فيكتور هوجو١
كان القرن التاسع عشر طفلًا في حَوْلِه الثاني حينما تمخضت الأيام بمولود «بيزانسون»، وهو ابن الكونت «سيجيسبير هوجو» من مشاهير القواد والكتاب الحربيين، ثم طوحت به في كل شرق وغرب كحبة تَذْرُوها الرياح حيث تشاء.
وقد قويت وعظمت هذه الصفات في الأجزاء التالية من ديوانه، وفيها: «الشرقيات» سنة ١٨٢٩، و«أوراق الخريف» سنة ١٨٣١، و«أناشيد الشفق» سنة ١٨٣٥، و«أصوات الضمير» سنة ١٨٣٧، «والأشعة والظلم» سنة ١٨٤٠.
نظر إلى فن التمثيل، وقد هَوَى إلى الدرك الأسفل من الحطة والعوز، فصال عليه واستطال؛ حتى هَذَّبه ورفع شأنه وبعثه بعثًا جديدًا.
ومن مشاهير رواياته التمثيلية التي سارت بذكرها الركبان، وسحبت على غيرها ذيل النسيان، ولم تفارق للآن أعظم المراسح ما وضعها شعرًا مثل: «إيرناني»، و«ماريون دولورم» سنة ١٨٣٠، و«الملك في لهوه» سنة ١٨٣٢، و«روي بلاس» سنة ١٨٣٨، و«ليبورجراف» سنة ١٨٤٣ وغيرها، وما كتبه نثرًا مثل «لوكريس بورجيا» و«ماري تودور» سنة ١٨٣٣، و«أنجيلو» سنة ١٨٣٥ وغيرها، وقد كتبها بنظم محكم السبك ونثر متين الحبك.
وقد انْتُخِب في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٨٤١، ومُنِحَ رتبة «بيردو فرانس» سنة ١٨٤٥، ثم خاض غمار السياسة إلى أن صار رئيسًا لحزب الشمال الديمقراطي وخطيبه الأعظم، ثم حارب ضد لويس بونابرت، فحملته يد الاستبداد سنة ١٨٥١ إلى بروكسيل، حيث نفته هناك، ثم انتقل إلى جيرسيي، ومنها إلى جيرنزيي — وهما جزيرتان إنكليزيتان في بحر المانش — ولبث في منفاه ثماني عشرة سنة، ولم يرجع إلى وطنه إلا في سنة ١٨٧٠، حيث برَّ بقسمه بأن لا يطأ أرضه ما قامت لعرش الملك قائمة.
ولقد أسعده النفي بنفحات مدهشات البيان، فراق له جو الخيال، وأوحت إليه الموجودة ببدائع البدائه وأحاسن المحاسن؛ فزَفَّ إلى القراء من بنات أفكار النظم والنثر ما خلب العقول وسحر الألباب، فنظم كتابه الذي وَسَمَه ﺑ «نابليون الصغير»، وكتاب «العقوبات» سنة ١٨٥٣؛ فكان كأفعى تنفث سمًّا زعافًا فاغرة فاها نحو نابليون الثالث، ولم يجرِ يراع كاتب في الحقد والضغن بمثل ما أتى به قلمه في هذا الكتاب، ثم وضع كتاب «المشاهدات» سنة ١٨٥٦، و«سير القرون» سنة ١٨٥٩، وهو من أبلغ ما خطَّه بَنَان الشاعر. حشر فيها سير القرون الخوالي من أغلب الأمم؛ مما يدل على سعة اطلاعه في التاريخ، وأظهر فيها رقي الأمم من طور إلى طور، وتدرجهم في الكمال، ثم كتاب «البؤساء» سنة ١٨٦٢، وهو نثر وخير ما كتب في درس الإنسانية والحياة الاجتماعية، مما تذوب له القلوب حنانًا ورحمة وتذرف لهول بؤسه العيون الجامدة دمًا، وما لم يستطع كاتب أن يأتي بمثاله أو ينسج على منواله، و«عملة البحر» سنة ١٨٦٦، و«الرجل الضاحك» سنة ١٨٦٩، و«ثلاث وتسعون» وغيرها.
ولما آبَ إلى وطنه بعد سقوط المملكة وضع كتاب «العام الأسود» سنة ١٨٧٢، ثم الحلقة الثانية من «سير القرون» سنة ١٨٧٧، والحلقة الثالثة منها في سنة ١٨٨٣، و«تاريخ جناية»، وقد ذكر فيه حوادث الهيئة الاستبدادية وغيرها من كتب: تاريخية، وفلسفية، وقصصية، ورسائل، وأفكار، وخواطر. وصار من رؤساء الحزب الجمهوري، وكان يطربهم بخطبه الشائقة في العدل والإنسانية والتقدم الأدبي والاجتماعي إلى أن توفي بباريس سنة ١٨٨٥، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، ومشى في جنازته ألوف مؤلفة؛ مما دل على عظم مكانته في قلوب قومه وتمجيدهم له.
نابليون الثاني Napoléon II٧
سنة ١٨١١: عام وما أدراك ما العام؟! ماجت فيه أمم لا يدركها الحصر، وقد أضجرهم الانتظار وفني منهم الصبر. يظلهم غمام مكفهر. مبتهلين إلى الله أن يستجيب دعوتهم وينيلهم أمنيتهم.
وكانوا يشعرون أن هذا المُلْك الواسع الأكناف المترامي الأطراف، يمتد تحت أرجلهم رعبًا، ويرتعد خشية ورهبًا، محدقين بأبصارهم إلى قصر اللوفر، وقد زمجر فوقه الرعد حتى كاد يدكه كطور سيناء، مطرقين كجواد بصر بصاحبه يقول بعضهم لبعض: ستتمخض الأيام بمولود ذي شأن ينتظره هذا الملك العظيم ليليه ويأخذ بزمامه.
ليت شعري! ما الذي أعده الجد لهذا الرجل الذي يفوق قيصر ورومية؟ ومن سيضيف حظوظ البشر إلى حظه فيسعدون بسعده ويشقون بشقائه؟!
•••
مهما بلغ المرء من الحول والقوة، ومهما ضحك وقهقه، أو بكى وأعول لا يستطيع أن يطلع على الضمائر والسرائر، ولا أن يقضي على أحد قبل أجله وساعته.
•••
أيها الخيال الأخرس والطيف الملثم! يا من هو أتبع لنا من ظلنا! يا من يدعونك الغد.
إنك لتستطيع أن تطأ المدن بسنابك خيل فرسانك، وتحل مشكلات الحروب بصمصامك، وتسد نهر التاميز والنصر حليفك بحولك وقوتك، وتحطم الأبواب المغلقة بسطوتك وقدرتك، ثملًا بنشوة الظفر، يرنح عطفيك صوت نفيرك، ساحبًا ذيل النسيان على كل صيت طائر.
أمد الله في أيامك! إنك لقادر أن لا تترك من الأرض ذراعًا، وأن تنزع أوروبا من شارلمان، وآسيا من آل سام، ولكن هيهات أن يخضع لك الغد إلى الأبد.
•••
يا للنائبات الواعظات! لما أخذ شبل هذا الأسد تاج رومية بدل اللعب حتى ذاع شأنه، ولما أظهره أبوه للملأ وجبينه الملوكي يهتز، دهشوا لعظمة هذا الصغير وهيبته.
وقد ظفر والده لأجله بوقائع عديدة وفتوحات عظيمة، فجلس بجانب سرير طفله مبتسمًا بادي البِشْر، وقد كان كبانٍ يعرف كيف يؤسس بناءه؛ إذ أجهز على الدنيا بضربة معول فأقبلت خاضعة طائعة حسب أمانيه.
ولما أتمَّ الوالد ما أعده ليمهر الطفل الحقير بالعظمة الدائمة. هيأ له قصرًا وطيد الأساس متين الدعائم؛ ليحفظ حياة ابنه من العوادي والغوائل.
لم يغب عنك ما فعل بهذا العظيم الهائل، فقد زج به في أعماق السجون ست سنين وراء أفريقية والبحار.
النفي ممقوت كافر! كان هذا البطل العظيم متربعًا في قفصه، منحنيًا تلعب أسنانه بركبتيه، ولو كان قلب هذا الطريد خلوًا لكان أنعم بالًا، ولكن قلوب الآباء لهي قلوب الآساد؛ إذ كان ابنه آخذًا بشغاف قلبه، ولم تُبْقِ له الدنيا إلا ذخيرتين في عرينه: صورة ابنه وخريطة الدنيا، وبعبارة أخرى مرمى فكره ولبه وجميع قلبه.
وفي المساء كان يسرح الطرف في مخدعه؛ إذ كانت تدور في رأسه الصلعاء أعماله وفتوحاته الماضية، وكان السجانون والديادبة له بالمرصاد ليل نهار ليقرءوا ما يرتسم على جبهته من الفكر والآمال.
بل كان شغله الشاغل عسجد شعر طفله الجميل، وورد خدوده وهو نائم مطمئن بفم يكاد ينطبق وهو كالشرق في بهائه وحسنه، وقد انحنت عليه مرضعة متهللة تلقمه ثديها ضاحكة.
رزح الوالد تحت أثقال همومه وشجونه، وقد تيمهُ حب ابنه، فأسند بمرفقيه إلى كرسيه، وهاجت بقلبه تأوهات مستعرة؛ فتفجر الدمع من آماقه واسترسل على خدوده.
•••
أناخ الدهر بكلكله على النسر وفرخه فألحقهما بخبر كان، فيا له من زمان قاس ابتدأ بقهار الجبابرة، وغلاب القياصرة! ثم ختمه بعظام رفات نخرة، وقد كفت عشر سنين لنسج أكفان الأسد وشبله.
احتوى اللحد مجدًا وصبًا وكبرياء، والمرء يود لو يترك له الموت خلفًا، ولكنه لا يسمع له نداءً، وكل عنصر يرجع لأصله: فالهواء يأخذ الدخان، والأرض الرماد، والنسيان الاسم.
•••
وهذه الأنواء والعواصف المخوفة لترتعد أمامها الخلائق من أمير وحقير. يا لليم من أعمى أصم أضل من شعب ثائر هائج، وماذا ينفعك نشيدك يا شاعري وأغانيك التي يمليها عليك الخيال ويرددها الصدى في هذه اللجج الحائرة المضطربة، وقد صمت آذانها؛ فلا تسمع لك نداءً ولا غناءً، ويذهب صوتك صرخة في وادٍ.
كل من عليها من ملوك وأمراء ونابليون العظيم والصغير طوتهم الأرض في جوفها طي السجل للكتب، ومحتهم كما تمحو اللجة اللجة، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
الغريق Le Naufragé
انكمش هذا البائس الضعيف في كوخه، فاصطلحت عليه الأنواء والأعاصير؛ فلم يستطع أن يبرح مكانه ليكدح لرزقه. عظم واتسع أمامه المحيط لينصب له شراكه. اكفهرت السحب فخاف منها كل نسر قشعم، واسودَّ من الفضاء الإهاب، ثم أومض البرق، وقصف الرعد، وصفرت العواصف، وهاجت الأمواج، وطفقت تحطم في جدار هذا المنكود، وما وراء هذا الفضاء وعظمته والليل وظلمته إلا الحتف المميت.
ماذا تفكر أيها الشقي البائس لتنجو من مطاردة هذه العوالم الحاقدة عليك وأنت عدوها الألد؟ أتتخذ لك نفقًا في الأرض أم سلمًا في السماء؟! أتراك تستطيع الصعود وقد حالت دونه العواصف والأنواء، وأنَّى لك وأنت ترتعد مكانك من هول المنظر؟! وإنِّي لا أخالك إلا مقبورًا ضليلًا طريدًا. ليت شعري كيف تنازل هذه القوى العظيمة التي ما لها من نفاد وأنت أسير حفرتك؟!
حسبك دفاعًا مع العظمة التي أقبرتك في كوخك، وأهاجت عليك السماء وما حوت والأرض وما وعت حتى اغبرَّ وجه الكون عليك أسفًا، وأظلمت الدنيا حدادًا؛ فاخضع أيها الغريق للقضاء واستسلم لهذا اليم الجبار العتيد.
إن للرمال لَلِينًا خائنًا كلين النساء Pour le sable comme pour la femme il y’a une finesse perfide
نبع هذا الماء لينذره بسوء المنقلب، ولكن أسبل القضاء على عينيه سترًا فلم يبصره. أمامه الشاطئ الرحب سهل ساكن لا يفرق بين صلبه ورخوه، فأخذ يواصل سيره ليبلغ الشاطئ، كاد يعتريه القلق، ولأي أمر يقلق؟ غاية ما هنالك أنه أخذ يشعر أن قدميه تزدادان ثقلا كلما خطا خطوة، وعلى حين غفلة يجدهما غائرتين في الرمل أصبعين أو ثلاثة.
أوشك أن يشعر الآن بضلاله؛ فألقى عصا الترحال ليبحث عن الطريق الأمين، ثم نظر فجأة إلى قدميه فوجدهما غائصتين في الرمل. نزعهما راجعًا القهقرى، ولكنهما غابتا ثانية إلى الكعبين. تخلص وارتمى يسرة فأخذه الرمل إلى نصف ساقه. انتشلهما وانطرح يمنة، فغاص إلى ركبتيه. تحقق الآن من ضلاله فسقط في يده، وكاد يقطع سبابته من شدة الندم. عرف أن قد غره السراب، وتقطعت به الأسباب، فوقع في حبالة هذا الوسط الهائل الذي لا تثبت عليه الأقدام، بل لا تستطيع أن تسبح فيه الأسماك.
يحار الكاتب في تسميته، ليس ببر ولا ببحر، أخذ يفكر في سبيل للنجاة، فرأى أن يطرح حقيبته كالسفين، أخذها الموج من كل مكان، فقذف الركب عرض البحر ما تحمله من كل مرتخص وغال لينجوا بأنفسهم. جعل يعالج النجاة وقد أعيته الحيل، فابتلعه الرمل إلى ركبتيه. طفق يصيح مستغيثًا مشيرًا بمنديله، ولكن الرمل مستمر في اختطافه. فإن كان الشاطئ مقفرًا، والديار بعيدة، وعدم النصير؛ فقد حم القضاء، وذهب صرخة في وادٍ فريسة لهذا القبر السحيق، مستمرًّا في هويه البطيء في جوف الأرض، التي لم تمهله وابتلعته واقفًا حرًّا في عنفوان صبوته وشرخ شبابه، كلما عالج وقاوم واشتد في صياحه وصراخه أسرعت الأرض في ابتلاعه.
بخل الثرى بالتعجيل بالتقامه ليترك له من الوقت ما يكفيه لوداع هذا العالم ليزداد حسرة على حسرة ومصابًا فوق مصاب. أخذ يسرح الطرف، فرأى أمامه الأفق والأشجار والرياض الزاهرة ودخان القرى يتصاعد كالسحب وشُرُع السفن الماخرة في عباب البحر والطير الصادح والشمس المشرقة والسماء اللازوردية.
•••
وهذه الرمال لهي القبر خرج من بطن الثرى على شكل مستنقع خفي ليختطف الأحياء الأصحاء.
يحاول هذا التعس الوقوف والقعود والاستلقاء بغير طائل. بل كل حركة يفعلها تزيد في غرسه، فيزأر كالأسود وينهب الأرض بذراعيه من اليأس، حتى إذا التقمه الرمل إلى صدره رفع ذراعيه وزاد زئيره. ينشب أظافره في الرمل، ويتكئ على مرفقيه لينسل من هذه الهاوية، ولا يزال الرمل حتى يصل إلى كتفيه ثم إلى عنقه، فلا يرى منه إلا الرأس، لم يبقَ منه إلا فم يصيح ويستغيث، ولكن حنق عليه الرمل فألجمه وسده؛ فلا تسمع له همسًا ولا لمسًا. بقيت عيناه تتوسلان بذرف العبرات، ولكن سئم منهما الرمل فأقفلهما، وصار يتخبط في ليل أَليَل، بقي منه شعر يلعب به الهواء، ثم خرجت من الرمل يده، واختلج بعض خلجات فاضت بعدها روحه فكان من الهالكين، وإن هي إلا هنيهة التأم فيها الرمل، وعاد كما كان سويًّا، وطوت الأرض في جوفها بائسًا كأنه لم يكُ شيئًا.
طرفة من الموسيقي Un Peu de Musique
هيا إن أردتِ أن نتيه في عالم الأحلام، فنركب جوادين من حسان الخيل المطهمة، وإنك لتجذبين إليك قلبي إذ أريد أن أنتشلك من بين أسرتك.
فلنعرج على النمسا، ونستقبل سنا القمر بجباهنا، وسأكون عظيمًا وأنت غنية، حيث ربطنا الحب بعُرًى متينة لا انفصام لها، ولنسر على الأرض بمهرينا الجميلين، ثم نطير في الفضاء بل في الأسرار بل في الذهل، ثم نعوج بالخان وننقد صاحبه أجره من ابتسامك، وناهيك بابتسام العذارى ومن سلامي، وحبذا سلام التلميذ، وستكونين سيدة وأكون «كونت»، وسيفتح قلبي لما ستقصينه من الحديث، كما تتفتح الزهرة من كمها ونحن نسامر نجوم الليل المتألقة.
أما وقد وضع شفتي Puisque J’ai mis ma lévre
وحيث أسعدني الجد بأن تصيخي إلى الكلمات، التي بها تنكشف أسرار القلب الغامضة، ورأيت ثغرك يضحك فوق ثغري، وعينك تبكي فوق عيني، وشاهدت شعاعًا يلمع فوق رأسي من كوكبك الدري الذي احتجب، وبصُرت بورقة من الورد نُزِعَت من أيامك وسقطت في لجج حياتي؛ فالآن أستطيع أقول للأعوام التي تكر: مري وسيري فلست أخاف الشيخوخة، واذهبي بأزهارك الذابلة فإن لي في الروح زهرة ناضرة يعجز الكل عن اقتطافها، وإن اصطدم جناحك بكأسي التي أرتوي منها فلا يُسيل منها شيئًا وإن ملأتها حتى طفحت، وإن روحي لكثيرة النار وأنت خلو من الرماد، وبقلبي من الحب أكثر مما عندك من النسيان.