التعصب
لي رفقة أمجاد وأبناءُ أمجاد، أوتوا الفضل ورزقوا النهى، تجمعني وإياهم مجالس سمر كلما خفت عنا تكاليف الحياة، ففيهم الشاعر والكاتب والعالم والطبيب والفيلسوف، كل يفيض من مكتسبات علمهِ ما يشرح صدور مستمعيه. قال قائلهم ذات يوم: يا ليت فينا فقيهًا يعلِّمنا من ديننا مثل ما نعْلَمهُ من دنيانا. قالوا لهُ: وماذا يهمك من دينك وأنت مصدق لهُ لا تشك في أمر من أُمورهِ؟ قال: يا سبحان الله! وهل في زيادة الخير بأس؟ قالوا: كلَّا. فقال أحد الرفقة: غدًا آتيكم برجل فقيه أعرفهُ منذ زمان مديد يسكن دارًا مجاورة لداري. قالوا: ذلك فضل نذكرهُ لك مع ما سبق من مثله.
وفي مساءِ اليوم التالي انتهينا إلى بيت رفيقنا الطبيب، فانتظم مجلسنا وأقمنا ننتظر قدوم صاحبنا مع الفقيه، وقد أجمعنا على التزام الوقار، وترك ما كان يقع بيننا من المزاح وإن لم يتجاوز حدَّ الأدب والاحتشام. وما طال بنا الجلوس ساعة إلَّا وصاحبنا الكاتب داخل علينا يقود رجلًا كالجمل على رأسهِ عمامة كالهودج، متلفعًا رداءً كأنهُ قطعة من أديم الليل، فحيانا وحيَّيناهُ، وأجلسناهُ في صدر المجلس، وقلنا لشاعرنا: هات شيئًا نفتتح بهِ حديثنا. فقال: عنَّ لي خاطر ليلة أمس بعد أن نزعت ثيابي، ولزمت فراشي فقلت أبياتًا ثلاثًا أظنني لم يسبقني إليها غيري.
فتبسم الفقيه وقال: أنا أحب الشعر وإن كنت لا أقولهُ، فهات ما عندك، وما أراك إلَّا مطربنا، فانطلق الشاعر ينشدنا قولهُ:
قال الفقيه: المجاملة تقضي بمدح الأبيات والحق يقضي بنقدها، فأي الحكمين أحب إليك؟
قال الشاعر: حكم الحق.
قال الفقيه: هذه أقوال ليست بعصرية، وللعصر العشرين ذوقٌ خلاف ما كان بالعصور الماضية، هلَّا قلت مثل إسكندر سومي الفرنسوي — وقد توفي منذ نصف قرن — في قصيدته التي سماها الفتاة المسكينة: «أنظر إلى الحجر حيث تفجرت آلامي، ألتمس آثار المدامع التي ربما أراقتها عليهِ أمي عند تركي.» هلَّا قلت كما قال أندره شينييه في قصيدتهِ التي سماها الصبية الأسيرة: «لئن مرت أيام فربما حلت أيام، فواأسفاه، أي شهد لم يُمَجَّ مذاقُهُ وأي بحر لم تهج أمواجهُ؟» هلَّا قلت مثل لا مارتين في قصيدتهِ التي خاطب بها البلبل: «وهذا الصوت الغريب الذي أسمعهُ أنا والأملاك، وهذا الزفير الخالص في الليل. هما من معانيك أيها الطائر المطرب.» فَلِم لا تقولون أيها الشعراءَ مثل هذه المطربات؟
فأكبرنا الرجل وزاد في عيوننا هيبة، وقلنا: فقه وأدب، هنا والله ما تقرُّ بهِ الأعين. وتركنا الشعر وانتقلنا إلى غيرهِ، فما فتح أحدنا بابًا في علم يعلمهُ من طب وحكمة إلَّا نفذ منهُ ذاك الفقيه، فأفاد وأجاد، فداخلنا الريب في حقيقتهِ، وأخذ كلٌّ يسرُّ إلى من بجانبهِ ما يراهُ في الرجل، فقلنا نستنطقهُ في علمهِ الذي هو الفقه، ونستفتيهِ في أشياءَ ربما كنا غير عارفين بحقائقها، وإذا كان هذا قدرهُ في أمور لم ينقطع إليها، فكيف بهِ في ما هو منقطع إليهِ؟ فقلنا لهُ: أتأْذن لنا في استيضاح ما أُشكل علينا من أمور الدين؟
قال: نعم، سلوا ما شئتم.
قلنا: هل لبس القبعة (البرنيطة) محظور دينًا؟
قال: كلَّا، وفي لبسها منافع جمة، فهي تقي الرأْس والوجه حرق الشمس، وتحفظ العين من أشعة نورها.
قلنا: هل حجاب المرأة واجب شرعًا؟
قال: لا، وأي شرع يكون شقاءً على العباد.
قلنا: ولِمَ يتخرَّص بعض الناس بأن ذلك حرام وذاك واجب، ويقيمون القيامة علينا وعلى من يقولون بمثل قولك الآن؟
قال: يفعلون ذلك تعصبًا واستبدادًا، وهم يعلمون من الأشياء ما تعلمون، وهم بعد ذا يُحِلُّون ما يريدون أن يجعلوهُ حلالًا، ألا ترون كيف ينظرون إلى النساء يجررن أذيالهنَّ ويتهالكنَ في مشياتهنَّ، وليس على وجوههن إلَّا براقع تشف عما تعلوهُ. فهن حاسرات مقنعات، ولكن لا يعارض في ذلك معارض، ويرون الناس يأْتون من الموبقات ما تندى لهُ الجباه وتحمر الوجوه، فلا يعارضونهم ولكن ويل لمن وضع على رأْسهِ قبعة واجتاز طريقًا! ومنهم من يقول: الربا حرام، وأوقاف الأستانة في زمان الاستبداد كانت تقرض المال بالربا، فتهب الرجل قدر حاجتهِ من القرض، وتجعل الربح ثمن مصحف يشتريهِ من الولي ثم يهبهُ إياهُ، وأنتم تعلمون الحيل الشرعية وما يأْتيهِ أكثر الناس من المتمسكين بالدين.
قلنا: هذا كلام لم نسمعهُ من غيرك من رجال الدين، ولكن هل تتكلم مع إخوانك الفقهاءِ في مثل هذا الباب؟
قال: هذا صعب، وأخشى أن أستثير غضبهم فيصيبني منهم أذًى كبير، وهل فيهم من يجهل شيئًا مما ذكرت لكم؟! ولكنهم متعصبون، والمتعصبون لا تجدي معهم المناظرة ولا يقنعهم الدليل.
قلنا: وكيف الخلاص من هذه العادات التي أثقلت أعناقنا وأطالت شقاءَنا، وكلما هممنا بالفوز في معترك الحياة تكاثرت علينا جموع التعصب فانقلبنا مخذولين مدحورين؟
قال: عليكم أن تشكوا إلى الشعب استبداد رجال التعصب، ولكن بعد أن تُعلِّموا الشعب أو تكثروا فيهِ عدد المتعلمين، وأنا لي في بيتي مكان يحضرهُ كل جمعة أناس يستمعون دروسي، وهم قليلون ولكنهم مستمرون على الحضور، ولا أقرأُ لهم إلَّا ما يفتح أذهانهم وينير عقولهم. ولما بلغ إلى هذا الموضع من كلامه نظر في ساعته ونهض واقفًا واستأْذننا في الانصراف، فودَّعناه آسفين.
فلما ولَّى قلنا لصاحبنا ولم يذهب معهُ: على من قرأ هذا الأستاذ؟
قال: على مشايخ قرأ عليهم غيرهُ.
قلنا: ومن أين لهُ هذه الحرية؟
قال: الحرية طبعٌ لا تطبُّع.
ثم سألنا صاحبنا أن لا يبخل بهِ علينا كلما وجد سبيلًا إليهِ، فوعدنا ذلك، وما مضي على مجلسنا هذا شهر إلَّا تمزق شملهُ؛ فنفي أكثرنا وهرب بعضنا، وبلغنا بعد ذلك أن هذا الفقيه سجن بالأستانة ومات مسجونًا رحمة الله عليهِ.