المرأة
شهدت مصارع ثلاث نسوة؛ إحداهنَّ قتلها الاستبداد، والثانية أرداها الجهل، والثالثة أودى بها الحجاب. فقل في ثلاثة أنجم طلعت بأفق الصبا ثم احتواها الأفول. شباب غض أذوى ريب المنون بهارهُ، وأنس قريب أبعدتهُ وحشة القدر. فأما التي قتلها الاستبداد فامرأة جركسية كانت مقيمة مع أهلها بقرية من قرى «العزيزية» التابعة لولاية «سيواس». اشتراها أحد رجال «س … باشا» من أبيها بخمسة وعشرين جنيهًا، فلما قدم بها الأستانة على سيدهِ أهداهُ إياها، فأسكنها حرمهُ وكساها وحلاها حتى إذا خطرت لديهِ رأى في مواطئِ قدميها مواضع لجباه العاشقين، فخطب ودها فنظرت إليه بعينين نجلاوين لا واقي لقلب رمتاهُ وقالت: مكاني في خدمة الأمير أحب إليَّ مما عداهُ.
فما زادهُ ذلك إلَّا حبًّا لها واستهتارًا بهواها، وما زادها إلا نفورًا منهُ وبغضًا، فتمكنت ذات يوم من إنفاذ كتاب لأبيها تشكو لهُ ما تجد من اشتياقها إلى أمها وأخواتها، وتعلمهُ بما تحس بهِ من اضمحلال قواها، فأصابت شكايتها موضع الرحمة من فؤاد أبيها، وأقام أيامًا يتزود للسفر إليها … فلما عاد من سفرتهِ قالت لهُ امرأتهُ: كيف حال من بعتها؟ فقال: رحمة الله عليها …
وأما التي أرداها الجهل فغانية كتمثال فينوس. استصحبها أبوها إلى بيروت وهي في الخامسة من عمرها، وأدخلها هناك إحدى مدارس الراهبات أخذًا برأْي صديق لهُ، فلما أتمت علومها التي في مدرستها أخرجها أبوها وقد بلغت الثالثة عشرة، وأوجب عليها الحجاب ومجاورة البيت، ومنعها مطالعة الكتب الإفرنجية. ولقد قالت لهُ: إذن لمَ علمتني ما لا تريد أن أعمل بهِ؟ فقال لها: لي الأمر وعليك السمع والطاعة. فدعي الجدال ولا تتشبهي ببنات النصارى، أنت — والحمد لله — مسلمة وأبوك مسلم وأمك مسلمة، فامتثلت المسكينة وفي النفس ما فيها.
فبينا هي ذات يوم في غرفتها إذا بأُمها داخلة عليها، فما تقابل النظران إلَّا بادرت الأم إلى ابنتها قائلة: جاءَ أباك خاطبٌ يخطبك منهُ، فقالت الفتاة: لا أُريد الزواج. قالت الأم: لكنهُ فتًى جميل كأنهُ أحد أبناء الملوك. قالت الفتاة: ما لي وجمالهُ وغناهُ ومشابهتهُ أبناءَ الملوك، أنا لا أعرفهُ فلا أُريدهُ.
ثم مضى شهران وفي أول الثالث زفت المجهولة إلى المجهول، ثم مضى شهران فدخل عليها زوجها يومًا وفي يدها صورة رجل مكشوف الرأس عليهِ ثياب قواد الجنود وفي يده قبعة؛ ففار دم زوجها وثار غضبهُ وأدركتهُ غيرة الزوج فعمد إلى خنجر كان يحملهُ فشق بهِ بطن امرأتهِ فإذا هي جسد بلا روح، ولما تأمل الناس ورجال القضاء الصورة التي أغضبت الزوج إذا هي صورة واشنطن الشهير محيي مجد أميركا!
وأما التي قتلها الحجاب فقد تزوجها رجل من أهل أدنه شديد الغيرة. دخلت بيتهُ ليلة زفت إليهِ ولم تخرج منهُ أبدًا، حتى إذا مرضت وثقل عليها المرض واشتد الألم دعا زوجها طبيبًا، وأخذ يصف لهُ ما تشكوهُ. فقال أنا لا أداوي على السماع ولا بد من رؤْية المريضة وفحص موضع العلة. فأبى الزوج الأبيُّ ذلك. وما مضت أيام قلائل إلَّا وقد أزروها في أكفانها، وشيعوها إلى منزلها الأبدي. من ضريح إلى ضريح.
وأعرف نوادر غير هذه لا أكلف نفسي ألمَ ذكرها، ولا أهب القراءَ كمد العلم بها. هذا فؤاد كالبركان. لهُ أيام يثور فيها ولهُ أيام يسكن فيها، وكم لي عند الأيام من ثارات، ولكن ضعف الطالب وعزَّ المطلوب.
فواعجبًا، الله يخلق هذه الصور فيمسح عليها من الجمال ما يستخف لبَّ الحكيم، ويودع في تلك الأرواح لطف الإلهام ونور اليقين، فإذا هي تكاملت في أشكالها تخاطفتها أيدي المتغلبين فقالوا هذا متاع حسن ولهو ومسكن لذة ومستقر هوى! ضلال في ضلال.
أما لو كان في الغانيات مثل جورج ساند، ومثل مدام دونواي لتقاعست همم المستبدين.
رأيت رجالًا يبذِّرون المال تبذيرًا فإذا أقاموا الأفراح نصبوا السرادقات، ورفعوا الأعلام، وأوقدوا الزينات، ومدوا الموائد، وجاءوا بالمغنين والمغنيات واستكملوا أسباب المسرات. كل ذلك ليدخلوا بامرأة لا يعرفونها. خطبوها لأنها خلقت لتخطب فإذا صارت في أيديهم أيامًا ملُّوا حديثها وسئموا قربها وراحوا يفتشون على غيرها، فمثلهم كمثل الطفل المدلل يرى اللعبة فيبكي لأبيه وأمهِ حتى يبتاعاها لهُ، ثم لا يلبث أن يحطمها ويطرحها جانبًا ليأْتيا لهُ بغيرها.
هذا عصر غارة شعواءَ يشنها المجددون على شيعة الرأْي القديم، وما ضرني وقد اشتعل الرأْس شيبًا أن أتقدم صفوف الشبان، فإن لم أكن صاحب أمرهم فما عليَّ أن أكون حامل رايتهم، فمن لي بصاحب تحرير المرأة أن ينفض عنهُ تراب القبر ويخرج إلى الأحياء؛ ليرى مبلغ استفادتهم من رأيهِ. أمَا إنَّه لو فعل — ولن يفعل — وقرأَ ما يكتبهُ قوم في إبقاء الحجاب والتحكم على أمهات الأجيال الآتية لكرَّ راجعًا إلى مرقدهِ، وأغمض عينيهِ حتى لا يرى وأذنيهِ لكي لا يسمع، وأنشد قول الحكيم القديم: