ألفونس دوديه١
روائي فرنسي من النوابغ الذين يعدون على الأصابع، وُلِد بمدينة نيم سنة ١٨٤٠، وتوفي بباريس سنة ١٨٩٧.
وبعدما لبث أستاذًا لكلية «أليه» مدة يسيرة رجع إلى باريس سنة ١٨٥٧، وفي السنة التالية نشر كتاب «العاشقات»، وهو مجموعة نظمية وإن كانت بها بعض مواضع ضعيفة لكنها من الرقة والسلاسة بمكان.
ويُعَدُّ كاتبنا هذا في مذهب المحققين حتى إن غالب قصصه تمثل الحقائق مرئية ومحسوسة بعين شاعر، ولو أنصفنا في وصفه لقلنا: إنه شديد التأثير في كتابته، وكان مقتدرًا في وصف الأشياء وصفًا صادقًا، عارفًا بالعادات والأخلاق وعلم النفس، ومجيدًا في المعاني المبتكرة وفن التمثيل، ولم يظهر في عالم الروايات القصصية في عصرنا هذا مؤلف يفضل «سافو» و«كُتَّاب الإنجيل».
الدرس الأخير LaDernière Classe
هذا الموضوع وإن كان بسيط الإنشاء، لكنه يضم بين أسطره غيرة وحماسة على اللغة والتمسك بها والتفاني في صيانتها والعناية بها؛ إذ هي مفتاح سعادة الأمة وسلم ترتقي به إلى أوج المجد والفخار، وقد دعاني لكتابة هذا ما شاهدته من إهمال الناشئة للغتهم العربية، وبذل ما في وسعهم لإتقان الإنكليزية؛ حتى إن كثيرًا منهم وإن كانت درجاتهم في العربية أقل بكثير من الإنكليزية فإنما يعطونها بكرم حاتمي.
حدث صبي من الألزاس عن نفسه قائلًا: قمت متأخرًا صبيحة يوم إلى المدرسة، وقد أخذ الخوف مني كل مأخذ، وخشيت أن يعذِّرني أستاذي بما يحمر منه الوجه خجلًا، ويغض الطرف حياءً وخزيًا؛ لأنه نبَّه علينا بحفظ اسمي الفاعل والمفعول، اللذين لا أعرف منهما حرفًا واحدًا؛ فخالجتني الفكرة بأن لا أذهب إلى المدرسة، وأمرح في الحقول والرياض، وكان الوقت دافئًا والسماء رائقة، والشحارير تغرد على الغصون بما يُنسي الشجون، وكان الجند الجرمانيون يتمرَّنون في مرج «ريبير» وراء معمل نشر الخشب، ولكني غالبت نفسي ويممت المدرسة، وحينما مررت على دار العمدة لاحظت جمعًا عظيمًا مزدحمًا يقرأ إعلانات منشورة، ومنذ عامين وهذه الدار هي التي تنبئنا بأسوأ الأنباء من حروب خاسرة وأوامر جديدة مضايقة، فقلت: ترى ماذا جرى؟
ثم ذهبت عدوًا إلى قاعة الدرس، فرأيت أستاذنا المسيو هامل يمشي جيئة وروحة، ثم قال لي: اغنم مكانك فقد أوشكنا أن نبدأ الدرس دونك يا بني.
فهرولت إلى مقعدي، وقد انصرف عني بعض الروع، وشاهدت أستاذنا لابسًا حلته الرسمية، وكان لا يلبسها إلا في يوم الاحتفال بتوزيع الجوائز أو عند قدوم أحد المفتشين.
أولادي! هذا درسكم الأخير الذي يجمعني وإياكم، فقد صدر الأمر من برلين بتعليم اللغة الجرمانية وإلغاء الفرنسية في الألزاس واللورين … وسيقدم غدًا أستاذكم الجرماني الجديد، وإذ كان هذا درسكم الأخير الفرنسي؛ فأرجو منكم أن تعيروني آذانًا صاغية وقلوبًا واعية.
فانقطعت نياط قلبي من هذه الضربة الفاجعة، وعلمت فحوى الإعلانات المعلقة بدار العمدة، فوا أسفاه على لغتي الفرنسية!
وأنا الذي لا أحسن الكتابة قد وقف بي الطالع المنحوس والجد العاثر إلى هذا الحد، وكنت منذ هنيهة أود أن أنقطع عن الدرس وأجوب الخلاء، وكتب اللغة التي كانت تضايقني ظهرت أمامي الآن كأعز صديق لا أقوى على مفارقته، وكما أن المسيو هامل سيفارقنا من الغد ولا نراه بعد فقد نسيب عقابه وضربه.
لبس كسوته الرسمية احترامًا واحتفاءً بهذا الدرس الأخير، وكذلك حضر رجال القرية آسفين على أن لم ينتابوا المدرسة في أغلب الأحايين؛ وليقدموا واجب الثناء والشكر لهذا الأستاذ الجليل الذي ربَّى أولادهم وصيرهم رجالًا منذ أربعين عامًا.
لا أعنفك ولا أزجرك يا بني، وإنك لتستحق العقاب، وهاك ما سيحيق بك، تقصرون في حفظ دروسكم وتؤخرون عمل اليوم لغد؛ حتى ألمت بكم هذه الفادحة وهي أعظم فاجعة داهمت الألزاس لتسويف قومه في عمل واجبهم.
اليوم يحق لأعدائنا أن يقولوا لنا كيف تدَّعون أنكم فرنسيون وأنتم لا تحسنون قراءة لغتكم وكتابتها، ولكنك يا بني لست وحدك الملوم، بل نحن جميعنا.
إن أهلك لم يوجهوا جُلَّ عنايتهم لثقيفك، بل كانوا يفضِّلون أن ينتفعوا من ورائك ببعض دريهمات بأن تشتغل في أحد المغازل أو تفلح الأرض، ويحق لي أن أرشق نفسي بسهام اللوم والتعنيف؛ لأني كنت أعطلك في بعض الأوقات لتروي حديقتي.
ثم انتقل أستاذنا إلى التحدث عن شأن اللغة، وأنها أفضل اللغات الأجنبية وأمتنها، ويجب علينا أن نعض عليها بالنواجذ؛ لأن الأمة إذا نشبت فيها مخالب الاستعباد يكون أملها في الخلاص والسعادة بقدر تقدمها في لغتها وتمسُّكها بها.
ثم طفق يلقي علينا الدرس ويشرحه، وقد رأيت أني فهمت جميع ما سرده بسهولة لم أعهدها، وأذكر أنني لم أضع مدة وجودي في المدرسة إلى الدرس كذاك اليوم ولم يصبني ملل، وكأن أستاذنا أراد قبل مبارحته لنا أن يلهمنا جميع معلوماته في درس واحد.
ولما انتهى الدرس ابتدأنا في الكتابة، وهيأ لنا أستاذنا نموذجًا جميل الخط كتب عليه: فرنسا. ألزاس. فرنسا. ألزاس. وقد عمل منه جملة صور فرقها علينا.
فكانت أمامنا أشبه بأعلام تخفق، نبَّهت منا القلوب، وأثارت الشعور، وأهاجت العواطف، وهزت الأفئدة؛ حتى عم السكوت، فكنت لا أسمع إلا صرير الأقلام على الطروس.
وبينما نحن سكوت إذ حط على سقف المدرسة سرب من بنات الهديل، وأنشأ يغني فقلت في نفسي: ليت شعري أيلزمون يومًا ما هذه الحمائم بأن تغني باللغة الألمانية أيضًا؟
كنت من وقت لآخر ألمح خفية المسيو هامل، فكان جالسًا لا يبدي حراكًا، كاسف البال، مرددًا طرفه في بيته الصغير بالمدرسة، تعاوده الذكرى القديمة من تمضية أربعين سنة في هذا البيت، وأمامه قاعات الدروس، وبفناء داره شجر الجوز الذي زرعه صغيرًا من هذا العهد؛ حتى شمخ وملأ فضاء المدرسة، وبجانبه حشيشة الدينار وقد تسلَّقت على الحائط وزيَّنت النوافذ، ثم تسربت إلى العرش، وبينما هو على هذه الحالة من أسف لفراق معاهد شابت فيها نواصيه إذ نادته أخته ليساعدها في تجهيز الأمتعة والحقائب ليسافرا في الغد.
أيها الأحباب الأعزاء إني …
ثم اختنق صوته من شدة انفعاله، ولم يقوَ على إتمام حديثه، فأخذ قطعة من الطباشير واتجه نحو اللوح الأسود وكتب بحروف متناهية في الكبر:
لتحيَ فرنسا!
ثم مكث في موضعه ورأسه مسند إلى الحائط، وقد كاد أن يُغشى عليه، ثم أشار إلينا بيده دون أن ينبس ببنت شفة بإشارة تؤذن بالانصراف.