أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان
تعود الغربيون أن يكذب بعضهم على بعض في اليوم الأول من شهر أبريل، وهو كذب ليس وراءَهُ نفع، ولا يختارونهُ خشية من شر، وما يريدون بذلك إلَّا مداعبة ومزاحًا، على أنني لا أعلم ممن تورثوا هذه العادة، ولا كيف انتهت إليهم وبقيت إلى زماننا الذي طوى عجائب القدماءِ، وأكثر حماقاتهم هذه غوايات أقلع عنها أهل الوقار من الغربيين، ولم يستمر على ضلالها غير فئة قليلة من العامة والأحداث.
وإني لأكاد أذهب في تعليل هذا الكذب مذهبًا لا أدري أهو الحق أم ظنٌّ أنا أظنهُ وحدي، إخال أن أهل الغرب لما علموا أن الكذب عيب من العيوب التي لا تواطن المروءَة في قلب؛ أَنِفُوا تعودهُ وحرَّموهُ في إيمانهم، وإذ كانت النفوس مفطورة على البسط بما هو محظور، رأَوا أن يجعلوا لهم يومًا يكذبون فيهِ؛ لكي يُنِيلوا الأنفس مشتهاها، وعلى هذا جرى أهل النسك والعبادة في كل دين، فإن الصائمين الذين عافوا ما يلذ في أفواههم واستعاضوا عنها بلذات النفوس، يغيرون عاداتهم ويبدلونها أحيانًا، فإذا كان وقت الإفطار جاءوا بما لذَّ وطاب من مأكل ومشرب، وزينوا موائدهم بأنواع الفاكهة والنقل.
أما رمضان فلهُ أكذوبة يتخذها أكثر المرزئين في ذممهم، فلقد يهون عليهم أن يكذبوا ولا يهون عليهم أن يقولوا نحن مفطرون، يملئون بطونهم في بيوتهم ويخرجون إلى الأسواق بأيديهم المسابح من أجود المرجان والكهرباء (الكهرمان)، ومن البلور ومن العود ومن العنبر، يلوحون بها إذا أشاروا، ومنهم من ينتهرك إذا دانيتَه وفي يدك سيكارة، ويقول لك: إذا كنت لا تؤْمن فدع من يؤْمنون يعبدون ربهم ولا تكدر عليهم صفو العبادة، وإذا ساوم أحدًا على شيءٍ يريد أن يشتريهُ منهُ علا صياحهُ وازرقَّ وجههُ وحملق بعينيهِ، وجعل يقول لهُ: هذا يوم صوم وأنا رجل يجهدني الإمساك عن القهوة والدخان، فإذا زيَّن لك الشيطان أن تملأَ رأْسي بكثرة كلامك، ضربت بك الأرض وأنزلت عليك المصائب.
مالك يا أخا الزهد تزهق الأرواح وتستنفد الصبر، وما لنا نحن وزهدك. سواءٌ علينا طرت بهِ حتى جعلت أخمصيك على هامة زحل، أم هويت بهِ إلى حيث يهوي الكاذبون.
في البلاد العثمانية كل المسلمين صائمون. كانت الحكومة المستبدة تسجن المفطر إلى أن يأتي اليوم الثالث من عيد الفطر، وكان أكثر المفطرين يدَّعون الصوم ويحسنون تقليد الصائمين، حتى لقد بلغ أمر الكذب أن يضرب المفطر في بيتهِ من يدخن بجانبه سيكارتهُ، وقد خرجت بها ذات يوم في رمضان وراءَ أمر عرض أريد قضاءَهُ، فلما ركبت الترامواي رأيت جماعة من الأجانب على رءوسهم القبعات وبأفواههم سيكاراتهم والناس ينظرون إليهم شزرًا، ولا يقدر أحد منهم أن يخاطب أولئك الأجانب بكلمة تسوءُهُ، وكانت علبة سيكاراتي معي، فنسيت أن اليوم من أيام رمضان؛ فأخرجت سيكارة جعلتها في فمي، وأقمت أنتظر أن يمدَّ إليَّ أحد الجالسين شيئًا أشعلها به. فمشت فيَّ عيون الركب، وجعل بعضهم يغمز بعضًا مشيرًا إليَّ بلحظهِ، ففطنت لموضع خطائي، وقلت أداويه لكم أيها الكاذبون بالكذب، ثم وثبت من مكاني بغتة كمن تذكر شيئًا كان نسيهُ وقلت: لعن الله الشيطان، كدت والله أدخن سيكاراتي وأنقض صومي، ونظرت إلى رجل جالس على يميني، وقلت مؤَنبًا لهُ: كذا يا أخي تراني أهم بما يفسد عليَّ صومي ولا تنبهني إلى ما كاد يفرط مني عن غير عمد، وأنت تعلم أن الدين يقضي علينا بالنصح لمن سها، وأن لا يُعرضَ إلَّا عمن تولى، فابتسمت الثغور وسُرِّي عن القوم.
ولقد دعاني وأنا في بلاد الأناضول أحد الولاة الذين تفتخر بهم البلاد لأفطر معهُ، فأجبت الدعوة فرحًا باستماع حديثهِ والجلوس إليه، فدوى المدفع والمائدة كظهر السلحفاة مما عليها من الأطعمة والأواني، فقال قائل: أرى زهيرًا قليل الأكل كأَنَّ بأضراسهِ فلولًا، فتبسمت وقلت: هذه الأضراس أرادها أخو ذبيان بقولهِ:
فلم يفهموا ما أردت، فشرحت لهم البيت وعرفتهم المراد، ثم قلت: كان الأحسن أن أشير إلى قولهِ:
ولكن أبيت أن تشاركوني في مجدي، فضحكوا، ثم قال لي الوالي: بالله عليك يا زهير إلَّا ما صدقتنا، أَأَنت صائم حقًّا؟ قلت: لا والله، ولا صمت قبل اليوم في حياتي، فكاد الوالي ينفطر ضحكًا، أما الحاضرون فبقوا واجمين كأن قد صبَّ على رءوسهم طست فيهِ عشرون أقة من البترول، فعلمت أني مغضبهم في ليلتي، فلما انتهينا من الطعام وخرجنا إلى المكان المعد للتدخين، دنا مني أحد المعممين، وهو رجل كالجرادة لهُ لحية كقائمة المزاد، وعينان كزيتونتين، فنظر في وجهي مليًّا، ثم قال لي: لمَ لا تصوم؟
– لا أدري.
– كيف لا تدري؟
– ككلِّ من لا يدري.
فغلب الضحك على الرجل وتنحيت أنا جانبًا لكي لا يطير في وجهي رشاش من فيهِ، فقال: مالك تنأى عني، أغول أنا فتخافني؟
– كلا. بل فمك رائحتهُ منتنة فلا أقدر أن أشمها … فوالله ما أمهلني أن أتم كلامي؛ بل ولَّى عني غير ملتفت وراءَهُ.
ثم قصَّ على الوالي ما وقع لهُ معي، فقال لهُ الوالي: إياك أن تحرك عليك لسانَهُ، أما إنه لينتزع السهم ويصيب المقتل.
ولقد جاءَني رجل في رجاءٍ حسبني محلًّا لهُ، وكنت أشرب قليلًا من الماء فنسي رجاءَهُ وجعل يعنفني، فلم أملك الغضب، فقلت له: أمن أجل هذا أتيت الساعة أيها الفضولي؟ اخرج وإلَّا رميت بك من أعلى السلم إلى أسفلهِ، فخرج ثم عاد وهو يقول — وعيناه مُغْرَوْرقتان دموعًا: جئتك راجيًا فلا تخيِّب — وأبيك — رجائي، فسمعت رجاءَهُ وصرفتهُ عني واعدًا إياهُ خيرًا.
وكان أكثر أصحابي من مستخدمي الحكومة يعرِّجون على داري يشربون فيها قهوتهم وسيكاراتهم، حتى لقد قلت لهم يومًا: أحمد الله كثيرًا، لقد جعلني صاحبَ قهوةِ الكاذبين، فنظروا إليَّ وقالوا: اتقِ الله.
أما الآن، فلا أدري كيف حال الشبان في الأستانة، فقد أعلنت نظارة الداخلية بوجوب المبالغة في حجاب السيدات المسلمات، وتوعدت ذويهنَّ بالعقاب إذا بدا منهن ما يخالف هذا الأمر، والخبر اليقين عن المفطرين هو في مطعم توقاتليان ويني في الأستانة، وفي مصر من الحرية الشخصية ما لا يضطر إلى التواري عن الأبصار والاختباء تحت الموائد، ولكنَّ في الناس كثيرين يفعلون ذلك، ولولا أني شاركت بعض الأجانب في الكذب معهم في أول يوم من شهر أبريل، وذلك حين كنت ابن عشرين سنة، لجاريت أهل المسابح إلى الكذب، غير أني جالس أمام مكتبتي وعيناي شاخصتان إلى الساعة، وقد دوى مدفع الظهر الذي أفطر عليه، فأكتفي من مقالتي بهذا القدر وموعدي مع القراء الجمعة الآتية إن شاء الله تعالى.