ألفريد دوموسيه١
نادرة من فحول شعراء الفرنسيس، ولد بباريس سنة ١٨١٠، ومات بها سنة ١٨٥٧، وهو ثاني أنجال «موسيه باتي»، تعلم في كلية هنري الرابع، فكان من أقرانه فيها «الدوق دورليان»، وبعدما تردد بين الحقوق والطب والرسم والموسيقى انقطع لعلوم الأدب.
وقد حلَّى طروس «مجلة باريس» ببدائع رواياته مثل: «أدعية لا تجدي»، و«أوكتاف»، و«فكر رفاييل السرية»، ثم ظهرت رواياته التمثيلية: «ليلة في فينزيا»، و«منظر في كرسي» سنة ١٨٣٢، و«الكأس والشفتان»، و«فيمَ تحلم الفتيات؟» رواية لطيفة، و«شجرة الصفاف» مرثية، و«نامونا» قصيدة طلية بلهجة تهكم رقيقة.
وعلاوة على اقتداره النادر في بث تأوهاته التي تكاد تسمعها من بين سطوره، فإنه كان يجاري بعض الشعراء في مذاهبهم، لا سيما «بيرون» الشاعر الإنكليزي المشهور، ونخص بالذكر «رولَّا» سنة ١٨٣٣؛ فإنها من أسلوب الشاعر السابق، ولها رنة مؤثرة فخم فيها الهيام.
ثم أصابته نوبات وقلاقل حولت ذكاءه من طور إلى طور أرقى منه سببه له الحب؛ إذ أحب «جورج صاند» الروائية الشهيرة وأحبته، وسافر معها في شتاء سنة ١٨٣٣ إلى إيطاليا متنقلًا بين جنوه وفلورنسا وبولونيا وفيرار، ثم ألقى عصا الترحال في فينزيا، وهناك شجر بينهما خلاف شديد أفضى إلى الانفصال بسبب انقلابها وخيانتها عهده؛ فرجع إلى باريس وحده في أبريل سنة ١٨٣٤، وقد أنهكته الشجون وتيمه الهوى المبرح وسحقته هذه التجارب، ولكن كان لها الفضل لكونها صيرته شاعرًا مجيدًا من أوائل الشعراء، كما أشار بذلك في عرض كلامه في قصيدة «ليلة من تشرين الأول» حيث قال:
وقصارى الكلام أن بليتك هي التي أنارت قلبك، فالفادحات والأوصاب بمثابة المعلم، والإنسان كالطفل المتعلم وبقدر الرزايا تكون المعارف؛ وإنها لشِرعة قاسية ولكنها حكمة بالغة قديمة كالدنيا ونكدها.
ومن سنة ١٨٣٥ إلى ١٨٤٠ ظهرت معجزات قريضه ونثره وصوت آلامه في الحب والشك والسلوان، وهي «لياليه الأربعة» التي سارت بذكرها الركبان: «ليلة من أيار» و«ليلة من كانون الأول» و«ليلة من آب» و«ليلة من تشرين الأول».
ففي الأولى يبكي «موسيه» من خيانة حبيبته، ويُعرض عن الطيف الذي يدعوه إلى الغناء، وفي الثانية يبحث في العزلة عن شفاء آلامه وأوصابه، وفي الثالثة يعاود قسمه بأن لا يفتح قلبه للحب، وفي الرابعة يزعم أنه طاب ويود أن يقص أخبار آلامه التي يدعي أنه برئ منها، ولكنه عندما سردها كادت تجهز عليه وطأة الانفعال، فأخذ الطيف عليه موثقًا بالغفران والنسيان.
وهذه الليالي مع «رسالته إلى لا مارتين» و«تذكار» هي التي رفعته إلى مصافِّ فحول الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان، ولم يلهم شاعر غيره أن يوفق للإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
يأخذ العجب القارئ لمَ خُصَّ هذا الشاعر وحده بهذه الهبة الجليلة؟! هذا لأنه أحرقه الجوى، وبرى أعظمه الهوى، وأذاب ما على فؤاده من الحجب؛ فاستنار بنور الحب عقله وجنانه، فكان يعبر عن وجدانه وشعوره كما يصف الناظر المرئيات، وغيره لم يجمع بين الوجد المبرح والبلاغة الساحرة؛ فتراه مهما كان مقتدرًا على القريض، وحاول أن يصف الهوى، فإنه لا يصفه إلا وصفًا خياليًّا سمجًا تمجُّه الأذواق وتزدريه الأذهان.
وبعد «الليالي» ظهرت قصيدته «الأمل في الله» ورواية قصصية كبيرة كتبها نثرًا وسماها «اعتراف طفل من أبناء الجيل» سنة ١٨٣٦، سرد فيها الشاعر — وقد قارب الشفاء — ما انتابه من مضض الآلام، ثم «نعمة طيبة» وهي بديعة النظم شائقة المعاني.
وكتب عددًا عظيمًا من الروايات التمثيلية كان لها نصيب وافر من الرقة والبلاغة تماثل في أسلوبها روح شكسبير، منها: «فانتازيو»، و«أهواء ماريان» سنة ١٨٣٣، و«لورينزاشو»، و«لا يمزح بالحب» سنة ١٨٣٤، و«باربيرين» سنة ١٨٣٥ وغيرها.
ليلة من تشرين الأول La Nuit d’Octobre
وما كنت لأفكر لأي شأو تطوِّح بي السعادة والهناء، ولا ريب أن نار الغضب التي اتقدت في قلوب الآلهة كانت في حاجة لقربان تأكله؛ لأنها حنقت عليَّ واقتصت مني لكوني أردت من باب التجربة أن أكون سعيدًا.
ففي ليلة على ما أذكر من تشرين الأول كئيبة قرة٧ هي وليلتنا هذه صنوان أو توأمان، وكانت رياحها تعصف بنغمة واحدة؛ فتحرك من رأسي التي أجهدها النصب ما سكن من مر الشجون والأتراح، وكنت مشرفًا من النافذة منتظرًا حبيبتي منصتًا كأن على رأسي الطير في ظلام حالك؛ فجاش القلق بخاطري وساورتني الظنون والأوهام، حتى مثلت أمامي الخيانة، وكان الحي الذي أسكنه معتمًا قفرًا لا يُرى فيه إلا نفر قليل من السابلة٨ بأيديهم مصابيح.
وكان كلما هب النسيم من الباب يُسمع له على بعد صوت أشبه بأنين إنسان، وما أدري كيف أعبر عما دار بخلدي من التشاؤم حتى غبت من القلق والحيرة عن الصواب. وأذكر أنه بقي لي مسكة من القوة فلما دقت الساعة اقشعررت وارتعدت فرائصي ولم تقبل بعد؛ فبقيت وحدي مطرق الرأس أسرح الطرف في الطريق، وإني لم أخبرك بعد بأية جرأة أضرمت هذه المرأة المتلونة في قلبي نار الحب؛ إذ كنت لا أحب غيرها في العالم ولا أستطيع أن أحيا بدونها يومًا واحدًا، فتمثل لي النحس بصورة أبشع من الموت، ولأفصم ما بيني وبينها من عرى الألفة والمحبة لم أدع في جعبة اللعن لفظًا أو معنى للغدر والخيانة إلا ووسمتها به، وانتظمت أمام ناظريَّ جميع المصائب التي رمتني بها فلم يفتني العد والحصر؛ فوا أسفا على ذكرى جمالها المشئوم! فكم سببت لي من بث وهمٍّ لم يلطفهما سلوان ولا عزاء.
فما عتَّم أن لاح الفجر وأنا منتظر بغير طائل ولا جدوى، وكنت بجانب الشرفة وقد داعب النعاس عيني فأغفيت، ثم صحوت فرأيت تباشير السحر، فرددت طرفي فجأة في أطراف الطريق الضيق؛ فسمعت وقع أقدام خفيفة فقلت: اللهم تداركني بقوتك، فإني أراها وهي عينها، فدخلت فقلت لها: من أين أقبلت وما فعلت الليلة؟
أجيبيني.ماذا تبتغين مني؟! وما الذي طوح بك إليَّ في هذه الساعة؟ وأين استلقى هذا الجسم اللطيف إلى الصباح مع أني لم أبرح مكاني وحيدًا ساهرًا باكيًا؟ أين اضطجعت ولمن جدت بابتسامك؟ يا لك من غادرة خائنة جسورة! أمن الممكن أن تجيئيني لتقديم ثغرك لقبلي؟! فهيهات هيهات لما تبغين، وبأي شوق قبيح تجترئين أن تعانقيني بأذرع مُلَّ منها وملت؟! فاذهب واغرب عني يا خيال الخليلة، وارجع إلى رمسك إن كنت أنشرت منه، ودعني أنسى زمن صباي مدى حياتي، وإذا تذكرتك تحققت بأن لست إلا في عالم الأحلام.
عار عليك فإني لم أكُ بعد إلا ساذجًا كالطفل، وكان قلبي كزهرة في الفجر لم تتفتح من أكمامها إلا لحبك، ولا ريب أن هذا القلب الذي لم يجد له غوثًا ذهب فرطًا، ولو تركته بُراء لكان أسعد حظًّا، فضحا لك يا علة ضري ووسواسي يا من فجرت ينابيع الدمع من آماقي وجفوني، ولبث سائلًا مسترسلًا لا مجفف له نابعًا من جرح لم يبرأ بعد، ولكني سأتطهر في هذا الينبوع المر علِّي أترك فيه درن تذكارك الممقوت.
خُلِقَ الإنسان ضعيفًا فتراه لا يقوى على الغفران لمن أساءَه إلا بجهد جهيد، فاغنم الراحة من عذاب البغض والحقد، وإن أعوزتك المسامحة فعليك بالنسيان، وكما أن الموتى نائمون هامدون في بطون اللحود يلزمنا أن نخمد عواطفنا في رموس القلوب. وذخائر الأفئدة المغبرة يجب علينا أن لا نمد يدًا إلى بقاياها المقدسة، ولِمَ أراك تئن من سرد مصابك وعذابك، وتبتغي أن لا تراه إلا في عالم الرؤيا أو كحب كاذب كبرق خلَّب. أتخال أن القضاء يسير بغير حكمة ولا سبب، وتظن أن الضربة التي أصابتك ضربة طيش، كلا فعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وربما كان ما أصابك واقيًا لك من أعظم منه، وقصارى الكلام أن بليتك هي التي أنارت قلبك؛ فالفادحات والأوصاب بمثابة المعلم، والإنسان كالطفل المتعلم، وبقدر الرزايا تكون المعارف، وإنها لشرعة قاسية ولكنها حكمة بالغة قديمة كالدنيا ونكدها. نحن في حاجة للبكاء لنحيا ونشعر كالحصيد يعوزه الندى ليدرك، والسرور رمزه نبات مقطوع مغطى بأزهار تميل أعناقها من الندى. ألمَ تُشْفَ من جنونك ولم تزل في عنفوان شبابك سعيدًا محبوبًا؟! وهذه المسرات الصغيرة هي التي تُرغب الناس في الحياة، وإذا كنت لم تذق طعم البكاء ماذا تكون حالك؟ أكنت تهنأ بآصال تمرح فيها بين شجيرات الخلنج مع صديق قديم تشربان وتتسامران؟! أكان يسوغ لك كأسك إن كنت لم تذق طعم البشر والفرح؟! ألا تحب الأزهار والمروج والرياض وشعر بترارك٩ وتغريد الطيور الصادحة وميكيل إنج١٠ والفنون الجميلة وشكسبير١١ ومحاسن الطبيعة؟! ولولا بعض تأوهات قديمة لما كنت تفهم شجو السموات وطربها الذي لا يوصف، وسكون الليل، وخرير الأمواج، ولو لم تعتورك الحمى والسهاد ما كنت في الراحة الأبدية ولما كانت لك خليلة جميلة تقاسمها صنوف المسرات والملذات.١٢
والآن أيها الخيال البهي الطلعة أسمعني بعض الأغاني الشجية المطربة، أغاني الأيام الهنيئة السعيدة، إذ الرياض تنفح بأريج شذاها، وقد اقترب الصباح، فهيَّا أيها الخل الوفي نقتطف أحاسن أزاهير هذه الجنات. تعال نمتع الناظر بمحاسن الطبيعة الخالدة التي تطرح الآن نقاب النوم، ولنعتبر أننا سنولد الساعة مع أشعة الغزالة.
الفرس الوحشية La Cavale Sauvage
شعرت هذه المهرة البائسة أنها رزحت تحت كلكل القضاء، وقد غلى الدم في عروقها، وانفجر من منخرها؛ فخانتها قواها ووقعت مغشيًّا عليها، وشرب الرمل دمها بنهم فارتوى، وعرفت أنه ما ضنَّ عليها بالماء إلا وهو أظمأ منها، ثم تمددت وانطفأ نور عينيها النجلاوين؛ فأسلمت الروح وأدرجت الصحراء فرسها — بل ابنتها — في أكفان من رمالها المضطربة.
أفات فرسنا المنكودة أن ترقب القوافل وهي مارة تحت ظلال الأشجار الوارفة، فما عليها لتفلت من شقائها إلا أن تتبعها مطأطئة الرأس لتجد في بغداد الإسطبلات الرطبة المنعشة والمذاود المذهبة والبرسيم المزهر الغض وآبارًا باردة لم ترها السماء.
وإن كان البارئ قد خلقنا من طين واحد؛ فلابد أن يكون عجننا في آنية مختلفة الصلصال وجففنا في شمس تكاد تتميز من الغيظ.
ومهما يكن المخلوق نسرًا أو خطافًا، فلا يستطيع أن يحني عاتقه أو يخفض جناحيه من الذل؛ إذ ليس له من السعادة والهناء أعظم من كلمة واحدة، وهي الحرية.
زهرة A Une Fleur
ما تبتغين أيتها الزهرة العزيزة التي هي أحب وألطف تذكار؟ ومن طوح بك إليَّ وقد بقي فيك مسحة من النضارة والحياة؟!
قطعت طريقًا طويلًا طي قرطاس مختوم فماذا سمعت؟ وبم همست إليك اليد التي قطفتك من الخمائل؟
لوسيا Lucie
وكانت ملذات الليالي الشجية تنبعث حولنا من أكمام الأزهار، وعلى كثب منا حديقة غناء، بها القسطل والبلوط العتيق، تميل منها الجذوع تحت غصونها الميادة، ونحن منصتان لسكون الليل، وكانت النافذة مفتوحة يمر منها أريج الخريف المنعش فعطر غرفتنا، وكانت الرياح ساكنة والسهل قفرًا، ونحن وحدنا تساورنا الشجون، ولم يك لنا من العمر إلا خمسة عشر ربيعًا.
نظرتُ إلى لوسيا فإذا هي بيضاء ذهبية الشعر، بعينيين لم أرَ أجمل منهما، تزريان بصفاء السماء، فَسرَت في دمي نشوة جمالها؛ إذ كنت لا أهيم بغيرها وحبي لها كحب الأخ لأخته، وكان الحياء يخامر كل بادرة منها.
وبينا نحن سكوت إذ مست يدي يدها؛ فرأيت جبينها الوضاح وقد ارتسم عليه الحزن، وكنت أشعر أن لنضارة الوجه وشباب الفؤاد وهما توأمان ورضيعا لبان تأثيرًا عظيمًا في شفاء تباريحنا وآلامنا.
ومن يعلم مبلغ ما يعقله أو يقوله غلام مثلي، حينما يسمع تأوهاتك التي تولدت من الهواء الذي يستنشقه؟ تنهدات لها رنة حزن أشبه بقلبه لطيفة كصوته.
إن فاجأتها وجدتها ساجمة العبرات، وهذا غاية ما تعرفه، والباقي سر يجهله الناس كأسرار اللجج وغياهب الغابات!
أيتها الزهرة النضرة الطاهرة! أرى موتك قد تمثل ابتسامًا يماثل حياتك عذوبة ورقة، وأصبحت وقد حملك الله بمهدك إلى رحمته.
أوصيكم أيها الأحباب الأعزاء أن تغرسوا على قبري شجرة صفصاف؛ فإني أهوى لونها الباهت كالحزين الأسف وأغصانها المرسلة كدمع الباكي، فنعم ظلها الظليل على أرض سأنام فيها نومي الطويل.