الفصل السادس والثلاثون
(٧٩) يتجلَّى في هذا الفصل الفكر الجدلي للاو تسو في أوضح وأجمل تعبيراته، فالمضغوط هو حال من أحوال الممطوط، والممطوط هو حال من أحوال المضغوط، المنحني هو حالٌ من أحوال المنتصب، والمنتصب هو حال من أحوال المنحني، وكذلك القويُّ والضعيف والفارغ والمليء، وبتعبير آخَر فإن الأشياء في العالم المادي تمارس الفعل على بعضها بعضًا، وهذا ما يدعو إلى نشوئها المتزامن والمتواقت بالمصطلح التاوي، حيث لا ظهور لواحد منها في معزل عن شبكة الأفعال المتبادلة التي تربطه بالأشياء الأخرى، إن الشيء المنفرد يؤكِّد نفسه من خلال روابطه وقنوات تفاعُله بنفْس الدرجة التي ينذكر بها نفسه، لأنه موجود بغيره، معدوم بدون ذلك الغير.
(٧٩) إذا تأملنا قول المعلم في الفقرة السابقة مرة أخرى يتكشَّف لنا مقصد آخَر من مقاصده:
نلاحظ أعلاه أن أفعال الضغط والإضعاف والحنْي والأخذ تُشير إلى ممارسة القسر والإكراه على حالة طبيعية، هذه الحالة الطبيعية تتسم بنوعٍ من القوة والصلابة الأصلية، وإلا لَمَا كان فعل القسر عليها مطلوبًا، إنها في وضع اﻟ «ين» ولكنها تنطوي على «اليانغ»، أمَّا مَن يمارس القسر فإنه في وضع اﻟ «ين» أمامها رغم ممارسته ﻟ «اليانغ». وهذا معنى قوله:
إن إدراك هذا المعنى الدقيق والعميق لعلاقة الأشياء ببعضها ولعلاقة الفاعل بالمفعول به هو ما يدعوه لاو تسو بالبصيرة الخافية.
(٨٠) وهناك مستوًى ثالث لفهم هذا النص، إن اختيار الثنائيات في الفقرة ٧٩ يُوحي بمقصد ذي طبيعة سياسية، فهو في توكيده على ثنائيات: ضغط-مط، إضعاف-قوة، حنْي-انتصاب، أخْذ-ملء، يعرض أمامنا أحوالًا للرعية والحاكم، فالحاكم لا يستطيع تحصيل الضرائب من رعيته إنْ لم يعمل أولًا على إتاحة سُبل الكسب أمامهم، ولا يستطيع ممارسة الضغط عليهم لغرض مُعيَّن، إذا لم يفسح لهم أولًا مجالًا واسعًا من الحرية يشعرون معه بمعنى الضغط … إلخ. وعلى الحاكم في ذلك كله أن يلجأ إلى اللِّين وألَّا يحاول استعراض قوته أمام الناس، أسلحة الحاكم ينبغي أن تبقى في مستودعاتها مثلما تبقى السمكة في مسكنها المائي العميق، إشهار السلاح في وجه الرعية يجلب على الحاكم مصير السمكة التي تغادر مسكنها المائي نحو السطح، وقد قال لاو تسو في الفصل ٣٠: