خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاءِ
الظلم لهُ يد وليس لهُ فؤاد. يُغمد خنجرًا من خناجرهِ في قلب من قلوب الناس، فلا يستشعر لذلك ألمًا. القتيل مضرجًا بدمهِ لديهِ كالحي مضمخًا بطيبه. ظلمات الليالي وظلمات البحار وظلمات القبور. كل تستسرُّ في أثنائها بدور مطالعها الشباب ومنازلها الآمال. وإذا كان لأهل الويل تراث، فاللواعج التي تذكيها الذكر والحسرات التي تستديمها الصروف. أجسام ما زهور الرياض ولا نيرات الآفاق ولا عقيان القلائد ولا جواهر التيجان بأحسن منها منظرًا. تربى متنقلة في الدلال من حنو مرضعة إلى غناءِ مربية، إلى ابتسامة أُمٍّ، إلى مواصلة حبيب كل ذلك لمصرع لحظة يتلوها الفناءُ. ما أضيع الأمل وما أعدى القضاءَ!
في ليلة من ليالي الشتاءِ سكنت تحتها الأشياء وتحركت الضمائر سوداء الجلباب بيضاء الصقيع. طرقوا باب المظلوم فأَطَلَّ عليهم. قال: من الطارق المنتاب؟ قالوا: أجب، شفيق يدعوك.
فقام إلى ثيابه فلبسها، ومال إلى أهلهِ فودَّعهم، وتوسط رسل البين وزبانية جهنم فأركبوهُ عربة سارت حتى وقفت بهم أمام باب كبير. فمشى الرسل ومشى بينهم المظلوم، فأُدخل بهِ على من وجَّه في طلبه. فتقدم خطوات وسلَّم تسليم غير المشتاق، ووقف ينتظر الجواب. هذا الموقف مهيع من الحياة إلى الموت. تعلل كل ثانية من ثوانيه نافع لمن نالهُ. رحمة الله على أبي تمام إذ يقول:
الطالب والمطلوب متواجهان. خَصمان هذا سيفهُ سلطان، وذاك درعهُ أساهُ. فلما استطال السكوت واستبطأ الشرُّ أسيرهُ، رفع شفيق رأسهُ ونظر إلى غريمهِ نظرة ملؤُها الختل ثم قال: الآن يذهبون بك إلى «القصر» ولا أدري عَمَّ يسألونك هنالك، فكن رابط الجأش وأحسِنِ الجواب تلق خيرًا.
ثم أمر شفيق اثنين من الشرطة أن يُركبا المظلوم عربة وأن يمضيا معهُ، ففعلا. فلما أوفوا على الشاطئ، أَلْفَوْا زورقًا فيهِ أناس بانتظارهم، فأُركبوا الزورق وانطلق حتى رسا بهم إلى جانب سفينة كبيرة، فصعدوا إليها. وجاءوا للمظلوم بكرسي فجلس عليهِ، وناولوهُ سيكارة جعل يصعِّد دخانها وهو صامت. ثم أقبل من البر زورق آخر فصعد منهُ جماعة منهم محمد علي رئيس الهيئة التحقيقية إذ ذاك. فدنا من المظلوم وقال لهُ: الآن صدرت الإرادة السلطانية بإلقائك في البوسفور. بذا قضى الله ولا مَرَدَّ لقضائهِ، فإن كانت لك وصاة توصي بها من بعدك فهاتها. وإن كانت نفسك تشتهي شيئًا مما يؤْكل أو يُشرب فاقترح.
قال: لا أريد شيئًا. وانسابت من مقلتي الرجل شآبيب خضلت لحيتهُ، والناظرون إليه لا يبكون. هم يعجبون أن يجزع الناس لفراق الدنيا. شهدوا مصارع كثيرٍ من الخلائق وشهدوا جزعهم عند الموت. فاستضحكهم ذلك وقالوا: ما لهؤلاء يخافون ما لا بدَّ منهُ، وما تعجيلهُ إلَّا تعجيل أمر لا ريب فيه؟! يا حكماءَ الموت هذا عجب الخَلِيِّ من حال الشجي، ولعل لكم في ذمة الدهر مواقف مثل التي أنتم لها شاهدون. سكت المظلوم سكتة غلبهُ عليها فؤادهُ. وفي ثنيات الأفق كواكب تنظر ولا تُسعف. والريح بليلة الجناح واليم جائش الغوارب، والبران في بيوتهما المنيرة شاهدان ولكن لا ينطقان. الشعراءُ يبكون بأبياتهم والمظلوم ينشد دموعهُ. أي قعيدة الشجون، هذا الفراق:
لما جاءوا بالسلاسل فأَمَرُّوها على عنق المسكين، وأثقلوا رجليهِ بقطع الحديد وأَهْوَوْا بهِ إلى الماءِ، فغاب في عبابهِ، عرف هَوَانَ الحياة وكيف تَجني الوالدات على مَن ولَدنَ، وإلى أية غاية يكون المصير …
عثر رجال الشرطة على جسد رجل بشاطئ البحر، قد تشوَّه وجههُ، وتمزقت ملابسهُ وأعضاؤُهُ، فلم يمكن أن يعرفوا من هو، ولكنهم رأوا في ملابسهِ خاتمهُ المنقوش عليهِ اسمهُ، فإذا هو اللواءُ … وظهر أن بعض أعدائهِ الخائنين انفردوا به يومًا فأغرقوهُ. وقد صدرت الإرادة السلطانية بالجِد في طلب الجانين الذين اعتَدَوْا على مثل هذا الفقيد الغالي! ووعد من يعثر عليهِ أن يُعطى جائزة سنية ويزاد راتبهُ وتُرفع رتبتهُ.
بين نوحات النائحات وبكاءِ الثاكلات، سكوت يأتي بهِ الإعياءُ وتقطع الأنفاس. ذلك من الفواصل التي ينوب فيها القلب عن العين، فتسكت الظواهر وتبكي السرائر. وقد وقع مثل هذا في بيت الفقيد الغالي! جاء رجل من القصر يحمل عطية. كلَّم الأَيِّمَ من وراء ستارها فقال: أمير المؤمنين في حزن عظيم على المرحوم! فقد كان يحبه كثيرًا! وهو يقول: إذا ذهب حاميكم فأنا حاميكم. وهذه هديتهُ إليكم.
فانطلقت الألسن بالدعاء من قلوب لا يشوبها الرياءُ …
كانوا يخدعون الناس فيسرقون منهم الدعوات، ويريدون أن يخدعوك يا رب ليختلسوا منك الرحمة والرضوان.