حرية الفكر
نُحِسُّ بآلام بين أحناء الضلوع فنتكتمها صبرًا ونسكت عليها خيفة. لو كان هذا الصبر في موضع يجمُل فيهِ لنطق من جوانبهِ الثناءُ. ولكنهُ قصارى نفوس جبنت ونصيرها الحق، وأقصرت وشأْوها بعيد.
تغلبت سورة الجدل على سورة الدليل، وبات كلام الإنصاف والصمت أحبُّ منهُ إلى الناس. ألا قاتل الله اللجاج. لا العقل أغنى في الغلبة على سلطانهِ، ولا الهمم مضت في التملُّك على فجاجهِ. كلما جهر بالحكمة ناطق تأَلبت عليهِ عصب الغرور، فسدوا بأيديهم فمهُ. يا ليتهم يجعلون أصابعهم في آذانهم تصامُمًا، أو يلفتون وجوههم إلى ورائهم إعراضًا. ذلك إذن يهون. يحجهم الصواب فلا يلبثون أن يقبلوا عليهِ. غير أنهم يعتدون فلا يدعون مُكَلِّمَهم يُكَلِّمُهم، فكيف يجدي فيهم نصح الناصحين.
إنما يُقبل القول بعد سماعهِ ويُرد بعد سماعهِ. وهذا البلد يتعجل أهلهُ الحكم سواءٌ عليهم أصابوا أم أخطَئوا. يريدون وليس الذي يريدونهُ صوابًا، ولكنهم يحاولون أن يجعلوهُ صوابًا. هذا محال، حقائق الأشياء لا يدخلها تغيُّر. ومن لم يكُن معهُ الهدى عليهِ أن يكون مع الهدى إذا رام رشدًا.
قلت في إحدى الصحائف السود التي تقدمت كلامًا على الأضاحي، فهاج قلوبًا استوطنها التعصُّب، وهاج عليَّ أهل الشر من المخضرمين. عفا الله عنهم ماذا يبتغون؟ طوت الأيام بُرد الشباب، وأنالتنا من التجارب ما لا مندوحة فيهِ لجهل. إن يستطيلوا فقد استطال أسلافهم من قبلُ. أنا ابن عصر عيت فيهِ الألسن وأفصحت بعبرها الأيام. ولي بمحمد عبده وقاسم أمين أسوة حسنة. بل لقي قبلهم الويل حتى الأنبياء. استنجد ابن عمران بالهرب واعتصم بمنفرج البحر، وصُلب ابن مريم، وهاجر من وطنه العدناني، عليهم السلام. جاءُوا من قِبَلِ الله فلم يشأْ الناس أن يسمعوا كلام الله. فما ظنك بمثلي وهو إذا عُدَّ الرجالُ كان في أخرياتهم، بل من الزوائد في أعدادهم.
على أنني لا أعجب من أهل القدم والمنتحلين صيغة الدين، وإنما أعجَب من قوم لبوسهم لبوس أهل التمديُن ومآكلهم مآكلهم. يطاف عليهم بالآنية والجام في مجالس كأنها ديباجات الآفاق، ثم يصبحون فيقارعون الناس بالدين. يرموننا بالكفر والمروق والزندقة ليثيروا علينا أشياعهم. وما نبالي نحن من أشياعهم. ثم قلوب نيطت بصدور لم تتخذ درعًا سوى البأْس الشديد. وإذا كان أهل البطل لهم جرأَة ببطلهم، فإن لأهل الحق جرأَة بحقهم. ثم إني أقول:
هلَّا وعظتهم مصارع الباغين، واسترشدهم ما يلاقون من أهوان الناس؟ فكانوا من الحكمة بالمكان الذي ينبغي أن يكونوا بهِ. ماذا لهم أن يسمعوا وأن يعوا؟ ليس في عرفان الحق من حرج. والحق سهل المنال لا يستعصي على من يحاولُه.
أقضي ليالي المحن مكبًّا على أوراق أحبرها بما يملي عليَّ فؤَادي، ومن كان ترجمان فؤَادهِ تخاطأَتهُ نبال اللائمين. أدير عينيَّ وأُجِيلُ فكري، فتتعارض المشاعر والمدارك. تناغيني حقائق الأشياء، فأجتلي محاسنها في مرآة الأفق وبساط الأرض ومثنى السحائب وموجات الأهوية. تعالوا انظروا بعيني ثم لوموا. كيف تتساوى في المشاهدة عيون ناظرة وأخرى مُطبِقَة جفونها.
تعالى الله وتعالت أديانهُ عمَّا يفتري عبادهُ. يذكرون الله ثم يذبحون. كذلك فعل الناس بمن ذبحوا، وأي سيف لا تنبو مضاربهُ هو ذلك الدين. بهِ يغالبون كلما تساقطت حججهم، وبهِ يحاربون كلما أجفلت نعائمهم. بالله ربِّنا وربِّكم، أتنطقون عمَّا في قلوبكم أم هو شأن جديد لكم مع أحرار العباد؟ من أقوى منكم من الله حجة؟ لقد قامت حجتهُ وحقت كلمتهُ، ونحن مصدِّقون من قبلكم حين كانت في بعض الصدور وساوس تتصلصل بين الترائب والنحور.
آه يا مصر، يا عروس أبناءِ الشمس وبلد المجد منذ خالية العصور. تفتأُ الأيام تستزيدك حسنًا كلما تقادَمَ مداك، وتكسبك رونقًا يستعيض ما خلا من صباك. ما تمكنت من كمال إلَّا أدركت بعدهُ كمالًا. كل شيءٍ فيك ترقَّى جمالًا وظرفًا إلَّا بعض النفوس. ودِدْت لو أن في الدهر الشيخ نفَسًا ينفخهُ فيها؛ عسى يُذكي جذوتها الخامدة أو يتجلَّد مرة حتى يقدح زندهُ، فيأْتيها من الشباب بقبس جديد.
رجال يمشون وعليهم شملات صوف وهم في موكب النشأة العصرية. هذه ثياب جاهليتكم فأين ثيابكم؟ ما رأيت كهذا عنادًا في الحق.
غدًا تختتم أنفاسنا المعدودة وتكف هذه الأقلام من صريرها، وتبقى في مصونات الطروس آثارها تشهد لنا عليكم. أنتم أعداؤنا اليوم، وأبناؤُكم أنصارنا غدًا. لن نشكوكم وحدنا بل سوف نشكوكم ومعنا أعقابكم، ولنعمت الشهود يومئذٍ، يقولون آباؤنا كذبوا وهؤلاء صدقوا.
سلام على رجال ينازلوننا ضعافًا. لنخفض دونكم صدور الأسنة إشفاقًا، ولنجادلنكم جدال من لا يعوزهم الدليل. ميلوا على جوانبنا إنما تميلون على آبائكم. والحق لا تنهزم كتائبهُ. غدًا تخفق على رءوسكم أعلامُه وترتفع في أنحاءِ بلادكم صيحاته. واللهُ أرحم أن يؤاخذ على الجهل أناسًا جنى عليهم كبارهم وفتنهم صغارهم، حسبنا أن نقول:
أما أنا فليشهد قراءُ أقوالي أني لا تزحزحني جلبة المتهورين، أنا أغني الحق، وكلما صاح به الصائحون رن في أذنهِ مني ما قاله أبو الطيب: