نابغة من شعراء وروائيي العصر الفرنسيين ممن يفتخر بهم الشعر المطلق، ولد بباريس سنة
١٨٤٢.
ظهرت أول مجموعة من نظمه بعنوان «صندوق البقايا المقدسة» سنة ١٨٦٦، وكان أول ظهوره
في
عالم الشعر عاطلًا من مميزاته ونفحاته، فلما صدرت روايته النظمية «جواب الآفاق» سنة ١٨٦٩
رفعت قدره، واستلفتت إليه الأنظار من كل فج عميق حتى عُدَّ من فحول الشعراء، وهي من معجزات
نظمه ودرة يتيمة في بابها، لم يأت أحد بمثالها غير ما حوته من رقيق العواطف ودقيق
الإشارات.
وكتب عددًا عظيمًا من الروايات التمثيلية والمجموعات الشعرية، ومن أشهر رواياته
التمثيلية: «عواد كريمون» سنة ١٨٧٦، وهي شائقة مؤثرة، و«سيفيروتوريللي» سنة ١٨٨٣،
و«اليعقوبيون» سنة ١٨٨٥، و«لأجل التاج» سنة ١٨٩٥، وهي رواية تاريخية نظمية من أبدع ما
كتبه
الشاعر، سحرت العقول ببلاغتها ومتانة قريضها وما شملته من النفحات العلوية والفيوض
الربانية.
ومن نخب شعره: «المودات» سنة ١٨٦٨، و«المساكين» سنة ١٨٧٢، و«بين المنازل والنزَهِ»
سنة
١٨٧٥، و«الدفتر الأحمر» سنة ١٨٧٤، و«المقاطيع الشعرية والمراثي» سنة ١٨٧٨، وعدد وافر
من
القصائد نُشِرَت على حدة، لا سيما «أوليفييه».
وما كتبه نثرًا مثل «القصص»، وهي في خمسة أجزاء، واشتهرت برقة العواطف وجملة روايات
نثرية، وعدد من مجموعات الحوادث التاريخية، منها: «الألم العظيم» سنة ١٨٩٨، وهي تنبئ
بحصول
بعض من الانتقال الديني للمؤلف، وقد انتُخب في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٨٨٤، ثم اشتغل
بالسياسة، وعُيِّنَ رئيس شرف لحزب «الوطن الفرنسي» سنة ١٨٩٩، ثم استقال عقب انتخابات
سنة
١٩٠٢، ومن هذا الوقت أمسك اللسان وطرح القلم ولم يكتب إلا ما ندر.
وظهر في هذا العهد الأخير له ثلاثة أجزاء: الأول منها «في الصلاة والحرب»، وهو نظم
سنة
١٩٠١، والثاني «قصص لأيام الأعياد» سنة ١٩٠٢، والثالث «أشعار فرنسية» سنة ١٩٠٦، وجملة
مواضيع وقصائد ظهرت في الجرائد والمجلات وكان لها استحسان باهر.
وقد تبرع للمجمع العلمي الفرنسي بجائزة للشعر قدرها ألف فرنك تُمْنَح كل سنتين.
وقد وُفِّق في التمثيل بين المذهب المطلق والمذهب المقيد؛ فأعطى للأخير العويص الفهم
رقة
تعبير الأول وسلاسة تركيبه.
وكان من أمهر الناثرين، وكتب في الجرائد في قسمي: الأخبار، والملحقات الروائية نثرًا
سلس
العبارة رقيق التعبير ملؤه العواطف والوجدان الحي، كما أنه أجاد أيضًا في المواضيع
الفكاهية.
وقد توفي بباريس في ٢٣ مايو سنة ١٩٠٨، واحتفلوا بجنازته احتفالًا شائقًا يليق بمقامه
الرفيع وبكاه القريض الفرنسي قبل الشعراء.
جوَّاب الآفاق Le Passant
رواية تمثيلية ذات فصل واحد
(يحتوي المرسح على روض بهيج خلوي، يضيئه القمر، وعلى يمينه بيت جميل، توفرت فيه أسباب
السرور بصنوفه، قائم على سفح أكمة، وبجانب الحائط مقعد خشبي قديم، وتظهر من بعد داخل
المرسح معالم مدينة فلورنسا، ولا يكاد يحققها الرائي، والسماء صافية تتلألأ في كبدها
نجومها.)
سيلفيا
(وحدها ترى سيلفيا لابسة ثوبًا أبيض عارية الكتفين
والذراعين، متكئة على حاجز الممشى، مسرحة نظرها في روضها الجميل)
:
لعن الله الحب فقد صيَّر العين جامدة والدمع عصيا.
(ثم تنزل ببطء إلى حضيض الأكمة.)
لقد قضيتُ صبايَ في سلب العقول واختطاف النُهَى، وأنا الأميرة الخبيثة، ويقبل
يدي الجميع كملكة وهم صاغرون، وكان قلبي لا يشعر ولا يحفل بقبلهم الحارة، فمن
يخال أني بعدما بلغت هذا الشأو البعيد أسأم وأمل.
السماء باقية على صفائها الجميل، مضى عليها شهران ولم تمطر، والصيف وسكونه
ولياليه المحبوبة، ولا ريب أن الشعراء والمغنين يسعدهم الحظ وينفحهم بتشبيهات
سمجة، وأرى اسمي تتقاسمه القوافي مع أسماء الأزهار؛ فلا تكاد تقع عيني على
قصيدة إلا وأبصر اسمي فيها، حتى امتلكت القلوب وصرت أُغْبَط على هذه المنحة
الجليلة.
وهؤلاء المتملقون الصاغرون لا أنظر إليهم إلا بعين ملؤها الازدراء والاحتقار،
وهذا «التوسكاني» بطل الوقائع والحوادث المتقلب في النعم الجزيلة، يطرح تحت
قدمي الحلي من ذهب وجوهر، وذاك القاضي يتيه كبرياء وإعجابًا، والآخر وزير مال
«جنوة» يتنافسان في عرض نفيس الماس وغرر الدرر أمام ناظريَّ؛ لينظرا لمن يكون
الغلب والظفر، فيستلفت عيني نحو هديته الغالية، ولكن هيهات لما يؤملون، فإني
أبغضهم واحتقرهم، وكل هؤلاء الرجال ذوي القلوب الخوالي ليتهم يحبونني مفاخرة
كحبهم لي لقضاء مآربهم.
إنني لأتألم من هذه الحياة؛ إذ الموت خير من حياة بلا حب، وقد أصبحت لا أملك
شيئًا من ذخائر الحب حتى زهرة جافة أحفظها في كتاب، أو خصلة من شعر، أو كلمة
حلوة تسترق القلوب يفكر فيها الإنسان قبل نومه؛ حتى صارت الحياة خلوًا من
المسرات، كما لا يشوبها ضر أو فزع أشكو أو أستغيث منه؛ فوا أسفا صرت لا أستطيع
البكاء ولو خفية، أواه من حزن ضاق به الصدر ذرعًا، وهمَّ يكاد يتفطر منه القلب.
(مشيرة إلى المدينة التي تظهر من بعد)
هذه فلورنسا، والليل صافي الأديم، والسماء مقمرة، ولربما نظرني تلميذ مرة فوقع
في حبائل غرامي، وغلبه حياؤه فعف وكتم حبه، وجلس بجانب نافذته شاخصًا إلى
السماء يناجي النجوم، فيصعد الزفرات تارة ويثمل من نشوة أمانيه طورًا.
ليت شعري كيف يحفظ العهد لحب لست له أهلًا، ولكن لو عثر به الجد ورماه في
طريقي المنكود؛ فلا يظن أن قلبي يطاوعني على خذلانه وتركه ليتيه في بيداء
هيامه.
وإني لأعاهده على أن يشاطرني آلامي، كما سأهبه وحده نفسي وأضن على كل من
يخطبني حبي.
زانيتو
(يغني على بعد)
:
أحبب بفصل جاء بعد شتاء
فصل الربيع ووصل كل هناء
غارت ذكاء لحسنه فتألقت
ورمت أشعتها على الغبراء
وكذلك الأوكار دبَّ دبيبها
والجو خامره نسيم صفاء
والريش من قمريها أنَّى مشى
ماشٍ رآه فوق وجه الماء
سيلفيا
:
كل ينغصني ويغيظني حتى هذا الصوت الرخيم في الليل البهيم وسرور الخلق يتبعني
ويقتفي مني الأثر، فيا لقلب حزين وبال كاسف، وإني وذاك الصادح على طرفي نقيض؛
فأنا ألعن الربيع وهو يترنم بتمجيده.
زانيتو
(يغني وقد اقترب صوته)
:
فاسلك بنا سبل الفراش لنلتقي
يا ابن الكرام بكاعب هيفاء
فهناك نمرح في ظلال خميلة
بالقرب من عين تروق الرائي
ونشاهد الغزلان غزلان النقى
تروي الصدى في هذه البطحاء
٦
سيلفيا
:
النغم شجي والصوت عذب يستهوي الأفئدة، ولكني لا أعلم حال هؤلاء الذين يدعون
الحب؛ فلندخل ولنترك الميدان فسيحًا للذين أسعدهم الحظ والهناء.
(ثم تصعد إلى بيتها وهي تنظر حائرة إلى الجهة التي ينبعث
منها الصوت، ويأتي زانيتو ومزهره
٧ على كتفه متأبطًا عباءته، وطرفها يكنس الكلأ وراءه، ويدخل متهللًا
دون أن يلمح سيلفيا)
زانيتو
(وهو واقف في صحن الدار)
:
رعى الله ليالي الصيف التي تمكن المسافر من الرحل الشائقة، إذ يتناول عشاءه
في قرية حقيرة تحت دوالي الكروم، وأمامه منظر الغروب البهيج، ثم يتمم ترحاله في
شروق القمر، ولا مطية له إلا قدماه يسير مترنمًا برقيق الأناشيد كي لا يشعر
بالنصب. سقيًا لليالي الصيف إذ السماء صافية، تتلألأ بها دراريها مبتسمة
للمسافر، لامعة من خلال أشجار الطريق.
عشتِ ونعشتِ يا ليالي الصيف أنت والأمل، وهأنذا على مقربة من فلورنسا، وسأعرف
غدًا إن كان العهد باقيًا على حبها لسماع نغام العود وشجي الأغاني الغزلية،
ولكني أرى النهار بعيدًا وثيابي رقيقة.
ومزهري هذا أحمله على كتفي كضغث على أبَّالة، وأهل الخان الآن في دعة
واطمئنان، يطرق بابهم الطارق حتى يكل ساعده وهم كأنهم صم، وبعد الجهد الجهيد
يفتحون وقد علا وجوههم السأم والضجر، فمن لي بركن آوي إليه وأقضي فيه ليلتي
هذه.
(ثم يلمح المقعد القديم بجانب الحائط.)
هذا مقعد عتيق ولو أنه مضجع خشن لكن الليل هادئ رائق، ونعم العشب من وسادة،
وإن شعرت ببرد الليل فستصلح الشمس في الصباح ما أفسده المساء، وما عليَّ إلا أن
أرقص قليلًا فأدفأ وأستأصل من جسمي شأفة البرد.
(ثم يتهيأ للمنام.)
سيان عندي هذا المضجع القض٨ وفراش وثير،٩ فما أجمل النجوم وما أحلى خان الخالق الذي لا يكلف أجرًا!
(ثم يمتد على المقعد ملتحفًا بعباءته وينام.)
سيلفيا
(ناظرة من سفح فناء دارها)
:
يا لك من غلام مسكين قد فعل كما قال. كنت أشكو منذ هنيهة من جمال الليل فما
أخبثني!
(ثم تنزل مسرعة إلى الحضيض.)
١٠
يلزمني أن أدعوه لأني لم أقم بواجب الضيافة ولم يفتني الوقت بعد. يشكو
الإنسان من الصيف؛ لأنه يكون فيه عرضة للشجون، ويود لو يكون الليل حالكًا
معتمًا، فينسى جميع هؤلاء البؤساء الذين يُطوح بهم الحظ المنكود في كل شرق وغرب
ولا من يؤويهم ويواسيهم.
(ثم تنظر إلى زانيتو وهو نائم.)
إنه لنائم نومًا هنيئًا سائغًا ولا ريب أنه اعتاده وألفه، ولكني صامتة مضطربة
أمام هذا المشهد الرهيب من عزلة ووحدة وليل أريج، وغلام نائم بهيج، وإني ليخيل
إليَّ أني أسمع دقات قلبي وكأن عاملًا جديدًا يحرك منه ما سكن ويثير ما هدأ حتى
كدت أفقد صوابي.
(ثم تقترب من زانيتو وتطيل إليه النظر.)
وا أسفا إنه لمماثل لأمانيَّ.
(ثم تأخذ بيده بلطف.)
هيا استيقظ فإن هواء الليل ضار.
(زانيتو يستيقظ ويرى سيلفيا، فيدهش ويأخذه العجب.)
أأنتِ من بنات الجن؟! لقد كنت الساعة أراك في أحلامي، وكنت أنظر أشباحًا
بيضاء تمر عليَّ تلو بعضها.
سيلفيا
:
واهًا لك! لم تكن إلا أشعة الكواكب تتخلل الأشجار.
زانيتو
:
لا، فما رأيته في عالم الرؤيا هو عين ما أشاهده الآن، وإني لأتصور أنني عرفت
صوتك أيضًا، ولو أن النائم لا يعي شيئًا لكن روحه تسبح في عالم الخيال؛ فترى
وتسمع وتتحدث، وكنت أسمع أيضًا أنغام موسيقى شجية لم أسمع مثلها في المقام
الدنيوي.
سيلفيا
:
ما سمعته من الألحان الموسيقية لم تكن إلا الأشجار تعبث بها الصبا؛ فتتمايل
غصونها ويسمع حفيفها.
زانيتو
:
ولكن من تكونين إذن؟
سيلفيا
:
إنني مفاجئة أعرض عليك طعامًا ومأوى إن كنت في حاجة إليهما
زانيتو
(وهو مطيل النظر إليها)
:
شكرًا لك فقد تناولت عشائي متأخرًا واستكفيت من النوم.
سيلفيا
(تخاطب نفسها على حدة)
:
اتقي الله وكوني عفوة أيتها المرأة القاسية! ألا تفكرين أن الكل يؤاخذك بل
يصب لعناته عليك إن مس حبك هذا الغلام الغر بسوء.
(ثم تخاطبه.)
ألا يحق لي معرفة مَنْ ينام تحت نافذتي؟
زانيتو
:
لك ما تبغين فإني لا أروم الخفاء، ومهنتي موسيقار١١ واسمي زانيتو، ومنذ طفولتي وأنا أجوب الآفاق، وحياتي أسفار ورياضة،
وأذكر أنني لم أبث ثلاثة أيام تباعًا تحت سقف، وأعيش من وراء عشرين مهنة صغيرة
لا يحتاج إليها، ولكن أحقرها عندي أجلها نفعًا.
أعرف كيف أنزل السفينة في البحيرة وكيف أسيرها، وأعلم كيف أنتفي من الحديقة
الغناء غصنين لدنين أشد عليهما الشباك بمثابة سرير وثير، وأدري كيف أطلق الكلاب
السلوقية مثنى مثنى وراء الصيد، وأعرف كيف أذلل الصعب من الجياد، وأعلم كيف
أصوغ القوافي وأنضدها كعقود الجمان في جياد الحسان، وفضلًا عما ذكرته من الفضل
الذي لا يدانيني فيه مدانٍ، في حلبة الرهان، أدري كيف أربي البزاة والصقور
وأدربها الصيد، وفي الموسيقى — لا سيما المزهر — أُعَدُّ من الرؤساء
الفضلاء.
سيلفيا
(وهي باسمة)
:
أنت حائز لكل هذه المهن والفنون وتقضي أغلب لياليك طاويًا.١٢
زانيتو
:
لقد صدقتك فيما سردت، وإني لا أعرف لنفسي ترتيبًا ولا قاعدة أسير عليها،
وساعة طعامي ليست محددة إذ طالما نسيتها؛ لأن بلادنا لا تعرف للضيافة حقًّا،
وكثيرًا ما أكون بعيدًا عن بيوت الهناء والنعيم منزويًا في ركن من غابة، وقد
رددت قبل مجيئي غائلة السغب١٣ بقليل من البندق، وذلك جعل فيَّ روح السنجاب١٤ ورشاقته.
وبعد فكان الناس يحسنون وفادتي، ويلقوني بالإيناس والترحاب لأني لا أشغل
مكانًا عظيمًا ويكفيني الشيء النزر.
ألج القصور ليلًا وأعرض على أهلها أن أشنف أسماعهم برقيق الأغاني وشجي
الألحان وهم على المائدة، ثم أصدح بصوتي الرخيم الرنان؛ فأسترق الأسماع
والقلوب، وأنال كل مرغوب ومطلوب، ويعطف عليَّ رب القصر وينفحني بذراع من الأروى١٥ الشهي وطير سمين، وإن اشتهيت شيئًا من الصحاف الحارة، فما هي إلا
نظرة إليه تكفيني مئونة الطلب، وإن هو إلا لمح البصر أو هو أقرب ويكون أمامي
الصنف الذي تاقت نفسي إليه.
سيلفيا
:
قد وعيت جميع ما سردته، وأظنك متممًا ترحالك إلى فلورنسا.
زانيتو
:
سأيممها بلا ريب، ولكن لو اتفق وتقاطع أمامي طريقان أقصد أجملهما وأضرب عن
عزمي السابق. أتبع أهوائي في أسفاري وأجوب البلاد كالسحاب أو كالأوراق الذابلة
تطير كما تهوى الرياح. لا يُعلم من أين أتيت ولا أين ألقي عصا الترحال؛ فمثلي
كمثل الشاعر أو المجنون يهيمان في كل واد. أتبع الطير في مسيره وتسمع أغانيَّ
مرة واحدة؛ لأني لا أمكث في البلدة إلا ريثما أبتاع بعض الأزهار الجميلة لأزين
بها مزهري.
أنا الرحالة العجيب الذي حكم عليه الناس بالخفة والطيش، ويمرح في ربيعه
السادس عشر، إن أمطرت السماء استترت تحت الخمائل المتكاثفة ريثما يسكن المطر،
ثم أخرج من الغابة المبللة ضاحكًا من قوس قزح.
لم أجشم نفسي للحصول على الغنى والسعادة، كما أنني لم أصادفها قط، وإني
كالحاج المسافر في ضوء القمر يشرب من الينبوع المنفجر، ويخوض النهر من المخاضة.
مداوم سيره لا يقعده تعب ولا نصب.
سيلفيا
:
ألم تفكر قط في الإقامة بعد هذا السير المتواصل الذي تبثُّه فيك روح النزق
والطيش؟! وإنك لتؤمِّل الأماني والآمال من الغد الخفي المبهم. أما بصُرت في
ترحالك بمنعطف الطريق ببيت صغير خيَّم عليه السكون والدعة، وهو في حلته البيضاء
الناصعة تكسوه النباتات المتسلِّقة، التي حوت من أحاسن الأزهار وأريج الورود،
وببابه كلب جميل أمين.
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
وبنافذته المفتوحة فتاة هيفاء دعجاء تحييك وأنت مار.
زانيتو
:
طالما تيقَّنْت أن أناشيدي أشبه بحجر يقذف به في خميلة؛ فهيج منها ما كمن من
الأفاعي كبيرها وصغيرها، وإني أمام هذا المنظر الذي لا يميل إليه إلا كل حوشي
سوقة أراني لا آلفه؛ لكوني أحب أن أترك الأسر وشأنهم من الدعة والسكون.
سيلفيا
:
ألا تغرق في بحار أمانيك حينما تبتسم لك الفتيات الحسان بما يخجل البدور،
ويطرحن عليك من الأزاهير التي يعلقنها بصدورهن؟!
زانيتو
:
وما الفائدة من جراء ذلك؟ بل كنت أرسل إليهن قُبْلَة من بعيد وأذهب لشأني،
وقد بينت لك أن أثمن الأشياء عندي الحرية، وإن أحببت وأطلقت لنفسي العنان في
الحب صرت أسيره وأفقد رحلي الشائقة، وإني الآن خفيف العبء لا أحمل إلا ريشة
أزين بها قلنسوتي ومزهري على كتفي، وأما الحب فحمل ثقيل ترزح من ثقله القلوب
الشداد.
سيلفيا
:
إنك لطير صعب المراس، لا يُستطاع إمساكه في قفص ليستأنس ويستألف.
زانيتو
:
إن ذلك لمحال.
سيلفيا
:
ألا يفكر طيرنا أن يصنع له عشًّا يومًا ما يأوي إليه؟!
زانيتو
:
لا لا! فإنني أرتعد خوفًا حينما أسمع اسم الحب، وإنك لا تعرفين حلاوة السفر
ولذته، كالفراش١٦ المتنقل على جميل الأزهار لا يلبث على إحداها إلا ريثما يمتص رحيقها.١٧
سيلفيا
:
ليست السعادة ما تظنه. إنك ذاهب إلى فلورنسا ولا أمل يقودك، يرشدك الاتفاق
وتأخذ بيدك المصادفات، وقد استعذبت الطريق الجميل، ونسيم الليل العليل البليل،
تتبع خُطَّافًا١٨ طائرًا، أو صبًا١٩ سائرًا.
زانيتو
:
الأمر كما وصفت.
سيلفيا
:
قد عرفت سيرك، ولكن غاب عني مقصدك.
زانيتو
:
إنه لمبهم.
سيلفيا
:
وماذا يكون؟
زانيتو
:
إني لا أعلم ما في الغد.
سيلفيا
:
أود أن أمد إليك يد المعونة.
زانيتو
:
لست في حاجة إليها، وربما لا أخطو خطوة واحدة بعد جميع ما مضى، وإن نفسي
تحدثني بأمر ذي بال، وذاك أن مثلي من لا يعلم له أبًا ولا أمًّا لا يبعد أن
يكون ابن قروي حقير أو ابن سيد أمير، ولكن يغلب على ظني أني ولدت في صبيحة يوم
جميل من أيام الربيع؛ لأن شعاع السرور المرتسم في رأسي يمنعني أن أظنني يتيمًا،
ولغاية الآن، وأنا جائل كالفلوِّ٢٠ فرحًا مرحًا، لا أطمع في عيش أرقى مما أنا فيه، ولكنني يلزمني أن
أبوح لك يا سيدتي بما يخالج صدري لما آنسته منك من اللطف والرقة في مخاطبتي،
فقد عاودتني الذكرى القديمة المبهمة، فتذكرت أختالًا أعلم الآن خبرها وما فعل
بها الدهر.
وحينما أفهمتني حقيقة المأوى الذي تكتنفه السعادة من كل صوب وهو بعيد عن أعين
الناس تظلُّه النباتات الجميلة التي اكتست بأبهى الأزاهير، أراني الآن قد
ابتدأت أن أشعر بوطأة التعب والنصب مما تكبدته من مشاق الترحال
والأسفار.
ولقد تاقت نفسي لما عرضته عليَّ، وأراني منقادًا طائعًا لنصحك، فكوني طيبة
القلب كما أنت جميلة الطلعة، أفلا تجربين إذن أن تحفظي هذا الطير الشارد بجانبك
ليألف ويستأنس بعد نفوره؟!
وإني أعاهدك بأن أهجر عيشتي السابقة التي لا نظام لها وأعيش هنا، ولا قصد لي
أن أقضي عامة اليوم جالسًا على وسادة تحت قدميك، أسامرك بما يقتل الوقت وأشنف
منك السمع بأناشيد ترنح منك الأعطاف وترقِّص ما يجول بخاطرك من الأماني
والآمال.
سيلفيا
:
ما أنت إلا طفل!
(ثم تناجي نفسها على حدة.)
ما لي أراني مضطربة خائفة من أن أحوزه بجانبي وأحوطه بصنوف الاعتناء والحنان،
ويستهوي سمعي حينما يناديني: يا حبيبتي، وهنالك محط آمالي!
زانيتو
:
فهل لك فيما بحت به إليك؟!
سيلفيا
(على حدة)
:
وإن قبلت؟ لا فذاك محال! ولكنه هو الذي عرض عليَّ الأمر بنفسه.
زانيتو
:
أعلم يا سيدتي أن هذا منك كريم عظيم، ولكن هل تسمح إرادتك؟
سيلفيا
(على حدة)
:
سيعلم غدًا من أنا.
زانيتو
:
ما رأيك أخيرًا؟
سيلفيا
:
لا أستطيعه.
زانيتو
:
ولِمَ لا تسطيعينه؟
سيلفيا
:
لست المرأة التي تظنها؛ إذ لا يقوم بأعباء ما تتمني إلا سيدة سرية لتعول
أمثالك من الشعراء والموسيقيين وترعاهم بعظيم عنايتها، أما أنا ففقيرة يعوزني
المال والرجال.
زانيتو
:
أما لك حاجب من الشرفاء؟
سيلفيا
:
لا.
زانيتو
:
ولا خادم؟
سيلفيا
:
كلا.
زانيتو
:
إنني أقنع بثمرة واحدة أتناولها في العشاء، ويكفيني كرسي أنام عليه.
سيلفيا
:
ليس في الإمكان.
زانيتو
:
ولكن.
سيلفيا
:
إنني أرملة لم تقض أيام حدادها وعائشة وحدها.
زانيتو
:
وا أسفاه يا سيدتي، فإني لا أتطلب إلا أن أعيش تحت قدميك.
سيلفيا
:
قد طلبت محالًا.
زانيتو
:
وداعًا لحظ سعيد هنيء تمناه القلب واشتاقت إليه النفس، ولكني لا أيأس من رحمة
الله؛ فلربما صادفت من سيلفيا من الهناء أسعده ومن النعيم أرغده.
سيلفيا
(على حدة)
:
ماذا يقول؟
زانيتو
:
حيث استحال العيش بجانبك في الدعة والسكون مما حدثتني به النفس، وأنا مصغٍ
لما سردته عليَّ من الحديث، فعلى الأقل جودي عليَّ برأيك ومحضيني النصح؛ فقد
أنبئت منذ أيام أن فلورنسا سيدة لم يثبت أمامها قلب من القلوب، ونظرة منها أشد
فتكًا من السهم المريش، وكافية لأن تطرح تحت قدميها أشد الرجال بأسًا، ولا ريب
أنك تعرفين اسمها، وهو «سيلفيا»، ويقال: إنها تعيش ببذخ ورفاهية، والناس تفد
عليها من كل فج عميق، والسعيد من وفق لأن يمكث عندها بضعة أيام، وهي تهوى
الموسيقى الشجية من يد عالم ماهر، ولا سيما المزهر، وقد صممت أن أيممها.
سيلفيا
(على حدة)
:
اللهم رحمتك!
زانيتو
:
إني لا أستطيع أن أجد لي مهنة في قصرها، ولكن نفسي تثور فيها عواطف الكبرياء
والإعجاب، ويشاع أنها ذات جمال ساحر وحسن باهر، ومن عاش بجانبها لا يستنشق إلا
نسيمًا مشئومًا مسمومًا، وإني لموجس خيفة، فما قولك يا سيدتي وقد ائتمنتك
وجعلتك موضع ثقتي؟
وإنك نبذت ما عرضته عليك، ولكن مهلًا؛ فإنك لم تبتِّي الأمر بعد، وليت شعري
لِمَ ارتسمت هذه الفكرة في مخيلتي، وهو أن قلبك نحوي مفعم بحب يفوق حب الأم
لولدها، وتودين لي الهناء والسعادة، وإني لتابع لإرشادك ما عشت، فهل أقصد
سيلفيا؟
سيلفيا
(على حدة)
:
قد فهمت الأمر، وسيعود غدًا هذا العابر الذي يسمى الحب بلفظه ومعناه، بل هذا
الخفي الذي ملأ قلبي حنوًّا ورقة، وقد طوَّح به إليَّ الحظ، وإن هو إلا السعادة
المارة وأنا أطردها! لا لا، فالنفس لا تقوى على إخماد عواطفها الثائرة، وإني
أريد أن …
زانيتو
:
ألا تعيرينني سمعك قليلًا؟! فإنك التزمت الصمت.
سيلفيا
(على حدة)
:
إن هذا لعار، ولكني سأعتذر بأن حظينا السيئين اختلطا مع بعضهما.
(على مسمع منه.)
أتريد رأيي ونصحي؟
زانيتو
:
أجل.
سيلفيا
(بعد سكوت برهة تتكلم بتكلف عظيم وشدة)
:
أطعني ولا تقصد هذه المرأة التي تدنست بالعار، وإنك لغر لا تعرف هذه الأمور،
حدث سليم القلب بسيطه، لا تدري بما يحفك من الضرر والسوء.
ولو أني لما لم أستطع أن أؤويك وأواسيك؛ كنت والأسف ملء فؤادي أول رافضة
لبغيتك، ولكني قادرة أن أنجيك الآن مما سيحيق بك من المكروه لو أنقدتَ
لرأيك.
وكيف وأنت ابن الغاب الذي يسير فرحًا مرحًا تداعب الصدى،٢١ وتعدو وراء الطير، ويظلك الغمام، ويرويك الينبوع بزلاله
البارد.
أنت الذي تيمتك الطبيعة بمحاسنها؛ حتى خلا قلبك من كل شيء تصنعه يد الإنسان،
وتغني متهللًا كالطير في سمائه، وأنت مبلل الخدين بالندى تود أن تلج هذه الدار
المشئومة المحتقرة.
أتدخل مع شمس الصباح بهوًا٢٢ لم تكد تنتهي فيه وليمة الخلان؛ لتدنس شفتيك النقيتين بكأس
ابتذلتها الرفاق والإخوان، وتأكل فضلتهم الفاضحة الممقوتة.
أتود أن تقع في مهاوي الفسق بالنظر إلى عينيها اللتين أذبلهما السهر وذهب
بطلاوتهما العهر؟! فاتقِ الله في عينيك المزريتين بصفاء السماء وشعرك البهيِّ
العسجدي.
أتطمع أن تنال من سيلفيا طعامًا ومأوًى بأنشودة أو لحن؟ فعفوًا أيها البريء
الطاهر الذيل، فإني أخاطبك بلهجة حادة قاسية مع أني في حاجة إلى العفو
والإغضاء، وتراني الآن مضطربة، ولكن ذلك من فرط حبي لك، كطفل تريد أن تنتشله
أمه من مخالب الهلاك.
فابق على حالك من جَوْب البلاد، راتعًا في المروج النضرة الزاهرة والرياض
الأريضة المونَّقة، يصدح فيها مزهرك كتول٢٣ من النحل، وإن اكفهرت السماء فما عليك إلا أن تذهب إلى صاحب القصر
الهرم أو القروي ريثما يروق الجو، ثم تتمم ترحالك، وإن صادفك في طريقك في يوم
باسم الصباح صافي السماء، فتاة حقيرة ضربت من الملاحة والطهارة بسهم وافر،
وتليق لأن تكون لك عروسًا فعندها تلقي عصا الترحال، وتحط الرحال، وتعيش معها
مطمئنًّا خالي البال، والحصاد مهنتك؛ فهناك ترى السعادة التامة والهناء العميم،
والنعيم المقيم.
زانيتو
:
إنني لك مطيع، ولكن ربما كانت هذه المرأة براءً مما ألصقتْه بها الألسنة
الحداد، ومن أخبرني بنبئها قال لي: إن قصرها يكاد أن يكون هادئًا مطمئنًّا،
وإني أعاهدك أن لا أيممها ما دمت تعلمين طلعها٢٤ …
(يلمح من سيلفيا إشارة تألم.)
عفوًا فقد مسستُ منك جرحًا داميًا على ما أظن، أما قلت لي منذ هنيهة: إنك
تقضين الحداد، وذاك لا يكون إلا لفقد حبيب عزيز أو أخ أو خطيب؟ وربما كان ذهب
ضحية لسيلفيا هذه.
ألم يكن ما جاش بخاطري قريبًا من الحقيقة؟! فكوني طيبة القلب، وعفوًا إذا
تصورت أنك تتسرب إليك عقارب الغيرة، ظانة أنني أرمي إلى زواجها.
سيلفيا
(وقد أكفهر وجهها.)
:
لقد غرك يا صديقي الشك؛ فإني لا آسف على أخٍ ولا حبيب، ولكنه طبيعي رحمة
وشفقة على سيلفيا، عالمة أنها في الحقيقة أهل الآن لكرم يحمي براءتها، ولكن
واهًا لغرض قاسٍ من مسير على الثلوج لا تستطيعه الأقدام! وهي في الباطن تكره
الرشيق القوام الطاهر الذيل، فارحل واعلم أن جل نصحي لك أن لا تعرج عليها
فهيَّا اذهب بسلام.
(ثم تسمع بلهجة الألم.)
إنك لا تعلم حرج الموقف، وما يشق عليَّ من أمرك، وأجري عظيم إن ضلَّلت خطواتك
عن هذا الطريق، وإني لأستحق على هذا البر الجليل أكثر من الشكر والثناء
الجزيل.
(على حدة.)
قد قضيَ الأمر، ولكن وا أسفاه أن وُقِفَ على حقيقة أمري.
زانيتو
:
إني لا أعرج عليها إذا كنت حكمت عليها بحكمك هذا، وسأرحل ولو أني لا أجد
اليوم إلا قليلًا من السعادة عما سبق لي من الحياة المشحونة بالوقائع، التي
صادفت فيها كل الابتهاج والبشر، وتصعب الراحة والمقام لمثلي؛ لأني لمع لي بارق
أمل ضئيل من السعادة.
وحينما رفضت ما عرضته عليك شممت من لهجتك حنوًّا ورقة، يخالطهما تأثُّر
استنبطت منه أنك تكتمين شجونًا عظيمة دليلها القاطع لفظة التأسُّف
الحلوة.
سيلفيا
(تناوله خاتمًا)
:
لقد صدق ظنك! فخذ هذا الخاتم تذكارًا.
زانيتو
(بإشارة رفض)
:
لا يا سيدتي، وإنه لعلى طراز قديم من ذهب جيد ومزين بفص كبير من الماس
النادر، وهذا ما لا أستطيع قبوله فشكرًا لك، وكيف أقبله وأنت أرملة
فقيرة.
سيلفيا
(على حدة)
:
ليت شعري هل عرف جليَّ حالي، وعلم من أين جاءتني هذه الحلي المشئومة؟ أراه
التزم الصمت وينظر إلىَّ نظرة تغضُّ مني الطرف حياءً وخزيًا.
(بصوت عال.)
ماذا تود أن أن أعطيكه؟
زانيتو
:
أشتهي تذكارًا لا عطاءً وإحسانًا، شيئًا لا يقوَّم بقيمة ولكنه عزيز عندك،
أبغي هذه الزهرة الذابلة التي كادت أن تجف في شعرك الفاحم.
سيلفيا
(تعطيه الزهرة)
:
وا أسفاه! فخذها، وقبل طلوع النهار ستذبل هذه الوردة في يدك، وأملي أن تذكرك
عهدي بأن تنساني عندما تذبل، وإني أودعك الآن أيها العزيز.
زانيتو
(يقترب من سيلفيا وهي تبتعد عنه)
:
سيدتي! لي كلمة أقولها والاضطراب يلعثم لساني، وأخاف أن آخذ طريقي الأبدي،
وكما يخيل إليَّ أني ضللت طريق السعادة، ولا مسلك هنا يوصل إليها؛ فعليك اختيار
أحب الطرق لأسير فيه، فأمعني الفكرة والبصيرة، وسأستقبل الجهة التي تشيرين
إليها متكلًا على الله وحسن حظي.
سيلفيا
(وقد صعدت إلى وسط سفح البيت، مشيرة إلى الجهة المقابلة
للمدينة)
:
اذهب إلى ناحية الفجر.
(ثم يخطو إلى سيلفيا بعض خطوات ولكنها توقفه بإشارة منها
فيذهب يائسًا.)
سيلفيا
(وهي وحدها، تمكث آونة متكئة على مرفقها ناظرة إلى زانيتو
وهو يبتعد، ثم تغطي وجهها وتبكي بكاءً مرًّا)
:
بارك الله في الحب، فإني الآن أستطيع البكاء.