بيير كورنيي١
نادرة زمانه وغُرَّة دهره في الشعر، وُلِدَ بمدينة روان سنة ١٦٠٦، ومات بباريس سنة ١٦٨٤، وقد تلقى دروسه بمسقط رأسه بمدرسة اليسوعيين، ثم أتم دراسة الحقوق.
وأول رواية تمثيلية ظهرت له «ميليت» سنة ١٦٢٩، وأعقبها برواية «كليتاندر»، و«الأرملة»، و«بهو القصر»، و«التابعة»، و«الميدان الملكي»، وقد اتصفت هذه الروايات بحسن التعبير وشريف العادات.
وفي سنة ١٦٣٣ قدم كورنيي إلى الكردينال «ريشليو»، وصار ضمن «الخمسة المؤلفين» الذين عهد إليهم الكردينال وضع الروايات التي رتب موضوعها بنفسه، ولكنه انفصل بعد مدة صغيرة لأنه لم يوافق مشربه.
وفي سنة ١٦٣٥ ظهرت روايته المحزنة «ميديه» ولو أن بها بعض عيوب، ولكنها تضم بين سطورها ما بثه خيال الشاعر وهو في عنفوان شبابه من القوة والحماسة والعظمة.
ولعلمه بفن وضع الروايات التمثيلية الإسبانية وضع تباعًا روايتي «الغرور المضحك» سنة ١٦٣٦، وفي السنة نفسها كتب رواية «السيد»، التي رتب له موضوعها الشاعر الإسباني «جيلهيم دوكاسترو»، وبهذه الرواية افتتحت الروايات المحزنة الفرنسية وأرخت بها، ودخلت في دور كمالها وتهذيبها، ولاتباعه لهذا الشاعر الأسباني صار نابغة في الشعر المقيد وأميره في عصره، وهذَّب ما كان في المؤلفات الإسبانية من الركاكة والضعف.
وقد قُوْبِلَتْ «السيد» من الجمهور بحماسة وحمية خارقة للعادة، ولكن أغلب الشعراء وكتاب النقد في عصره تألبوا على انتقاده، ودونوا كتابًا سموه «النزاع في السيد» انتقدوا فيه على الشاعر؛ لأنه لم يدقق في مراعاة الأصول والقواعد، وإن الموضوع غير متين، ولكن ذلك الانتقاد الموهوم لم يؤثر على فخر الرواية ومجدها الرفيع، والذي حرض الشعراء والمنتقدين على الشاعر هو «ريشليو»؛ لأنه كان يحسده على هذا النجاح والفخر ويغار منه، ولم يقتنع هذا الرجل العظيم الداهية، الذي كاد أن يفترسه الطمع والنهم بالاستبداد بالسيطرة والهيمنة على فرنسا والخفض من الأسرة المالكة النمساوية، التي كانت منها ملكة فرنسا «آن دوتريش»، واضطراب جميع أوروبا أمامه من سياسته ودهائه، بل أراد أن يضم على هذه السعادة والسلطة والعظمة نظم الروايات؛ ليبث فيها ما يهوى من سياسته الجهنمية لتكون معينًا وممهدًا جديدًا في التأثير على العقول وفق إرادته، فابتدأ يعالج نظم بعض روايات، ولكنه لم يفلح ورأى أن رواية «السيد» قد سحبت ذيل النسيان على جميع مؤلفات عصره؛ فالتهب قلبه حسدًا وقام محاربًا كورنيي بخيله ورجله إذ سلط عليه الشعراء والكتاب.
وقد ثبط هذا الانتقاد همة الشاعر مدة من الزمن، وضنَّ على المراسح برواياته نحو ثلاث سنين، ثم عاد إلى الكتابة ووضع عدة روايات مواضيعها منتظمة استنبطها من التاريخ الروماني.
فابتدأ برواية «أوراس»، و«سينا» سنة ١٦٤٠، و«بوليوكت»، و«موت بومبيه» سنة ١٦٤٣، و«رودوجون» سنة ١٦٤٦، و«إيراكليوس» سنة ١٦٤٧، و«الكذاب» سنة ١٦٤٣.
وفي سنة ١٦٤٧ انْتُخِبَ كورنيي في المجمع العلمي الفرنسي، وكتب من ذاك الحين: «إندروميد»، و«دون صانش داراجون»، و«نيكوميد» سنة ١٦٥١، و«سيرتوريوس» سنة ١٦٦٢، و«أوتون» سنة ١٦٦٤.
وقد أبعده عن المراسح بضع سنين سقوط رواية «بيرتاريت»، ثم ترجم من اللاتينية شعرًا كتاب «تقليد المسيح» سنة ١٦٥٦؛ وكان له إقبال عظيم ونجاح باهر.
ثم عاد إلى دور التمثيل بعد أن تركها ست سنين، وظهر على المرسح ومعه رواية «أيديب» سنة ١٦٥٩ قائلًا:
إني لأحس بنفس الشعور والجرأة التي انتقدت «السيد» وحاربت «أوراس»، ولكني أجد اليد عينها التي خطت روح «بومبيه» العظيم ودهاء «سينا».
امتاز شاعرنا هذا برنة الحزن المؤثرة في قريضه، ولو أن شعره في بعض المواضع به بعض إهمال ونقص في الطلاوة والبهجة، ولكنه رنان القافية وآية في: الحماسة، والحمية، وشهامة النفس، والإباء، وقوة الإرادة، وثبات العزيمة، والتفاني في حب الوطن؛ مما يدهش السامع ويأخذ بمجامع فؤاده ويحدث له نشوة طرب لا توصف.
(١) أوراس Horace: رواية محزنة «سنة ١٦٤٠»
الملخص
كان شيخ من رومية يُسمَّى «أوراس»، وله من البنين ثلاثة شبان وفتاة تسمى «كاميي»، وكان في مدينة «ألب» التي كانت قديمًا المدينة المنافسة لرومية، وقريبة منها شيخ آخر يقال له «كورياس» وله مثل أرواس ثلاثة فتيان وفتاة اسمها «سابين»، وكانت الفتاتان مخطوبتين كل منهما لشاب من هاتين الأسرتين.
ولما انتشبت الحرب بين رومية وألب، وكل منهما تتنازع الصولجان والسلطة، وطالت بينهما الوغى، أرادا أن يجعلا حدًّا لها ويحقنا الدماء، واتفقا أن ينتخب كل من الفريقين ثلاثة أبطال ينازلون بعضهم، والفريق الغالب تكون لمدينته حق السيادة على الأخرى.
فانْتُخِبَ عن مدينة رومية أولاد أوراس الثلاثة، وعن «ألب» أولاد كورياس؛ فوقعت الأسرتان في حيص بيص، وتجاذبهما عاملان قويان: أيراعيان أواصر النسب وذمامه ويرفضان طلب الوطن وذاك محال، أم يشهران السيوف في وجه أصهارهم وذاك صعب الاحتمال، وأخيرًا فضلا تلبية نداء الوطن. وبينا النضال مستعر بين فتيان الأسرتين كان أوراس الكبير في منزله مع ابنته كاميي وسابين ابنة كورياس ينتظرون بفارغ الصبر نتيجة هذا القتال، إذ دخلت عليهم سيدة رومانية اسمها «جوليا» وهي خليلة الفتاتين لتخبرهم بخبر المعركة.
[المنظر]
ابكي الآخر ونوحي على ما لحقنا من العار الذي لا يُمحى، اندبي فراره الفاضح الذي وصمت به جباهنا، وارثي للشنار الذي دنس أمتنا والفضيحة الدائمة التي التصقت باسم أوراس.
وما من لحظة تمر بعد هذا الدور الشائن إلا وتظهر خزيي وعاره للملأ كالشمس في رابعة النهار، وسأقطع هذه الصلة وأصب جام غضبي على ولد ليس للبنوة أهلًا، وأريه حق الوالد وأقتص منه بأن أتبرأ منه على رءوس الأشهاد جزاء فعلته هذه.
ثم يدري أوراس من فالير بالخدعة الحربية التي رتبها ابنه، إذ لم يقصد بهربه إلا تفريق الكورياس الثلاثة، ثم تفرد بهم واحدًا بعد الآخر وقتلهم جميعًا، ولا يُعاب بحيلته هذه فليس في استطاعة الفرد أن يكافح ثلاثة أقران.
ولما رجع ظافرًا إلى دار أبيه كان أول من قابله أخته كاميي، وقد أيأسها وقطع آمالها موت حبيبها، ولم تخشَ بكاءه أمام أخيها، فتوسل إليها أن تفضل حب الوطن على هوى حبيبها؛ لأن الرومانيَّ مدين بحياته لوطنه، ولم يولد إلا ليحميه فأجابته بصب اللعنات على رومية.
لعنات كاميي
(ثم يعدو أوراس الصغير وراء أخته والسيف بيده مسلول.)
قد طفح الكيل ولم يبقَ في القوس منزع، والحق وحده الذي يفسح للصبر مجالًا؛ فهيا اذهبي إلى الجحيم لتأسفي هناك على حبيبك كورياس.
ما أعظم الحقيقة تتكلم باطن القلب دون أن تلغط بقول Que la Vérité parle au dedans du Coeur Sans aucun bruit de paroles
ناجني ناجني يا رباه! فعبدك مصغٍ لك، مقر بعبوديتي لأني عبدك، وأود أن أكونه وأسير على سننك ليل نهار، أَفِضْ عليَّ بروح منك لتعلمني ما تفرضه عليَّ إرادتك العلية القدسية، ووحد رغائبي في سمع فضائلك الكريمة، وجرد بلاغتك الإلهية من ساطع أنوارها وصبها داخل فؤادي بغاية السكون مخضلة بالندى البليل جزيلة لطيفة.
خاطب ربك والتمس منه أن لا يكلمنا؛ فإننا نخاف أن تعترينا غشية الموت من صوته الجهوري الرنان.
ولو أنك الفرد الذي أخشاه لكنك الأحد العلي الذي آمل أن يسمعني: ناجني يا إلهي فعبدك منصت مطيع.
لست في حاجة لموسى ليهديني سبيلك أو لنبي غيره يفسر لي شريعتك؛ إذ أنت الذي تعلمهم وترسلهم ولا أتطلب إلا صوتك العلي، وحيث إنك مصدر ما جاءوا به من الأنوار التي كان لها الفضل في إنارة ضمائرنا؛ ففي استطاعتك إن تمنحني إياها كاملة دون توسطهم فإنهم لولاك لما كانوا شيئًا يذكر.
إنهم يستطيعون أن يعيدوا كلامك، ولكنهم لا يقدرون أن يلقوا روح معناه وتأثيره؛ إذ لولاك لكان حديثهم صرخة في واد يهزأ به ويسخر منه.
ومهما صاحوا وأتوا بالعجائب في حديثهم وصدعوا بأمرك بحمية وعزيمة قوية؛ فإنهم لولا كلامك لدخل قولهم من أذن وخرج من الأخرى دون أن يؤثِّر على القلوب أو يجد إليها سبيلًا، وإنهم يبذرون الكلم الغامض البسيط العاطل، ولكنك تنير البصائر في ظلام الجهالة الحالك، وتفيض من أعلى سمائك على رسالتهم المسئمة المملة روحًا تحييها وتجعل لها قوة وتأثيرًا.
أفواههم تبلغ رسالتك كالمعمَّيات والأسرار، ولكنك تعلمنا ما خفي من المعاني، ولولا نفحاتك الربانية وفيوضك العلوية لما فهمنا ما يلقونه إلينا من شرعك وسنتك. يدلوننا على الطريق، ولكنك أنت الذي تعطينا من القوة ما تستطيع به أقدامنا سلوكه لنهايته. وكل ما يجيئنا منهم لا يتجاوز إلا الظاهر، ولكن قدرتك تنفذ إلى أعماق كل شيء.
لولاك لما سقوا إلا ظاهر النفس، ولكنها تستمد خصبها من قوتك؛ إذ كل ما ينيرها ويحمسها لا يصدر إلا من قدرتك وإرادتك.
وقصارى القول: إن هؤلاء الأنبياء الذين ملئوا الأرض قولًا وصياحًا إذا كانوا لا يؤثرون على عقولنا مما أفضت عليهم من نفحاتك القدسية لما عددناهم إلا في عداد الأصوات الصائحة.
صه إذن يا موسى! وتكلم بدله أيها الدائم الثابت. ناجني يا حق؛ لئلا أموت مدفونًا في ثلوج تجردي من الفضائل، وإن تزد نعمك العميمة وأفضالك العظيمة رغبتي واشتياقي إلى مناجاتك فالموت خير لي.
وإن لم يؤثر الوعظ على القلوب ولم يمس إلا الظواهر كانت عاقبته وخيمة؛ لأنه يُسمع برغبة وقتية، ويعرف من غير أن يحب، ويؤخذ قضية مسلَّمة دون مناقشة، وهذا مما يميت القلوب؛ ولذلك اقتضت حكمتك وعدالتك أن تعاقب الجاحد وتجازيه جزاءً وفاقًا.
ناجني إذن يا رباه؛ فعبدك الأمين المخلص قد جمع حواسه وأيقظها لتنصت إلى مناجاتك؛ إذ تجد حلاوة الحياة الدائمة في لهجتك العلية.
ناجني لتعزي نفسًا أضنتها الحيرة، ناجني لتقودها إلى ما يرفع شأنها، ناجني إذن فمجدك الرفيع ما زال ناميًا ساميًا.
قصيدة إلى المركيزة Stances à la Marquise
وهذه الأمة التي تجلني لا تعتبرك من ربات الجمال إلا بقدر ما قلته فيك، وافتكري أيتها المركيزة الحسناء أنه ولو كانت النواظر تنفر من الشائب؛ فجدير به أن يلاطف ويستمال إذا كان مثيلي.
يجب على الناس أن يساعد بعضهم بعضًا Les hommes doivent s’entre-secourir
تألم وتوجع من عيوب الناس دون أن تنبس بسخط أو شكوى مهما أتوا من كبائر العيوب، واعلم أن كلامنا به منها ما يجعل الناس تئن منه. وإن كان ضعف عزيمتك يضع أمامك من العقبات ما يحول دون أمانيك؛ فكيف تطلب هذه المعجزة من غيرك كما تريد وتهوى؟
أليس من الظلم البيِّن أن تبتغي من غيرك أن يكون كاملًا بينا أنت مغموس في مساوئك، ولا تروم أن تطهر نفسك منها لتكون نموذجًا لغيرك؟!
ولو كان الكل كاملًا لاستراح الناس ولم يلاقوا في الدنيا ما يتألمون منه ويحتملونه لوجه الله، ولم يجد هذا الصبر المشبع بالفضائل مسوغًا له، ولكن حكمة الحكيم اقتضت غير ذلك.
ما من أحد خالٍ من العيوب وضعف العزيمة، غير محتاج للمعونة، ويكفيه عقله وحده لأن يكون عاقلًا كيِّسًا أو عزيمته وحدها لأن يكون قادرًا قويًّا.