الفصل الخامس عشر
(٣٥) الحكيم التاوي رقيق وفهيم لا يسبر لمعرفته غور. لا تستطيع العين تمييزه لأنه لا يحب الظهور ولا ادعاء المعرفة والتفوق على الآخرين. ورغم أنه قد حقق الاستنارة فإنه يسلك بشكلٍ عاديٍّ وطبيعي مثل كل الناس. لا يراه أحد لأنه لا يرى في نفسه شيئًا خاصًّا. لقد حقق التلقائية باتباع اللاجهد واللافعل.
يَرِد في هذه الفقرة تعبير سوف يتكرر مرارًا في الفصول اللاحقة وهو: الجلمود الخام. فالحكيم التاوي كما يصفه المعلم هنا: ليِّن كثلج يذوب وصلب کالجلمود الخام. أي أنه بسيط وطبيعي، لا يسلك وفق قواعد موضوعة مسبقًا بل يترك نفسه على سجيتها؛ لأن النفس المتروكة على سجيتها قادرة على تحقيق ذاتها والتناغم مع الآخرين ومع العالم. الصخرة الخام تشبه الذات المنفتحة التي لا تشعر بالحدود الفاصلة بينها وبين الذوات الأخرى، أمَّا الصخرة المنحوتة التي اتخذت شكلها النهائي کشيء من الأشياء، فتشبه الأنا المغلقة التي تعيش وهم تميزها وتفرُّدها. إنسان الجلمود الخام يعرف اللوائح والقوانين والتشريعات، ولكنه قادر على العيش بدونها متبعًا قانون الطبيعة، أمَّا إنسان الجلمود المنحوت فلا يستطيع العيش إلا ضمن قوالب موضوعة مسبقًا والسلوك وفق لوائح الصح والخطأ، غير عارف بأن الصح والخطأ في داخلنا لا في حرفية الشريعة.
والحكيم مجوف وفارغ مثل الوادي. عقله مثل مرآة تعكس الكون، والكون مرآة تعكس العقل، لا هذا يمارس قسرًا على ذلك، ولا ذاك يمارس قسرًا على هذا. العقل جزء من صيرورة الطبيعة، وهو عندما يحاول تفسير الطبيعة من خلال الأفكار والمفاهيم، يكون مثل السيف الذي يحاول أن يقطع نفسه أو العين التي تحاول أن ترى نفسها. ذلك أن الأشياء وأفكارنا عنها شيءٌ واحدٌ، الذات وموضوعاتها تجتمع في كلٍّ لا ينفصم. يقول الشاعر التاوي:
(٣٦) في قوله: سدیمي كماء عكر، إشارة إلى عقل الحكيم. فعقل الحكيم مثل بقية الناس يمتلئ بالأفكار التي تُشبه العكر في الماء، ولكن ما يميزه عن الآخرين أن هذه الأفكار تترسب إلى القاع في أحوال التأمل، وتعود إلى الحركة في الأحوال الطبيعية، فهو قادر في أيِّ وقت على التخلص من تأثيرها لكي يرى الأشياء في «ذاتوتیتها» بعيدًا عن التجريدات الذهنية وتوسيط الرموز.
إن التأمل الباطني عند التاوي لا يهدف بشكلٍ مباشرٍ إلى تحقيق الاستنارة، فمثله مثل أي عمل آخَر يقوم به دون هدف مسبق وبصرف النظر عن توقع نتائج معيَّنة. التأمل الباطني وضع يحقِّق للنفس الحالة التلقائية الطبيعية ويضعها في الحاضر السرمدي. تقول أبيات من شعر الزن:
وأيضًا:
من هنا فإن التاوي يرى في أساليب التأمل البوذية والهندوسية جهدًا لا طائل من ورائه، لأن المتأمل يركز عقله على فكرة الاستغراق الباطني ويمارس القسوة على مَلَكاته النفسية، من أجل تحقيق حالة السكون الداخلي بهدف الوصول إلى الاستنارة. لقد انقسم عقله إلى شطرين، واحد يتأمل وواحد يترقب النتائج. أمَّا عقل التاوي فموحد، إنه لا يطلب الوصول إلى ما تسميه البوذية بطبيعة البوذا؛ لأن طبيعة البوذا لم تفارقه قط. يقول بيتان من شعر الزن:
في العقل المليء بالأفكار الجاهزة والمعتقدات الناجزة لا مكان للتاو، لذا فرجل التاو فارغ من الأفكار التي يحكم بها على الأمور. وهذا معنى قول المعلم في هذه الفقرة: