الفصل العاشر
(٢٤) يمتلك كل فرد روحين؛ روح اﻟ «ين» وهي الروح الجسدية وتُدعی بو، وروح اﻟ «يانغ» وهي الروح الأثيرية. عند الموت تنزل الروح الجسدية إلى التراب بينما تصعد الروح الأثيرية إلى السماء. هذا ما يرد في تعاليم التاوية الطقسية اللاحقة. ولكن المرجح أن لاو تسو الذي تخلو تعاليمه من أي تأمل في مسألة الموت وما بعد الموت، يؤكد في هذا المقطع على ضرورة إدراك الفرد لكينونته باعتبارها حاصل تمازج قوة السلب وقوة الإيجاب، وعلى الحفاظ على التوازن بينهما في كلِّ سلوكٍ وكلِّ موقفٍ.
(٢٤-أ) يشير هذا المقطع إلى ممارسة التأمل أو الاستغراق الباطني المعروفة في المذاهب الشرق أقصوية جميعها، والتي تعتمد على التنفس بطريقة خاصة وإفراغ الذهن من مسائل الحياة اليومية. يقول تشوانغ تزو في نصائحه للمتأمل التاوي:
هذا النوع من الاستغراق الباطني يجعل صاحبه مثل الوليد الجديد الذي لم تُنقش على ذاكرته أية تجربة بعد، حلوة كانت أم مُرَّة. إنه فارغ ويشعر بالغبطة والسعادة. إنه في الحالة الطبيعية البدئية التي لم تفسدها المعرفة بعد.
في حالة الاستغراق التاوي، لا يحاول المتأمل إفراغ عقله قسرًا، بل يتركه على سجيته يتلقى الأفكار ويتركها دون الإمساك بها أو إعطائها تفكرًا ثانيًا وجعلها تتردد في الذهن. وبذلك يغدو العقل مثل مرآة مصقولة، فالمرآة تعكس كل الصور دون أن تقبض على واحدة منها. الأفكار هي تراکیب عقلية مؤقتة وزائلة، لذا دعها تنعكس على صفحة عقلك وتتلاشی.
(٢٤-ب) وعلى عكس ما تهدف إليه الممارسات اليوغية للتأمل الباطني من تحكم بالجسد وإطالة للعمر، فإن الممارسة التاوية لا تهدف إلى تحصيل أي مكسب للأنا بل إلى تحقيق ذاتٍ منفتحةٍ. يقول تشوانغ تزو: «عندما يصل عالمك الداخلي حالة السكون التام فإنه يشع ضوءًا سماويًّا. مَن يشع بنوره السماوي يشعر بذاته الحقيقية. مَن يرعى ذاته الحقيقية يقبض على الأبدية في الحاضر. عندما يقبض على الأبدية تسقط عنه عناصره المادية البشرية وتسنده خصائص السماء.» ٣٣ وكما هو شأن كل نشاطٍ تاويٍّ، فإن التأمل والاستغراق الباطني لا يسعى إلى البحث عن الحقيقة بشكل قصدي وإرادي، بل بشكل تلقائي ومن خلال مبدأ اللافعل. وهذا معنى قول المعلم في هذه الفقرة:
إن أسلوب التأمل التاوي يساعد المُريد على تحرير العقل والمَلَكات النفسية من ممارسة الجهد ومن التركيز. وعندما يصل العقل حالة التلقائية ويتوقف عن ممارسة الفعل على نفسه، يصل المتأمل إلى الاستنارة. والاستنارة هنا أمر طبيعي يمكن أن يحصل في أية لحظة، ولا يتطلب جهدًا وتصمیمًا يمتد عبر عددٍ لا يُحصَى من التقمصات المتوالية، كما هو الحال في الهندوسية وفي البوذية. طريق التاوية لا يسير عبر مراحل متدرجة يرتقي خلالها المريد من مقامٍ إلى مقامٍ وصولًا إلى لحظة الكشف، بل يتم قطعه في قفزةٍ بسيطةٍ واحدةٍ. إن صعوبة هذه الوسيلة تكمن في بساطتها المفرطة.
(٢٥) يكرر لاو تسو هنا مقطعًا سابقًا يصف فيه علاقة التاو بالآلاف المؤلَّفة من الحيوات ومن مظاهر الطبيعة. فالتاو ليس سيدًا للكون يمارس عليه سلطانه من موقع مفارق، بل هو عين النظام الداخلي للطبيعية، ذلك النظام الحر من أية ضرورةٍ خارجيةٍ؛ لذلك فإنه لا يتطلب من الكائنات عرفانًا ولا يدَّعي لهم امتلاكًا ولا ينسب لنفسه فضلًا.
إن الآلاف المؤلَّفة من الحيوات ومن مظاهر الطبيعة هي التاو في حالة التجلي. وهذا ما يدعوه لاو تسو في السطر الأخير باﻟ «تي» الغامضة. وهنا سوف نتوقف عند مفهوم اﻟ «تي» لأنه من المفاهيم الأساسية في الكتاب ومتضمن في عنوانه: تاو تي تشينغ؛ أي رسالة في التاو والفضيلة.
تي-الفضيلة
من تتبعنا لكيفية استخدام تعبير اﻟ «تي» عند لاو تسو، يمكننا القول بأن التعبير يشير إلى التاو متحققًا في الأفراد. والكلمة في الأصل تعني الفضيلة وتعني أيضًا المزية الداخلية والقوة الداخلية وأيضًا الطبيعة الأصلية للإنسان، هذه الفضيلة أو المزية الداخلية لا تُكتسب بالتعلم، وإنما يكتشفها الفرد في أعماق نفسه عندما يغدو قادرًا على تحقيق ذات منفتحة.
مما تقدَّم شرحه حول مفهوم اﻟ «تي» فإني أميل إلى الموافقة على الترجمات الأوروبية الأولى لكتاب تاو تي تشينغ والتي ترى في اﻟ «تي» نوعًا من القوة الداخلية المنبثقة في الكون والإنسان، مع الأخذ بعين الاعتبار المفهوم التاوي للقوة، والتي هي نوع من الفعالية التلقائية البعيدة عن مفهوم القسر والإكراه.