إيدمون روستان١
وأهم مؤلفاته رواية «سيرانودو بيرجيراك» سنة ١٨٩٧، وهي شعرية حماسية ذات خمسة فصول، اهتزت لها أعطاف البلاغة طربًا، وسارت بذكرها الركبان. أوجد فيها مشربًا في الشعر مضادًّا لمذهب المحققين الفاضحين، الذين يكشفون جميع ما استتر بلهجة تهكم قارصة، وهي في النظم بيت القصيد من شعر المؤلف، تضمُّ بين سطورها حماسة وحميَّة وشجاعة ومروءَة منسجمة القوافي شائقة المعاني.
وقد انتُخِبَ المترجم في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٩٠٢، وأصبح أمير الشعراء، وله عدة قصائد نشرت على حدة وكان لها استحسان عظيم.
وفي سنة ١٨٩٠، ظهر ديوان في الشعر لإحدى الآنسات، وهي في ربيعها التاسع عشر، باسم «المزامير»، بديع النظم رائق المعاني، لا يشوبه التكلف؛ فدهش المجمع العلمي حينما قارن بين عمر الفتاة وديوانها العظيم، ومنحها جائزة عظيمة، فتزوجها شاعرنا هذا في السنة التي ظهر فيها ديوانها، وهي السيدة «روزموند أيتيينيت جيرار» من الشعراء المشهورين، ولدت بباريس سنة ١٨٧١، وهي ابنة «الكولونيل كونت جيرار»، وحفيدة الماريشال «جيرار».
(١) ملخص رواية سيرانو
تتبع سيرانو دوبير جيراك — وهو من مشاهير شعراء القرن السابع القرن السابع عشر — إلى «نزل البورجوني»، وهناك احتشدت الجموع من: سكارى، وسراة، وممثلين، وموسيقيين، وغيرهم. ثم نعرج على طاهي الشواء وأصناف الحلوى «راجنو»، وكان شاعرًا يضحك من رآه؛ إذ كان يملأ أكياس الورق الذي يلف فيه الحلوى بقصائده، وعندما يأتي مشتر يقف أمامه زمنًا طويلًا، ريثما يقرأ الطاهي قصائده المكتوبة على الأكياس، وينتقي واحدة منها؛ إذ كان يضن بها وتذهب نفسه حسرات عليها.
وهناك يدري سيرانو أن «روكسان» التي تيَّمه هواها تميل إلى «كريستيان دونوفييت»؛ فيصطحب مع هذا المنافس المزاحم، ويدعوه ليسمع مع الجميع القصيدة المضحكة التي يصف بها أنفه الكبير؛ فيغرق الجميع في الضحك من هذه القصيدة، التي حوت من الملح والفكاهات أرقها ويزينها الإلقاء البديع والفصاحة التي منحها هذا الشاعر.
وصار سيرانو يساعد كريستيان في استمالة روكسان بأن يمليه الرسائل البليغة لحبيبته؛ حتى اغترت به وظنته أنه هو المحرر لها وازداد حبها له بفضلها.
ثم ننتقل بالقارئ إلى بيت روكسان، فنرى كريستيان واقفًا بعد الغروب تحت طنف البيت، وقد علته الكآبة وأكمده الأسف، فينظره سيرانو وهو مارٌّ فيستغيث به كريستيان لينتشله من ورطته؛ لأنه كان عيًّا فظًّا، وقد أردت روكسان أن يجالسها للسمر، فكان لا يعرف أن يخاطبها بكلمة غير قوله: «أحبك»، وصار يكررها حتى سئمت منه، وقالت له: حدثني عن الحب، وكيف يكون؟ فلم يحر جوابًا، فقالت له: عبر عن وجدانك وشعورك على الأقل. فما كان منه إلا أن لبث أمامها كالبهيمة، لا يدري غير قوله: «أحبك.» حتى ضايقها وطردته.
ثم رق له سيرانو ووعده بالمساعدة، واختبأ تحت الشرفة، وأشار عليه بأن يناديها، فأطلت من نافذة الطنف، وصار يلقنه سيرانو الجواب بعبارة بليغة وإشارات دقيقة؛ حتى أدهشها بفصاحته ومنحته القبلة التي طلبها منها في عرض كلامه، حينما رآها رضيت عنه بعد نفورها وغضبها، ثم تزوجت به بعد مدة قصيرة.
ثم سافر سيرانو هو وكريستيان إلى معسكر «إخوان الجاسكونيين» ضمن الجند الذين سافروا، وتبعت روكسان زوجها، وهناك قُتِلَ كريستيان برصاصة من الأعداء، ودُفِنَ معه سر الغش والخداع الذي رتبه سيرانو، ولعب دوره برشاقته المعهودة، وبعد موت كريستيان لبست روكسان ثوب الحداد ودخلت الدير.
وبعد أربعة عشرة سنة التقت بسيرانو، وصار يتردد عليها في بعض الأوقات، ويقص عليها سيرته الماضية وأخباره سنة بسنة، وحبه لها ما فتئ يجري في عروقه مع دمه؛ إلى أن أتى يومًا من الأيام وقد اغتاله أحد الخدم، وضربه بالسيف على أم رأسه، فضمَّد جرحه وذهب إلى روكسان لينظرها النظرة الأخيرة قبل موته، واعترف لها استدراجيًّا بحبه، وأنه هو الذي لعب هذا الدور الختال، وخلب روكسان، وأنه ما برح كاتمًا حبه؛ فتأثرت روكسان ورقَّت له ورَثَتْ لما قاساه هذه الأعوام الطوال بسببها، وبكت وكان بودها لو يعيش وتقاسمه هذا الحب العذري والوفاء والإخلاص، ثم قبَّلته في جبينه، وهو يعترف لها بآخر كلمة إلى أن أسلم الروح بين يديها.
(١-١) سيرانود وبيرجيراك Cyrano de Bergerac
منظر الطنف Scéne du Balcon٥
(ثم تقفل في وجهه الباب.)
(يفترق الحاجبان وينزوي كل منهما في ركن من أركان الطريق، ثم يوجه خطابه إلى كريستيان.)
ادْعُهَا!ولكني يخيل إليَّ أني سأخاطبك الآن للمرة الأولى!
أين كنت؟ لا أعلم … كل هذا، عفوًا عن اضطرابي؛ فقد ثملت من لذة هذا الموقف … لأنه لي جديد غريب!
ولندع السماء تجردنا من كل ما تتكلفه من القول بنظرة من دراريها، وإني لمشفق أن يكون في كيميائنا اللذيذة ما يُخشى عليه من تبخر العواطف، أو أن النفس تنفد من ملاهيها التي تقتل بها وقتها بغير طائل، وأن لا يكون المكر العظيم غاية الغايات.
لهفي على الذين لم يدركوا هذه الأحايين القهرية! التي نشعر فيها بحبنا الشريف، الذي تشجينا منه كل كلمة رقيقة!
لم أنسَ ذكراك ومحب لكل بادرة منك، وأذكر أنني في العام الماضي في اليوم الثاني عشر من شهر أيار رأيتك وأنت خارجة من البيت صباحًا، وقد غيرت ترتيب شعرك الذي كنت أستضيء بسناه الساطع مثلما يحدق الإنسان ببصره إلى الشمس، فإنه يرى هالة ذهبية على كل ما يقع طرفه عليه.
ولو كان ينفعك أن أضم سعادتي وهنائي إلى نصيبك منهما ليكون لك سهم وافر لفعلته؛ لأَني أسمع من بعيد ضحك ما تولد منهما مما ضحيته من حظي.
كل نظرة من نظراتك تحدث فضيلة جديدة وتعودني الجرأة، فهل فهمت الآن وصرت على بينة من الأمر؟ أتشعرين بروحي وهي صاعدة إليك في هذا الديجور؟ وإني لأحار في وصف جمال ليلتنا هذه؟ وإني أقص عليك كل هذا الحديث وأنت مصغية إليَّ، ولم يحم أملي القانع على أكثر من هذا، ولم يبقَ لي إلا أن أموت حيث بلغت غاية الغايات من الأماني والآمال!
وإن كلماتي لهي التي هزت منك الأعطاف بين هاتيك الغصون كورقة يحركها الهواء بين أوراق الخمائل، وقد شعرت بارتعادك وعلمت أنه وفق رغبتك إذ نمت أغصان الياسمين المتدلية بارتعاش يدك!
(ثم يقبل وهو تائه طرف غصن متدل من الياسمين.)
(ثم يوجه خطابه إلى كريستيان بصوت خافت.)
لقد تسرعت وجريت لأبعد شأوٍ.(يسمع صوت العيدان.)
مهلًا! … فقد جاء مار.(تقفل روكسان النافذة وينصت سيرانو إلى نغم المزاهر.)
(وقد ضرب أحد الحاجبين لنا مطربًا والآخر لنا محزنًا.)
لحن مطرب ولحن محزن؟ … فما قصدهما؟ هل أتى رجل أم امرأة؟ لا فهذا راهب.(لنضرب صفحًا عن دخول هذا الراهب ومحادثته فليس فيها أقل أهمية.)
(ثم يخاطب نفسه.)
وددت لو كانت هذه القبلة لسبب …(ثم يسمعان صوت النافذة وهي تفتح، فيختبئ كريستيان تحت الشرفة.)
أما كنت تتركين بغير أن أشعر المزح، ثم تتسربين دون ارتباك إلى الابتسام متنقلة إلى التأوُّه ومنه إلى ذرف العبرات، فما عليك إلا أن تنتقلي. برشاقتك المعهودة من البكاء إلى القبلة فما يُخشى منها إلا ارتعاد خفيف!
(كريستيان يصعد متسلقًا المقعد، ثم يمسك بالأغصان ومنها يخطو إلى الطنف.)
(ثم يعانقها ويقبل ثغرها.)