الفصل الثاني
(٤) يتخذ مفهوم الأقطاب مركز البؤرة في الفكر الصيني منذ أقدم
العصور، ويشترك في ذلك كل مَن فكر كتاب التغيرات والفكر التاوي
والفكر الكونفوشي، وكذلك الفكر البوذي، إن استقرار الكون وتوازنه
هو محصلة لتقابل الأقطاب وتعاونها على كلِّ صعيدٍ، وهذا التعاون هو
ما يميز مفهوم الأقطاب في الفكر الشرق أقصوي عن مفهوم الأضداد في
الفكر الشرق أوسطي والفكر الغربي، فالأضداد تقف في مجابهة أبدية
حيث النور يُكافح الظلام والخير يكافح الشر والصحة تكافح المرض
والحياة تكافح الموت … إلخ. أمَّا الأقطاب فلا تتصارع من أجل سيادة
أحدها على نقيضه؛ لأنه لا قيام لأي قطبٍ دون ذلك النقيض، ولأن زوال
النقيض يعني زوال القطب الساعي إلى البقاء بلا نقيض؛ فلا قيام
للصحة بدون مرض ولا للنور بدون ظلام ولا للحياة بدون موتٍ ولا
للخير بدون شرٍّ، وهذا معنى قول المعلم:
يرى الجميع في الجميل جمالًا لأن ثمَّة قبحًا
يرى الجميع في القبيح قباحة لأن ثمَّة جمالًا
(٥) إن المفهوم الصيني للأقطاب يراها في توازنها وتعاونها؛
فالوجود ينجم عن العدم والعدم لا معنى له بدون الوجود، الطويل
يوازن القصير والمنخفض يسند العالي، البَعد يتبع القَبل ولكن
القَبل لا معنى له بدون البَعد. هذه الأقطاب وغيرها تعمل على إظهار
بعضها بعضًا، وما على الإنسان إلَّا أنْ يدرك قطبية الوجود ويعمل
على التوافق معها.
(٦) يتوافق الإنسان مع الطبيعة من خلال ما يدعوه لاو تسو ﺑ
«اللافعل» و«عدم التدخل في مسار الأشياء». ففنُّ الحياة هو أشبه
بفن الملاحة لا بفنِّ القتال، ففي الملاحة يُدير الرُّبان شراعَه
إلى الريح ويوجه معرفته للإفادة منها لا لمقاومتها، وبذلك يغدو
فعله جزءًا من النظام الطبيعي للأشياء لا مستقلًّا عنها ولا
معارضًا لها، من هنا فإن تعبير اللافعل الذي يتردَّد كثيرًا عند لا
تسو لا يحمل معنى سلبيًّا كما يتصوَّر البعض للوهلة الأولى، بل هو
دعوة إلى الإيجابية الوحيدة الحقيقية التي بدأنا الآن فقط في
إدراكها، إيجابية التناغم مع حركة الكون وترك المُثل، التي غدت
اليوم بالية، عن قهر الطبيعة وتسخيرها.
هذا الموقف التاوي من الطبيعة لا يتضمن رفضًا للتكنولوجيا
ولتقنيات الإفادة من الطبيعة، بل يدعو إلى نوع من التكنولوجيا ذات
الطابع الإنساني الذي يُبقي على صلة الإنسان بمحيطه وبيئته، ولعل
في القصة الآتية التي يرويها تشوانغ تزو تلميذ المعلم الأول، ما
يُلقي ضوءًا على هذه المسألة:
«بعد أن أنهی نجار البلاط المدعو تشیينغ منصبًا خشبيًّا لتعليق الأدوات الموسيقية،
أعجب أهل البلاط بالقطعة الفنية ورأوا فيها ما يشبه الإعجاز، فسأل الأمير لو النجار
تشیینغ: أي سر وراء صنعتك الفنية هذه؟ فأجاب النجار: ما من سر هناك يا مولاي، الأمر
عندي يجري على النحو الآتي: عندما أتهيَّأ لصنع قطعة جديدة مثل هذه، أحرص أولًا على
تجميع كل قواي الحيوية فأبدأ بتفريغ ذهني حتى أصل حالة السكون التام. بعد ثلاثة أيام
وأنا في هذه الحالة أغدو غافلًا عن أي عطاءٍ يأتيني من عملي، بعد خمسة أيام أغدو غافلًا
عن أيِّ ثناءٍ يأتيني من عملي، بعد سبعة أيام أفقد السيطرة الواعية على أطرافي وجسدي،
عند ذلك يغيب البلاط عن ذهني كليًّا وتتلاشى منه كل العناصر المشوشة الخارجية، فأشعر
بأن مهارتي قد صارت مشحوذة ومهيَّأة، عند ذلك أدخل إلى الغابة وأبحث عن شجرة ملائمة أرى
فيها الشكل الذي صوَّرته عينُ عقلي، ثم أبدأ العمل تاركًا إمكانياتي التلقائية تتعامل
مع الخشب، إن ما يراه البعض شيئًا خارقًا في عملي ليس إلَّا هذا».
١
إن اللافعل بالمفهوم التاوي هو موقف من الحياة مثلما هو سلوك
أيضًا، وهو يعتمد على إدراك مبادئ وطريقة سير الأمور على مستوى
الطبيعة، من أجل التعامل معها بأقلِّ جهد ممكن ومن غير قسر أو
إكراه، والتاوي في ذلك لا يستخدم ذكاءه التحليلي وحساباته
المنطقية، بقدر ما يستخدم ذكاءه الباطني غير الواعي المنبث في كامل
عضوية الإنسان وجهازه العصبي، إنه مثل لاعب الجيدو الذي يستخدم قوة
الخصم ضده ويحول اندفاعه الهجومي إلى سقوط، وهو لا يستخدم قوته إلا
عندما يختل توازن الخصم أو يصل إلى حدِّ الإجهاد، وحتى في هذه
الحالة فإنه لا يستخدم إلا الحد الأدنى من الجهد.
يقول العلَّامة جوزيف نیدهام، وهو أعظم دارس أوروبي للفكر الصيني
القديم، في كتابه: العلم والحضارة في الصين، بأن التاوية قد قدَّمت
للعلم الصيني أكثر بكثير مما قدَّمته الكونفوشية، فبينما كان
الكونفوشيون يدسُّون أنوفهم في الكتب على الدوام ويحرصون على اتباع
القواعد واللوائح، كان التاويون يراقبون الطبيعة. لقد حفلت أدبيات
التاوية بالملاحظات والتعليقات الغزيرة بخصوص النباتات والمياه
والرياح وسلوك الحيوانات والحشرات، في الوقت الذي اقتصرت فيه
الأدبيات الكونفوشية على المسائل السياسية والاجتماعية، ثم يذهب
نیدهام إلى حدِّ القول بأن الصوفية التاوية والنزعة التجريبية
يسيران يدًا بيدٍ، على عكس السكولائية المدرسية الكونفوشية؛ لأن ما
يهم الصوفي بالدرجة الأولى ليس الاعتقاد بالمبادئ التي قرر الآخَرون
صحتها بل تحصيل الخبرة المباشرة الحقة. أمَّا السكولائي المدرسي،
كونفوشيًّا كان أم لاهوتيًّا من العصور الوسطى الأوروبية، فإنه
يعزف عن النظر من خلال تلسكوب غاليلو لأنه يعرف كل شيء عن السماء
من خلال النصوص التي درسها واعتقد بها.
٢ وهذا ما يقودنا إلى نقطة أخرى جوهرية في حكمة لاو تسو
وهي التعليم بدون کلمات.
يقول تشوانغ تزو، تلميذ المعلم:
«مَن يتصدَّى للإجابة عن سؤال حول التاو لا يفهم التاو، إذ ما من تساؤل ممکن حول
التاو، وما من أجوبة، إنَّ طرح أسئلة لا يمكن الإجابة عنها حماقة، وفي الإجابة عن أسئلة
لا جواب لها فقدان للمعرفة الداخلية، إن الحمقى وفاقدي المعرفة الداخلية لم يلحظوا قط
صيرورة الكون وكيفية عمله، ولم يعرفوا البدايات العظمى، ليس بمقدورهم اجتياز الجبل
المقدس كون لون والتحليق بعيدًا نحو الفراغ العظيم، أو العدم … التاو يُعرف بدون
مفاهیم، بدون تفکر عقلي، يمكن مقاربته بالمكوث في اللاشيء (العدم، الفراغ) باتباع لا
شيء، بطلب لا شيء … الحكيم يعلم مبدأ لا يجد تعبيرًا عنه بالكلمات.»
٣
هذا النوع من التعليم بدون كلمات، يعتمد على دفع المُريد إلى
معرفة الحقائق عن طريق التأمل الباطني والخبرة الروحية المباشرة،
بعيدًا عن التلقين المباشر ودراسة المفاهيم والمبادئ النظرية، يقول
تشوانغ تزو:
«الشبكة تُستخدم للإمساك بالسمك، خُذ السمك وانسَ الشبكة، الفخ يُستخدم للإمساك
بالأرانب البرية، خذ الأرانب البرية وانسَ الفخ، الكلمات تُستخدم لنقل الأفكار، عندما
تستوعب الأفكار انسَ الكلمات، كم من الممتع التحدث إلى شخص نسي الكلمات».
٤
(٦-أ) والحكيم في ممارسته للافعل وعدم تدخله في مسار الأشياء،
إنما يماثل حركة التاو التلقائية، فالتاو لا يبذل جهدًا في تسيير
الكون، لأن الكون يُشبه الجسد الحي الذي يعمل كل جزءٍ فيه في
اتساقٍ وتناغم مع بقية الأجزاء، ولا قيام لكل جزء إلا بمجموع
الأجزاء، وهذا ما تدعوه التاوية بالنشوء معًا أو النشوء التزامني،
مما أشار إليه المعلم في هذه الفقرة بقوله:
الآلاف المؤلَّفة تظهر وتختفي بلا توقف.
وقوله في الفصل ١٦:
الآلاف المؤلَّفة تنشأ في تواقُتٍ معًا
وأنا أراقب عودتها.
وقد عبَّرت بوذية الزن ذات المنشأ التاوي عن هذه الفكرة بأكثر من
صيغة شعرية، نقرأ على سبيل المثال:
ألبث في سكون لا أفعل شيئًا
الربيع يأتي والعشب ينمو من تلقاء ذاته.
(٦-ب) إن التاو ليس سيدًا للكون يمارس سلطانه عليه من موضع مستقل
ومفارق، وكأنه والكون هويتان مستقلتان، بل هو عين النظام الداخلي
للطبيعة الحرة من أية ضرورة خارجية، من هنا فإنه لا يتطلَّب من
الكائنات عرفانًا ولا يدَّعي لهم امتلاكًا ولا ينسب لنفسه
فضلًا.
(٧) ويتبع ذلك أن عمل التاو لا يهدف إلى مكافأة من أي نوع، العمل
يُنجز لأنه من طبيعة الأشياء أن ينجز، والحكيم الذي يحوز على
اﻟ «تي»، فتكون نفسه مرآة لتجلي التاو في العالم الطبيعي، يفعل مثل
ذلك، ولذا فإن أثر عمله يبقى في الأرض.