الفصل التاسع عشر
(٤٣) لكي نفهم مضمون هذا الفصل لا بد من شرح مفهوم المحبة لدى
كلٍّ مِن الحكمة الكونفوشية والحكمة التاوية. تدعو الكونفوشية
المحبة: jen. ويتخذ هذا المفهوم مكانةً مركزيةً في الفكر
الكونفوشي. تقوم المحبة الكونفوشية على أساس من التمييز العقلي
الذي يُدعى yi، والذي يقوم عليه
النظام الكونفوشي برمته. فالإنسان ذو طبيعة عقلية بالدرجة الأولى.
ولكي يحقق طبيعته العقلية هذه عليه بالدرجة الأولى أن يقوم
بواجباته الأخلاقية بعيدًا عن الهوى الشخصي والرغبات الفردية. فإذا
قام الفرد بما يتوجب عليه القيام به، وأحجم عن القيام بما لا يتوجب
عليه القيام به، تحققت فيه الفضيلة. أمَّا معیاره في ذلك فهو لائحة
بالمعايير الأخلاقية والسلوكية تُدعى Li، وتغطي كل أنواع العلاقات
الشخصية والاجتماعية تقريبًا وكل أنواع الطقوس والعبادات. فإذا
واجه الفرد موقفًا مستجدًّا لم يجد له مرجعية في اللوائح
الأخلاقية، عليه أن يلجأ إلى محاكمته العقلية الخاصة من أجل تطبيق
قاعدة فقهية عامة على مسألته الخاصة تلك. وهذا ما يُدعى
chih، أي الحكمة. هذا النوع من
الحكمة وهذا الشكل من فقه السلوك والأخلاق هو ما يرفضه لاو تسو
عندما يقول:
إذا استبعدت الفقهاء والحكماء
يفيد الناس أضعاف مضاعفة
إذا ألغيت تعاليم الاستقامة وأفعال الخير
يعود الناس إلى محبة بعضهم بعضًا.
إن الموقف التاوي من مفهوم المحبة يناقض الموقف الكونفوشي، وفي
مقابل مفهوم اﻟ jen ذي الطبيعة
العقلية الباردة، تطرح التاوية مفهومًا آخر يُدعى
tzu. والكلمة كما يفهمها
التاويون لا تشير إلى المحبة كفعل مشخص، بل إلى المصدر الأصلي
والبدئي للمحبة المزروع في صميم الكون وفي صميم النفس الإنسانية.
هذه المحبة التاوية لا تقوم على أساس من التمييز العقلي ورجوع إلى
لوائح أخلاقية، بل تفعل من داخل الإنسان إذا ترك نفسه على سجيتها
وتخلص من تعاليم الفقهاء وحكماء الشريعة. من يسلك وفق قواعد
أخلاقية مقررة سلفًا فإنما يسلك بشكلٍ لا أخلاقي، ومن يحب جاره
تطبيقًا لتعاليم متعارف عليها لا يعرف شيئًا عن الحب، ومَن يرعَ
أولاده خوفًا من القانون ومِن تقولات الناس لا يعرف شيئًا عن
الأبوة.
(٤٤) فإذا عاد الجميع إلى طبيعتهم الأصلية غير المصقولة، تلمس كل
واحد في صميمه ذلك المنبع الحقيقي للمحبة، وسلك بشكلٍ تلقائيٍّ
فأحب دون أن يسمي ذلك حبًّا، وتعاطف دون أن يسمي ذلك تعاطفًا، ورفق
بالحيوان دون أن يُسمي ذلك رفقًا، وأطاع الوالدين دون أن يُسمي ذلك
برًّا. لقد تخلص من زينة الأخلاق ليسلكها.
ويبدو لاو تسو، الذي عاش قبل ٢٥٠٠ سنة، شاهدًا معاصرًا على ما
يجري في مجتمعاتنا الحديثة من تقدير للكسب وتجميع للثروات، وما
ينتج عن ذلك من سعي محموم للاغتناء غير المشروع، وسلسلة النهب التي
تبدأ من نهب واستغلال الآخرين لتنتهي بنهب واستغلال الطبيعة وتدمير
البيئة. وهو عندما يقول: إذا أوقفت تقدير الشطارة والكسب، يختفي
اللصوص وقُطَّاع الطرق، لا يعني باللصوص وقُطَّاع الطرق أولئك
الجائعين الذين يسطون على لقمة العيش اليومية، بل أولئك الذين
يعيشون في قصور فارهة وحدائق غَنَّاء نتيجة ما كدَّسوه من مالٍ
حرامٍ. ففي الوقت الذي تغصُّ به السجون بصغار الحرامية، يتربع كبار
اللصوص في سُدَّة المناصب العليا، وينظر الناس إليهم بإكبارٍ
وإجلالٍ على أنهم «شُطَّار» وأفراد ناجحون في الحياة.