الكونت ألفريد دوفيني١
مِمَّنْ يشار إليهم بأطراف البنان من فحول الشعراء الفرنسيين، ولد بلوش سنة ١٧٩٧، وتوفي بباريس سنة ١٨٦٣.
كان سنة ١٨١٤ ملازمًا ثانيًا في فرسان الشرطة «الجندرمة»، ثم عُيِّنَ سنة ١٨١٥ في حرس المشاة الملوكي، ورُقِّيَ سنة ١٨٢٣ إلى رتبة يوزباشي، وأُرْسِل إلى الحدود مدة حرب إسبانيا، ثم استعفى من الخدمة سنة ١٨٢٨، وقد تزوج قبل هذا العهد بسنتين بفتاة إنكليزية تسمى ليديا بونبوري.
عاد إلى باريس، وكان من المطبوعين على الشعر المطلق، وابتدأ في نظم الشعر من سنة ١٨١٥؛ أي في الثامنة عشرة، وظهر أول مؤلفاته سنة ١٨٢٢ بعنوان «منظومات»، وفي سنة ١٨٢٦ طبعه طبعة جديدة وسمَّاه «المنظومات القديمة والحديثة»، وأضاف إليه بعض قطع من ضمنها: «موسى»، و«أيلوا»، و«الطوفان»، و«البوق»، وفي سنة ١٨٣٧ أتبعها بأخرى وهي: «الجليد»، و«مدام دوسوبيز»، و«الطرادة»، و«باريس»، و«عشاق مونمورانسي».
وقد كتب نثرًا «٥ مارس» سنة ١٨٢٦، وهو رواية تاريخية شائقة كانت آية في البلاغة، أجاد فيها وأعطى الحوادث حقها من الاستيفاء، يزينها وصف جميل بطريقة لم يجاره فيها مجار. وقصص في مجلدين سماهما «ستيللو» سنة ١٨٣٢ و«الاستعباد والعظمة في الجندية» سنة ١٨٣٥، وعدة روايات منها واحدة نظمية، وهي «مغربي فينيزيا» سنة ١٨٢٩، و«لا ماريشال دانكر» سنة ١٨٣١، و«شاتيرتون» سنة ١٨٣٥، وقد حازت إقبالًا باهرًا، ولما مَثَّلَتْ مدام «دورفال» الممثلة الشهيرة دور «كيتي» في هذه الرواية، كانت لها اليد الطولي في زيادة شهرتها؛ إذ اجتمعت مهارة التمثيل ورقة الإلقاء ببلاغة الإنشاء وما حواه من العواطف المؤثرة.
وقد انْتُخِبَ في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٨٤٥، وقضى أيامه الأخيرة في العزلة كئيبًا كاسف البال، ومات بعد الآلام النفسانية والمتاعب الدنيوية حولًا كاملًا، وقاسى من نكد الأيام ما ترزح لثقله الأطواد بصبر يحسده الصبر.
وظهر بعد موته جزء ثانٍ من الشعر باسم «الأقدار»، ونشر في مجلة العالمين سنة ١٨٦٤، و«يومية شاعر»، وهي حاوية لشروح في التراجم وتأملات طبعها «لوي راتيسبون» سنة ١٨٦٧.
تفرد هذا الشاعر النابغة دون غيره من شعراء المذهب المطلق بأنه شاعر نفسه، فترى جميع ما كتبه نظمًا كان أو نثرًا لا يدور إلا على شكواه من الزمن ووصف ما يقاسيه من الهموم والآلام وتقلبات الدنيا، فترى جميع أقواله مترجمة عن وجدانه وشعوره بمرمى عام لا عن خيال، وجميع رواياته نموذجات لسحر البيان ورقيق العواطف وشدة التأثير.
وكانت الأفكار الرئيسية لهذا الفيلسوف الحكيم تحوم حول: الوحدة التي تقهر النوابغ، وخلو بال الخلق وجمودهم، وغدر المرأة وخيانتها، وعدم إحساس الطبيعة وتأثرها، والجلد والصبر على هذه المصائب والإحن، والخضوع لإرادة الخالق ومشيئته.
وكان من المجدين حزينًا كئيبًا، ولم يبلغ حد الكمال في روائع الابتداع ومدهشات الإلهام، ولا تزيد قصائده عن الأربعين، وأغلبها غامض معقد المعاني، ولكن اثنتي عشرة منها سارت بذكرها الركبان، وعُدَّت من روائع البلاغة وسحر البيان، مثل: «موسى»، و«قارورة في البحر»، و«مصرع الذئب»، و«بيت الراعي»، و«جبل الزيتون»، و«غضب شمسون» وغيرها مما سبق ذكره من قصائده، وإن كان هذا الشاعر أقل شهرة من فيكتور هوجو ولا مارتين وألفريد دوموسيه، ولكنه معدود من صفهم.
بيت الراعي La Maison du Berger
أو كان جسمك يقشعر من هول آلامه الخفية؛ فيكاد ينشق منه الفؤاد كمدًا، وقد غلب عليه الحياء مما أحاط به من الأنظار، فترينه يبحث عن مكنون الخدور ليواري فيها جماله، وليأمن مما يهينه من الأعين التي أفعمتها القحة.
وسنرى إن كنت ترغبين في بلاد الجليد، التي حينما يظهر فيها الكوكب المحبوب يفترس بأشعته ما يجده أمامه من الثلوج فيزهو ويشرق، ومواطن تنتهبها الرياح ويحاصرها الجليد بأسوار منيعة، وبها القطب اللعين وثلوجه الممقوتة، وسنقتفي سير المصادفات الطائش، ولا يهمني ضوء النهار ولا الدنيا إلا إذا راقا في عيني.
من أنت يا حواء؟ أتعرفين كنهك؟ أتعلمين غايتك وواجبك في الدنيا؟ أتدرين أن الخالق ليعاقب الإنسان مخلوقه لعصيانه وأكله من الشجرة التي نهاه عنها، اقتضت إرادته أن يسلط عليه حبًّا لذاته لا يسبقه حب آخر في كل الأزمان وأطوار الأعمار، وإذ كان أقصى هنائه شغفه بنفسه ترينه معذبًا منغصًا منه.
أتعلمين يا أم الخلائق، لِمَ سمحت مشيئة القادر بأن جعلك للرجل قرينة لطيفة؟ ذلك لينظر صورته مرتسمة في مرآة روح أخرى، ويسمع منك هذا الصوت الجميل المزري بتغريد العنادل والذي لا يصدر إلا منك، وليشنف سمعه بصوت رخيم عذب ملؤه الحماس، ولتكوني قاضه ورفيقه فتتولين حياته وتعيشين خاضعة لشريعته.
كلامك كالنيران يهيج الجموع، ودمعك يطهر الإهانة ونكران الجميل، وإنك لتدفعين الرجل من ذراعه فيهم واقفًا مسلحًا، وإنك لخير من يُهرع إليه لبث الشكاوى الكبيرة التي تنبعث من الإنسانية الحزينة بصوت مختنق.
تعاليْ فما السماء إلا كأنها هالة من نور تحيطك بزرقتها إذ تضيئك وتحميك، وما الجبل إلا معبدك والغاب قبابه، وما الطير يميله الهواء على الغصون الميادة والأزهار وعرفها والعصافير وأنينها إلا لتنعش الهواء الذي تستنشقينه ولتحفه بالبشر والابتهاج، وما الأرض إلا بساط جميل مُدَّ تحت أقدام بنيك اللطيفة.
أحب يا حواء كل شيء في المخلوقات إذ أشاهدها منعكسة في نظرك التائه في مهامه الأماني، والذي يبث أنَّى تنقَّل لهبه المزدان بجميع الألوان، وإن استراح بعد تقلبه زاد بهاؤه وانبعث سحره ففاق هاروت وماروت.
إني لدار تمثيل لا تعرف للتأثر معنى، ولا تضطرب تحت أقدام ممثليها. درجات سلمي من الزمرد، وفناؤها من المرمر الأبيض، ونحتت الآلهة أعمدتها؛ فلا أسمع صراخكم ولا أنينكم، وأكاد أحس بمرور تمثيل رواية المجتمع الإنساني، وأنشد في السماء المتفرجين البكم بلا طائل.
أجوب البلاد كالأعمى الأصم، وأجول بين الأمم التي يخطئها الحصر مزدرية بهم لا أميز بين دورهم وقبورهم، وشتائي يحصد النفوس له قربانًا، كما لا يشعر ربيعي بشغفكم به.
كنت قبلك أيها الإنسان جميلة معطرة، تاركة شعري يلعب به الهواء كما يهوى، متتبعة في السموات طريقي الذي اعتدته فوق محورها المنتظم؛ فتميلني المشيئة حيث شاءَت يمنة ويسرة ككفتي الميزان، ثم بعدك كنت أخترق الفضاء، الذي يندفع كل فيه سائرة وحدي بوجه باش، وصمت يزينه العفاف شاقة الهواء بجبيني الوضاح ونهديَّ اللذين ارتفعا شممًا وكبرياء.
هذا ما سردته عليَّ الطبيعة بصوت جهوري، لبسته رنة الحزن، وإني لأمقتها وحانق عليها؛ لكوني أرى دمنًا يخالط أمواج بحارها وموتانا تحت عشبها، فترين أجسامنا بعد تحول مادتها تمتص جذور الأشجار عناصرها السمادية بشره ونهم، فتنمو وتعظم وتزهو، فكنت أقول لنفسي التي راقها هذا البهاء الممقوت: «خير لكِ أن تحولي نظرك عنه، ولا تذرفي دمعة واحدة أسفًا عليه، بل أحبِّي ما لا يشاهد إلا مرة واحدة.»
•••
عيشي وانتعشي أيتها الطبيعة الباردة، وتحكمي فينا كيف شئتِ فهذه سنتك، وازدري بالإنسان إن كنتِ في مصاف الآلهة، فما هو إلا عابر حقير جعله الله سلطانًا عليك.
أحب عظمة الآلام الإنسانية أكثر من ملكك وفخامته التي لا تجدي نفعًا، وإنك لن تؤملي مني حبًّا.
ألا تبغين أيتها السائحة المكسال أن تسندي بجبينك إلى كتفي لنطير في جو الأماني؟! فتعاليْ من هذا البيت المتحرك الذي كُسِي ببردين من دعة وسكون؛ لتشاهدي ما مر وما سيأتي من صور العالم ومناظره التي أحضرتها في ذاكرتي روح طاهرة من الله، وستحيا هذه الصور وتلبسها الأرواح لأجلك أمام هذا الباب، وترين البلاد العظيمة ممتدة أمامك وهي صامتة.
مصرع الذئب La Mort du Loup
كان المزن يمر فوق القمر الملتهب كحريق يتصاعد منه الدخان، وقد حلك الظلام في الغاب وغاب الأفق عن العيون، ونحن سائرون سكوتًا على العشب المبلل، تحفنا خمائل كثيفة من الخلنج وشجر التنوب، الذي يكاد يناطح السماء، فلمحنا آثار أظفار كبيرة خطتها أرجل الذئاب السيارة التي أخذنا عليها المسالك.
ثم أقبل الذئب وقعد باسطًا ذراعيه منشبًا أظافره في الرمل، ولما استيأس وخاب رجاؤه في النجاة؛ إذ سدت عليه طرائقه، أمسك أقوى الكلاب من رقبته بفكين قويين كأنهما قُدا من حديد، وجالد قرنه جلاد المستميت، ولم يتركه رغمًا عما اخترم جسمه من رصاصنا المتدفق من بنادقنا كالمطر وخناجرنا المغمدة في أحشائه، ولم يزل ممسكًا خصمه غير مبالٍ بما أصابه؛ حتى دق عنقه وتركه جثة بلا روح، وكانت الخناجر الغائرة في جسمه أشبه بمسامير سمرته على الكلأ، وقد ارتوى العشب من دمه وتحيط به بنادقنا كرزايا قامت على سوقها، وما فتئ ناظرًا إلينا وهو يلعق ما سال من دمه حول فمه، وبدون أن يتأمل كيف هلك أطبق عينيه ومات، ولم ينبعث منه صراخ ولا أنين.
أطرقت إلى الأرض مسندًا برأسي إلى بندقتي مفكرًا بغير وصول لغاية، إذ حدثتني النفس أن أقتفي الذئبة وجرويها التي كانت في انتظاره على ما أظن، ولولا ولداها لما تركت أرملتنا الجميلة الحزينة إلفها يحتسي وحده صاب المصاب، ولكن واجبها حتَّم عليها أن تحرس صغارها وتكلأها بعين عناينها ولتدربها على النفور من عهود المدن، التي ارتبط بها الإنسان مع الأنعام، التي استخدمها مهما أودى بها السغب؛ فتراها تطارد أمامه أول من امتلك الغاب والجبال لتحصل على ركن تأوي إليه.
لقد عرفت حقيقتك أيها السائح إذ اخترقت نظرتك الأخيرة أعماق قلبي، كأنها تقول لي بلسان فصيح: «إن استطعت أن تبلغ نفسك مبلغ روحي، فثابر على الاجتهاد والتأمل لتصل إلى هذه الدرجة القصوى من الجلد والصبر والإعجاب بالنفس، فإني ولدت في هذه الدحال ونشأت بها، وقد علمتني صروف الدهر أن الصراخ والعويل والتوسل لهي صفات الجبن والعجز، والواجب يقضي عليك أن تقوم بأعباء ما عهد إليك وكلفت به وناداك إليه حظك بعزيمة، تسبق العضب في المضاء مهما بلغ الأمر منتهاه من الشدة والمضض، وبعد اللتيا واللتي كن مثلي كاظمًا آلامك، ثم مت صامتًا دون أن تنبس ببنت شفة.»