عيوب العائب
أنا — أعزك الله — شيخ محدودب الظهر، أبيض الفودين، متثاقل الخطا، مرتجف الأعضاء، أبو تجارب، ابن ستين، أخو أسفار، جواب أرض، تقاذفت بي فلوات وتلقفتني فلوات. فكم سهل كالصحيفة مشيت بهِ مشي القلم، وكم كهف مظلم كالفؤَاد أقمت بهِ مقام الأمل، صرت إلى كثير من أقطار الأرض لا مباليًا سرًى ولا خائفًا تهجيرًا، ما صاحبي إلَّا عصا أتوكأُ عليها في تسياري، وأقيس بها أعماق مخاضاتي وقد ضج نضوي ومل ركابي بعد أن فتَّ الزمان في عضدي وأشل بالكبر ساعدي، وإذ وهن العظم مني ولم تبقِ الأيام من شبابي إلَّا تباريح ذكر يجددها طلوع البدر وهبوب النسيم وضحك النور وتسلسل الماءِ واصطفاق الراح فقد آن أن أخلد إلى مصر وأنشر بها كتاب شجوني.
عرفت في بعض أسفاري شيخًا هو أكبر مني سنًّا وأوفر تجربة، وما زال ينتقص الدهر من أطرافهِ حتى أصبح كالترس؛ لهُ وجه كحجر الشحذ وأنف كاللولب تحسبهُ ثابتًا وهو يدور وناظرتان كمصباحي مسجد في أخريات الليل. تضاءل نورهما وذهب لمعانهما فهو يتخيل بهما الأشياءَ ولا يراها. أقام بإحدى بوادي نجد جم الكلاءِ خصيب المرعى، واتخذ لهُ من أغصان الشجر بيتًا يأوي إليهِ من قر الليل وحمَّارة القيظ، فلزمت هذا الشيخ أيامًا يحبوني نصحهُ ويعلمني علمهُ، فكان مما قال لي: إذا هممت بعيب الناس فاجعل نفسك أول من تعيب، فمن لم يعلم من نفسهِ زلاتها لم يعلم من الغير زلاتهِ ومن كان بعيدًا عن معرفة حقائق ذاتهِ فهو عن معرفة حقائق الناس أبعد. وقد عاهدت الله لا آخذت امرأ قبل مؤَاخذة نفسي وها أنا ذا موفيها هنا حسابها لكي أنتقل إلى غيرها خالي القلب قائم الحجة.
كان أبي رجلًا من أغنياء التجار بالبصرة، لم يرزق من الذكور غيري، ولا من البنات غير أختي فاطمة وهي أصغر مني بستة أعوام. علَّمنا كلينا القراءَة والكتابة، وأحضر لنا مؤدبًا يؤَدبنا؛ فروينا الأشعار وحفظنا سِيَر المتقدمين، وبرعنا في النظم والنثر، فلما انقضى زمان الطلب وبلغت مبلغ الشباب اتخذت رفقة لي من أبناء التجار، فكنا نخرج أيام الجمعة خارج البلد ونجلس على شاطئِ دجلة، فيؤْتى لنا بالطعام وبالشراب فنُصِيبُ منهما حظًّا وافرًا. كل هذا ونحن نساقط حديثًا كالدر وهي عقدهُ حتى إذا مالت الشمس لتغرب نهضنا راجعين وتودعنا على أن نتلاقى في الجمعة الآتية. وكان أبي مشتغلًا بالعبادة منقطعًا عن الدنيا فلا يحب الراح ولا شاربيها، ولا الميسر ولا من يجيلون أقداحه. وكنت أقول لهُ إني كنت في رفقة لي نسمع الواعظ وإننا خرجنا بعد ذلك إلى بعض البساتين فصلينا فيهِ صلاة العصر وصلاة المغرب فيصدِّق قولي ويدعو لي بالخير. وقد عاش أبي ما عاش حتى قضى نحبهُ ولم يعرف من أسراري شيئًا، ولا أنسى لومه إياي ذات يوم على قول الشعر وقولهُ لي: «يا بني لا تكن شاعرًا. إن الشعراءَ لمن أهل النار.» فتبسمت في وجهه ووعدتُه طاعةً وامتثالًا، وأخفيت عنهُ منذ ذلك أشعاري.
فلما استحوذت على إرثهِ بعد وفاتهِ جعلت أبذِّر المال تبذيرًا، وهِمت على وجهي في اللذات واتخذت لي من الندمان كل خفيف الروح ظريف الشمائل، وولجت معاهد المقامرين وأهل البطالة، فما دار عليَّ الحول إلَّا أملقت إملاقًا. وكانت أمي خطبت لي إحدى فتيات البصرة، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها ذات وجهٍ صبيح وأدب غض وخلق سوي، فتزوجت بها ورزقت منها بنتين هما آيتان في الجمال. وتزوجت أختي من رجل غني شرس الخلق بخيل جاهل، ولم تسألها أمي رضاها، بل رغبت فيهِ لكثرة مالهِ؛ فكانت عاقبة التزويج شرًّا وماتت أختي في روق شبابها غمًّا وحسرة، ولحقت بها أمي بعد أشهر قلائل.
وحين أجدب حظي وأفل نجم دولتي، ولم يبقَ لي طارف ولا تليد، وأمسك أصحابي عن إقراضي وبري، وازدحم على باب بيتي غرمائي عمدت إلى الشعر أستدر به هبات قوم من أولي الثراءِ، وأهز به أعطاف كبريائهم، فما أفادني ذلك سوى ذلِّ السؤَال وإثم الكذب؛ هنالك وجَّهتُ امرأتي وبنتي إلى بعض إخوتها وهم يسكنون ضيعة لهم خارج البصرة، وودعتهنَّ ودموعي تجمجم كلامي حتى إذا أرخى الليل سدولهُ خرجت تحت ظلمائهِ؛ لكي لا يراني مطالب لي فيأخذ بطوقي، وفارقت بلدي وأرض عشيرتي … ولم يهنأ لي عيش بعد ذلك، وأيقنت أني كُتب عليَّ الشقاءُ ما دامت الحياة.
فإذا دجا الليل وخلوت إلى همومي عاودتني الذكرى فنبا جنباي عن مواضع الرقاد، وإن هبَّت الصبا جددت حنيني واستعادت أشجاني، وأخبرني جماعة من أهل البصرة لاقيتهم في بعض أسفاري، وهم لا يعرفونني، أن بنتيَّ كبرتا وأن قد كثر خاطبوهما، وأن أمهما أبت تزويجهما وقالت: لا أحب أن أفرح وأبوهما غائب، ولقد حاول إخوتها أن يثبتوا لها موتي فلم تصدق.
هذه قصتي أو هي واقعة من وقائع حياتي ذكرتها لتكون بيانًا لسيئاتي، ولقد استقام بعدها أمري في فاقتي، ولم تحل فتن الحياة دون طلابي الحكمة وتجريبي الأيام، ثم رجعت إلى البصرة ولبثت بها حتى تزوجت بنتاي، فاستصحبت امرأتي لتكون معوانًا لي في كبري، وهبطت مصر وإني لن أبرحها إلى أن ألقى حتفي.
أقول: قد تقدم في بيان ذنوبي ما لا يسعهُ العفو ولا يمحوهُ القدم. هذا مع ضعف في الأخلاق وسوءٍ في التربية، وكيف يختار الكذبَ على أبيهِ رجلٌ حسن تأْديبهُ! وأنا بني الشرق لتزكوا أحسابنا ويجم مالنا ويعظم نشبنا فلا يفيدنا ذلك إلا غواية في الشباب وندمًا في الكبر، ولو كان أبي أحضر لي مؤَدبًا يعلمني الحكمة مكان الشعر أو مع الشعر أو أدخلني مدرسة من المدارس التي ليست ببلادنا لَثقَّفَت الغربة عودي وأغناني تعلم النافع عن طلاب النفع بالسؤَال.
كم من فتًى مثلي طيب الأرومة ثابت الأصل طويل النسب رفيع البيت ربي على الدلال، ووثق بثراءٍ أبيهِ فرمى بذهبهِ يمنة ويسرة، فلما خرج عن مالهِ خرج عن مجدهِ، ولم يدخر ما يكشف غماءَهُ من علم تعلمهُ في صباه فصار إلى شقاءِ الجد ونكد الطالع، وضل في هذه الدنيا ضلالًا.
قالوا إن تعليم البنات مهيع إلى إفسادهنَّ، وما في القائلين بذلك من تعلمت أُمهُ وعرف فسادها. إن هو إلَّا لجاج مبين. أبى القدماءُ مزايلة عاداتهم فضلوا وأضلوا، وحسبوا عصر بنائهم مثل عصرهم فشقوا وأشقوا. حتى إذا كانت العاقبة إذا هم في أجداثهم راقدون، لا يسمعون فتقص عليهم قصص من خلفوا ولا يتعظ بمصارعهم من عاش بعدهم ورأى خطأهم، ومن لا تعظهُ العبر لا تؤَالمهُ وقعات الصروف.