ألفونس دو لا مارتين١
وبعد قليل كان في رأس الحركة الثورية، ولما أسست الجمهورية الثانية كان عضوًا في الهيئة الحاكمة المؤقتة ووزيرًا للخارجية، وقد حازت الخطبة التي ألقاها في ٢٥ فبراير ضد الثورة استحسانًا وشهرة.
ووجد نفسه في ١٥ مايو عاجزًا عن مقاومة الجمعية العمومية، وقد أجهزت عليه أيام شهر يونيو، فلم يحز في الجمعية التشريعية إلا انتخابًا جزئيًّا، ثم أبعده استبداد شهر ديسمبر عن السياسية نهائيًّا.
وأشهر مؤلفاته بعد سنة ١٨٤٨ «المسارَّات» سنة ١٨٤٩، و«جينفييف» و«نحات أحجار سان بوان» سنة ١٨٥١، و«جرازييلا» سنة ١٨٥٢، و«دروس علوم الأدب» سنة ١٨٥٦.
وكانت أواخر أيامه كلها بؤسًا متواصلًا، وعاقبه كده واجتهاده بالفقر المتواصل، وألجأه نكد الأيام لأن يقبل من الحكومة الملوكية ٥٠٠٠٠٠ فرنك هبة يعيش من ريعها سنة ١٨٦٧، ومات بعدها بسنتين سنة ١٨٦٩ في دار بباسي «من ضواحي باريس القديمة» التي منحها من مدينة باريس.
وكان كتابه «تأملات الشعر الأولى» لفرنسا شعرًا جديدًا خرج من صميم فؤاد الشاعر، حاويًا لدقة الصناعة وحماسة اللهجة وسلاسة النظم، تَرْجَمَ فيه عن انفعالاته وآلامه غير ما حوى من المباحث الفلسفية والدينية، أما كتابه «الانسجام الشعري والديني» فيعوزه كثير من صفات السابق، ولقد بهر الناس بكتابه «جوسلين»، وهو رواية نظمية من أبدع ما كتبه، وإن كان انتقد في بعض مواضع منه لتقصير في صوغ القريض، فإن عددًا عظيمًا من صفحاته كان نموذجًا للنظم ومثالًا للبلاغة والفلسفة. وأما مؤلفه «التفرغ للقريض» فإن العيوب تشوبه من كل ناحية، وهو غزير المادة عظيم الفكرة، ولكنه ضعيف الصياغة وبه بعض قطع رقيقة العبارة دققية الإشارة.
وقد انتقده أحد الأدباء العصريين «المسيو لانتيلاك» في كتابة «علوم الأدب الفرنسية»؛ فأنحى عليه بمر الانتقاد، ولكنه مصيب في رأيه، حيث قال: «كان لا مارتين نائبًا وخطيبًا، ولكنه ليس بالرجل السياسي، وكان في آخر عهده بمجلس النواب يجلس بينهم وكأنه في عالم آخر، ويتكلم ويذهب قوله من النافذة أدراج الرياح، ومؤرخًا وليس من فرسان ميدان التاريخ، وروائيًّا كثير التكلف دون أن يكون له صفة في الفن، ومنتقدًا وليس للانتقاد أهلًا، وناثرًا ولم يوهب سلامة الذوق في النثر، ورغمًا عن تقلبه في جميع هذه الفنون، فإنه لم يتقن غير صناعة القريض التي امتاز بها وحدها، وبرز فيها على الأكثرين من فحول الشعراء.»
كلب المنفرد Le Chien Du Solitaire
شتان بين سعادة هذا وشقاء وحيد منفرد يدخل ذراه صامتًا؛ فلا يسمع وقع خطوات تلقاه أو صوتًا يرن في أذنه، أو يجد فردًا يشاطره آلامه ويقاسمه شجونه غير هذا الكلب الودود القديم الذي ينبح حينما يسمع خطاك. ولا قلب يفكر فيك وينتظر مجيئك سواه.
وعينه التي تشاهدك في حلك وترحالك وإن كانت لا تستطيع البكاء، لكنه حينما يراك باكيًا يفهم حالتك؛ فيكاد يتفطر منه القلب رحمة وحنوًّا لك، لا يرفع عينه من مرمى نظرك، ولا يحولها عنه، وإن غبت أصبح حائرًا يقلب طرفه في أنحاء البيت كأنه ينشد ضالة. وإن هذا ليأخذ بمجامع القلوب، بيد أنه من الغرابة بمكان.
أيها الكلب الأمين! إن الله يعلم ما بيننا من البون الشاسع والفرق البيِّن بين إلهامك وعقل سيدك، وهو وحده الذي يدري سر ارتباطنا.
حياتك في النظر إلى سيدك وموتك في موته، وأي شفقة وحنو مُنِحْتَهما من الخالق حتى إنك لتحب من يكرههم جميع الناس؟!
وإن كنت — أيها الحيوان — راقدًا في مواطئ النعال، فلا أذكر أن قدمي مستك يومًا ما احتقارًا، كما أني لم أزجرك قط بكلمة تجرح حنانك ورأفتك، لم أرغب عن ملاطفتك أو أمل منها، وما برحت محترمًا طيبتك وإخلاصك اللذين لا يوصفان، وحامدًا الخالق على هذه المنحة التي أودعها فيك وجملك بها.
وكما ينبغي لنا أن نحترم أحقر مخلوقات الله أجد منك بجامع الخلقة والعواطف الشريفة مخلصًا وصديقًا حميمًا.
وحينما تقع عينك على عيني تتناجى النواظر وتترجم عن القلوب، وإن ألم بي السهاد، وتجافى جنبي عن الوساد، وأنت بجانب سريري بالمرصاد، يكفي لإيقاظك نَفَسٌ مضطرب مني.
تقرأ شجوني في عيوني الكسيرة، وتبحث عن همومي في ثنيات أسرة جبيني، وتجتهد في تسليتي بمداعبتي عاضًّا بلطف يدي المتدلية بجانبك.
وعينك كالمرآة الرائقة إذا واجهتها لا يلبث أن يرتسم فيها حزني وفرحي، ونفسك شريفة عالية، وحبك لا تدركه العقول.
لست في القلوب شيئًا وهميًّا تحتقره العواطف، أو جسمًا حيًّا تحركه الملاطفة، يخدع الناظر بحركاته وتصنُّعه الوداد والرفق.
وحينما تنطفئ هذه العواطف الشريفة من عينك لا أعلم في أي سماء تنشر وتحشر، ولا ريب أن الإنسان والنبات لا يموتان وتنعدم منهما الروح، بل يميتهما الخالق زمنًا ما ليبعثهما بعد أمد، ويجمع بين الأرواح وأجسامها، وقدرته عظيمة تسع جميع الخلائق وسنتحابُّ في الآخرة كعهدنا في الدنيا.
تعال أيها الصديق الحميم الذي يأنس ويطرب من وقع أقدامي وأنا داخل البيت، ولا تظن أني سيحمر مني الوجه خجلًا أمام الخالق لحبي لك، هيا جفف مدامع عيني المغرورقة بأسانك، وأدنِ قلبك من فؤادي لنتمتع بحبنا ونثمل برحيقه.
العزلة L’lsolement
طالما كنت أجلس في الجبل تحت ظل شجرة من البلوط، وقد خيم الحزن على صدري، فكنت أسرح الناظر في السهول التي نشرت أمامي أحاسن محاسنها يتلو بعضها البعض، وقد أخذت زخرفها وازَّيَّنت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقد آذنت ذكاء بالغروب مرتدية حلتها الصفراء تعلوها الكآبة، ولا أدري إن كان ما ألمَّ بها توجعًا ورحمة لي أو من ألم البين والفراق.
أمامي النهر يزمجر بأمواجه الزاخرة المزبدة، وينساب كالأفعى وسط الرياض، وهناك البحيرة الساكنة كالمرآة الصقيلة، وقد ارتسم كوكب المساء على صفحات الماء، وكانت الجبال التي تحوطني متوجة بغابات قاتمة رَمَى عليها الشفق أشعته الأخيرة.
لم تك هذه المناظر الجميلة لتروقني أو تنفحني ببعض سرور ينعش القلب، بل كنت أشاهد الأرض كظل متنقل، كما أن شمس الأحياء لا تدفئ الأموات.
كنت أنقل الناظر من أكمة لأكمة، ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب؛ فلم أظفر بهناء يخفف ما بي من ألم الكآبة والوحشة.
ماذا تفيدني هذه الوديان والقصور والأكواخ التي لا أعبأ بها؛ إذ لا أجد فيها ضالتي المنشودة، وما كانت لتشرح صدري هذه الأنهار والصخور والغابات مع ما أنا فيه من الانفراد والعزلة، وإن غاب عن عيني عزيز واحد فالدنيا بأجمعها تكون أمامي قفرة موحشة.
لا أحفل بشمس تتبعها عيني في مسيرها من الشرق إلى الغرب جارية في سماء صافية أو مكفهرة؛ إذ لا أنتظر شيئًا من الأيام.
وإن استطعت أن أتبعها في مجراها لكنت أشرف على الجو والصحاري، ولكني لا أرغب في شيء من جميع ما تنيره ولا أطلب أمرًا من هذا العالم العظيم.
ولكن ربما كان بعد هذا الكون عالم آخر تضيئه الشمس وتظله سماء أخرى، ولو تسنَّى لي أن أترك جثماني في الأرض، وأصعد بروحي إلى السماء لأنظر بعيني ما أراه في الأماني والأحلام، فهناك أنتشي من رحيق المنبع الذي آمله، وأجد ما أتطلبه من الأمل والحب، وهذا غاية ما تشتهيه الأنفس، وليس له اسم في المقام الدنيوي؛ فلم بعد ذاك أمكث في الدنيا دار النفي؛ إذ لا علاقة لي بها ولا شأن لي فيها.
مثلي كمثل الورق الذابل حينما يتساقط من الغابات في المروج، فتحمله الريح إلى الوديان، فاحمليني مثلها أيتها الشمأل العاتية!
الخريف L’Automne
سلام أيها الغاب المتوج ببقية من الخضرة، وقد اصفرت منك الأوراق وذبلت فتناثرت على العشب. سلام أيتها الأيام الأخيرة من دولة الجمال والهناء، وإني ليروقني النظر إلى حداد الطبيعة على محاسنها التي انقضت وفاتت إذ أجَرَّع ما تُجَرَّعه من الألم، وبودي لو أنظر النظرة الأخيرة لشمس باهتة تكاد أشعتها الضئيلة تنير ما تحت قدمي من ظلمة الغاب، وفي هذه الأيام من الخريف التي تحتضر فيها الطبيعة أجد في نظراتها التي يغشاها الموت ارتياحًا وابتهاجًا، وإن هذا لوداع من حبيب وابتسامة أخيرة من شفتين اقترب منهما دبيب الموت ليطبقهما إطباقًا لا انفتاح بعده.
وحريٌّ بي وقد كدت أتأهب لفراق أفق الحياة باكيًا أيامًا طوالًا وأملًا لم أدركه أن أرجع على عقبيَّ، وأشاهد بعين ملؤها الحسد نعمًا لم أتمتع بها.
أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة بأرضها وشمسها ووديانها، لك عندي دمعة أؤديها وأنا على شفا الرمس؛ فالهواء يتضوع نشره والضوء زاهٍ نقي، والشمس تحلو وتجمل في عين المائت.
وحينما تسقط الزهرة ترد طيبها إلى الصبا، وحياتها إلى الشمس، وتودع الدنيا بين يديهما، بينما أموت وروحي وهي في النزع يُسمع لها نغم شجي تذرف له العيون وتخفق منه القلوب.
قرية من جبال الألب Un Village des Alpes
يرى الناظر جبال سافوا الشواهق وقد اكتست بحللها السندسية، وتجلببت برياضها الأريضة الغناء، وسد الصخر مسالكها؛ فلا يشاهد فيها الإنسان غير المهاوي التي ترتعد منها الفرائص، وتقشعر منها الجلود؛ إذ يرى نفسه معلقًا في الفضاء، فوقه السماء وتحت قدميه مهوى سحيق تهلع من هول رؤيته القلوب.
وفي فصل الربيع — وهو أقصر من ابتسام البرق — يثمل نسيمه من أريج وروده وأزهاره، وقد أحاطت بالأفق جبال من الثلج بيضاء ناصعة، تأخذ بالأبصار كقوارير البلور، وحينما تهدأ العواصف وتظهر قمم الشواهق ترى السماء صافية لابسة ثوبها اللازوردي.
وفي هذه العزلة لا تسمع إلا أصوات الصبيان وخوار العجول وصوت الجلاجل المعلقة برقابها، فترن من قفزاتها وطفراتها، وخرير السيول المتحدرة من أعالي الأطواد مما ينساه السمع لكونه اعتاده وألفه. وهذه الأصوات بمجموعها أشبه بصوت صادح لا ينقطع غناؤه الجهوري الرنان.
وانتثرت الأكواخ تحت الأشجار في ظلها الظليل من غير نظام ولا ترتيب، وكأنها نبتت كما تهوى مع هذه الغرائس، وترى أهلها المساكين يتقاسمون بينهم الدعة والسكون، راضين بعيشهم الهنيء، وكل يمرح تحت ظل شجرته وأمامه حقله، فتراه في الصباح على باب داره، وفي المساء داخلها وقد اكتنفهم الصفاء وخيم عليهم الهناء.
زهرة جافة في كتاب A une Fleur séchée dans un album
عاودتني الذكرى فتذكرت يومًا اختلسناه وذهبنا إلى شاطئ البحر وقد رقت وراقت السماء، ولم يشب صفاءها غيم ولا إعصار، تظلنا شجرة من البرتقال كاسية من زهرها الأبيض الناصع تضوعت رياها فثملنا من عرفها الشذي.
أمامنا بحر أزرق يعب عبابه ولا يُرى له ساحل، وكانت أزهار البرتقال المتناثرة تهاوى على رأسي وتجللني كمطر من الثلج، وقد جمَّل الكلأ الأرض ببساطه الأخضر وتخللته أزهار جميلة متنوعة ينبعث منها عبق لطيف عَطَّر الأرجاء والأندية بنشره.
أيتها الشجرة النابتة بجانب المعبد الدارس الذي بطش به كر الغداة ومر العشي. لقد توجت هذا العماد بأفنانك النضرة، وازدان هذا الطلل البالي بزهرك المونق، ولقد قطفتكِ أيتها الزهرة البديعة البيضاء، ووضعتك فوق صدري لأنتعش من استنشاق طيبك ونشرك، والآن وقد انقضى ذاك اليوم بسمائه ومعبده وبحره وشاطئه، وحملت السحب عرفك وسارت به إلى حيث تشاء؛ أجد وأنا أقلب صفحات كتابي رسومًا عفت وآثارًا درست من يوم جميل هنيء.