المحتلون يخرجون من مصر
أتعبتني كتاباتي فوقف القلم في يميني مستعصيًا. غلب عليه الإعياءُ وسئم طول المشي على رأسهِ، فقلت: مالك؟ أهكذا دأْبك؟ جولة ثم تضمحل! فأما وقد حَرَنت حِرانَك فلن تستعيد جولاتك، أو يكون لك شجو بدعوك فتجيب، ثم ألقيت بالأسود المعاند إلى جانب دواتهِ وقلت: ليكن عطنك بحيث يكون حوضك، وتنحيت في حجرتي جانبًا واضطجعت على متكأ لي، لا بذي سندس ولا إستبرق، ولكن مما يستلينهُ جنب الشاعر المملق، وهناك غلبني النعاس ونمت نومة هي إلى الموت أقرب منها إلى الحياة.
فرأيت فيما يرى النائم كأني أسير إلى ميدان عابدين، فلما وافيت مدخل الميدان مما يلي الشارع الآخذ من ميدان الأوبرا، إذا جموع من الجنود المحتلة تتقدمها موسيقاتها ويقودها قوادها مشاةً وفرسانًا، تخفق بينها الأعلام البريطانية التي أظلَّت الأمن والعدل بمصر في أكثر من ربع قرن، وبأطراف الميدان جماعات من الرعاع والسوقة يتوسطها بعض تلامذة المدارس، وآخرون جعلتُ أتعرف بعضهم كلما علق بهم نظري، فالتفت إلى وسط الميدان فإذا العلم البريطاني وإلى جانبهِ العلم العثماني يصل بينهما رباط أخضر، إشارة إلى الود والاتحاد، وإلى أمام العلمين منبر ذو درجات أعد ليخطب عليهِ من لا أعرفهُ.
فما طال بي الوقوف إلَّا وأقبلت عربة تقودها ست جياد، يتقدمها فرسان ويتبعها آخرون بأيديهم الرماح وعلى أسنتها الأعلام، فنظرت إلى العربة فإذا أمير البلاد المعظم وإلى شمالهِ رئيس النظار وأمامهُ أحد النظار، وتلاحقت بعربة الأمير عربات كثيرة وسيارات عديدة فيها قناصل الدول وخلق لا يُحصى لهم عدٌّ من سراة الأجانب ورجال الصحف الأوروبية، فوقفت عربة سمو الأمير أمام سلَّم الإمارة، وصعد أَعزهُ الله وتبعهُ أكثر أولئك الأجانب، ثم أقبلت عربة من جهة شارع قصر النيل يتقدمها أربعة فرسان ويتبعها مثلهم، بأيديهم السيوف مسلولة وعلى رءوسهم القبعات البيض، وإذا الراكب الجنرال ماكسويل قائد جيش الاحتلال، فسارت عربتهُ حتى وقفت أمام سلم الأمير، فصعد الجنرال.
كل هذا يقع وأنا لا أدري ما هو، فحانت مني التفاتة فرأيت إلى جانبي شيخًا دقَّ حتى صار كالعمود الفقري، لهُ رأس كرأس السنة، ولحية كالتقويم، وأنف كالمسدس، وعينان كأنهما برقوقتان، على رأسهِ عمامة كالبصلة الكبيرة، فدنوت من الشيخ وحييتهُ، فحياني بصوت كصوت البوق، فقلت: يا أستاذ، ما هذا الذي نراه؟ فنظر إليَّ نظرة ملؤُها عجب وقال: أفي سفر كنت؟
– كلَّا، وما تعجبُّك من سؤال لست أول من يسأَلهُ؟
– الأمر معلوم، المحتلون يخرجون الآن من مصر، وتمسي مصر مذ الساعة وهي للمصريين.
نحن الآن يتنازع قلوبنا عاملان؛ واحد للفرح وآخر للحزن، فأما عامل الفرح فبأن أثمرت مساعينا لإصلاح مصر حتى لتستطيع أن تعيش وحدها، وأما عامل الترح فبأن سنودع وادي النيل وأبناءَهُ بعد أن طاب لنا المقام واستحكمت في قلوبنا الألفة، ألا وإن كل عارية يومًا ستستردُّ، وما بعد المقام إلا الزماع، على أن لنا في موَدَّات هذه القلوب لذكرى نستعيد بها عذب ما فات، وإني ومن أقود من جنود بريطانيا العظمى لنسلِّم على أمير مصر المعظم سلام وداع، ونهدي مثلهُ لبني مصر المحبين، فليحيَ سلطان العثمانيين فليحيَ ملك بريطانيا فليحيَ أمير مصر.
فما أتم القائد خطبتهُ إلَّا عزفت الموسيقى العسكرية بالألحان الملكية الثلاثة، ثم نزل وصافح أمير البلاد وركب عربتهُ وإلى يساره ناظر النظار بالنيابة عن سمو الأمير، وسارت الجنود تؤم المحطة، فرأيت ما لم أرهُ وجعلت أتبع هذه الجمع الذي تلمع في جوانبه الأسنة وتخفق في خلال عثيرهِ الأعلام، وقلت الآن ننظر ما سيكون من أمر الفائزين بهذا اليوم المحجَّل الأغرَّ.
فإذا شرذمات من أهل الضوضاء وسكان الأعشاش، قد عصبوا رءوسهم بمناديل حمر وبأيديهم العصي، تتقدمهم عربات فيها رجل كالخيار الشنبر، لهُ شارب أسود يخالهُ على البعد رائيهِ غمد خنجر، على رأسهِ طربوش أعوج، وإلى جانبهِ آخر مثلهُ ولكنهُ منتفخ البطن كالبرنية، وفي يدهِ شيءٌ يشير بهِ لم أتبينهُ جيدًا وأحسبهُ سوطًا، وأمام العربة بين هؤلاءِ الجموع رجل أسود الشاربين، طويل القامة، معمم مكمم، يحمل على كتفهِ مشعلةً مغطاةً «بكوفية» من كوفيات المحلة الكبرى، وقد جمح أيما جماح، فكان ينظر يمنة ويسرة ويصيح بملءِ فيهِ قائلًا: «ملحة في عين اللي ما يصلي على النبي.» فتأملتهُ فإذا هو أحد مشاهير الكتاب والخطباء عزيز القدر بين أشياعهِ، فتركتهُ وحبلهُ على غاربهِ وقلت أنظر إلى غيره، فسمعت أحد من في العربة يقول لجماعة من الماشين: إذا ركب الجنود القطار وسار بهم حتى غاب عن الأبصار، تذهبون من ساعتكم في جماعة من الشداد إلى إدارة كذا، فتهدمونها على من فيها ثم تفعلون ذلك بإدارة كذا، ثم استعلموا لنا عن هذا الخبيث الملعون الذي يسمي نفسهُ زهيرًا، فاجعلوا في عنقهِ حبلًا وجروهُ على وجههِ ثم ألقوا به في النيل. فهممت أن أصيح بذلك المتكلم وأقول لهُ غريمك قريب منك يسمع كلامك وها هو أمامك، ولكن أمسك بذراعي رجل، فالتفتُّ فإذا هو صاحبنا «نقاد»، وكأنهُ عرف ما أريد فقادني إلى خارج تلك الجموع، فقلت: أهلًا وسهلًا بالصديق، ما جاء بك إلى هذا المزدحم؟
– كنت مارًّا في شغل لي، فلما رأيتك أتيت لأخرج بك.
فأخبرتهُ بما سمعت، وقلت: يخيل إليَّ أن هذا الرجل وصاحبيهِ سيخطبون فهلم بنا نسمع رطانتهم، فقال نقاد: أمَّا وعِيدُ القوم فكما قال صاحبك أحد الشعراء الغابرين:
قفوا. قفوا. مثل هذا الجمع من أهل وطني قدتُه حتى وطأت بلادًا لها عليَّ حق السمع والطاعة، ومصر كالسبية بين المتقاتلين، فلما أتيت بمهرها وقد خطبها لي عدل أبي، ورددت دونها أكفَّ المتطاولين، وأقمت لها طول مجرى النيل مهرجانًا من العزِّ ما فاتهُ إلَّا عز أبناء الشمس، وعهدي وهي في عزتها يُكَب لديها الجبابرة على أذقانهم، وانتقلت إلى طيب من أخلافي، هب أناس يغالبون الطيب حتى صار ما صار، وحمي الحمى بهذه البواتر، ونامت الأعين في أمن هاتهِ الأعلام، وتريدون اليوم أن تخرجوا من مصر ليصبح عاليها سافلَها وليجري هذا النيل أحمر قانيًا. كلَّا ثم كلَّا. لأصيحن صيحةً تخرق حجب الأزل وتنفذ إلى من ولجوا غابتهُ، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادًا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيلِ لَيدخلن أهلُ الطيش غدًا على العذارى في خدورهنَّ وليأخذنَّ بغدائرهنَّ، وليقومنَّ بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.
فما بلغ هذا الموضع من خطبته إلَّا بدأت شئون عينهِ تخضل تلك اللحية التي طيبها العثير في مواقف الحفاظ، فقلت: يا لك من يوم ما حسبتني أعيش إليهِ.
وقد علا ضجيج في جوانب الجيش، فإذا أناس من علية القوم كشف الرءوس وبأيديهم الرياحين يصيحون بتلك الجنود أن لا تزايل مساكنها، فالتفتُّ ورائي لأنظر ما فعل من كان في تلك العربة، فلم أرَ شيئًا، فأعدت النظر إلى التمثال فإذا هو مكانهُ وقد تفرقت تلك الجموع، فانتبهت من منامي وقلت: لا رجعت إلى فراشي قبل أن أوافي قراءَ المقطم بقصتي.