الثورة قادمة
(١) نداء إلى الشعب١
قد تكون مصر في لحظة فارقة من تاريخها بعد أن اشتدَّ لف الحبل حول عنق سوريا، الأمن القومي لمصر في الشمال، ومخاطر التقسيم العرقي في السودان بين الشمال والجنوب والغرب، الأمن القومي لمصر في الجنوب، وبعد تفاقم العنف في شبه الجزيرة العربية واشتداد المعارَضة المسلحة من أسفل من قوة الضغط السياسي والأمني من أعلى. وقد تكون حوادث الإسكندرية الأخيرة بداية النهاية في النظام السياسي في مصر، الفِتنة الطائفية من أَجْل التقسيم، وتصاعُد النداء بالدولة القبطية في مصر من أقباط المهجر وصداهم المكتوم في الداخل، بعد الدويلات الشيعية، والسُّنية، والكردية في العراق، والمارونية والإسلامية في لبنان، والعَلوية والسُّنِّية في سوريا، والعربية والبربرية في المغرب العربي، والعربية والزنجية في السودان، والنَّجْدِية والحجازية والحضرموتية في شبه الجزيرة العربية، والسُّنِّية والشيعية في الخليج، والزيدية والشافعية في اليمن حتى تصبح إسرائيل هي أكبر دولة عرقية طائفية في المنطقة وسط فسيفساء من هذا النوع، تأخذ شرعية جديدة أبدية من طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة، بدلًا من أساطير التكوين الأولى التي أعطاها لها هرتزل في «الدولة اليهودية» في أواخر القرن التاسع عشر، أساطير أرض الميعاد، وشعب الله المختار.
ومن هنا تأتي أهمية الانتخابات التشريعية القادمة من أجل معركة الحسم. هل تستمر مصر في سياساتها السابقة على مدى ثلاثة عقود من الزمان في الجمهوريتين الثانية والثالثة بعد التحوُّل مائة وثمانين درجة في سياساتها من مناهضة الاستعمار والصهيونية إلى التحالف والاعتراف بهما، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن التصنيع إلى الاستيراد، ومن التخطيط إلى الخصخصة، ومن الاستقلال الوطني إلى التبعية السياسية، ومن النزاهة إلى الفساد، ومن الحضور على الساحة الإقليمية والدولية إلى الغياب، ومن الجمهورية إلى الملكية، ومن تحالف قوى الشعب العامل إلى الإقطاع الممثل في رجال الأعمال؟ أم هل تعود مصر إلى مسارها التاريخي، قائدة التحرر في الوطن العربي، وبؤرة وحدته وتنميته، متحالفة مع القوى الوطنية في العالم الثالث، باندونج وعدم الانحياز والقارات الثلاث، ورائدة التجارب التنموية في الدول النامية؟ يمثل الحزب الحاكم انحراف مصر عن مسارها الطبيعي. وتمثل قوى المعارضة الموحدة عودة مصر إلى مسارها التاريخي.
كانت الانتخابات الرئاسية السابقة معروفة نتائجها سلفًا مع بعض الحياء من ٩٩٫٩٪ إلى ٨٦٪ بالرغم من تعديل الدستور للانتخاب من بين أكثر من مرشح. فجاء الانتخاب في صورة استفتاء للزعيم الأوحد، وللرئيس الأبدي على مدى أكثر من ربع قرن، مع توريث الحكم في أبنائه من بعده وهو ما لم يفعله حتى الأنبياء قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. فانحسر عنها الناس. وغاب المشاركون. ولم يتعدَّ المنتخبون أكثر من ٢٣٪ من شعب مصر. وسمع شعب مصر نداء المعارضة بالمقاطعة. وأصبح الرئيس الآن رئيس الأقلية، وليس رئيس الأغلبية.
أما الانتخابات التشريعية القادمة فهي مختلفة. إذ تمثل معركة فاصلة بين المعارضة الموحدة التي تُعبِّر عن تطلعات شعب مصر في مواجهة الحزب الحاكم الذي نهب مصر وأضاع كرامتها. لا شيء حُسم فيها من قبل. عيون منظمات المجتمع المدني وبعض المراقبين الدوليين عليها. والتحذير من التزوير، وتدخل أجهزة الدولة، والتلاعب بكشوف الانتخابات قد بدأ. والحزب الحاكم تتصارع أجنحته بين رعيل قديم بقيادة الأب، ورعيل جديد بقيادة الابن، بين الذين نهبوا مصر حتى التخمة والذين يستعدون لنهب مصر، فقد جاء دورهم.
ومجلس نيابي قوي بالمعارضة خير من مجلس يستولي فيه الحزب الحاكم على كل مقاعده، باستثناء ديكور بسيط من أحزاب المعارَضة المحظورة كالإخوان، أو الشرعية كالتجمع، والوفد، والعربي الناصري. وربع المقاعد للمعارضة حوالي مائة، يقدمون البديل، خير من معارَضة هامشية لا تؤثر في تغيير سياسات الحزب الحاكم.
لقد تَعوَّد المصريون على السلبية السياسية وعدم المشاركة في الانتخابات على مدى نصف قرن. كان الزعيم في الجمهورية الأولى يُعبِّر عن طموحات الشعب ويحقق أمانيه. ووثقت الجماهير به، بالزعامة المباشرة التي تَجُبُّ المؤسَّسات، كما يحدث دائمًا للقادة العظام في التاريخ مثل محمد علي. وفي الجمهورية الثانية عندما أصبحت حرب أكتوبر آخر الحروب، والسلام اختيارًا استراتيجيًّا، والرأسمالية ليست جريمة، وعربة وفيلَّا لكل مواطن، وإلكترون لكل جندي، تم تخدير الشعب على أمل الخروج من عنق الزجاجة. واستمر نهب مصر في الجمهورية الثالثة سياسة رسمية من بيع للقطاع العام حتى الشركات الرابحة، وتهريب رءوس الأموال إلى الخارج، والفساد والعمولات، والتلاعب بالأسواق، والاحتكار، رأسمالية بلا قيم رأسمالية. فعرف الشعب عن المشاركة السياسية بالرغم من وجود أحزاب للمعارضة ابتداء من المنابر حتى الأحزاب الورقية.
ثم استيقظ الشارع المصري وبدأت حركة الجماهير استئنافًا للهَبَّات الشعبية المتكررة ابتداء من أزمة مارس ١٩٥٤م، ومظاهرات الطلاب ضد أحكام الطيران في ١٩٦٨م، واعتصام ميدان التحرير مطالبين بساعة الحسم في ١٩٧١م، ثم الهبة الشعبية في يناير ١٩٧٧م، ومظاهرات الأمن المركزي في ١٩٨٦م، والمظاهرات الضخمة ضد العدوان الأمريكي الأول على العراق في ١٩٩١م، والثاني عام ١٩٩٨م، وتأييد الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ١٩٨٧م، والثانية في عام ٢٠٠٠م. ونشأت حركات تلقائية وصلت إلى أربع عشرة حركة وفي مقدمتها «الحركة الوطنية من أجل التغيير»، و«كفاية». ونشطت منظمات المجتمع المدني، ووسعت نشاطها خارج منظور حقوق الإنسان والمرأة الضيق إلى الفضاء الاجتماعي والسياسي.
وثقت جماهير شعب مصر بالزعيم في الجمهورية الأولى، وتَخلَّصَت من المُقامر في الجمهورية الثانية، والآن تنتفض ضد الإداري في الجمهورية الثالثة. قاد الربان الأول السفينة إلى بر الأمان وثَقَبَها المُقامِر الثاني. والآن تغرق. والآن تعود مصر إلى سابق عهدها قبل الثورة، الحركة الوطنية في الأربعينيات، ولجنة الطلبة والعمال في ١٩٤٦م والتي تشبه وحدة قوى المعارَضة الآن.
الرهان اليوم على حركة الشارع المصري والقُوى الوطنية فيه، أحزاب المعارَضة، التجمع، والناصري، والوفد، والأحزاب تحت التأسيس «الوسط»، و«الكرامة»، والقوى السياسية «المحظورة»، الإخوان، في مواجهة تراجع الحزب الحاكم وانقساماته وصراعاته الداخلية على قسمة الغنائم «ما شافوهمش وهمه بيسرقوا، شافوهم وهمه بيتحاسبوا». لذلك هرب البعض، واعتبر نفسه مستقلًّا حتى لا يلوَّث بمساوئ الحزب الحاكم ومفاسده. وقد يعودون إليه لتقويته ولأخذ نصيبهم من الغنائم فالمستقل الذي ينجح بفضل استقلاله يخون الأمانة التي أولاها ناخبوه إذا ما عاد إلى الحزب الحاكم. ويقبلهم الحزب الحاكم لتوسيع حضوره في المجلس النيابي ضد أحزاب المعارَضة.
المشاركة الشعبية في الانتخابات النيابية القادمة ضرورة وطنية. ويستطيع المواطن أن يُمارس مواطنته ويدافع عن وطنه بالمقاطعة مرة كما حدث في الانتخابات الرئاسية الماضية، وبالمشاركة مرة أخرى كما هي الحال في الانتخابات القادمة. وقد يضع الحزب الحاكم العقبات مثل التلاعب بالكشوف، وتكرار أسماء الأحياء، وإضافة أسماء الأموات، وتعذيب المواطن للتعرف على دائرته الانتخابية. فالكشوف لم تُعلن بعد في الأقسام. وقد يستعمل نواب الحزب الحاكم كل أساليب الإرهاب التي قد تصل إلى حد التصفية الجسدية لمُرشَّحي المعارَضة أو لوضع العقبات الإدارية أمامهم، وإعاقة دعاياتهم الانتخابية، فنواب الحزب الحاكم يدافعون عن الثروة والسُّلطة في آنٍ واحد. ولن يتركوا الشعب لاختيار حُرٍّ لمرشحيه.
إن المُشارَكة الفعالة في الانتخابات التشريعية القائمة هو الطريق إلى حصار الحزب الحاكم، وإقناع النظام السياسي أن الطغيان له حدود، وأن تزوير إرادة الشعب لم يَعُد ممكنًا، وأن الشعب قد أخذ مصيره بيده، بعد أن تساهل في حقه على مدى ثلاثة عقود من الزمان. وهذا ما يتطلب جهدًا زائدًا من الشعب للمُشارَكة في الانتخابات، وتجاوز ما تَعوَّد عليه من السلبية والمُقاطَعة. كانت إدارة الظهر للحاكم أحد عوامل المقاومة. والآن مواجهة الحاكم وجهًا لوجه هو السبيل للخلاص منه.
إن حركة التاريخ قد أسرعَت خطاها مع قوى المعارَضة الوطنية ضد الحزب الحاكم. ولم يبقَ للنظام السياسي إلا أن يدرك مسارها. فإما أن يتحالف مع الشعب، ويحرص على مصر التاريخية وثوابتها في الاستقلال الوطني ودور مصر الإقليمي والدولي، وإما أن يرحل كما رحل حكام مصر السابقون؛ سعيد وتوفيق. وما زال رمسيس، وأحمس، وصلاح الدين، ومحمد علي، وعبد الناصر في الذهن والذاكرة، يحركون الخيال والوعي والضمير.
(٢) نداء إلى الشرطة٢
بعد عدة أيام، تُعْقَد الانتخابات التشريعية ربما لأول مرة في جوٍّ صحيٍّ أو تنافُس حقيقي بين المعارضين والحزب الحاكم. وهناك حماس شعبي للمشارَكة من أجل التخفيف من سيطرة الحزب الحاكم على المجلس النيابي، وإيجاد صوت آخَر حتى تتحقق شروط الديمقراطية من وجود معارَضة قوية قادرة على التنافس مع الحزب الحاكم من أَجْل تداوُل حقيقي للسُّلطة وليس حكم حزب واحد، ووريث واحد على مدى ربع قرن أو يزيد. ولا يتغير إلا بالوفاة أو بالاغتيال أو بالانقلاب.
والشرطة هنا مُجرَّد رمز لسُلطة الدولة التي تضم قوات الأمن المركزي ووزارة الداخلية بكل أجهزتها الأمنية العلنية والسرية، ووسائل الإعلام التي تقوم بدور الشرطة في الرقابة والتحيُّز، وإبراز إنجازات الحزب الحاكم، وتَصدُّر الرئيس نشرات الأخبار والبرامج الخاصة عن إنجازات ربع قرن مضى، والجهاز الإداري وعلى رأسه موظفو الدولة، ورؤساء الاتحادات، والنقابات، والهيئات العامة، والمحليات، ورؤساء المجالس البلدية، والمحافظون، ومديرو الأمن، والمشايخ، والعمد، ورجال الحزب الحاكم، والنوادي الرياضية. فالدولة هي المجتمع، والمجتمع هو الدولة مهما حاولت منظمات المجتمع المدني المستقلة الفكاك من هذه المصيدة والخروج من تلك الدائرة المفرغة.
فالشرطة ملك للشعب وليس للنُّظُم. هي الدائمة والنظام هو العابر. هي جزء من الشعب العامل الكادح وليس من الحزب الحاكم الذي استولى على السُّلطة والثروة، ونهب مصر كما فعل الباشوات والإقطاعيون قبل الثورة. مهمتها الدفاع عن أمن الشعب التاريخي وليس أمن النظام السياسي، والدفاع عن مصالح الشعب وليس العمل ضدها، وحماية المواطن وليس تهديده، والعمل مع قوى الإصلاح والتقدم في البلاد وليس مع قوى الفساد والانحلال.
«الشرطة في خدمة الشعب» كان شعار مصر في الجمهورية الأولى، بل حتى في الجمهورية الثانية. له دلالته الواضحة. ثم تغيَّر بعد ذلك في الجمهورية الثالثة إلى «الشرطة والشعب في خدمة القانون». وهو شعار يضع الشرطة والشعب في طرفٍ واحدٍ ومصلحة واحدة. أما القانون فقانون مَن؟ هو القانون الذي تضعه الدولة، وتَصوغه السلطة، وينفذه الحزب الحاكم لصالحه. فما أُعْطِي باليمين «الشرطة والشعب» أُخِذ باليسار «في خدمة القانون». خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف.
ليس من الصعب تصور حياد الشرطة في المعارك الانتخابية بين مرشحي الحكومة ومرشحي المعارضة، مثل حياد أجهزة الإعلام واستقلال الجامعات والقضاء. وزير الداخلية مسئول أمام البرلمان مثل مسئولية وزير الدفاع. ورئيس الجامعة يمثل الجامعة لدى السلطة وليس السلطة أمام الجامعة. والقاضي هو ميزان العدل بين الحاكم والمحكوم دون استبعاد القضاة المستقلين عن الحكومة والإبقاء على من يظن من المتعاونين معها في الإشراف على الانتخابات. فإذا كان القضاء جزءًا من وزارة العدل، فإن نوادي القضاء جزء من منظمات المجتمع المدني. وإذا كان الضباط جزءًا من وزارة الدفاع، فإن نوادي الضباط جزء من تنظيمات المجتمع المدني. وقد اندلعت ثورة يوليو ١٩٥٢م من تدخل وزارة الدفاع في انتخابات نادي ضباط الجيش.
الواجب الوطني للشرطة هو عدم التدخل في الانتخابات التشريعية القادمة. فوجود مجلس نيابي يعبر عن حقيقة القوى الوطنية الفاعلة في الشارع السياسي أكثر أمنًا من مجلس نيابي مزور تطعن فيه القوى الشعبية، ويحكم القضاء بحله كليًّا أو جزئيًّا، أو بإعادة الانتخاب كلية أو في بعض الدوائر التي جرى فيها التزوير. هو تطبيق القانون الانتخابي منع التزوير وليس بالمساعدة عليه أو القيام به. وهو أيضًا عدم مُمارَسة العنف مع مُرشَّحي المُعارَضة أو ناخبيهم. مهمة الشرطة منع العنف واستتباب الأمن وتطبيق القانون، وعدم القبض على المُرشَّحِين أو الناخبين وتلفيق التُّهم لهم وتفويت فرصة المشارَكة عليهم في العملية السياسية. مهمتها عدم وضع العوائق أمام الناخبين ونقلهم من دائرة إلى أخرى، والتلاعب بكشوف الانتخابات والبطاقات الانتخابية.
الواجب الوطني والمهني للشرطة هو الانتصار للحق والعدل والقانون والدفاع عن المظلوم من الظالم، وليس مساندة الظالم ضد المظلوم. واجبها عدم أخذ صف طرف ضد طرف، وعدم الانحياز للحكومة ضد المعارضة وهو الشائع أو للمعارضة ضد الحكومة وهو النادر. بالرغم من أن التَّصوُّر الشائع هو أن الشرطة جزء من الحكومة، تأتمر بأوامرها. ومع ذلك ضمير الشرطي فوق مهنته، ووطنيته لها الأولوية على الأوامر الصادرة إليه. يُحكِّم الشرطي ضميره أولًا قبل تنفيذ الأمر حتى وإن نَفَّذ الجندي الأمر المُوجَّه إليه في ساحة القتال. وكثيرًا ما خالَفَت الشرطة أوامر الاعتقال وقامت بتهريب الوَطنيين والمُناضِلين في العصر الملكي وأيام الاحتلال.
هناك قسم في الداخلية لتدريب ضباط الشرطة على التيارات السياسية المُحرِّكة للمجتمَع المصري لتنويرهم وتعليمهم أن المطلوب القبض عليهم هم مواطنون شرفاء يعملون لصالح الوطن، وليسوا مجرمين أشقياء خارجين على القانون. وفي الشارع السياسي قُوى سياسية أربع تحركه. الإسلاميون ورمزهم الإخوان المسلمون، الجماعة التي ما زال يطلق عليها «المحظورة» كما كنا نطلق على إسرائيل وهي تحتل أراضي ثلاث دول عربية «إسرائيل المزعومة»، والليبراليون الذين كانوا يحكمون مصر قبل ثورة يوليو ١٩٥٢م، والناصريون الذين حكموا مصر بعد الثورة الجمهورية الأولى، والماركسيون الذين كانوا على مدى قرن من الزمان حزبًا محظورًا قائمًا على العمل السري أو العلني. وقد يضاف إليهم مجموعة من الأفراد المستقلين الذين تنجبهم مصر مُتجاوِزين الأحزاب الرسمية أو المحظورة والذين يعملون أحيانًا مع تنظيمات المجتمع المدني والحركات الوطنية الأخيرة؛ مثل: «كفاية»، و«الحركة المصرية من أجل التغيير»، و«حركة الأدباء والفنانين من أجل التغيير»، بالإضافة إلى حركة «مهندسون ضد الحراسة»، «وحركة استقلال القضاة»، والتي بلغت حوالي خمسة عشر تنظيمًا. وهذه القوى الوطنية هي التي تُحرِّك مُظاهرات الطلاب في الجامعات وتُشارك في اعتصامات العمال وإضراباتهم. فهم ليسوا أعداء للوطن تقبض عليهم الشرطة وقُوَّات الأمن للإهانة والتعذيب والاختطاف والاعتقال بلا تُهمة ولا مُحاكَمة بالسنوات. هؤلاء هم حُكَّام الغد ومصر المستقبل. لهم كل الاحترام والتعظيم. ليسوا مجرمين ولا تُجَّار مُخدِّرات، ولا مُهرِّبين، ولا فاسدين، ولا مُضارِبين، ولا أصحاب عمولات ورشاوى، ورجال أعمال ملفاتهم أمام الرقابة الإدارية تنتظر موافَقة السُّلطة السياسية للتقدم للقضاء في حالة الغضب عليهم، أو الحفظ في حالة التَّستُّر والرضا عنهم.
يبدو أن الشرطة وأجهزة وزارة الداخلية لم تتغير منذ أيام الملك. كل معارضٍ فهو عدو للوطن. لذلك تُسمى الشرطة في بعض البلدان «الدَّرك الملكي». وبالرغم من قيام الثورة منذ من نصف قرن، فإن الشرطة لم تتغير. توظيفها في الحفاظ على أمن النظام وليس أمن البلاد. يُوكَل إليها الوقوف أمام المظاهرات، والهَبَّات الشعبية، وغضب الشارع، وحركات الاحتجاجات، وفَض الاعتصامات، وتكميم الأفواه. وفي كل وزارة أو مصلحة أو هيئة هناك مكاتب للأمن. والأمن الداخلي الذي تُحافظ عليه الشرطة له الأولوية على الأمن الخارجي الذي يحافظ عليه الجيش.
إن من واجبات الحياة السياسية وحُسن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تغيير صورة الشرطة في أذهان الناس وفي الثقافة الشعبية وفي الأعمال الفنية، بدلًا من تعذيب المواطنين والقبض على الأبرياء، وزُوَّار الفجر، وتعذيب المعتقلين السياسيين، وتَلفيق الأدلة والاتهامات الباطلة. وكثيرًا أُخْرِجت الأفلام عن فساد الشرطة وتعاونها مع المجرمين ورجال الأعمال الفاسدين.
الشرطة، جنودًا وضباطًا، بالرغم مما يحدث في الأقسام من مآسٍ وأحزان، هم — في النهاية — الأبناء والآباء. هم مواطنون مصريون يَتألَّمون ويُعانون مثلهم من الفساد في الداخل والتبعية للخارج. وفي الأدب الشعبي والتاريخ الوطني مظاهر كريمة للشرطة. لعبة «عسكر وحرامية» لدى الأطفال. والانضمام إلى كلية الشرطة أمل لحاملي الثانوية العامة، والبحث عن الوسائط للقبول، دفاع قسم شرطة السويس عن العدوان البريطاني عليها بعد محاصرته قبل الثورة ورفض الاستسلام حتى الموت حتى أصبح ذلك اليوم عيدًا للشرطة. وكما تكوَّن داخل الجيش تنظيم الضباط الأحرار في الأربعينيات، فهناك أيضًا ضباط الشرطة الأحرار الذين رفضوا التعاون مع القصر والاستعمار، وقاموا بحماية الحركة الوطنية المصرية. ولا فرق بين أمن البلاد في الخارج وتلك مهمة الجيش، وأمنه في الداخل، وتلك مهمة الشرطة. المهم أمن من؟ النظام أم الشعب؟ الحزب الحاكم أم الوطن؟ الحاضر أم المستقبل؟
(٣) نداء إلى المعارَضة٣
في الوقت الذي يتحرك فيه الشارع المصري، وينزل فيه المصريون بطوائفهم كافَّة طلابًا، ومثقفين، وعمالًا، وفلاحين، وموظفين، تظل قياداته الحزبية أقل إدراكًا لأهمية هذا التحرك، وكأن المد التاريخي مُحاصَر بالجزر الإنساني، مع أن مهمة الإرادة الإنسانية أن تَتَّحد مع قانون التاريخ حتى تحدث تغيرًا نوعيًّا في مساره. ويساعد تحليل اللحظة التاريخية الراهنة على فك هذا الحصار من القوى السياسية لمد التاريخ؛ من أجل تغليب الآجل على العاجل، وتفضيل التحليل السياسي على الأمد الطويل على الكَسْب السياسي على الأمد القصير.
ليس هدف المُعارَضة الآن الوصول إلى السُّلطة. فبعد ما يزيد على نصف القرن وهو عمر ثورة ٢٣ يوليو غابَت المُعارَضة السياسية لصالح تحالف قوى الشعب العامل، وبناء مصر، وتحديثها وتنميتها، وتحقيق المبادئ الستة للثورة المصرية. وتم تبرير ذلك بالديمقراطية المباشرة التي تجب فيها الزعامة المؤسَّسات السياسية. فالزعيم يجسد روح الشعب، ويحقق طموحاته وأشواقه وآماله. وكانت تجربة المنابر في السبعينيات محدودة الأثر. ولم تقوَ المعارَضة إلا في السنوات الأخيرة عندما بدأ الانقلاب على ثورة يوليو منذ مايو ١٩٧١م، ثم التحول عن مبادئها بل إنجازاتها من النقيض إلى النقيض، ثم العدوان على الوطن العربي في فلسطين، والعراق، والعالَم الإسلامي في أفغانستان، والشيشان، وتهديد سوريا، ولبنان، وإيران واحتجاب مصر ودورها في محيطها العربي والإقليمي، فتحرك شعب مصر ليعود إلى سيرته الأولى في تجربته الليبرالية قبل الثورة، الشعب مصدر السُّلطات، الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة، التعددية الحزبية، البرلمان الدستور، مسئولية الوزارة أمام البرلمان، الصحافة الحرة، الجامعة الحرة، حرية تكوين الجمعيات الأهلية، قوة المجتمع المدني، وفي الوقت ذاته لا تنسى تجربتها الاشتراكية القومية بعد الثورة. بدأت حركة الشارع المصري تجمع بين الحرية والعدالة، وتضم تاريخ مصر في القرن العشرين معًا وليس على التبادل.
لن تصل المعارَضة إلى السُّلطة إلا بعد تحريك الشارع المصري وعودة المواطن إلى مُمارَسة العمل السياسي، والوصول إلى ميزان تعادُل بين السُّلطة والمعارَضة في صراع متكافئ بين نِدَّين كما يحدث في أمريكا بين الديمقراطيين والجمهوريين، وفي بريطانيا بين العمال والمحافِظِين، وفي ألمانيا بين الحزبين الكبيرين الديمقراطي الاشتراكي، والديمقراطي المسيحي، بل في إسرائيل بين العمال، والليكود. وفي حالة مصر بعد سيطرة الحزب الحاكم على مقاليد الأمور على مدى نصف قرن مثل نجاح الرئيس عن طريق الاستفتاء الصريح بنسبة ٩٩٫٩٪ وعن طريق الاستفتاء المُقنَّع بنسبة ٨٦٪ فإنه يصعب أن تصل المعارَضة إلى السُّلطة.
ليست مهمة المعارَضة الوصول إلى القصر، ففي القصر ما زال السلطان متربعًا على العرش. بل مهمتها تجنيد الناس، وحشد الجماهير، وتحريك الشارع، والتعبير عن الأغلبية الصامتة من أجل الاستعدادات للجولة القادمة. فكما كانت الانتخابات الرئاسية الماضية البداية بالمقاطعة، فإن الانتخابات التشريعية القادمة هي الجولة الثانية بالمشاركة من أجل الإقلال من سيطرة الحزب الحاكم على البرلمان، وبالتالي الاستمرار في الرأي الواحد، والحزب الواحد، دون صوت بديل ورأي آخر. هدف المعارَضة مُحاصَرة الحزب الحاكم وإبعاده عن السيطرة على المجلس التشريعي؛ حتى يتحول إلى حزب أقلية يسيطر عليه رجال الأعمال والفساد السياسي والمالي والإقطاعيون الجُدد كما كانت الحال في مصر في حزب الباشوات والإقطاع وكبار ملاك الأراضي قبل الثورة.
هدف المعارضة هو العودة بمصر إلى مسارها الطبيعي وتصحيح مسار التاريخ، ووضع شعب مصر في قلب حركة التاريخ؛ حتى يسقط النظام الحاكم كما تسقط الأوراق الذابلة في الخريف. ليس المهم من يحكم مصر الآن، بل من الذي سيحكم مصر في المستقبل، ويغلق هذا الاستثناء في تاريخ مصر في العقود الثلاثة الأخيرة من فقدان مصر لذاتها ومسارها في التاريخ إلى عودة مصر إلى وعيها وحركتها في التاريخ، من ضعف مصر وتأثير القوى المحلية والدولية فيها إلى قوة مصر وتأثيرها في موازين القوى المحلية والدولية.
فهل تستطيع المعارضة أن تُوحِّد قواها في جبهةٍ واحدةٍ ضد الحزب الحاكم؛ حتى لا تتفتت أصوات المعارضة فينجح مُرشَّحو الحزب الحاكم بكل ما لديه من التلاعب بالقوائم الانتخابية، وتدعيم جهاز الدولة، ووسائل الإعلام، والرئيس، وطبقة رجال الأعمال، وأصحاب الثروة والجاه؟ إن التمسك بالشعارات المبدئية قد لا يفيد مرحليًّا من الناحية السياسية. فوحدة المعارَضة في وحدة برنامجها السياسي والاتفاق على الحد الأدنى من الإجماع الوطني. فالشعارات المبدئية إعلان أيديولوجي لا غبار عليه، ولكن التَّحدِّي هو كيفية تحويله إلى برنامج سياسي في لحظة تاريخية مُحدَّدة من تاريخ مصر. فمثلًا «الإسلام هو الحل»، أو «الإسلام هو البديل» صحيح من حيث المبدأ، ولكنه يفرِّق المعارَضة إذا ما تَمسَّك أحد فرقائها بالعلمانية. هنا يتم تحويل الشعار المبدئي إلى برنامج سياسي حول مَطالب مصر بإلغاء الأحكام العرفية، وقوانين الطوارئ، وتعديل الدستور، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، والقضاء على الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والدِّفاع عن الاستقلال الوطني في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، والتعددية السياسية، وحرية الصحافة، وحق تكوين الأحزاب، والصحف، والجمعيات الأهلية. وقد تنازل الرسول في صلح الحديبية عن «بسم الله الرحمن الرحيم» بعد اعتراض المشركين، ورَضِي باقتراحهم «باسمك اللهم» الذي يوحِّد الفريقين ويجمعهم على الحد الأدنى من الاتفاق.
تتفرق المعارَضة إذا انشغل كل فريق بحساباته الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العامة. يريد الحصول على أكبر عدد ممكن من مقاعد المجلس أو يضع عينًا على الانتخابات والتنسيق مع المعارَضة والعين الأخرى على الحكومة والحزب الحاكم. فلعله يأخذ ميزة منه فينال الحُسنَيَين من الشعب والحكومة. والسياسة فن الحكم. وقد يَتكرَّر الشيء ذاته عندما رفض «الإخوان» الدخول في لجنة الطلبة والعمال عام ١٩٤٦م التي كانت تمثل الإجماع الوطني. فتوحيد المعارَضة بكل فصائلها؛ الوفد، والتجمع، والناصري، والإخوان أفضل من قائمتين للمعارَضة حتى ولو تم التنسيق بينهما. والإسلام المستنير جزء من قوى التجمع. وشق المعارَضة بدعوى العلمانية ورفض الشعارات الدينية هو صراع على السلطة، واستبعاد لمصلحة الوطن، وتَخَلٍّ عن منطق الحوار والتفكير بالاستبعاد والإقصاء، وليس بالتقارب والفهم المُتبادَل. فمقاصد الشريعة تقوم على الحفاظ على الضروريات الخمسة: الحياة، والعقل والقيمة، والعِرض؛ أي الكرامة، والمال أي الثروة الوطنية. الشريعة وضعية تقوم على رعاية مصالح الناس. فادعاء العلمانية والاتهام بالشعارات الدينية تقليد للتناقض الغربي، ونقص في معرفة طبيعة الإسلام ودوافع العلمانية. فالإسلام — في جوهره — دين يقوم على رعاية مصالح الناس. ومَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إن دور الوفد القديم ورسالة الحركة الوطنية من أجل التغيير الجديدة هو التقريب بين الإخوان والتَّجمُّع، وتَجاوُز حديث الفِرْقة الناجية، إن الصواب واحد مع فريق وليس متعددًا لدى كل فريق. فالكل رادٌّ والكل مردود عليه، وتجاوز الحسابات الخاصة وتصفية الحسابات التاريخية إلى المصلحة الوطنية العامة.
لقد استطاع الوفد كسب الانتخابات الوطنية العامة في ١٩٥١م، فهل تستطيع الحركة الوطنية المصرية أن تعود إلى سيرتها الأولى؟ هل يستطيع يَسار الوفد، والإسلام المستنير في التَّجمُّع، والناصرية الإسلامية، والشعبية في العربي، وحزب الوسط، والحركة الوطنية المُستقِلَّة أن تكون بؤرة للوحدة الوطنية وقلبًا لها؟
وإن صعب نيل ذلك، فعلى الأقل يكون التنسيق بين قائمة المعارَضة الموحدة وقائمة الإخوان تنسيقًا كاملًا حتى لا تتفتت أصوات المعارَضة. قد يُوجَد خلاف فرعي بين قوى المُعارَضة، ولكن التناقض الرئيس بينها وبين الحزب الحاكم. ما يهم هو سماع صوت الشعب، وتآكُل الحزب الحاكم وتفتيته، وإدخال قوى المُعارَضة الرئيسة في البلاد المجالس الدستورية، وإخراج الحزب الحاكم والأحزاب الورقية منها. وإن لم تحصل المعارَضة على كل ما تتمناه فالمعارك قادمة معركة التوريث. ومن خلال المعارك تظهر قيادات وطنية جديدة قادرة على أن تبرز كبديل عن الرئيس وسُلطته، أو الابن وطموحاته. فما زالت المعارك ممتدة حتى الانتخابات الرئاسية القادمة. وإن غدًا لناظره قريب. وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
(٤) وحدة قوى المعارضة٤
يبدو أن العيب فينا وليس في غيرنا، لدى المعارضة والحزب الحاكم في آنٍ واحدٍ. وكما قال الشاعر:
فإذا كنا نشكو تَسلُّط الحزب الحاكم وأغلبيته المُطْلقة، فإننا أكثر شكوى من المعارضة المنقسمة على نفسها، وتفضيل الحزب على الوطن، والدولة على الثورة، والحكم على التغير الاجتماعي، والعاجل على الآجل، والحاضر على المستقبل.
فالمعارَضة في مواجهة نظام يقوى بحكم التاريخ. فهو الذي يحكم منذ أكثر من نصف قرن حتى الآن منذ ١٩٥٢م. يحكم بالاستفتاء وليس بالانتخاب. ويقدم مرشحًا واحدًا وليس أكثر من مرشح. ويعدِّل الدستور دائمًا لصالحه ويفتح تجديد فترة الرياسة إلى ما لا نهاية أو يجعلها مدى الحياة. ويصدر الأحكام العرفية حفاظًا على النظام ضد معارضيه الإسلاميين، أو الشيوعيين بصرف النظر عن هذا النظام المنبثق من ثورة ٢٣ يوليو ومبادئها الستة في الخمسينيات والستينيات أو المنقلب عليها منذ السبعينيات وحتى الآن. ويستسلم الناس بحكم العادة. فالممارَسة السياسية عادات سياسية وليست قرارات فوقية. فقد تَعَوَّد الناس على عدم المشاركة السياسية، إما ثقة بالزعيم البطل، وإما رضاء بالزعيم المُقامر، وإما تولية للظهر للحاكم المُوظَّف الساكن الذي لا يتحرك؛ حرصًا على ثبات النظام، وخوفًا من إعادة احتلال سيناء بعد أن كلَّف تحريرها الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني، وما زالت باقي أراضي العرب في سوريا ولبنان وفلسطين محتلة. وقد يستمر النظام الحالي حتى بعد تعديل المادة اليتيمة في الدستور بسيطرته على جهاز الدولة، الجيش والشرطة والإعلام والثقافة وأرزاق الناس وأسواق العُملة، بقوة السياسة والاقتصاد.
وفي مقابل بقاء النظام بحكم التاريخ والعادة والدولة؛ تَتفَتَّت المعارضة. كل منها يعمل لحسابه الخاص. وشتان ما بين هدف المعارضة من التَّخلُّص من نظام التبعية للخارج والفساد والقهر في الداخل والوسائل المتبعة لتحقيق الهدف. فما زال كل فريق من المُعارَضة؛ الإخوان، والناصريين، والليبراليين، كل يقدم مرشحه أو يكاد وعلى غير سابق إنذار؛ طمعًا في العاجل دون الآجل، وفي الشهرة الإعلامية وليس في النجاح الفعلي، وفي جذب انتباه القوى الخارجية إليه وليس بتجميع القوى الداخلية حوله. ومِن ثَمَّ يقوى الحزب الحاكم بمرشحه الوحيد. وتضعف المعارَضة بمرشحيها الكُثر فتتفتت أصواتها. وينجح مُرشَّح الحزب الحاكم لا بسبب سياساته ولكن بسبب وحدته. بالإضافة إلى تاريخه ودولته. ويرسب مرشح المعارضة لا بسبب سياساتها، بل بسبب تَفرُّقها وتَشتُّتها، وكثرة مرشحيها، بالإضافة إلى تهميشها على مدى نصف قرن، وسباحتها ضد التيار، وعزوف الجماهير عن المشاركة السياسية باستثناء فترة الهَبَّات الشعبية الكبرى مثل مارس ١٩٦٨م بعد عدوان ١٩٦٧م، ويناير ١٩٧٦م ضد ارتفاع الأسعار، ومظاهرات ١٩٧١م ضد احتلال سيناء والتراخي في تحريرها، والأمن المركزي في يناير ١٩٨٦م ضد الفقر والجوع، ومظاهرات الجامعات المصرية ضد الغزو الأمريكي للعراق في يناير ١٩٩١م بدعوى تحرير الكويت، وإعادة ضربه في ١٩٩٨م بدعوى عدم الانصياع لقرارات الأمم المتحدة ومطالب لجان التفتيش ثم غزوه الكلي في مارس ٢٠٠٣م بدعوى امتلاك أسلحة الدمار الشامل. وقد نكون على أهبة هَبَّة جديدة، والتحول من الاستكانة إلى الحركة، ومن الاستسلام إلى الرفض، ومن الهدوء إلى الانفجار. فالنِّظام مُحاصَر بين المطرقة والسندان، مطرقة الخارج وسندان الداخل، والجماهير بدأت الحركة من أجل تغيير الدستور، والمظاهرات بدلًا من أن تضربها الشرطة بالعصى، تحاصرها بالأجساد، وربما في المستقبل القريب تنطلق حرة وتتجاوز الحصار. وفي المستقبل الأبعد تنضم الشرطة إلى الشعب. فليست الشرطة فقط في خدمة الشعب، بل تدافع عنه وتثور معه وليس شعب مصر ولا شعب لبنان ولا باقي الشعوب العربية بأقل من جماهير جورجيا وأوكرانيا وقرقيزيا. فالعصر عصر الشعوب، وهروب رأس النظام.
ولما كان الإخوان من قُوى المعارضة الرئيسة في البلاد، تسيطر على الجماهير المنظمة داخل أسوار الجامعات وخارجها، ولها رصيد في النضال السياسي فإن التنظيم ما زال مترددًا بين تأييد النظام القائم، الأب أو الابن، ما دام سيحقق شروطهم. وهي إشارة مُوجَّهة إلى النظام القائم بإمكانية التعاون، وبالتالي تخرج كلية على وحدة قوى المُعارَضة. وهو خطأ في التحليل السياسي مثل خطأ الأربعينيات عندما لم ينضموا إلى لجنة الطلبة والعمال عام ١٩٤٦م، والتي كانت تُعبِّر عن مَطالب القوى الوطنية في الحرية والاستقلال، حتى اتهمهم خصومهم بالانتهازية السياسية والدخول في لعبة السراي مع أحزاب الأقلية. وأحيانًا أخرى ينضمون إلى مجموع قوى المعارَضة الأخرى، وينسقون معها ويُوحِّدون مطالبها. فالوحدة قوة في مقابل نظام تتضارب أجنحته، وتتجاذبه المصالح المتضاربة في صراعٍ مكتومٍ على السُّلطة والمال.
وفيمَ كانت الحوارات السابقة بين قوى المعارَضة الإسلامية، والناصرية، والليبرالية التي تمثل أحزاب المعارَضة الرئيسة في البلاد؟ وأين الجهود التي بُذِلت من قبل على مدى أعوام سابقة؛ استعدادًا لساعة الحسم وعلى الصعيدين النظري والعملي؟ أين الاتفاق في الأهداف بالرغم من اختلاف المنطلقات والمرجعيات والأُطُر النظرية لكل فريق؟ أين السياسات البديلة عن سياسات النظام الحاكم والتي تُمثِّل حجر الأساس لدى قوى المعارضة، وحجر العثرة أمام استمرار النظام السياسي؟ وهي القواسم المشتركة لدى قوى المعارضة كلها: الاستقلال ضد التبعية، واستكمال حركة التحرر الوطني في فلسطين والعراق، بل في دول الجوار في أفغانستان والشيشان، وحماية الأوطان من الهجمة الاستعمارية الثانية على لبنان وسوريا والسودان، ومن دول الجوار إيران وحماية مصر من لف الحبل حول عنقها، وتهديد أمنها القومي في الشمال والجنوب، وأخذ حق الفقراء من أموال الأغنياء بعد أن تضاعفت الفوارق بين الطبقات آلاف المرات بين من يملكون كل شيء، السلطة والثروة ومَن لا يملكون شيئًا ولا حتى الكرامة، والتنمية والاعتماد على الذات، والتصنيع والتصدير وليس الاستيراد، وحماية الصناعات الوطنية، والحفاظ على وحدة الأمة من مخاطر التجزئة والتفتيت، والحرية السياسية للمواطن، وحق تشكيل الأحزاب قبل الأشكال الديمقراطية. إن قوة المُرشَّح من مدى تعبير السياسات التي يُقدِّمها عن مصالح الناس وليس بشخصه أو بحزبه ولا بما يُؤيده من القوى الخارجية.
ربما لا يستطيع مرشَّح المعارَضة أن ينجح في الانتخابات القادمة، ولكنه يستطيع أن يخرق حاجز ٩٩٫٩٪ التي ينجح بها المرشح الأوحد في عصر الاستفتاء والذي سيظل هو نفسه في عصر الانتخاب إلى حين حتى تكتسب المعارضة مناعة من كثرة التظاهرات اليومية وتحريك الشارع وحشد الجماهير. نجاح المعارضة في أن ينجح النظام الحالي في الاستمرار ولو بنسبة من ٧٠٪ أكثر أو أقل حتى ينجح مرشح المعارَضة الموحدة في المرة القادمة بنسبة ٥١٪ أكثر أو أقل في الانتخابات القادمة بعد ست سنوات أخرى لا ندري ماذا يحدث فيها لجحا أو لحماره أو للسلطان!
(٥) العصيان المدني٥
تتعدد أشكال المقاوَمة طبقًا لظرف كل وطن ومصدر العدوان عليه، من الخارج أم من الداخل، مثل المقاومة المُسلَّحة، والحركات السِّرِّية، والسير نحو القصر الرئاسي. ومنها العصيان المدني وهو أحد أشكال المقاومة السلبية المشروعة. ويعني تحرك المجتمع المدني في قطاعاته كافة، وبمبادرة من أحزاب المعارَضة والمنظمات الأهلية للتعبير عن المَطالب الاجتماعية والسياسية بعد أن تفاقمت وتراكمت عَبْر السنين. ولم يستطع النظام السياسي التعامل معها أو طرحها على الرأي العام بالمُصارحة وليس بالخداع عن طريق البيانات الحكومية وبعض الصحف القومية وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة. كما يعني العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم قد خرقه الحاكم من طرفه وإنكاره على الطرف الآخر المطالبة بفسخ العقد من أجل عقد جديد يلتزم به الطرفان. العصيان المدني هو طريق للمقاوَمة السلمية بديلًا عن الانقلابات العسكرية. فالجيوش الوطنية ما زالت الآمنة على مَصالح البلاد في الداخل، والأمين القومي في الخارج، وبديلًا عن التنظيمات السِّرِّية والخلايا النائمة، وعن المُقاوَمة المسلحة للجماعات النشطة بعد أن تراكم الضغط من أعلى فازداد التفكك من أسفل، وفي غياب حوار بين الطرفين أو بتأخر حركة إصلاحية يقوم بها النظام السياسي؛ مما أدى إلى انقسام الوطن بين الحاكم والمحكوم، والتعارض بين حقوق المواطن وواجبات الدولة.
والعصيان المدني هو المرحلة الثانية بعد تحرك الشارع في مظاهرات سلمية أمام مجلس الشعب، ونقابة الصحفيين، ورئاسة الجمهورية، ومقار الحزب الحاكم، ووزارة الداخلية، وكل رموز السلطة القائمة. الهدف منه هو زيادة الضغط على النظام السياسي للتسليم بمطالب الشعب والتي تمثلها المعارضة خارج السلطة وليس الحزب الحاكم بداخلها. الهدف منه مزيد من تحريك المُجتمَع المدني بكافة قواعده الشعبية بعد أن تَحرَّكت مُنظَّماته، وهيئاته، وقذفت حجرًا في مياه راكدة.
وتتغير أشكال العصيان المدني طبقًا لظروف كل مجتمع وقدرات الشعب على التحرك. يبدأ بإيقاف العمل ساعة في اليوم على مستوى الوطن كله حتى يتوحد في المطالب أو الإضراب عن العمل لمدة يومٍ واحدٍ؛ تعبيرًا عن أن الوطن هو الشعب وليس النظام السياسي، وأنه هو الذي ينتج في حين أن النظام السياسي هو الذي يدير، والإنتاج أفضل من الإدارة.
وتشارك كل قطاعات المجتمع في العصيان المدني مثل سائقي عربات الأجرة والنقل العام في الطرق العامة، والعمال في المصانع، والفلاحين في الطريق الزراعي، والمعلمين في المدارس، والطلبة، وأساتذة الجامعات في المدرجات، وموظفي الدولة في دور الحكومة، والقضاة، والمحامين في المحاكم، وأصحاب المحال التجارية في الدكاكين والمتاجر. ولكل هذه القطاعات مطالب مهنية. فالاحتجاج اجتماعي قبل أن يكون سياسيًّا. وظواهر البطالة والغلاء والفقر والإسكان تعم الجميع. بدايتها في المجتمع ولكن نهايتها في السياسة. الأزمة اجتماعية وحلها سياسي. وأساس الضنك الاجتماعي الخنق السياسي.
وقد يقال إن العصيان المدني تعكير للصفو العام، وتعطيل للمصالح، وإيقاف لحركة المرور، وشل للمدن. وهو غير صحيح. فالمدن مشلولة بطبيعتها. والوقت العام مهدر من قبل. وساعات الإنتاج في اليوم معدودة. ومصالح الناس معطلة. ويقف الطريق أو الجسر العلوي لمرور الرئيس أو الوزير خاصة إذا كان وزير الداخلية. وتكثر الإجازات. ومع ذلك، فائدته في الترابط الوطني لا تقاس بمخاسره على مستوى تسيير الأعمال في الحياة اليومية. وضعف الاستجابة الشعبية طبيعي نظرًا لعدم تعود الناس على المشاركة السياسية أو على ممارسة الضغط الشعبي على الحكومات، واسترداد الحقوق باليدين وليس بانتظار خطاب الرئيس لصرف المنحة في عيد العمال.
لقد حصلت الهند على استقلالها بالعصيان المدني كأحد أشكال المقاومة السلمية من دون عنف. ووقف ملايين الهنود في ساحات نيودلهي أمام قصر الحاكم البريطاني، وقعدوا القرفصاء أمام الجنود البريطانيين وقوات الخيالة. وهكذا فعلت الثورة الإسلامية في إيران بوقوف الملايين من الإيرانيين في الميادين العامة لمحاصرة قوى السافاك والجيش الإمبراطوري في الثكنات. والعصيان المدني أقوى وأكثر صلابة من الانقلاب العسكري الذي قد ينجح أو يفشل طبقًا لميزان القوى بين فِرَق الجيش الموالية والثائرة.
واستعمل الكيان الصهيوني العصيان المدني لتحقيق مآربه. فقد حشد المستوطنون خمسة عشر ألفًا لاحتلال المسجد الأقصى لولا وجود عشرة آلاف من الفلسطينيين منذ صلاة الفجر فيه. كما يوقف الكيان الصهيوني كل شيء في الثانية عشرة ظهرًا من الخامس عشر من مايو عام ١٩٤٨م الذي أعلن فيه ولادته فيه وضياع أكثر من نصف فلسطين. وليس الأمر غريبًا أيضًا على تاريخنا. فقد بدأت ثورة ١٩١٩م في مصر بالعصيان المدني لقاطرات السكة الحديد، وخلع الفلاحون القضبان في الريف. كما اعتصمت الألوف من الطلاب في ميدان التحرير في ١٩٧١م؛ احتجاجًا على استمرار احتلال سيناء منذ ١٩٦٧م؛ مما كان له الأثر في اندلاع حرب أكتوبر ١٩٧٣م للتحرير. فكيف يُقال إن الجماهير لم تتعود عليه وهي صاحبة الحق فيه؟
إن الجميع يتساءل أين الشارع العربي؟ لقد تصورته أمريكا فارغًا كما تصوَّر مؤسسو إسرائيل من قبل فلسطين فارغة. وأن تحرك الشارع العربي في لبنان وفي مصر لبداية لتحركه في باقي العواصم العربية لأخذ الشعوب مصيرها بأيديها. ومِن ثَمَّ تحترم الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية إرادتنا الوطنية، وتحسب ألف مرة حساب الرأي العام. وفي قراراتها المصيرية الخاصة بالمنطقة تمر عبر الشعوب وليس عبر الحكام.
إن تعبير «العصيان المدني» قد يكون غير مألوف لدى الشارع العربي. فالعصيان كفر في الدين، ومروق عن الملة، ومفارقة للجماعة، وخروج في السياسة و«المدني» ضعيف؛ نظرًا إلى سيادة العسكري عليه. فمن يتحكم في الشارع هو ضابط الشرطة وليس المواطن. فكيف يتحرك الشارع بدعوته إلى القيام بشيء لم يتعود عليه؟ والحقيقة أن الهَبَّات الشعبية التي حدثت في السنوات الأخيرة، والنزول إلى الشارع في هذا العام، وتحرُّك الطلاب والمحامين والقضاة والحركة الإسلامية، كل ذلك قد يكون مقدمة للعصيان المدني. وهو هَبَّة شاملة ليست وقتية، بل دائمة. لا تقمعها أجهزة الأمن؛ لأنها ليست تجمهرًا في مكانٍ واحدٍ. هي انتفاضة شعب واقفًا كالسد في مواجهة نظام قد تجرفه المياه وراءه.
وهو حركة طبيعية تنشأ من تراكم الأحداث، وتوالي الاعتراضات، ونشوب المظاهرات. وفي الوقت ذاته يرتبك النظام السياسي، ويتردد بين الاستسلام لمطالب الشعب ويكون هو الخاسر كنظام تَسلُّطي والكاسب كنظام شعبي، وبين الوقوف ضدها والقبض على قادتها فتدخل البلاد في مذبحة سبتمبر جديدة بعد ما يقرب من ربع قرن هو عمر الجمهورية الثالثة فتتحول أفراح أكتوبر إلى أحزان إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.
(٦) الشعوب والجيوش٦
وأخيرًا، انتفض الشعب العربي في فلسطين ولبنان بالإضافة إلى العراق والشعب الإسلامي في أفغانستان والشيشان ضد العدوان الخارجي بروح جديدة، جندي عربي في مواجهة جندي إسرائيلي، خارج دبابته ومصفحته. الضحية في مواجهة الجلاد، الرجل في مواجهة الحصن الحديدي، أسير بأسرى، ويوم أسير إسرائيلي بعشرات السنين من الأسرى العرب، فلسطينيين ولبنانيين ومصريين وعراقيين ويمنيين، تركتهم النظم العربية في إسرائيل كما تركتهم في جوانتانامو. ويرفض الكيان الإسرائيلي تبادُل الأسرى طبقًا للمواثيق الدولية بين دولتين في حالة حرب. فالعدو الإسرائيلي لا ينظر إلى العرب نظرة النِّد للند، بل نظرة الأبيض للأسود والمستعمر للهندي الأحمر، والمستوطن لصاحب البلد. ليس كفؤًا في الحرب ولا شريكًا في السلام والغرب صاحب النزعة الإنسانية صامت حول تبادُل أسير بآلاف من النساء والأطفال والشيوخ والشباب. والمحافظون الجدد في البيت الأبيض الذين اختارهم الله لإنقاذ العالم يؤيدون ذبح الأطفال والنساء، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، والعدوان على المدنيين. النساء تصرخ «واعرباه». وليس من معتصمٍ يُجيب أو يستجيب.
تصمت النظم. فالكرسي هو الدائم، والسلطان هو الأبقى وتكتفي بدور الوساطة المنحازة إلى العدو الإسرائيلي بمطالبة المقاومة في فلسطين ولبنان بتسليم الأسرى الإسرائيليين دون الإفراج في المقابل عن الأسرى العرب. بل تعتبر بعض النظم أن المقاوَمة مُغامَرة غير محسوبة العواقب، وتُلْقي اللوم عليها. وتكتفي بدور الوسيط للتفاوض. فالسلام خيار استراتيجي. وحرب أكتوبر آخر الحروب. فالنظم محايدة بين مقاومة الاحتلال والاحتلال. وهم مُجرَّد أولاد عم للقاتل والقتيل. أقصى ما يستطيعونه، فتح المعابر لإمداد الشعب العربي المحاصر في فلسطين ولبنان بالطعام أو تحويل الأموال أو توفير المواد الطبية. فقد تقلَّص الوطن في الخبز والمرتب من أجل الحرص على حياة الناس تحت الاحتلال.
ووسط صمت النظام السياسي العربي وإحساس الشعوب بالعجز وامتهان الكرامة، تأتي المقاومة الشعبية وحدها في فلسطين ولبنان لترفع هامة العرب. ونذكِّر العدوان الإسرائيلي ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلَّا بالقوة، شعار العرب في الستينيات والذي عليه قامت حرب أكتوبر في السبعينيات. وفي ذروة العدوان على ما تبقى من فلسطين في قطاع غزة، وضرب المدنيين، وهدم مؤسَّسات السُّلطة الوطنية الفلسطينية، ومباني وزارات الداخلية والخارجية والاقتصاد، تأتي المقاومة اللبنانية لتخفيف الضغط على المقاومة الفلسطينية ومؤازرتها وتوزيع الخسائر على الشعبين الفلسطيني واللبناني دون باقي الشعب العربي خاصة في دول المواجهة والتي أصبحت تُسمى دول الجُوار. وتَصدَّت المقاوَمة الفلسطينية واللبنانية للعدو الإسرائيلي كما فعل جيش مصر من قبل في حرب أكتوبر، الجندي في مواجهة الدبابة لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ. وإذا ما واجه جنديُّ العدو المقاوِمَ الفلسطيني فإنه يقع في الأسر أو يهرب وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ. ولم تقوَ الدبابات الإسرائيلية على الدخول وسط مدن القطاع خشية من صواريخ المقاومة المضادة. لا يحارب العدو إلَّا عن بُعد تجنبًا للمواجهة بين الغاصب والمغتصَب، بين المستوطن وصاحب الأرض. فيستعمل السماء ضد الأرض، الطائرة، والصاروخ ضد المنزل والحي والمخيم. وتقبع المقاومة في الأرض، وتتشبث بها لصد غارات السماء.
ليست القضية قضية صورية، علاقة المقاومة الفلسطينية بالسُّلطة الوطنية، رئاسة أم حكومة، وعلاقة المقاومة اللبنانية بالحكومة اللبنانية لأخذ إذنها، والسماح لها بالمقاومة والوطن محتل. بل القضية قضية تحرير شعب لوطن محتل كما حدث في الجنوب، واستكمال حركة التحرير فيما تبقى من احتلال. وقد تتعدد الآراء حول التوقيت والتنسيق، ولكنها تتفق على ضرورة المقاومة الشعبية للعدو المحتل للأراضي الوطنية.
وفي الوقت الذي اختلفت فيه النظم العربية بين نصير للمقاومة والخوف من المغامرات غير المحسوبة، توحَّد العدو الإسرائيلي بين الحكومة والشعب، بين جناحي الائتلاف حزب العمل وحزب كاديما مع حزب الليكود المعارض على ضرورة الاستمرار في العدوان على فلسطين ولبنان. فالعرب لا يعرفون إلَّا لغة القوة والتأديب؛ من أجل القضاء على روح المقاومة والاستسلام التام لإرادة العدو الصهيوني الأمريكي. والفيتو الأمريكي في مجلس الأمن بالمرصاد ضد أي قرار، حتى لو كان لينًا للمطالبة بإيقاف العدوان على الشعوب طبقًا لميثاق الأمم المتحدة. والصمت الأوروبي تابع للموقف الأمريكي. وعجز النظام العربي نتيجة طبيعية للاعتراف بالعدو الصهيوني وتبادُل السفراء والتطبيع معه والأراضي العربية ما زالت تحت الاحتلال. ولم تنفع مبادئ مدريد، الأرض في مقابل السلام، ولا المبادرة العربية، سلام كامل في مقابل انسحابٍ كاملٍ.
إن اتهام المقاومة بالجنون والمقاومة غير المحسوبة والتضحية بلبنان ونصحها بالتعقل والتروي والتنسيق إنما يجوز لو كانت التهمة ذاتها والنصيحة ذاتها موجهتين للعدو الإسرائيلي ولكان الأمر معقولًا، عقلًا بعقل وجنون بجنون. ولا يفل الحديد إلَّا الحديد. إن التهديد بقتل رئيس الوزراء الفلسطيني، وتصفية رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، فلا أحد بمنأى من جيش الدفاع الإسرائيلي، وخطف ثلث مجلس الوزراء وعشرات من أعضاء المجلس التشريعي كل ذلك يدل على أن الدولة الفلسطينية الموعودة إنما هي محض خيال، وحقنة مخدرة للشعب الفلسطيني حتى يتم تدميره نهائيًّا، ويعيش الفلسطينيون في «كانتونات» عربية داخل إسرائيل التي ابتلعت كل فلسطين، لا فرق بين عرب ١٩٤٨م وعرب ١٩٦٧م. ولا خوف من تغيير التركيبة السكانية في إسرائيل. فأساليب النازية قادرة على الإبقاء على التفوق السكاني العنصري اليهودي.
لم تخسر حماس، بل عادت إلى أصولها الشعبية وقواعدها في المقاومة. وكسبت فتح؛ لأنه — في النهاية — عادت كمقاومة لتأكيد الوحدة الوطنية الفلسطينية بالاتفاق على وثيقة الأسرى كحد أدنى من البرنامج الوطني. ولم يخسر شعب فلسطين؛ لأنه تَصدَّر المقاومة. وانضمت إليه المقاوَمة اللبنانية في محيط شعبي عربي وإسلامي واسع؛ تأييدًا للمقاومة بعد أن تخاذلت النظم السياسية.
لم تَعُد للأوطان المستقلة حرمة. ولم تَعُد للعواصم العربية والإسلامية حماية. تغزو الولايات المتحدة بغداد وكابول، ويغزو الاتحاد السوفيتي جروزني. وتعتدي إسرائيل على بيروت، مطارها ومستودعات وقودها ومحطات توليد كهربتها، وخزانات مياهها، وجسورها وأحيائها. فقد قتل الأخ يوم أكل الذئب الثور الأسود. وتهدد دمشق وطهران. والقاهرة وعمان والرياض تنصح بالتعقل دون المغامرات غير المسئولة وغير المحسوبة.
إن الصراع مع العدو الإسرائيلي بدأ منذ أكثر من نصف قرن. وقد يمتد عقودًا أخرى من الزمان بسبب طول عمر النظام العربي. وشهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار. وقد سئل عنترة: ما الشجاعة يا عنترة؟ فقال: أن أضع إصبعي في فم عدوي، ويضع عدوي إصبعه في فمي. فمن يصرخ أولًا يكون أقل شجاعة إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.
وإذا كانت هزيمة ١٩٤٨م قد أدَّت إلى الثورات العربية بقيادة الضباط الأحرار في سوريا، ومصر، والعراق، وليبيا، واليمن، فإن العدوان الإسرائيلي على ما تبقى من فلسطين في قطاع غزة عام ٢٠٠٦م قد يُؤدِّي إلى ثورة الشعوب الحرة في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة. ليس جيشًا في مواجهة جيش، بل شعبًا في مواجهة جيش، طريق فيتنام وطريق العراق.
(٧) الطوفان قادم٧
إن ما حدث في لبنان من تفجير موكب رئيس الوزراء السابق لهو بداية الطوفان. ليس المهم فعله بل لماذا فعله؟ فالعلة الغائية عند الفلاسفة أقوى تأثيرًا من العلة الفاعلة. فالغاية هي التي تُحرِّك الأفراد والجماعات. وعندما يتم تمثُّلها تَتحوَّل إلى دوافع وبواعث تبدأ من الطاقة الفردية وتصب في الحراك الاجتماعي. ولا يهم الفعل نفسه والتحقيق المحلي أو الدولي، والقبض على الجُناة ومحاكمتهم أو الإشارة بأصابع الاتهام إلى هذا النظام الغربي أو القوة الأجنبية. بل ما يهم هو نتائجه والآثار المترتبة عليه على الصعيدين المحلي والدولي. وكأن نظرية «الدومينو» التي طُبِّقت مرة في جنوب شرق آسيا، وفي دول البلقان، وفي أوروبا الشرقية تعود من جديد إلى الوطن العربي حتى تسقط أقطاره واحدًا تلو الآخر. وغزو العراق ما هو إلا مُقدِّمة لسلسلة طويلة من الغزوات الأخرى بأشكال جديدة، وليس بالضرورة بشكل العدوان المسلح المباشر من القوة الكبرى الوحيدة في العالم على إحدى الدول الصغرى بدعوى المروق عن النظام الدولي والعصيان لقرارات الأمم المتحدة.
وهي عملية بلغت من دقة التنفيذ والإتقان ما قد تتجاوز قدرات أي نظام عربي. فقد استطاعت تكنولوجيا التفجير، وربما باليورانيوم المخصب، أن تتغلب على تكنولوجيا الدفاع والحماية بالمُصفَّحات والمُدرَّعات التقليدية. فالعملية أكبر من جهد فردي أو جماعي أو حتى قُطْري مَحلِّي. لا يستطيع القيام بها إلا إسرائيل أو أمريكا أو كلاهما معًا. فهما الوحيدان الكاسبان منها، زعزعة الاستقرار في الوطن العربي، وتفجير ما تَبقَّى من نظمه المتهاوية بضربةٍ واحدةٍ لإعادة تخطيط المنطقة من جديد طبقًا لميزان القوى المحلية والدولية.
وقد قامَت القوى الكبرى، وفي مُقدِّمتها الولايات المتحدة وإسرائيل، بِسَبْر واختبار مناطق الضعف في الوطن العربي؛ مِن أجل النفاذ منها إليه. وهي مناطق نفاذ خلقناها بأيدينا؛ مثل الوضع الطائفي في لبنان، وحرب أهلية دامت خمسة عشر عامًا دون حل لمشكلة الطائفة أو الوطن. وتتكرر نفس المشكلة في السودان في دارفور، بين الشمال والجنوب والغرب بعد أن عَجزت المُواطَنة السودانية عن توحيد مناطق السودان. فأصبح العرب في مواجهة الأفارقة مما أعطى فرصة لقوى الاستعمار التقليدية لفصل الجنوب والغرب عن الشمال.
ووجود القوات السورية في لبنان وعدم انسحابها منذ تنفيذ بنود اتفاقية الطائف، وتغلغل المخابرات السورية وتَدخُّلها في الشأن اللبناني أو تمديد الرئاسة الحالية لفترةٍ جديدةٍ ضد الدستور اللبناني أعطى ذريعة للقوى والمُنظَّمات الدولية كي تتدخل في العلاقات بين سوريا ولبنان؛ من أجل العدوان على سوريا بدعوى عدم تطبيقها القرار الدولي بالانسحاب من لبنان وتَبنِّي المعارَضة اللبنانية هذا البند. وانقسمت لبنان بين حكومة ومعارَضة، بين موالين ومعارضين وشبح الحرب الأهلية لم ينقشع بعد. وكان العراق أيضًا قد أُوقِع في فخ العدوان على إيران الذي لم يدفع الولايات المتحدة للتحرك ضِدَّه لأنه كان ينفذ مطالبها بالتخلص من الثورة الإسلامية في إيران، عدو الشيطان الأكبر، وفي فخ العدوان على الكويت مما دفع الولايات المتحدة بالتحرك هذه المرة دفاعًا عن النفط الخليجي، وحصارًا للقوة العراقية التي كانت تمتد نحو الجنوب لحصار شبه الجزيرة العربية من الشمال والجنوب معًا. وكانت الذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل والتَّسلُّط، وإسرائيل مدججة بالسلاح، وأمريكا تُؤِّيد نُظم التَّسلُّط في الوطن العربي ما دامت تابعة لها، تحقق سياساتها.
وكما تختبر القوى الكبرى مناطق الضعف في الوطن العربي، فإنها أيضًا تتعرف على مناطق القوة في دول الجوار في العالَم الإسلامي كي تقضي على السَّند والظهير في ماليزيا، وإندونيسيا، وإيران. فقد تَمَّت من قبلُ محاولة ضرب العملة في جنوب شرق آسيا. وإندونيسيا أيضًا مُهدَّدة بتقطيع الأوصال بداية بتيمور الشرقية، ثم آتشيه، ثم التنصير على قدمٍ وساقٍ. أما إيران فهي الباقية التي لم تدخل بعدُ بيت الطاعة والتي ما زالت تُمثِّل بؤرة تجميع ومناهَضة لقوى الهيمنة الكبرى. وتعمل على ما تَبقَّى من وحدة العالم الإسلامي وتأييد قضاياه في سوريا ولبنان وفلسطين.
الطوفان قادم، وموجَة جديدة من الهيمنة من الخارج والتفتيت من الداخل في الآفاق. البداية الجديدة بعد العراق، تفتيت لبنان، وإعادة الحرب الأهلية من أجل تركيز الطائفية، والقضاء على وحدة الوطن، والتخلص من نموذج فريد من الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية الصحافة. فبيروت هي العقل العربي الذي يُحاصَر كما حُوصِر العراق الذي يقرأ. فيتم حصار العقل والعين معًا.
ثم يتم التخلص من حزب الله في الجنوب بعد اتهامه بالإرهاب في طريق التسوية العربية الإسرائيلية والقضاء على كل مظاهر المقاوَمة ونموذجها. وهي التي نجحت في تحرير الجنوب والقضاء على قوة وطنية قادرة على أن تكون منبرًا للحوار بين المُوالِين والمُعارِضين في النظام اللبناني. وربما كان التَّخلُّص من رئيس الوزراء أنه كان رمزًا للوحدة الوطنية منسقًا مع حزب الله لحماية استقلال لبنان ووحدته وتجربته الديمقراطية.
ثم يتم شد الحبل على عنق سوريا بذريعة وجودها في لبنان وضرورة انسحابها منه دون مطالبة إسرائيل بالانسحاب من مزارع شبعا في الجنوب، ومن الجولان المحتل ومما تَبقَّى من فلسطين إذا كان الهدف هو مبدأ استقلال الدول وعدم جواز احتلال أراضي دولة من دولة أخرى. والذريعة أيضًا ضرورة التحول الديمقراطي في سوريا، وملف حقوق الإنسان، ومساندة الإرهاب، والإبقاء على مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، والتنسيق مع إيران، وممر توريد الأسلحة إلى جنوب لبنان.
ونظرًا إلى أن أوروبا ما زالت متأرجحة بين الاستقلال عن الولايات المتحدة والتبعية لها، وأخذَت موقف الاستقلال من العدوان الأمريكي البريطاني على العراق، فإنها أخذَت موقف التبعية فيما يتعلق بلبنان وسوريا وأوروبا خاصة فرنسا، هي الراعية التقليدية لهما بعد أن كانَا محتلين منها. وقذف دمشق بالطيران الفرنسي قبل الاستقلال ما زال في الأذهان.
ثم يأتي الدور على السودان والتدخل في شئونه بالقوات الأجنبية تحت ذريعة حماية لدارفور وشعب دارفور من حرب الإبادة، وتجنيد المنظمات الدولية لإعطاء الشرعية للعدوان على السودان. ويقوم الإعلام بتصوير مَظاهر البؤس، والجوع، والتشرد لمليون سوداني في دارفور وكأن أربعة ملايين فلسطيني لا يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر في نفس الوضع المأساوي.
ثم يأتي الدور على إيران بعد أن يصبح وحيدًا حمايةً لإسرائيل، وترصدًا بمفاعلاته النووية حتى تنفرد إسرائيل في المنطقة بالسلاح النووي دون رادعٍ لها. كما يتم القضاء على الإسلام الثوري، وإمكانية وجود نموذج للتنمية والاستقلال خارج النموذج الغربي، ويضعف دور إيران كقوة جذب لمناطق وسط آسيا وكإمكانية تكوين قُطب جديد مع تركيا ومصر يعيد التوازن إلى العالم ذي القطب الواحد.
ثم يأتي الدور على شبه الجزيرة العربية، من أجل تفتيتها وإنهاء قوة اقتصادية وسياسية في المنطقة ما زالت تقاوم الهيمنة الصهيونية على الأرض وفي الفكر. ولا تحتاج القوى الكبرى للتَّدخُّل فالنظام مُرْهَق. فقد تأخَّر في الإصلاح. ومن كثرة الضغط من أعلى بدأ من التفكك من أسفل. وبدلًا من الحوار مع حركات الإصلاح تَحوَّل إلى صراع بالسلاح.
والمغرب العربي تُغذِّي فيه فرنسا روح البربرية الفرانكفونية في مُواجَهة العروبة. وتُقيم المَعاهد والمراكز في جنوب فرنسا لرعاية البربرية حليفًا للفرانكفونية.
وأخيرًا يأتي الدور على مصر بعد قصِّ ريشها في الشام، الأمن القومي لمصر منذ الهكسوس حتى الاستعمار الحديث ونشأة الكيان الصهيوني، وفي الجنوب، في السودان؛ حيث منابع النيل، وفي الشرق في شبه الجزيرة العربية وإيران، وفي الغرب في المغرب العربي والامتداد الأفريقي الغربي لمصر منذ الحيثيين حتى الحرب العالمية الثانية وموقعة العلمين.