جان راسين١
نادرة من الشعراء المفلقين الفرنسيين الذين مهروا في الشعر المحزن، وُلِد بمدينة «لافيرتيه ميلون» سنة ١٦٣٩، ومات بباريس سنة ١٦٩٩. مات أبوه وأمه وتركاه يتيمًا في الرابعة من عمره، وأُدْخِل في العاشرة مدرسة «بوفيه»، وفي السادسة عشرة أُلْحِقَ بمدرسة «بوررويَّال» لتتميم دراسته، وكانت أساتذته فيها «نيكول» و«هامون» و«لانسيلو»، وقد صيَّره هذا الأخير من نوابغ العارفين بأحوال قدماء اليونان وتاريخهم وآدابهم، ثم درس الفلسفة بكلية «أركور».
وفي سنة ١٦٦٧ وهو في السابعة والعشرين ظهرت روايته الشهيرة «أندروماك»، وبها طارت شهرته وأثبتت اقتداره الفائق في فن وضع الروايات؛ ومن ذاك الحين تتابعت مؤلفاته، وكلها آيات معجزات تعاقبت في ظرف عشر سنين وهي: «المحامون» سنة ١٦٦٨؛ رواية مليحة النِّكات، وست روايات محزنة، وهي: «بريتانِّيكوس» سنة ١٦٦٩، و«بيرينيس» سنة ١٦٧٠، و«باجازيت» سنة ١٦٧٢، و«ميتريدات» سنة ١٦٧٣، و«إيفيجيني» سنة ١٦٧٤، و«فيدر» سنة ١٦٧٧.
دخل في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٦٧٣، وكان من المقربين عند الملك لويس الرابع عشر؛ إذ جعله مستشارًا له ومؤرخًا.
وبعدما بلغ هذا المجد الرفيع اعتزل المراسح وهو في السابعة والثلاثين؛ من حملات الكتاب والشعراء الظالمة على رواية «فيدر»، ورموه بوساوس دينية بالنسبة لعواطفه ووجدانه في اعترافاته في هذه الرواية.
ثم تزوج بفتاة ساذجة تقية تُدْعَى «كاتيرين رومانيه»، ورُزِقَ منها بخمس بنات ترهبت منهن اثنتان، وولدين أحدهما «لوي راسين»، وكان من مشاهير الشعراء والكتاب.
لبث هاجرًا المراسح اثني عشر عامًا، ثم ألحت عليه مدام «مانتينون» بأن يكتب روايتين لفتيات مدرسة «سان سير»، ويكون موضوعهما مستنبطًا من التوراة؛ فأجاب طلبها ووضع رواية «إيستير» سنة ١٦٨٩، و«أتالي» سنة ١٦٩٠، ومثَّلتهما بنات المدرسة السابقة؛ فحازت الأولى إقبالًا عظيمًا، ولكن الثانية لم تصادف ما أحرزته الأولى، ولو أنها أبلغ ما خطه بنان الشاعر، والسبب راجع إلى التمثيل؛ لأن الفتيات لم يحسنَّ تمثيلها وأطفئوا بلاغتها المتوقدة.
وكتب نثرًا «ملخص تاريخ بوررويال»، وجملة رسائل بليغة وقطعًا تاريخية، ويُشَاع أن الملك لويس الرابع عشر غضب عليه في أواخر أيامه؛ فاغتمَّ غمًّا شديدًا أودى بحياته.
إن قارنَّا رواياته المحزنة بروايات كورنيي نجدها مطابقة مثلها القاعدة «الواحدة» المتبعة في الشعر المقيد، وهي تشترط في ثلاثة أمور: «بساطة الموضوع»، و«حصوله في يوم واحد»، و«وقوعه في مكان واحد أو مدينة واحدة».
- أولًا: أنها أقل حماسة وتأثيرًا، وأشخاصها القريبون من الحقيقة ضعاف العزيمة كأغلب الناس، وعواطفهم ليست دائمًا شريفة ولا أعمالهم خارقة للعادة؛ فلذلك قال «لا برويير La Bruyére»٤ «كان كورنيي يمثل الناس كما يليق ويجدر بهم، وراسين يصورهم كما هم عليه.»
- ثانيًا: مؤلفاته كلها ما عدا «إيستير» و«أتالي» مفعمة بالعواطف العادية العامة من حب يختلف بين: الرقة، والحياء، والشدة، والنحس، والجرم. ولكن كورنيي وضع الحب في صف ثانوي، وأتبعه بعواطف راقية شماء كالشرف وحب الوطن، وترى في روايات راسين أن النساء تحرز المكان الأرفع؛ فلذلك تحدث الناس بأبطال كورنيي الذكور وفرسان راسين الإناث.
- ثالثًا: أنها لا تثير من النفوس حميَّتَها وحماستَها وإعجابها مثل كورنيي، ولكنها تُحدث تأثيرًا مغايرًا كإيقاظ الشفقة في القلوب والهموم والمخاوف، وبث عواطف الحب، ولكن كورنيي ترنَّم بشعور العظمة والإباء وعزة النفس.
- رابعًا: أن كورنيي كان يمنح أشخاص مؤلفاته الذين استنبطهم من العصور القديمة مبادئ الشهامة والمروءة والتبجح بأعمالهم الجليلة، ولكن راسين كانت رواياته مرآة تنطبع فيها أحوال عصره وأخلاقهم وعواطفهم ومبادئهم الاجتماعية تحت حكم لويس الرابع عشر.
- خامسًا: إنشاء راسين متين متساوي الأطراف شائق نقي شجي تلبسه جرأة متوارية.
(١) نبذة من رواية إيفيجيني Iphigénie
اخْتَطَفَ «باريس» بن «بريام» — ملك طروادة — «هيلانة»، زوجة «منيلاس» — ملك إسبرطة — فاستشاط غضب اليونان، وأجمعوا على حصار طروادة وتخريبها، وحشدوا جيشًا عظيمًا، وجهزوا أسطولًا في ميناء «أوليس» بقيادة «أجاممنون» أخي «منيلاس» وأبي «إيفيجيني»، ولكن خانتهم الرياح ولم يستطع الأسطول أن يقلع؛ لأنه كان شراعيًّا فأصبح الكل يتلهب غيظًا لما طال المدى عليهم هم منتظرون بلا طائل، فاستشار أجاممنون الوحي بواسطة العرَّاف «كلكاس»، فرد عليه قائلًا: إن الرياح لا تهب إلا إذا ضحت اليونان فتاة من دم يوناني قربانًا للآلهة، وظهر له أن هذه الفتاة هي إيفيجيني.
وقد طلب أجاممنون ابنته في المعسكر ليحميها من الهلاك، مدعيًا أنه ما طلبها إلا ليزوجها أشيل أعظم أبطال جيشه، ولكنه وبخه ضميره فأرسل أركاس تابعه الأمين ليمنعها عن المجيء، وكان ذلك بعد فوات الوقت؛ إذ حضرت ابنته ووالدتها «كليتيمنيستر» والفتاة «إيريفيل» أسيرة أشيل، وكانت هذه الأخيرة هائمة بهذا البطل؛ فبذلت وسعها لتستحوذ على فؤاده وتنسيه إيفيجيني.
ورغمًا عما بذله أجاممنون من التكتم، فقد أنبأ أركاس والدة إيفيجيني بأمر الآلهة، وخضع أجاممنون لمشيئة الوحي، وجاء يطلب ابنته بنفسه ليقودها إلى كلكاس.
ولم سمع أشيل هذا الخبر أقسم بأن يدافع عن إيفيجيني، بينا تعاتب كليتيمنيستر زوجها على هذه الخيانة، وكان الملك في أول الأمر متكبرًا معجبًا غير متأثر، ولكنه رق أخيرًا وتعطف على الفتاة وأمها، وأشار عليهما بالهرب لينجوا من هذا المصاب الأليم، ولكن إيريفيل نمت بما تم من أمر الملك إلى اليونان، وبينا إيفيجيني ماشية بعزم قوي إلى المذبح إذ قال العراف كلكاس: بأن إيريفيل من دم يوناني أيضًا، وهي التي تجب تضحيتها؛ فانتحرت الفتاة حينما سمعت هذا، ونجت إيفيجيني وهبت الرياح كما اشتهت السفن، وسافر الأسطول واشتفت قلوب أبطاله بعدما يئسوا من الانتظار الممل.
[المنظر]
وإن كنت ترى أن هذا الاحترام والطاعة يستحقان أن يكافآ بجزاء آخر، وإنك مشفق على آلام هذه الأم ورائف بها؛ فإنني أتجرأ أن أقول: إنه ربما صادفني من المجد والشرف ما أحاط بحياتي من كل صوب مما لا يجعلني أتمنى الموت ولا أبغي أن القضاء المبرم يصل طرفيْ حياتي ويقرِّب مولدي من مماتي.
أنا ابنة أجاممنون، وأول من ناداك بالوالد، بل بهذا الاسم الجميل، وأنا التي مضى عليَّ ردح من الزمن وأنا قرة عينك، وإنك لهذا الاسم٧ كنت تحمد الآلهة على نعمهم، ولأجله كنت تغمرني بملاطفاتك التي ما ألجأك إلى الإسراف فيها إلا موضع الضعف٨ من الأبوة وحنانها، وللأسف كنت أسرد والسرور ملء فؤادي أسماء البلاد التي ستدوخها متفائلة بانتصارك على اليون،٩ وكنت أعد معدات عيد هذا الظفر، وما كنت منتظرة أن يُفتتح بأن تهرق دمي ولا خوفي من هذه الضربة هو الذي يذكرني بطيبتك الماضية.
لا تخشَ أمرًا فإن قلبي ليغار على مجدك وشرفك، ولا يجترئ أن يقترف ما يحمِّر من أب مثلك الوجه خجلًا، ولو كنت لا أفكر إلا في الدفاع عن حياتي لكنت أستطيع أن أحفظ تذكارًا جميلًا، ولكنك تعلم لسوء حظي وعثار جدي أن هناء أمي وحبيبي مرتبط بي، وأن ملكًا يجلك يود لو يرى يومًا يشهر فيه زفافنا الفخم.
وثق حبيبي بقلبي الذي وُعِدَ بهواه، وقد عَدَّ نفسه سعيدًا حينما وعدته بزواجي، فما قولك في خوفه وإشفاقه إذ يعلم قصدك، وترى والدتي أمامك تذرف وابل الدمع؛ فعفوًا عما سولت لي به الآن نفسي لتدارك عبرات تسيل بسببي.
أتظنين أن هذا الحب الذي تعترفين به بنفسك، وفي هذه الليلة أُخْبِرْتِ بأني أعلنتُ بطلان هذه الإرادة التي جعلوني أقبلها لفائدة اليونان التي سينالونها منك، وذهب أركاس ليمنعك عن المجيء ولات حين مناص؛ إذ لم تشأ الآلهة أن يصادفك، وخدعوا ما بذله أب تعس سيئ الحظ، يحميك بلا طائل ولا جدوى مما صبوه عليك من العقاب الأليم.
لا تعتمدي على قوتي الضعيفة في حمايتك والدفاع عنك؛ فلا أحد يستطيع أن يوقف حرية شعب عند حد إن أرادت الآلهة رفع نير الاستعباد عن عاتقه؟
فإذن يجب عليك بنيتي أن تخضعي فقد أزفت ساعتك، وفكري جيدًا في أي مرتبة ربيت ونشأت، وإني أعظك بهذه النصية التي لم أكد أتلقَّاها. واعلمي أن موتك أهون مما سأعانيه بعدك من الحسرات والآلام التي تهدُّ شوامخ الأطواد.
أظهري عند موتك من أين أتيت، وأخجلي الآلهة الذين ظلموك بهذا العقاب الأليم، واذهبي ليعرف اليونان دمي وهو سائل منك حينما يضحونك.
عجبي منك كيف تتصنَّع أمام أعيننا بهذا الحزن الكاذب؟ أتفكر أنك تخدعنا بهذه الدموع لتبرهن على حنانك وشفقتك؟! وأي حرب خضعت غمارها لأجل ابنتك أو دم أسلته لها؟ أم أي أثر هنا يدل على مقاومتك أو ميدان غطيته بأشلاء الموتى يلجمني ولا يدع لي وجهًا للكلام؟ وبأي شهود تثبت أن حبك لها سوَّل لك نجاتها.
حَكَم القضاء المبرم بقتلها، ولا أظن أن الوحي يؤخذ من ظاهر قوله، وهل الآلهة العدل يشفون أوار غليلهم بهذا الموت الشريف وهذا الدم البريء؟
عجبي لك! فأي جنون ألجأك لأن تكون ضحية له، وأن تحمِّلنا تبعة جرم أخيك، ولِمَ أدعني أمزق جيوبي غمًّا وأعطيه دمي النقي ثمنًا لحبه الأحمق؟
وإني لا أصدق أن حب الأخ وشرفه الموصوم هو الذي دعاك لهذا الاهتمام وعجلت لأجله، كلا بل أمانيك في الملك التي لا تنطفئ من قلبك، والإعجاب برؤية عشرين ملكًا تخدمك وتخشاك، ويعهد إليك بمقاليد أمور المملكة التي عبدها فؤادك، وتريد أن تضحي لأجلها ابنتك أيها القاسي الغليظ القلب، ولا يحركك قلبك لترفض هذه الضربة الفاجعة التي تريد أن يكون لك بها فضل وحشي.
تغار على ملك تُحسدُ عليه أن نلته، وتود أن تبتاعه بدمك راغبًا أن تفحم كل مجترئ أراد أن ينازعك فيه. أتُعَدُّ إذن والدًا؟ آه! إن فكري يسلم ويقر بقسوة هذه الخيانة.
وذاك الكاهن الذي التفت حوله فئة ممن لا قلوب لهم ولا خلاق يريد أن يمد يدًا أثيمة إلى ابنتي، ويمزق أحشاءها، ويستشير الآلهة بعين زائغة وقلب خفاق، وأنا الذي أتيت بها وهي متهللة مستبشرة معجبة بجمال يسلب النهى، أرجع على عقبيَّ وحدي بخفيْ حنين يائسة بائسة! وأرى الطرق ما برح عرفها الشذي متضوعًا مما نُثِرَ تحت أقدامها من الأزهار.
كلا فإني لا أقودها إلى العذاب أو تضحَّى لليونان ضحيتان، ولا خوف أو احترام يستطيع أن يفصلها مني أو ينزعها من بين ذراعيَّ إلا بعد أن يدميهما، يا لك من بعل وحشي وأب قاسٍ! تعال لتريني كيف تقدر أن تنتشلها من بين يدي أمها؛ فادخلي إذن يا بنيتي وأطيعيني على الأقل للمرة الأخيرة.
(٢) فيدر Phèdre
(٢-١) الملخص
رواية محزنة ذات خمسة فصول، مُثِّلت للمرة الأولى على مرسح «الكوميدي فرانسيز» في أول يناير سنة ١٦٧٧، وقد مَثَّل فيها راسين غرام فيدر المحرم، وهي زوجة «تيزيه» لابن زوجها «أببوليت»، الذي كان نموذجًا للشرف والعفاف والطاعة النبوية، وكان هذا الشاب عاشقًا لفتاة تُدعى «أريي»، رقيقة العواطف ذكية الفؤاد قوية العزيمة، وكان «تيزيه» يمثل أبًا يُرْثَى لحاله لما انتابه من المصائب، كما يمثل «تيرامين» وهو مُؤَدِّب أببوليت الفصاحة والبلاغة، و«إينون» مُرْضِع فيدر ذات نفس منحطة تخلص ولو في الاشتراك في الجرم.
وأهم ما تدور عليه الرواية وبيت القصيد فيها هو أحوال فيدر المدهشة، التي ربما كانت الأولى في بابها في جميع الروايات الفرنسية.
كانت عواطف فيدر وغرامها المبرح قاسية شديدة، دارت على جميع أوجه الحب من: توسل، ولعن، وغضب، وغرور، وخرف حقيقي. وكانت فيدر ليست عديمة الضمير بالمرة، بل كان يجعلها تقاوم وتناضل وتتأَلم وتئن إلى أن تابت قبل موتها، ولا داعي للتطويل في سرد هذه الحوادث؛ لأن أغلبها موجودة في النبذة التي عربناها.
(٢-٢) نبذة من رواية فيدر
المنظر الثالث من الفصل الأول
إن وجهي يا إينون علته حمرة الخجل؛ إذ تركت آلامي المخجلة ظاهرة للعيان، والعين غارقة بعبراتها رغمًا عني.
خيم الليل ثلاثًا وكرَّ عليه النهار ثلاثًا فبدَّده، ولم يطرق الكرى لك عينًا مذ رزح جسمك تحت وطأة الألم والسقم دون طعام، ماذا تسول لك به النفس من سيئ المقاصد؟ وبأي حق تريدين أن تفتكي بنفسك، مهينة الآلهة الذين تفضَّلوا عليك بنعمة الحياة، وتخونين زوجًا ربطتك وإياه عرى العهد، والميثاق، وأولادًا بؤساء يحملون بعدك نيرًا قاسيًا. أتؤملين أنه في اليوم الذي فيه تفارقينهم يتعطف عليهم ابن الأجنبية عدوك وعدو أسرتك، هذا الولد التي حملته «إحدى الأمازون»١٨ في أحشائها وهو إيبوليت.
متى غرَّتك ذمتي أيتها القاسية؟ ألا تعلمين أن ذراعيَّ هما اللذان تلقياك عند الوضع؟ أتجهلين أني فارقت وطني وأولادي لأجلك؟ أبذلك تكافئين إخلاصي ووفائي؟!
ستسمعين نهاية القبح فإني أحب … ولهذا الاسم المنكود أرتجف وأرتعد. أحب …
ثار بنفسي الحائرة ثائر الاضطراب، وأصبحت العين لا تبصر ولا أستطيع التكلم، وكنت أشعر أن جسمي يتثلَّج تارة ويحترق طورًا، وقد عرفت الحب ونيرانه المخوفة وما يطاردني به من العذاب الأليم الذي لا يؤمن شره، وظللت أوالي الدعوات لأحيد عما يؤلمني ويؤذيني.
بنيت للهوى معبدًا واعتنيت بتزيينه، وكنت محاطة بالضحايا في كل آونة باحثة بين جوانبهم عن صوابي الضالِّ، ولكن الدواء لا ينجع فيما أزمن واستعصى من الأدواء، وكنت أحرق البخور على المذبح بلا طائل ولا جدوى، وعندما يتوسل فمي إلى الزهرة كنت أكاد أعبد إيبوليت، وأراه بلا انقطاع بجانب المذبح الذي كنت أبخره.
كنت أقدم جميع ما لديَّ لهذا المعبود من دون الله، ومن لا أستطيع أن أسميه فكنت أتجنبه في كل مكان؛ فيا لمنتهى الشقاء إذ كنت أرى ملامح أبيه مرتسمة في وجهه فأضطرب وأثور.
كنت أبذل الجهد في اضطهاده لأبعد عني عدوًّا أصبحت أهيم به وأعبده وأتصنع الحزن والهم كعادة نساء الآباء الظالمات مجتهدة في نفيه وإبعاده، والفضل في انتزاعه من أحضان أبيه راجع إلى صياحي المستمر.
وقد استنشقت الحياة منذ غيابه، وقضيت أيامي في الدعة والسكون، خاضعة لبعلي كاتمة عنه قلقي، واستثمرت هذا الثمر من زواجه المشئوم، ولكن لا يغني حذر من قدر!
وحينما ذهبت مع زوجي إلى «تريزين» بصُرت هناك بعدوي الذي كنت أفر منه، وانفجر جرحي الذي لم يندمل، وليس الحب مختفيًا في عروقي، بل الحب أجمعه الذي اقتنصني غنيمة له ولم أفلت من مخالبه، وقد سبَّب لي جرمي فزعًا عظيمًا؛ حتى أبغضت الحياة وكرهت الحب، ووددت لو أقضي نحبي لأحفظ مجدي، وأداري غرامي المشئوم عن العيون؛ ولم أستطع أن أوقف دموعك وأدفع مقاومتك، وقد بحت لك بكل شيء ولا داعي إذن للتوبة حيث أقترب الأجل؛ فلا تؤلميني بعتبك الظالم، وأن تكفي من إسعادك وغياثك الذي يذكرني بالبقية القليلة من حياتي التي أوشكت أن تنقضي.
المنظر الخامس من الفصل الثاني
ماذا أقول؟ لم يمت أبوك قط إذ يحيا، وإني أتصور أني أشاهد بعلي وأحادثه، وقلبي … قد ضللت وضاع مني النهى أيها الأمير، وظهرت حميتي رغمًا عني.
وقد سلحته أختي بالخيط المشئوم، بل أنا التي سبقتها في هذا العزم؛ لأن الحب أنار بصيرتي. فأنا إذن أيها الأمير التي هدتك السبيل في مسالك «لابيرنت» المضلة، وكم كلفني من الشجون والآلام هذا الرأس الجميل! ولم يك هذا الخيط ليضمن لك حبيبتك وقرينتك في الخطر الذي ذهبت إليه، وقد أردت أن أسير أمامك فتلج معك فيدر «اللابيرنت» لتشاطرك النجاة أو الهلاك.
انتقمت مني الآلهة بأن سلطت عليَّ هذا الحب، وإني أمقت نفسي أكثر مما تبغضني كما تشهد الآلهة الذين أشعلوا نار هذا الحب المنكود في دمي. ظن هؤلاء الأرباب أنهم أتوا بمجد عظيم بأن فتنوا فؤاد امرأة ضعيفة فانية.
يذكرك الماضي بأنني كنت أطاردك لأهرب من حبك أيها القاسي، وكنت أستثير حقدك لأقاوم حبك؛ ولكن كل ذلك لم يُجْدِ نفعًا، فإنك كلما زاد بغضك لي زاد حبي لك وكانت مصائبك لي فتنة وسحرًا جديدًا.
ضنيت ونحلت من نار الهوى والبكاء، ويكفي لإقناعك أن تشاهدني بعينيك إن استطاعتا أن تحدقا في وجهي؛ فماذا تقول في هذا الاعتراف المخجل؟ وهل تظنه إراديًّا؟
جئتك مضطربة راجفة لولد لا أقدر أن أبغضه، متوسلة إليك بأن لا تحقد عليه، ولكن لكون القلب مفعمًا بالحب أهمل عزمه فلم أتكلم إلا عنك؛ فانتقم واقتص مني لهذا الحب الممقوت، وخلِّصْ العالم من وحش يغيظك؛ لتكون أهلًا لأبوة بطل عظيم أوجدك في الدنيا.
أتُقْدِم أرملة تيزيه على حب إيبوليت؟ أتظن أنني هذا الوحش الهائل الذي تفرُّ منه. هاك قلبي وهو الموضع الذي يجب على يدك أن تطعنه، فرغ مني الصبر لتكفير الإهانة، وأشعر بأن قلبي يتقدم نحو ذراعك.
اضرب وإلا أن ظننت أنه ليس أهلًا لضربتك، أو كان حقدك يحسدني على هذا العذاب الذي أستعذبه وأستمرئه أو كنت تستنكف أن تدنس يدك بدم حقير، فأعرني سيفك إن أعوزني ذراعك.
المنظر الثالث من الفصل الثالث
سيلتزم الصمت بغير جدوى، وإني أعرف خيانتي يا إينون، ولست من النساء المستهترات اللاتي نضب منهن ماء المحيا؛ فلا يبالين بالفضائح والمعرَّات، ويستمرئن مرعى الجرم، ويذقن فيه الدعة والسلم؛ حتى عرفن أن يحملن جبينًا لا يضرِّجه الخجل.
إني أعلم حدتي وأذكرها، ويخيَّل إليَّ أن هذه الجدران والقباب ستنطق وتتهمني منتظرة بعلي لتوقفه على حقيقة الأمر؛ فلنمت لتخلصنا شعوب من جميع هذه الأهوال.
هل الموت مصيبة عظمى؟ كلَّا؛ فإنه لا يحدث أقل فزع للتعساء المنكودين، ولا يعبئون به، ولست أخشى غير الاسم الذي أتركه بعدي ميراثًا مروعًا لأبناء عَثَر بهم الجد!
إن دم «المشترى» يجب أن يجرئهما؛ إذ يحق لهما أن يفتخرا بنسب عظيم، ولكن إثم الأم عبء ثقيل، وأخاف أن يعيِّرهما أحد بجرم والدتهما يومًا ما؛ فيضاما بهذا الحمل الشنيع، ولا يستطيع أحد منهما أن يرفع عينيه من الخجل.
ولو قدر وسفك دمه فإنه يكون فداءً لشرفك المهدد، وإن الابن لكنز ثمين لا يُستطاع الفتك به؛ فأطيعي إذن جميع ما يتطلبه منك شرفك يا سيدتي؛ إذ لأجل نجاته مما حاق به يجب عليك أن تضحي لأجله كل شيء حتى الفضيلة. قد أقبل الناس وأرى بينهم تيزيه.
المنظر الثاني من الفصل الرابع
اركب متن الفرار إن كنت تريد أن تنجو من قصاص مفاجئ يلحقك بالمجرمين، الذين اقتصت منهم يدي هذه، وحذارِ أن تراك الشمس التي تضيئنا واطئًا بقدمك الجسورة هذه الأماكن، عَجِّلْ بهربك دون أن تؤمل العودة لتطهر ممالكي من مرآك الشنيع.
وأنت يانيبتون، أتذكر أن شجاعتي التي قطعت بها دابر العرر من سفاكي الدماء وطهَّرت منهم شاطئك، وقد أردت أن تكافئني على ما بذلته من الجهد بأن تستجيب لي أول دعاء، ولم أتوسل إليك لتنقذني من شدائد السجن القاسي؛ إذ كنت حريصًا على معونتك وإسعادك، فأرجأت دعائي وادَّخرته لما هو أهم وأعظم. فالآن أبتهل إليك أن تنتقم لأب سيئ الحظ، وقد تخلَّيت عن هذا الخائن وتركته لغضبك؛ فاخنق ما جرى في دمه من وقيح الآمال، وسيعترف تيزيه بأفضالك ونعمك عندما تستشيط غضبًا.
حملتني في أحشائها طاهرة عفيفة من الشجاعة والإقدام بمكان رفيع، فلم أكذب دمها وأظلمها، وكان بيتيه موصوفًا بالكياسة والذكاء بين جميع العالم، وقد تفضل بتهذيبي، وإني لا أود أن أصف نفسي بأكثر من ذلك، وأظن يا أميري أن حظي الذي أحرزته من الفضائل هو الذي أشعل الحقد عليَّ؛ فرموني بهذه الكبائر الفظيعة، وإن إيبوليت لمعروف في جميع اليونان بأنه بلغ منتهى الفضيلة، وإنك تعرف من شجوني ثبات عزيمتي في الشدة والجفاء، وليس النهار بأنقى من قلبي؛ أبعد ذلك يريدون من إيبوليت أن يفتن بنار حب دنس؟!
المنظر السادس من الفصل الخامس
ولما كانت جياده الحسان كما عهدها الناس ملئت حمية، لبت صوته وزاغت منها الأبصار، وطأطأت الرءوس يحسبها الإنسان أنها وفق فكرة الحزين؛ إذ خرج من اللجج صوت مزعج عكَّر صفو الهواء، فأجابت الصافنات الجياد هذا الصياح المرهب بصهيلها، فتثلَّج دمنا في أعماق أفئدتنا، وانتصب شعر أعراف الخيل، وارتفعت على ظهر اليم لجة كالطود واقتربت، ثم تكسرت وقذفت بين الزبد وحشًا هائلًا عريض الجبين مسلح الرأس بقرنين مزعجين، وجسمه مغطى بقسور مصفرة، كأنه ثور صعب المراس أو تنين عظيم البأس، التف عجزه فأحدث ثنيَّات معوجة ملتوية، وقد ارتجف من هول زئيره الشاطئ ومادت الأرض وأوبأ الهواء، وتقهقرت اللجة التي حملته وهي مروعة منه، وهرب الجمع، والتجأ إلى المعبد المجاور دون أن يتسلحوا بشجاعة لا تعني ولا تنفع، ولبث إيبوليت وحده فكان أهلًا لأن يكون ابنًا لبطل حلاحل. فأوقف خيله وقبض على حرابه وطعن الوحش بيد لا تخطئ طعنةً نجلاء أصابته في عِطفه طفر من حر ألمها الوحش، ووقع زائرًا تحت أقدام الجياد متمرغًا مظهرًا فمًا ملتهبًا فغطَّاها بنار ودم ودخان، فأخذها الفزع وصمَّت آذانها هذه المرة عن استماع الزجر ولم يغن صاحبها ما بذله من الجهد لكبح جماحها؛ حتى كلَّ ساعده وخارت قواه وضرَّجت الخيل اللجم بما يخرج من أفواهها المزبدة الدامية، ويقال: إنه شوهد في هذا الهرج الهائل إله يضغط على جنوب الخيل المغبرة بمهمازه وهو بها الوجل بين الصخور ففرقع محور العجلة وانكسر، وشاهد البطل إيبوليت عجلته وهي تتحطم إربًا إربًا، ووقع هو بنفسه والتفَّت عليه الأعنة.
فاعذرني لألمي ومصابي، فإن هذا المنظر القاسي سيفجر ينابيع الدمع من شئوني فلا تجف مدى العمر، وقد نظرت أيها الأمير ولدك البائس تجره الخيل التي أطعمها بيده، وكان يود لو يذكرها بحسن صنيعه، ولكن صوته كان يزيد في إزعاجها، واستمرت في عَدْوِها حتى أصبح جسمه داميًا كأنه جرح، وقد ملأنا السهل بصياحنا واستغاثتنا، ثم هدأ قليلًا جماح الجياد ووقفت على مقربة من المقابر العتيقة التي كانت بالملوك أجداده ذخائر باردة جامدة؛ فهرولت إليه متأوهًا وتبعني حرسه، وهدانا إليه ما خطَّه دمه الشريف على الصخور، وأخذ العوسج الممقوت من خيله جلبابًا داميًا. ولما وصلت إليه ناديته فمد إليَّ يده وفتح عينًا مائتة ثم أطبقها فجأة، وقال: «قضى الإله بأن ينزع مني حياة بريئة فارع بعد موتي «أريسي» الحزينة البائسة بعين عنايتك أيها الصديق العزيز، وإن تبيَّن الرشد من الغي لأبي يومًا ما ورثى لمصيبة ابن اتُّهم كذبًا وظلمًا فقل له إن أراد أن يلطف دمي وخيالي الشاكي فعليه أن يرأف بأسيرته ويعاملها بالرقة والحنان ويرد إليها …» وعند هذه اللفظة أسلم الروح هذا البطل، ولم يترك بين ذراعيَّ إلا جسمًا مشوهًا ممثلًا به. فيا لمسكين يرثي له ظفر به غضب الآلهة حتى إن عين أبيه تنكره.