الفنادق الكبرى، أو في النوادي الرياضية، بالرغم من أن رمضان ليس شهرًا للزواج مثل شهور الربيع والصيف وإلا تضاعفت صعوبة إيجاد مكان خالٍ. كما حُجِزَت القاعات الكبرى في فنادق خمسة نجوم، أو في النوادي الاجتماعية في أكثر من قاعة في اليوم ذاته. وعادة ما يتناول رجال الدين والمسئولون الإفطار مرتين. الأولى في أوله والثانية في آخِره، تتخللها صلاة المغرب لكثرة الدعوات وصعوبة الوفاء بها في الوقت ذاته. ويبلغ الزحام درجة أنه يمكن أن تختلط الدعوات. فيذهب مدعو إلى إفطار لم يُدعَ إليه، ويترك إفطارًا دُعِي إليه. فالقاعات متجاورة. وقد يندس المتطفلون. فالموائد عامرة، والبذخ واضح، كما هو في الأفراح. فلا هو من أهل العريس، ولا هو من أهل العروس.
تكثر الإفطارات الدينية وموائد الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط بحضور رجال الدين من الجانبين بالملابس الرسمية، العمائم والقلنسوات والمعاطف السوداء والقفاطين الداكنة. أجهزة الإعلام تغطي المائدة الرئيسة. فالمطلوب الإعلان عن الوحدة الوطنية على الصعيدين الوطني والعالمي، والقُبلات تنهار، والأحضان بالعشرات. ويتم تبادل الكلمات الرسمية التي هي أقرب إلى الخَطابة المدرسية والوعظ الديني عن محاسن الصيام وفضائل الشهر الكريم، واحتفال الطوائف غير الإسلامية برمضان كاحتفال المسلمين بمولد المسيح وبعيد القيامة. وتتراتب الموائد طبقًا للطبقات الاجتماعية والمهنية. الأقرب إلى المنصة والمائدة الرئيسة، رجال الكهنوت، ثم رجال الدولة من المحافظين ومديري الأمن. فالسُّلطتان الدينية والسياسية متفاهمتان ومتعاونتان ومنسجمتان. ثم السُّفراء الأجانب لبيان مدى الوحدة الوطنية في الداخل لإبلاغها للخارج، والخارج لديه معلومات أخرى عن واقع العلاقات بين الطوائف، ثم رجال القضاء، ثم أساتذة الجامعات، أهل العدل والعلم، الشهود على الوحدة الوطنية، ثم صغار الرُّهبان والقساوسة والمشايخ ومُوظَّفو الكنائس والأوقاف. أما سائقو السيارات ورجال الأمن فلهم قاعة خاصة وطعام خاص أقل كمًّا وكيفًا وتكلفة، مع أنهم الفقراء. ولا أحد يسمع الكلمات. يغادر البعض، ويتحادث البعض الآخَر. وينتهي اللقاء كما بدأ استعدادًا للعام القادم. وترد الطوائف «العزومات» لبعضها البعض كما هي الحال بين أهل العريس وأهل العروس وبين الأصدقاء.
وهناك الإفطارات السياسية للأحزاب الحكومية أو لأحزاب المعارَضة كنوع من الدعاية الحزبية، وعقد الصفقات وتبادُل المشورات، وتنسيق الجهود. والانتخابات قادمة بعد عيد الفطر المبارك. حزب مُعارَضة رئيس عين على الشارع، وعين أخرى على الحكم. يدعو على الإفطار رجالات الحزب الحاكم بُغْيَة التعاون. فالمعارَضة أمام الناس، والمساومات خلف الكواليس. والمَدعُوون بالآلاف. فالحياة أخذ وعطاء. تأييد النظام في مقابل شرعية الحزب. وإفطار آخَر من أحزاب تحت التأسيس مخلصة وفعالة تجذب كل أطياف الشعب وقواه السياسية. يتعامل المدعوون من القلب إلى القلب. يمثلون بصدق الوحدة الوطنية في صورة جبهة وطنية أو ائتلاف وطني. الكلمات مملوءة بحب الوطن، والحد الأدنى من التوافق السياسي. تتخللها الأغاني والأشعار الوطنية لنصرة المُقاوَمة في فلسطين والعراق، ولنقد الفساد في الحزب الحاكم، يمولها أعضاء الحزب الأغنياء من رجال الأعمال.
وهناك إفطار النقابات، والاتحادات، والمؤسَّسات الحكومية، والجامعات، والكليات، والأقسام من أجل الوجاهة الاجتماعية. تتخللها صفقات ومساومات على المناصب القيادية. ومُعْظمهم من الحزب الحاكم. يتنادون بالباشا والبك، الألقاب التي ألغتها الثورة. ويتعاطون الألقاب، يا ريس، يا زعيم، سيادتك، كالعشيرة أو القبيلة المهنية أو الحرفية. لا تلقي الكلمات. فالسادة رجال أعمال لا أقوال، وأصحاب مناصب لا وُعود، ورجال سُلطة تحكم ولا تتكلم. فالكلام للمعارَضة بحرية تامة، والفعل للنظام بسرية تامة.
وهناك إفطار الجامعات، علماء مصر وصفوتها. ربع المدعوين من الأساتذة الجامعيين، والباقي من الحزب الحاكم والمحافظين ورجال الأمن والإداريين. فلم تَعُد الجامعة مستقلة في شئونها. وأساتذة الجامعات هم قادة المستقبل. عينهم على الحكم أكثر من الجامعة. فَقدَت الجامعة استقلالها. ولم تَعُد الجامعة للجامعيين. الجامعة للدولة وليست الدولة للجامعة. يمثل قادتها الدولة داخل الجامعة ولا يمثلون الجامعة لدى الدولة. لذلك نشأت حركة ٩ مارس لاستقلال الجامعات، والعودة إلى جامعة أحمد لطفي السيد وليس لرئيس الجامعة الذي ينتظر رفعه إلى مصاف الوزير أو إلى رئيس الوزراء.
وهناك إفطار دور النَّشْر والعاملين بحقل الثقافة. وفيها يظهر الكُتَّاب والأدباء والمفكرون والفنانون وأصحاب الأقلام. يعقبه ندوة ثقافية يَتصدَّرها كبيرهم من الصحفيين أو رجال الفكر والقضاء في خطاب يُعَد أن يكون قصيرًا ثم يطول. فالمفكر داعية. ويلتف حوله نفر قليل من المدعوين في حلقتين. وباقي المدعوين يتسامرون ويتمازحون. ولا تستطيع ذلك إلا دور النشر الكبرى التي على علاقة مع الدولة في توريد الأوراق والأحبار أو التي تقوم بدور في الأندية الرياضية أو لديها تطلعات سياسية أو دينية.
وهناك إفطار موائد الرحمن طبقًا للأحياء ولأصحاب الدعوة الذين يرجون الجنة في الآخرة، بعد أن عاشوا في جنة الدنيا، جنة الشهرة والمال من الفنانين والفنانات ورجال الأعمال. وتتفاوت الأحياء من أعلاها إلى أدناها، من الزمالك، وجاردن سيتي حتى بولاق الدكرور، والأباجية، وقلعة الكبش، وباب الشعرية، والعطوف، والجمالية؛ حيث تشتد الحمية الدينية ويقرب الجوار إلى أولياء الله الصالحين. ويذوق فقراء مصر على مدى شهر طعم اللحم، ويقدم الطعام على موائد كبيرة ومقاعد مشتركة طويلة أو على حصائر على الأرض وطبالي مستديرة أو مستطيلة. والله هو المطعم الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
تكلف إفطارات رمضان الخاصة والعامة خزينة الدولة الملايين لاستيراد كماليات رمضان، شهر الزهد والصيام والإحساس بالفقراء من الأغنياء؛ فيحس الفقراء بشبع الأغنياء. وبعد انفضاض المولد، ورفع الموائد، يعود الواقع كما هو. فلم يتغير شيء فيه. وتقع حوادث الإسكندرية بين المسلمين والأقباط والخسائر بين موتى وجرحى لعرض مسرحية في كنيسة ظنَّ المسلمون أنها تسيء إليهم. وتبدأ المظاهرات السياسية في الشوارع ضد الحزب الحاكم؛ ومن أجل الإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين من الأمهات ولو بفوانيس رمضان أمام ضريح الست أم هاشم.
(٩) الدين والأفراح٩
بعد أن توقَّف القصف على لبنان وإطلاق الصواريخ على شمال الكيان الصهيوني والتقاط الأنفاس على ما يحدث في لبنان على الساحة الداخلية، وتحوَّل اهتمام العالَم إلى إيران، والسودان، وسوريا، وأفغانستان، نظرة إلى الداخل، إلى الحياة الاجتماعية تساعد على تحليل الأوضاع الداخلية التي هي ركيزة الأوضاع الخارجية. فالتحليل السياسي هو أساسًا تحليل اجتماعي للسياسة. والتحليل الاجتماعي هو تحليل سياسي للمجتمع، لا فرق بين السياسة والاجتماع، بين الدولة والمجتمع.
وقد بان أخيرًا مدى انتشار الدين في الحياة اليومية، ليس فقط في التَّمسُّك بالشعائر والعبادات المفروضة في الشريعة، بل أيضًا في مَظاهر الحياة الاجتماعية، والسلوك اليومي، والآداب، وعادات الطعام والشراب، والدخول والخروج من المنازل، والبيع والشراء. ومنها عادات الأفراح، وأعياد الميلاد، والمآتم، والتعازي، والمواسم، والأعياد. ورمضان على الأبواب حيث تكثر هذه المظاهر، إنارة المآذن وأغاني رمضان، وفوازير رمضان، وحلوى رمضان، وتسالي رمضان، وأمسيات رمضان.
فمن عادات الأفراح وبداية الزَّفَّة وضرب الدفوف إنشاد أسماء الله الحسنى واحدًا تلو الآخر في لحنٍ مؤثرٍ، يرتفع وينخفض، يجمع ويفرِّق. ومع اللحن يتمايل المنشدون والمدعوون، بين الذِّكر والرقص والدين واللهو، والإيمان والفرح. وأمام العروسين طفلان بالحُلَّة الرسمية السوداء وراءه الرداء الأبيض للعروس والأسود للعريس، يحمل كل منهما شمعة بيد والمصحف باليد الأخرى، مفتوحًا على إحدى صفحتيه بالمصادفة، والورود تتساقط فوق الرءوس وعلى المصحف. وقد تتساقط نقاط الشمع السايح عليه أيضًا. ولا أحد قرأه أو تدبَّر ما فيه. بل الكل ينظر إلى ما هو آتٍ بعد انتهاء أسماء الله الحسنى: الزَّفَّة، والراقصة، والغناء الذي يهنِّئ بليلة الزفاف. وتتلوه الطنبورة ودوران المجذوب أو الولي بردائه المزركش مرة فوق الرأس، ومرة أخرى على الوسط، ومرة ثالثة على الأرض كما تفعل الراقصة، لا فرق بين رقص ديني ورقص دنيوي بين هز الرأس وهز الوسط. يتلوه الرقص الشعبي، التقاتل بالعصى كالفتوات أو التحطيب. ثم يرقص الرجال كما ترقص الجِمال، وترقص النساء كما تهتز الخراف، والمدعوون عرايا. قد يشارك الشباب والشابات منهم ومنهن؛ تحية للعروسين. والمصحف مفتوح. فالحياة تحتاج إلى شرعية، والدنيا تستند إلى الدين.
ثم يأتي دور الثقافة. ويسأل القيم الشاب على الحفل وتوجيه الأطفال أسئلة لاختبار ثقافتهم وتطويرها، وأخذ مناسبة عيد الميلاد لإعطاء درس خصوصي في الثقافة العامة. مَنْ هي آخر زوجة للرسول؟ ويصيح طفل ويسبقه مدعو بالِغ: ميمونة. كم حَجَّة حجَّها الرسول؟ ويصيح طفل: واحدة، بعد أن تكون سبقته في الإجابة امرأة سعيدة بكمال ثقافتها الدينية. مَن هو الصحابي المذكور ثلاثين مرة وله الجنة؟ وهنا صعبت الإجابة، واحتار الصغار والكبار، والكل تشوق للمعرفة وصحت: حسن نصر الله، ولكن عاد أحد المدعوين إلى الوراء وأجاب: زيد. ما أفضل عمل يقوم به الإنسان في يومه؟ وأجاب طفل: الصلاة. وماذا بعد الصلاة؟ فأجاب طفل: آخر المذاكرة، واستحسن الجميع الإجابتين. الجمع بين الدين والدنيا، بين المسجد والمدرسة، بين الجامع والحضانة. ما الشيء الأكثر كرهًا؟ وأجاب الجميع في صوت واحد: الشيطان. ولم يقل أحد ومَن هو الشيطان؟ هل هي مجموع أهواء النفس أم هو الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي مجموعة أخرى من الأسئلة عن المستقبل سأل القيم الرشيد الموجه للحفل طفلًا طفلًا: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ فقال الطفل المحتَفى به: طبيب أسنان. لماذا؟ لأنني أريد أن أعالج أسناني من السوس. فالإنسان يريد مصلحته ونجاته، هناءه وسعادته. وأجاب طفل آخر: مهندسًا. لماذا؟ كي يبني بيتًا كبيرًا بدلًا من غرفته الصغيرة. فالضيق في الحاضر له اتساع في المستقبل. وأجاب طفل ثالث: طيارًا. لماذا؟ لأني أريد أن أضرب العدو! ومَن العدو؟ إسرائيل! لماذا؟ لتحرير المسجد الأقصى. هنا يبرز الوعي السياسي من خلال الوعي الديني، وينكشف الاغتراب الديني بالواقع السياسي. الدين ستار، والسياسة مستور. الدين رمز، والسياسة واقع مكشوف، الدين لغة الحياة اليومية، والسياسة مضمونها، ما وراء اللغة والرمز.
تدل ثقافة الطفل، إذن، على شيئين. الأولى ثقافة شعبية شائعة وهي الثقافة الدينية المتوارثة والتي يلجأ إليها المجتمع حفاظًا على نفسه من الضياع ومن الذوبان في هذا العالَم المترامي الأطراف، وكما يبدو من القنوات الفضائية. تفرزها الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة والإعلام. والثانية ثقافة حديثة واعية تكشف عن وعي الطفل بالعالَم، وبما يحيط به، وبمدى قدرته على السيطرة على العلم والتقنية لمواجهة تحديات العصر وفي مقدمتها الاحتلال.
الثقافة الأولى طاغية. لها جذورها في الوعي الثقافي. وهي ثقافة نمطية واحدة مُقدَّسة لا شك فيها ولا نظر. هي ثقافة جاهزة للرد على كل شيءٍ حتى دون معرفة السؤال. والثقافة الثانية ثقافة العقل والفكر والعلم والمواجهة. هي الثقافة الحديثة، رد فعل على الثقافة القديمة. وقد تَتصادَم الثقافتان في لحظات الشِّقَاق الوطني أو الحِراك الاجتماعي في لحظة ضعف الدولة الوطنية. وقد يشتد التصادم إلى حدِّ شقِّ الصف الوطني بين سلفيين وعلمانيين، الأول يكفِّر الثاني، والثاني يخوِّن الأول. كل فريق يعتبر نفسه على صواب، والثاني على خطأ. فغاب الحوار الوطني، ونشأت الحروب الأهلية. والغرب يغذي الفُرقة والتشاحن في العراق ولبنان ودارفور.
تنقص هذه المناسبات والاحتفالات الثقافة الوطنية الجامعة للأطفال، قيم الوطن، والأخوة، والعدل، والتنمية، وزراعة الصحراء، وتنظيف الشوارع، وإعادة بناء النجوع، والأخذ بيد الفقراء، وعيادة المرضى، والدفاع عن المظلومين. هي الثقافة الإنسانية العامة التي تجمع بين القديم والجديد، بين الأديان والطوائف بين المذاهب السياسية والفِرق الدينية.
يظل الموروث الثقافي هو الملجأ الأول للسلوك في الحياة اليومية. ونظرًا إلى أن المجتمعات العربية مجتمعات تراثية، فإن الموروث الثقافي لديها هو أساسًا موروث ديني. يلجأ الناس إليه ساعات الفرح والحزن، ويعتمدون عليه أوقات الهزيمة والنصر. ففي هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م أنشد المصريون:
وفي نصر أكتوبر ١٩٧٣م غنَّى المصريون:
فمتى ينتبه العرب إلى أهمية إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث تكون حاملًا للأهداف الوطنية؟ متى يعي العرب أهمية إعادة بناء الموروث الثقافي بحيث يصب في تحديات العصر، وبالتالي يأمن العرب غائلة الفُرْقة وشق الصف الوطني باسم الثقافة القديمة أو الجديدة، والوطن هو الخاسر؟