الإسراف الإسراف
أمس أُرهِفت الشِّفار وشَمَّر الجازرون عن سواعدهم، وجيءَ بالأضاحي التي أسمنها مقتنوها، وطَلَوْا فراءَها بالحناء وبالورس، وفيها من مَوَّهُوا بالذهب قرونها ودهنوا بالزعفران آذانها. فأَكَبَّ أهل الصناعة على صناعتهم، فمن مُكَبِّرٍ ذابح، ومن نافخ ضارب، ومن سالخ جاذب، ومن مُقَطِّعٍ ناصب، وعلى أبواب البيوت الأقيال وأبناءُ الأقيال من الساسانيين وقوفًا صفوفًا أو جثمًا قعودًا، يراقبون من كل باب مصراعهُ، وكأن البدر سيطلع عليهم في موكبهِ السماوي، أو كأن سينجاب غشاءُ الأبصار فتبدوا من ورائهِ القِسَم.
بِتُّ يوم الأربعاء بليل بطيءِ الكواكب، ناصب الهم، مسدود مسالك النسائم، مقلقل مواضع النجوم، وكأن الهلال يكاد ينطفئ إذا نفخهُ نافخ، وكأن الثريا يكاد ينقطع مناطها إذا مد إليها كفهُ متناوِل، فقلت في نفسي بأنهُ من ليل أدعو الكرى فلا يجيبني الكرى، وأغمض عيني كرهًا فتتفتحان كرهًا. خفتت الأصوات وسكنت الحركات، وهدأت الجوانح ولانت المضاجع. أما لولا أن تولت غضارة الشباب وبطل سحر الجفون لقلت إني عاشق. فلما طال ما بي حتى أمضَّنِي، جلست إلى كوة لي تطل على ميدان عابدين، وجعلت أتخيل أشباح المارة في أثناءِ الظلام.
قلت: يا رب، ما هذا الذي نحن فيهِ؟ أكثر السادة والسيدات مجتمعون الآن بقرافة الإمام وباب الوزير وزين العابدين والعفيفي والمجاورين وغيرها. محتشدون حول مقابر علت مبانيها وحسنت «تراكيبها». عاليها أنواع الثريات تبهر الأنظار. منثور فوقها الريحان والخوص. يفرقون التمر وغيرهُ من الفواكهِ «والشريك» على الفقراءِ. يتباكون ويتضاحكون. بين أيديهم الخدم يطوفون عليهم بما لَذَّ وطاب من طعام وقهوة، وعندهم المترنمون من الحُفَّاظ يرتلون سورة يوسف حتى مطلع الفجر. هذا دأبهم في عيد الفطر وفي عيد الأضاحي كل عام. ثم يأتي الصباح فتجري دماءُ الأغنام كالأنهار.
لا أدري حكم الأضاحي فيما يرجع إلى الدين، فلا أتعرض لهُ بشيٍ مُجانبة للشطط. ولكن ما هذا الإسراف؟ ألنا ثأر عند الغنم فنثأَر، أم الغنم كثيرة فنريد أن تَقِلَّ؟ ما روى لنا أحد المؤَرخين أن جَدَّ الغنم نطح أبانا آدم، فنجعل عداءَنا محمولًا على هذا السبب.
إذا قلنا إن مليونين من الاثني عشر مليونًا من أهل هذا القطر، يذبح كل واحد منهم كبشًا ثمنهُ جنيه، كان مجموع ما يُنفق على الأضاحي مليوني جنيه كل عام، أي عشرين مليونًا كل عشرة أعوام، وأربعين مليونًا كل عشرين عامًا. فإذا رضينا أن نحسِب ما يُنفق على القرافات مليونين أيضًا، تضاعف مقدار ما يُنفق فكان ثمانين مليونًا كل عشرين عامًا. هذا مبلغ لو يُجاد به في زينة البلد لباتت أعمدة مصابيح الغاز التي في طرقاتها من الفِضَّة، ولو بُذل في تعليم الأبناء لصاروا كالأنبياء، ولو بُذِرَ في الأرض لنبتت السنابل ذهبًا، ولو أُنفِق على الفقراء لأصبح السائلون يشترون ملابسهم من ريبو ويُفطرون على الشكولاتة، ولا يتغذون إلَّا بأَلسنة البلابل مطبوخة في جِفان من البلاتين.
شاعر مصر حافظ إبراهيم لا يكسب كل شهر عشرة جنيهات، وشاعر آخر ثانيهِ حاول الانتحار، ولكن لم يجد سلاحًا يعجبهُ، وكثير من الفضلاءِ يعيشون على الهواء، وليس لهم في ثمانين مليونًا من الجنيهات نصيب.
أما كان يرضى حافظ بأن يكون لهُ مثل الراتب الذي يتقاضاهُ قائد جيش، فيقول مفتخرًا:
أم كان يأبى الشاعر الآخر أن ينال كل شهر ما ينال مدير عام فيتمثل بقول ابن عمِّه في الغابرين:
وبينا أنا أفكر في مثل هذه الأمور، إذا بدَوِيِّ المدافع من القلعة يؤْذِن بحلول العيد السعيد. قلت: كل عام والناس بخير. وتسابق بعد ذلك العامة إلى الطرقات، هذا يحمل فخذ كبش يهرول بها إلى بيتهِ، وذلك تحت إبطهِ جراب فيه ما جمع من القرافة، وأناس لبِسوا ثيابهم الجديدة وعوجوا طرابيشهم، وبأَيديهم العصي المثقفة يلوحون بها يمنة ويسرة. فإذا تلاقى صديقان بادر كل إلى صاحبهِ يعانقهُ وكأنه يصارعه. ولقد سقط الطربوش من رأْس أحد الناس، وكان فرغ من معانقة صاحب لهُ فالتقطهُ وجعل يمسحه بمنديلهِ. فلما ولى ذلك قال صاحب الطربوش لرجل بجانبهِ: الله يطين عيشته طين لي طربوشي.
وما لبثت أن رأَيت العربات والسيارات رائحة غادية، فيها السراة وأَبناءُ السراة في ثيابهم المخملة وعلى صدورهم الأوسمة، ورجال الشرطة واقفون في وسط الطريق يحيون من يعرفون ومن لا يعرفون، فجعلت أتصفَّح وجوه القوم، فإذا هي ضاحكة مستبشرة يتعالاها الوقار ويبدو على صفحاتها السرور. قلت: ذُبحت الأضاحي وقُسمت لحومها على متنازعيها ومتجاذبيها، وظَلَم بنو آدم في يوم فرحهم مليوني رُوح في قطر واحد فما ظنك بغيره.