ماذا قال وماذا قالوا
استخدَم القلم ثم مَلَّهُ. وافترقا بعد ذلك غير آسِفَيْن. ألقى القلم وجانَبَ المحابر وطوى الصحف، وحاول مطلبًا فنال، فلا سماءُ فروق إذا صحت، ولا ماءُ الخليج إذا سكن، ولا بنات ورق إذا دعت هديلًا، ولا الأزاهر إذا تنفست عن أريحها. لا يبعث وجدهُ ولا يجدد صبوتهُ شيءٌ من تلك الأشياء. ما أكذب ما ترجع بهِ الأبصار! الخلق لا يتطرقهُ تغير، والحقائق ثابتة، وليلى في يومها كليلى في أمسها، وإنما تتغير مواقع البصر بتغير الحالات.
مالك! أئِن اختلفت وجهتك ومِلت عن قصدك، تبدلت في نظرك الأشياء! الهضاب هي تلك الهضاب يكسوها أخضر النبات. يصوب عليها العارض المتهلل، فتتفتح ثغور أقاحيها وتبتهل أفواه شقائقها ثم يغدو عليها قيظ، فإذا ما فوقها هشيم يابس ذوت أزهارهُ وعاد اخضرارهُ اصفرارًا. إذا انقطع عنك الوحي في ليل الهواجس، وجفَّت مكانك ملائكة الفكر بما كانت تأتي بهِ من أنوار المعاني، استطبت أنت ذلك التحوُّل وتقول إنك لست بالمتحول. هات الدليل، لعل لنا فيهِ مقنعًا.
أهلًا بسيدي الوالي في موكبهِ الحافل وأعلامهِ الخافقة، وقدرهِ العالي وفضلهِ المأثور.
زعموا أنك مررت بهذه الديار فجست خلال ربوعها الآهلة، وكانت لك غدوات وروحات في مسارحها ومراودها، فعِبت عليها حسنها ولا غرو. ابن الرومي الشاعر ذَمَّ قبلك الورد، وكرهت أن ترى تماثيلها وقلت: «إنها ظلال الحرص على الممالك.» ولا بأس، فأكثر القدماء يقولون مثل مقالك، جعلك الله في حِلٍّ مما قلت، ولعل مولاي ممن يُؤثِرون البدو على أهل الحضر ويقولون ما قال شيخ المعرة:
وقد أتانا أنك نزلت هنا بقوم أفضت إليهم بحديث لم يأمرك بهِ آمر، هو رأْي رأَيتهُ. قلتهُ لرجل اخترتهُ فروي عنك ذلك الحديث بسندهِ المتصل. فاستفز جماعة جُبِلُوا على مضغ الكلام. وهنا الرجال والنساءُ يمضغون المصطكاءَ. وقد ذكرت صحيفة من صحفهم خطابًا أنفذوهُ إليك وجاوبتهم عليهِ. وقرأْتُ أنا ذينك الكتابين وقرأهما غيري.
إذا صدق ظني فالكتاب مصطنع. أنت أَجَلُّ من أن تقول مثل هذا الكلام. نعم سبقت لك شطحات كنت أقرؤُها وأضحك، أما مثل خطابك فلا أخالك ترضاهُ لنفسك.
قال قائلهم إنهُ من سليمان وإنهُ بسم الله الرحمن الرحيم. قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهل هذا منطق الطير الذي علمهُ الله؟ إنْ هذا إلَّا إفك مبين.
إذا كنت تركت «تصوير الأفكار» فما تركت الأفكار، والقوم لا بأْس بما فيهم من طول ومن قصر … غير أن في الناس غيرهم يقرؤُون ما تكتب، فماذا تُراهم يقولون؟ أنت الآن في غرفتك أمامك أوراق مما بقي من العهد القديم. فيها من العجائب والغرائب ما يستضحكك طورًا ويستبكيك طورًا، ولا يأْتيك نبأُ ما يقول الناس لبُعد الشُّقَّة واختلال البريد. ولكن نحن نسمع والأغرب أننا نفهم. آه يا ليتنا لا نفهم. إذن لاسترحنا واستراح كثير معنا.
يزعمون أنك تُبغض الإنكليز. أبغِضْهم ما شئت وأحببهم ما شئت. لسنا على فؤَادك مسيطرين. ولكن الوالي العثماني يحب من تحب دولتُه، ودولتك تحب الإنكليز والإنكليز يحبونها.
يزعمون أنك تقول إن الهند ومصر شريكتان في الشقاءِ وإنهما يتململان من ظلم الإنكليز. ولكنك تعرف أن في الظلم ضروبًا لا يجارينا إليها الإنكليز، وأن القوم نزلوا بمصر وعيوننا تراهم، وأن فضلهم على هذا القطر أعظم من فتح الشوارع وإقامة التماثيل، وأن لهم عندنا معشر العثمانيين لجميلًا لا ينساهُ مَن في فؤادهِ مثقال ذرة من المروءَة. وربما كان في أبناء التأميز أفراد لا يحبون العثمانيين، فليَكُن في العثمانيين أناس يبغضون أبناءَ التأميز. غير أن والي البصرة يجب أن لا يكون إلَّا وفيًّا عارفًا بمرامي الكلام.
سيدي، لو رأيتك على كرسي الحكم بين جندك وحشمك لقلت: ما شاء الله، ولعوذتك من عيون الحاسدين. غير أنك حين تُبدي من التواضُع ما ليس من حقك، يرن في أذنيك نداءٌ يستفزك فوق مقعدك الوثير، فتسمع هاتفًا يقول إن العصا قرعت لذي الحلم.
رأيتك آسفًا لما فاتك من زيارة قبر أن تجلهُ، فتذكرت قول الشاعر:
وكم من ملحودة زلج جوانبها قفر بلي رميمها ولم تبق حتى صفائحها وجنادلها، فرُبَّ شهيد حرية وسد في التراب. قف بحيث تشاءُ وسلم على تلك الأرمام، يكُن رجع صداك جوابها. فلا تحلن عُرى عزماتك صيحات لا تلبث أن تضيع. أعوذ بالله أن تحسب الشحم ورمًا، وأن تكون على غير ما ترضى بهِ أمتك.
هذا خطابي وأنا لا أصدق ما يُعزى إليك ولا يصدقهُ غيري من عقلاء هذه الأمة. فانظر ما أنت مختار لنفسك. ولئن صح — ولن يصح — ما زعموا فإن لي صوتًا يدركك في منعرجات الأحقاف وبين عاليات القصور، وأقول يومئذ:
عفا الله عني ذنب هذه السطور، ولولا والٍ عثماني ما خَطَطْتُهَا. كلمات انتقيتها من بين أخواتها لأجعلها قلائد منظومة تتغنى بها العذارى في خدورهن. ولكن يُضطر الحر أن يستهين بغوالي مذخوراتهِ صونًا لمجد وطنهِ.