أندريه شينييه١
واسطة عقد شعراء زمانه، ولد سنة ١٧٦٢ بالآستانة من أم يونانية وأب فرنسي، كان سفيرًا لدولته بالقسطنطينية، فعلمته أمه في صغره اللغة اليونانية، حتى إنه حصل على نصيب وافر منها وطالع في الرابعة عشرة من عمره دواوين شعراء اليونان، وفي السادسة عشرة ابتدأ يترجم الشعر اليوناني إلى الشعر الفرنسي؛ فتشبعت قريحته من روح النظم القديم، فكان شعره يماثل المقيد في الشكل، ولكنه جديد الفكر عصري الخيال.
أُتِيَ به إلى فرنسا وهو في حوله الثاني، وأتم دراسته بمدرسة «نافار»، وعالج قرض الشعر مبكرًا في شرخ شبابه وهو في السادسة عشرة من عمره، وبعدما قضى بضعة شهور في ستراسبورج وهو ضابط برتبة ملازم ثان أقام طويلًا بباريس، ثم اتصل بالسفارة الفرنسية في إنكلترا، ولبث فيها ثلاث سنين ثم آب إلى فرنسا سنة ١٧٩٠.
وكان موته خسرانًا لفرنسا؛ إذ فقدت به البلاغة والشعر نابغة في عنفوان شبابه، ولم يكد يبلغ الثانية والثلاثين، ولو عاش لأتى بمعجزات البلاغة ومدهشات القريض، وجرَّ ذَيْل النسيان على أغلب شعراء قومه من السلف والخلف.
وقد أعاد هذا الشاعر المجيد للقريض الفرنسي شبابه بعدما كاد يودي به الضعف وملأه حمية وحماسة، فجدد الشعر الخلوي بعواطف صادقة تمثل الطبيعة تمثيلًا حقيقيًّا، وأحيا الرثاء بما تمليه إليه نفس أضنتها الآلام، وأصلح الهجاء بنفحات روحه المتوقدة، وهو أول من أنشأ الشعر المطلق وآخر شعراء المذهب المقيد وأعظمهم.
الفتاة الأسيرة La Jeune Captive
«يحترم المنجل السنبلة قبل نضجها غاضًّا أمامها الطرف، ويرشف جديد الغصون من الكروم ما يهديه إليه الفجر في أيام الصيف من الندى البليل غير خائف من ألم العصر، وإني لجميلة فتية مثلها أكره الموت ولو أني الآن هدف لقلق البال والسأم.
ليطر إلى الموت الزؤام من عصى دمعه من الصبر والجلد وعدم المبالاة، ولكني أنوح والأمل ملء فؤادي، وحينما تهب الشمأل أخفض رأسي حرصًا، ثم أرفعها إذا مرت، وإن كان لبعض الأيام مرارة فلغيرها حلاوة تنسي نكدها وتُبرئ أوصابها. وهل رأيت شهدًا شهيًّا لا تعافه النفس إن واظبت عليه وبحرًا خلوًا من الأنواء والأعاصير؟
تبيض وتفرخ بقلبي الأماني والآمال في سجن تكاد جدرانه تنيخ عليَّ لئلا أفلت منها، ولكن ساء زعمها؛ فإني راكبة جناحي الأمل، كالعندليب تسرب من قفص بائع الطيور القاسي، طائرًا منتعشًا متهللًا في فسيح الخلاء ومزهر الرياض، وقد اكتنفه الهناء من كل صوب، يغرد ثملًا بنشوة الحرية والسعادة.
أيموت مثلي؟ مَنْ تنام والدعة غطاؤها، وتسهر والسكون أنيسها، ولم يخالجها توبيخ الضمير في اليقظة ولا في النوم.
وكان حسن لقائي نهارًا باديًا في العيون، وكأنه يبسم لي ظاهرًا على الجباه التي اكفهرت من البؤس والعناء، وقد أنعش مرآيَ الجميع في هذه الأماكن، وهللهم بشرًا وسرورًا.
إنني في مبدأ رحلتي الشائقة مسافرة تحت ظلال الأشجار الجميلة، التي تحف طريقي من الجانبين، ولم أكد أمر على أولاها وقد مُدَّت أمامي مائدة الحياة، وما أوشكت أن افتتحها ممسكة كأسًا ما فتئت مفعمة إذ لم تكد تنضم عليها شفتاي، ولست إلا في الربيع، وأشتهي أن أدرك الحصاد أو كالشمس تنتقل من فصل لآخر لتتم سنتها.
إني لزهرة متلألئة فوق غصني، مزرية بما حولي من الأزهار في بستان دولة الجمال، ولم تتمتع بأشعة الغزالة إلا عند شروقها، وأبغي أن أحظى بها لغاية غروبها.
•••
كنت مشاطرًا لها في الحزن والأسى، فاستيقظت مني مخيلة الشعر، وأصغيت لهذا الصوت الشاكي وهذا الاعتراف الذي تبوح به هذه الكاعب الأسيرة، ثم هززت أثقال الحياة المضنية، ونظمت ما تناثر من فمها اللطيف المحبوب من غرر الدرر في سلك عقود القريض؛ فأصبحت أناشيد تشجي العشاق وسلوانًا ولهوًا لهم يقتلون بها أوقات فراغهم.
ولقد تساءل مَنْ معها مِنْ المسجونين من تكون هذه الحسناء التي زانت الرشاقة جبينها وحديثها؟ وإنا لمشفقون أن تنقضي أيامنا، وحبذا لو طال علينا الأبد فما نحن بجانبها إلا في السعادة والهناء لا في السجن والعناء.»